سورة الطلاق مشاري

**

 المصحف المرتل ختمة كاليفورنيا

** ///

طلاق سورة الطلاق  إعجازٌ وضعه الله في حرفٍ.حيث وضع الله الباري إعجاز تبديل أحكام الطلاق التي كانت  في سورة البقرة 2هـ  إلي أحْكَمِ  أحكامها  في  سورةِ الطلاقِ 5هـ لينتهي كل متشابهٍ  وظنٍ وخلافٍ واختلافٍ  إلي الأبد وحتي يوم القيامة ..وسورة الطلاق5هـ نزلت بعد سورة البقرة2هـ بحوالي عامين ونصف تقريباً يعني ناسخة لأحكام طلاق سورة البقرة2هـ .

الثلاثاء، 4 أبريل 2023

تفسير سورة الاسراء

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

الإسراء - تفسير ابن كثير 

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

[ بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ] (1)

تفسير سورة الإسراء (2)

وهي مكية

قال الإمام [الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل] (3) البخاري: حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد، سمعت ابن مسعود، رضي الله عنه، قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي (4) .

وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد، عن مروان، عن أبي لبابة، سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة " بني إسرائيل " ، و " الزمر " (5) .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }

يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه (6) { لَيْلا } أي في جنح الليل { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهو مسجد مكة { إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء (7) ، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فَأمّهم في مَحِلّتهم (8) ، ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وقوله: { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي: في الزروع والثمار { لِنُرِيَهُ } أي: محمدًا { مِنْ آيَاتِنَا } أي: العظام كما قال تعالى: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ النجم: 18 ].

وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه، صلوات الله عليه وسلامه.

وقوله: { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي: السميع لأقوال عباده، مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم

__________

(1) زيادة من ت .

(2) في ت، ف، أ: "سورة سبحان".

(3) زيادة من ت، ف، أ.

(4) صحيح البخاري برقم (4708).

(5) المسند (6/189) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1163) وقال: "إن كان أبو لبابة هذا يجوز الاحتجاج بخبره وفإني لا أعرفه بعدالة ولا حرج". وقد وثقه ابن معين.

(6) في ف: "صلى الله عليه وسلم".

(7) في ت، ف، أ: "بإيلياء"

(8) في ت: "محلهم".

ومكذبهم، البصير بهم فيعطي كلا ما يستحقه في الدنيا والآخرة.

ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء

رواية أنس بن مالك:

قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان -هو ابن بلال-عن شريك بن عبد الله (1) قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم. فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عيناه ولا ينام قلبه -وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم-فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم، بيده حتى أنقي جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده -يعني عروق حلقه-ثم أطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا به وأهلا به، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعْلِمهم.

ووجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلَّم عليه، وردّ عليه آدم فقال: مرحبًا وأهلا بابني، نعم (2) الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: "ما هذان النهران يا جبريل؟" قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في (3) السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر فقال: "ما هذا يا جبريل؟" قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.

ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا (4) وأهلا وسهلا.

ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، قد وعيت (5) منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله. فقال موسى: "رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد" (6) ثم علا به فوق ذلك، بما لا يعلمه إلا الله، عز وجل، حتى جاء سِدْرَة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما

__________

(1) في ف: "عبد الله يعني ابن أبي نمر أنه".

(2) في ف: "فنعم".

(3) في ت، ف: "إلى".

(4) في ف: "مرحبا به".

(5) في أ: "عينهم".

(6) في ت: "أنه عليَّ أحد".

يوحى: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة. ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: "يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟" قال: "عهد إليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة" قال:" إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم". فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل: أن نعم، إن شئت. فعلا (1) به إلى الجبار تعالى، فقال وهو في مكانه: "يا رب، خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا" فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات. ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: "يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفف عنك ربك" كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: "يا رب، إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم (2) وأبدانهم فخفف عنا" فقال: الجبار: "يا محمد، قال: "لبيك وسعديك" قال: إنه لا يبدل القول لديّ، كما فرضت عليك في أم الكتاب: "كل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك"، فرجع إلى موسى فقال: "كيف فعلت؟" فقال: "خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها" قال: موسى: "قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا موسى قد -والله-استحييت من ربي مما أختلف إليه" (3) قال: "فاهبط باسم الله"، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.

هكذا ساقه البخاري في "كتاب التوحيد" (4) ، ورواه في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم"،عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد، عن سليمان بن بلال (5) .

ورواه مسلم، عن هارون بن سعيد، عن ابن وَهْب، عن سليمان (6) قال: "فزاد ونقص، وقدم وأخر" (7) .

وهو كما قاله (8) مسلم، رحمه الله، فإن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر اضطرب في هذا الحديث، وساء حفظه ولم يضبطه، كما سيأتي بيانه في الأحاديث الأخر.

ومنهم من يجعل هذا منامًا توطئة لما وقع بعد ذلك، والله أعلم.

[وقال] (9) البيهقي: في (10) حديث "شريك" زيادة تفرد بها، على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه، يعني قوله: "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى" قال: وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل -أصح (11) .

__________

(1) في ف: "ثم علا".

(2) في ف، أ: "وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم".

(3) في ف : "عليه".

(4) صحيح البخاري برقم (7517).

(5) صحيح البخاري برقم (3570).

(6) في ف، أ: "سليمان به".

(7) صحيح مسلم برقم (162).

(8) في أ: "قال".

(9) زيادة من ت.

(10) في ف، أ: "وفي".

(11) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).

وهذا الذي قاله البيهقي هو الحق في هذه المسألة، فإن أبا ذر قال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه". وفي رواية "رأيت نورا". أخرجه مسلم، رحمه الله (1) .

وقوله: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [ النجم: 8 ]، إنما هو جبريل، عليه السلام، كما ثبت ذلك في الصحيحين، عن عائشة أمّ المؤمنين، وعن ابن مسعود، وكذلك هو في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا (2) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت البُناني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط (3) فيها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت. فأتاني (4) جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. قال جبريل: أصبت الفطرة" قال: "ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: (5) ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ [قال: قد أرسل إليه] (6) . ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب ودعا لي بخير.

ثم عَرَج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا بي ودعوا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ فقال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح الباب، فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير. ثم قال: يقول الله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [ مريم: 57 ].

ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: [و] (7) من معك؟ فقال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. قيل (8) ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: (9) ومن

__________

(1) صحيح مسلم برقم (178).

(2) حديث عائشة: رواه البخاري في صحيحه برقم (3235) ومسلم في صحيحه برقم (177) وحديث ابن مسعود: رواه البخاري في صحيحه برقم (4856) ومسلم في صحيحه برقم (174) وحديث أبي هريرة: رواه مسلم في صحيحه برقم (175).

(3) في ت، ف، أ: "تربط".

(4) في ف، أ: "فجاءني".

(5) في ت، ف، أ: "قيل".

(6) زيادة من ت، ف، أ، هـ المسند.

(7) زيادة من ت، ف، أ.

(8) في ف، أ: "فقيل".

(9) في ف: "فقيل".

معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم (1) ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه.

ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال. فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها. قال: "فأوحى الله إليّ ما أوحى، وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى". قال: "ما فرض ربك على أمّتك؟ (2) قال: "قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة". قال: ارجع (3) إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم". قال (4) :" فرجعت إلى ربي، فقلت: أي رب، خفف عن أمّتي، فحطّ عني خمسًا. فرجعت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ قلت: (5) قد حطّ عني خمسًا". قال: "إن أمّتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك" قال: "فلم (6) أزل أرجع بين ربي وبين موسى، ويحط عني خمسًا خمسًا حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت [له] (7) حسنة، فإن عملها كتبت عشرًا. ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت".

ورواه مسلم عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن حماد بن سلمة بهذا السياق (8) ، وهو أصح من سياق شَريك.

قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به، عليه الصلاة والسلام، من مكة إلى بيت المقدس (9) . وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مُسْرَجًا ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا؟ فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه. قال: فارفضَّ عرقًا.

ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه (10) .

وقال أحمد أيضًا: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي ربي، عز وجل، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون

__________

(1) في ت: "بإبراهيم عليه وسلم" وفي ف: "بإبراهيم عليه السلام".

(2) في ت: "ما فرض عليك على أمتك".

(3) في ت: "فارجع".

(4) في أ: "ثم قال".

(5) في ف، أ: "فقلت".

(6) في ف: "فقال: لم".

(7) في ف، أ: "كتبت له".

(8) المسند (3/148)، وصحيح مسلم برقم (162).

(9) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).

(10) المسند (3/164) وسنن الترمذي برقم (3131).

لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".

وأخرجه أبو داود، من حديث صفوان بن عمرو، به (1) . ومن وجه آخر ليس فيه أنس (2) ، فالله أعلم.

وقال أيضًا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سليمان التّيْمِي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى، عليه السلام، قائمًا يصلي في قبره" (3) .

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني، كلاهما عن أنس (4) .

قال النسائي: وهذا أصح من رواية من قال: سليمان عن ثابت، عن أنس.

وقال [الحافظ] (5) أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا وهب بن بقيَّة، حدثنا خالد، عن التيمي، عن أنس قال: أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ على موسى وهو يصلي في قبره (6) .

وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة، حدثنا معتمر، عن أبيه قال: سمعت أنسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ بموسى (7) وهو يصلي في قبره -قال أنس: ذكر أنه حمل على البراق-فأوثق الدابة -أو قال: الفرس-قال أبو بكر: صفها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كلمة (8) فقال: أشهد أنك رسول الله، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، قد رآها (9) .

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا قاعد (10) إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت (11) وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل، عليه السلام، كأنه حِلْس (12) لاط فعرفت فضل علمه بالله علي، وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظمَ، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت، وأوحى إليَّ ما شاء الله أن يوحى" ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه إلا أنس، ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد، وكان رجلا مشهورًا من أهل البصرة (13) .

__________

(1) المسند (3/224) وسنن أبي داود برقم (4878).

(2) سنن أبي داود برقم (4878).

(3) المسند (3/120).

(4) صحيح مسلم برقم (2375).

(5) زيادة من أ.

(6) مسند أبي يعلى (7/117).

(7) في ف: "مر على موسى".

(8) في هـ: "هي كذه وذه" والتصويب من مسند البزار و "ت".

(9) مسند أبي يعلى (7/126).

(10) في هـ: "نائم" والتصويب من مسند البزار.

(11) في أ: "فسميت".

(12) في ت، أ: "جلس".

(13) مسند البزار برقم (58) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (59) عن محمد بن علي الصائغ عن سعيد بن منصور به. وقال الهيثمي في المجمع (1/75): "رجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في زوائد البزار (1/95): "الحارث أخرج له الشيخان، وهو مع ذاك له مناكير هذا منها".

ورواه الحافظ البيهقي في "الدلائل"، عن أبي بكر القاضي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن دُحَيْم، عن محمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن، عن سعيد بن منصور، فذكر بسنده مثله، ثم قال: وقال غيره في هذا الحديث في آخره: "ولُطّ دوني -أو قال: دون الحجاب-رفرف الدر والياقوت". ثم قال: هكذا (1) رواه الحارث بن عبيد. ورواه حماد (2) بن سلمة، عن أبي عمران الجَوْني، عن محمد بن عمير بن عطارد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه، فجاءه (3) جبريل، فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وَكْري الطير، فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فنشأت بنا حتى بلغت (4) الأفق، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها، فدلي بسبب وهبط النور، فوقع جبريل مغشيًا عليه كأنه حِلْس، فعرفت فضل خشيته على خشيتي. فأوحي إلي: نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا؟ وإلى الجنة ما أنت؟ فأومَأ (5) إلي جبريل وهو مضطجع: أن تواضع. قال: قلت: لا. بل نبيًا عبدًا (6) .

قلت: وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء، فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس، ولا الصعود إلى السماء، فهي كائنة غير ما نحن فيه، والله أعلم.

وقال البزار أيضًا: حدثنا عمرو بن عيسى، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، عز وجل، هذا غريب.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يونس، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها أَمَرَّت ذنبها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فوالله إن ركبك (7) مثله. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل؟" قال: سر يا محمد. قال: فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيًا عن الطريق يقول: هلم يا محمد فقال له جبريل: سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد السلام يا محمد. فرد السلام، ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى، ثم الثالثة كذلك، حتى انتهى إلى بيت المقدس. فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت (8) أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، عليهم السلام، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبريل: أما العجوز التي (9) رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث ابن وهب (10) ، وفي بعض ألفاظه نكارة

__________

(1) في ت: "هذا".

(2) في ت: "ابن حماد" وهو خطأ.

(3) في ف، أ: "فجاء".

(4) في ت: "بلغنا".

(5) في أ: "فأوحى".

(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/369).

(7) في ت، أ: "فواللله ما ركبك".

(8) في ف: "وغويت".

(9) في ت، أ: "الذي".

(10) تفسير الطبري (15/5)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/362).

وغرابة.

طريق أخرى عن أنس بن مالك:

وفيها غرابة ونكارة جدًا، وهي في سنن النسائي المجتبى، ولم أرها في الكبير قال: أخبرنا عمرو (1) بن هشام، حدثنا مَخْلَد -هو ابن الحسين-عن سعيد بن عبد العزيز، حدثنا يزيد بن أبي مالك، حدثنا أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها عند منتهى طرفها، فركبت ومعى جبريل عليه السلام فسرت فقال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ [صليت بطيبة وإليها المهاجر، ثم قال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟] (2) صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى، ثم قال: انزل فصل. فصليت، فقال: أتدري أين صليت. صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى، عليه السلام، ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام، فقدمني جبريل حتى أممتهم [ثم صعد بي إلى السماء الدنيا، فإذا فيها آدم، عليه السلام] (3) ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة: عيسى ويحيى، عليهما السلام، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فإذا فيها هارون، عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فإذا فيها إدريس عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء السادسة، فإذا فيها موسى، عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فإذا فيها إبراهيم عليه السلام، ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة فخررت (4) ساجدًا فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك [فرجعت إلى إبراهيم فلم يسألني، عن شيء. ثم أتيت موسى فقال: كم فرض الله عليك وعلى أمتك؟] (5) قلت: خمسين صلاة. قال: فإنك لا تستطيع أن تقوم بها، لا أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف (6) فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرًا. ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع، فرجعت فخفف عني عشرًا، ثم ردت إلى خمس صلوات، قال: فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين، فما قاموا بهما. فرجعت إلى ربي، عز وجل، فسألته التخفيف، فقال: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. فعرفت أنها من الله عز وجل (7) صِرَّى فرجعت إلى موسى، عليه السلام (8) فقال: ارجع، فعرفت أنها من الله صِرَّى -يقول: أي حتم-فلم أرجع" (9) .

طريق أخرى:

وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، حمله جبريل عليها، ينتهي خفها حيث ينتهي

__________

(1) في ت: "عمر".

(2) زيادة من ت، ف، أ والنسائي.

(3) زيادة من ت، ف، أ والنسائي.

(4) في ت: "خررت".

(5) زيادة من ت، ف، أ، والنسائي.

(6) في ف: "تخفيفها".

(7) في ف، أ: "من الله تعالى".

(8) في ت: "فرجعت إليه عليه السلام".

(9) سنن النسائي (1/221).

طرفها. فلما بلغ بيت المقدس وبلغ (1) المكان الذي يقال له: "باب محمد صلى الله عليه وسلم" أتى إلى الحجر الذي ثمة، فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه، ثم ربطها. ثم صعد فلما استويا في صَرْحَة المسجد، قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ فقال: نعم. فقال: فانطلق إلى أولئك النسوة، فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة، قال: فأتيتهن فسلمت عليهن، فرددن عليّ السلام، فقلت: من أنتن؟ فقلن: نحن خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا". قال: "ثم انصرفت (2) ، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة". قال: "فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل عليه السلام، فقدمني فصليت بهم. فلما انصرفت قال جبريل: يا محمد، أتدري من صلى خلفك؟" قال: "قلت: لا. قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل".

قال: "ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء، فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم". قال: "ففتحوا له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك". قال: "فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم، فقال لي جبريل: يا محمد، ألا تسلم على أبيك آدم؟" قال: "قلت: بلى. فأتيته فسلمت عليه، فرد عليّ وقال: مرحبًا بابني والنبي الصالح". قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم": "ففتحوا (3) له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام (4) . قال: "ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم" (5) . ففتحوا (6) وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها يوسف، عليه السلام، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل؟ قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك. فإذا فيها إدريس عليه السلام". قال: "فعرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. قال: ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك فإذا فيها هارون، عليه السلام". قال: "ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح، قالوا: من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم. ففتحوا وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها موسى، عليه السلام. ثم عرج بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقالوا (7) من أنت؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتحوا له وقالوا: مرحبًا بك وبمن معك، فإذا فيها إبراهيم، عليه السلام. فقال جبريل: يا محمد، ألا تسلم على أبيك إبراهيم؟ قال: قلت: بلى. فأتيته فسلمت عليه، فرد عليّ السلام وقال: مرحبًا بك يا بني (8) والنبي الصالح.

ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير خضر أنعم طير رأيت. فقلت: يا جبريل، إن هذا الطير لناعم قال (9) : يا محمد، آكله أنعم منه ثم قال: يا محمد، أتدري أي نهر هذا؟ قال: "قلت: لا. قال: هذا الكوثر الذي أعطاك

__________

(1) في ت: "فبلغ".

(2) في ف: "قال: وانصرفت".

(3) في ف: "قال: ففتحوا".

(4) في ت: "عليهما الصلاة والسلام".

(5) في ف، أ: "قال: ففتحوا".

(6) في ت، ف، أ: "ففتحوا له".

(7) في ف: "قالوا".

(8) في ف: "مرحبا بابني".

(9) في ف: "فقال".

الله إياه. فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري (1) على رَصْرَاض من الياقوت والزمرد، ماؤه، (2) أشد بياضًا من اللبن" قال: "فأخذت منه آنية (3) من الذهب، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد (4) رائحة من المسك. ثم انطلق بي حتى انتهيت (5) إلى الشجرة، فغشيتني سحابة فيها من كل لون، فرفضني جبريل، وخررت ساجدًا لله، عز وجل، فقال الله لي: يا محمد، إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك". قال: "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعًا فأتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: فرض ربي عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة. قال: فلن تستطيعها أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك. فرجعت سريعًا حتى انتهيت إلى الشجرة، فغشيتني السحابة، ورفضني جبريل وخررت ساجدًا وقلت: رب، إنك فرضت عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة، ولن أستطيعها أنا ولا أمتي، فخفف عنا. قال: قد وضعت عنكم عشرًا. قال: ثم انجلت عني السحابة، وأخذ (6) بيدي جبريل وانصرفت (7) سريعًا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا، ثم أتيت على موسى، فقال لي: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: وضع ربي عني عشرًا فقال: أربعون صلاة! لن تستطيعها أنت ولا أمتك، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم -فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات، وخمس بخمسين ثم أمره (8) موسى أن يرجع فيسأل التخفيف، فقلت: "إني قد استحييت منه تعالى".

قال: ثم انحدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما لي لم آت على (9) سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إليّ، غير رجل واحد، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام فرحب بي ولم يضحك إليّ. قال: يا محمد، ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ خلق (10) ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك".

قال: ثم ركب منصرفًا، فبينا هو في بعض طريقه مرّ بعير لقريش تحمل طعامًا، منها جمل عليه غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت، وصرع ذلك البعير وانكسر.

ثم إنه مضى فأصبح، فأخبر عما كان، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا: يا أبا بكر، هل لك في صاحبك؟ يخبر (11) أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر، ثم رجع في ليلته. فقال أبو بكر، رضي الله عنه: إن كان قاله فقد صدق، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء.

فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما علامة ما تقول؟ قال: "مررت بعير لقريش، وهي في مكان كذا وكذا، فنفرت العير (12) منا واستدارت، [وفيها بعير عليه] (13) غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فصرع فانكسر".

فلما قدمت العير سألوهم، فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم (14) ومن (15) ذلك سمي أبو (16) بكر الصديق.

__________

(1) في ف، أ: "تجري".

(2) قي ف، أ: "وماؤه".

(3) في ف، أ: "من آنيته".

(4) في ت: "وألد".

(5) في ت، ف، أ: "انتهى".

(6) في ت: "فأخذ".

(7) في ت، ف، أ: "فانصرفت".

(8) في ت: "أمر".

(9) في أ: "أهل".

(10) في ت: "خلقت".

(11) في ت: "يزعم".

(12) في ف: "الإبل".

(13) زيادة من ف، أ، وفي ت: "جمل عليه".

(14) في ف: "رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(15) في ف، أ: "وفي".

(16) في ف: "أبا".

وسألوه وقالوا (1) : هل كان معك فيمن حضر موسى وعيسى؟ قال: "نعم". قالوا: فصفهم. قال: "نعم"، أما موسى فرجل آدم، كأنه من رجال أزْدِ عمان، وأما عيسى فرجل ربعة، سَبْط، تعلوه (2) حمرة كأنما يتحادر من شعره الجُمَان" (3) .

هذا سياق فيه غرائب عجيبة.

رواية أنس، رضي الله عنه، عن مالك بن صَعْصَعَة:

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا هَمَّام، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: أن مالك بن صعصعة حدثه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم (4) -وربما قال قتادة: في الحجر-مضطجعًا إذ أتاني آت" فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة، قال: "فأتاني فقدّ -وسمعت قتادة يقول: فشق-ما بين هذه إلى هذه". وقال قتادة: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شِعْرته، وقد سمعته يقول: من قَصَّته إلى شِعْرَته قال: "فاستخرج قلبي" قال: "فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشى، ثم أعيد. ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" قال: فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم، يقع خطوه عند أقصى طرفه. قال: "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل، عليه السلام، حتى أتى بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. فقيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء" قال: "ففتح (5) فلما خلصت، فإذا فيها آدم، عليه السلام، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال (6) : جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل (7) : أوقد (8) أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء"، قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا يحيى (9) وعيسى وهما ابنا الخالة. قال: هذا (10) يحيى وعيسى، فسلم عليهما. قال: فسلمت فردا السلام ثم قالا (11) مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: ففتح (12) فلما خلصت، فإذا يوسف (13) ، عليه السلام، قال: هذا يوسف (14) قال: "فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟

__________

(1) في ت، ف: "فقالوا".

(2) في ت: "يعلوه".

(3) وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك ضعفه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني ولم يوثقه إلا أبو زرعة الدمشقي.

(4) في ف: "بالحطيم".

(5) في ت، أ: "ففتح لنا".

(6) في ت، ف: "فقال".

(7) في ت: "قال".

(8) في ت: "وقد".

(9) في ف، أ: "بيحيى".

(10) في ف، أ: "وهذان".

(11) في ف، أ: "وقالا".

(12) في ف، أ: "ففتح الباب".

(13) في ت: "فإدريس"، وفي ف، أ: "إذا بيوسف".

(14) في ت: "إدريس".

قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء" قال: "ففتح فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه". قال: "فسلمت عليه. فرد السلام (1) ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".

قال: "ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا هارون، عليه السلام، قال: هذا هارون فسلم عليه. قال: فسلمت عليه فرد السلام (2) ، ثم قال: مرحبًا بالأخ والنبي الصالح".

قال: "ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت، فإذا أنا بموسى، قال: هذا موسى، عليه السلام، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح". قال: "فلما تجاوزته بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي".

قال: "ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال: "ففتح، فلما خلصت، فإذا إبراهيم، عليه السلام. فقال: هذا إبراهيم، فسلم عليه". قال: "فسلمت عليه، فرد السلام (3) ، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح".

قال: ثم رفعت إلي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلال هَجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى". قال: "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات".

قال: ثم رفع إلي البيت المعمور.

قال قتادة: وحدثني الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون فيه.

ثم رجع إلى حديث أنس [قال: "ثم] (4) أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل". قال: "فأخذت اللبن، قال: هذه الفطرة وأنت (5) عليها وأمتك".

قال: "ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة كل يوم". قال: "فنزلت حتى انتهيت إلى (6) موسى، قال (7) ما فرض ربك على أمتك؟" قال: "قلت (8) خمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى

__________

(1) في ف، أ: "فرد علي السلام".

(2) في ف، أ: "فرد علي السلام".

(3) في ف، أ: "فرد علي السلام".

(4) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.

(5) في ت، ف، أ: "أنت".

(6) في أ: "أتيت".

(7) في أ: "فقال".

(8) في ف، أ: "فقلت".

ربك فاسأله التخفيف، عن أمتك (1) ". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا، قال: فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: فرجعت فوضع عني عشرًا أخر. فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بثلاثين صلاة. قال: إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا أخر، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بعشرين (2) صلاة كل يوم. فقال: إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فوضع عني عشرًا أخر، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشر صلوات في كل يوم. فقال: إن أمتك (3) لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. فقال: إن أمتك (4) لا تستطيع لخمس صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال: "قلت: لقد (5) سألت ربي [عز وجل] (6) حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فنفذت، فناداني مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".

وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة، بنحوه (7) .

"رواية أنس، عن أبي ذر:

قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَيْر، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر، رضي الله عنه، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج [صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه] (8) في صدري، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء [الدنيا] (9) قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا وإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم (10) بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر، عن يمينه ضحك، وإذا نظر، عن شماله بكى.

"ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال له الأول،

__________

(1) في ف، أ: "لأمتك".

(2) في ف: "فقلت أمرت بعشرين".

(3) في ف: "قال: أمتك".

(4) في ف: "قال: أمتك".

(5) في ف، أ: "قد".

(6) زيادة من "أ".

(7) المسند (4/208) وصحيح البخاري برقم (3393) ومعلقا برقم (3207) وصحيح مسلم برقم (164).

(8) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.

(9) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.

(10) في ت: "نطف".

ففتح". قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: "مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ فقال: هذا إدريس. ثم مررت بموسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: (1) من هذا؟ قال: موسى (2) ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: عيسى (3) ابن مريم. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم". قال الزهري: فأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حَبَّة (4) الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت [فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها. فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجعت فوضع شطرها. فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته] (5) فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لديّ. فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك. قلت: قد استحييت من ربي. ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان (6) لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جَنَابذ (7) اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".

هذا لفظ البخاري في "كتاب الصلاة" (8) ورواه في ذكر بني إسرائيل، وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخر، عن يونس، به (9) ورواه مسلم في صحيحه في "كتاب الإيمان" منه، عن حَرْملة، عن ابن وهب، عن يونس به نحوه. (10) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن عبد الله بن شَقِيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: وما كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأى ربه؟ فقال: إني قد سألته فقال: "إني قد رأيته (11) نورا أنى أراه" (12) .

هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، [عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: "إني نور أنى أراه".

وعن محمد بن بَشَّار، عن معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق] (13) قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال (14) عن أي شيء كنت تسأله؟ قال:

__________

(1) في ف: "فقلت".

(2) في ف، أ: "هذا موسى".

(3) في ف، أ: "هذا عيسى".

(4) في ت: "حية".

(5) زيادة من ت، ف، أ، والبخاري.

(6) في ف: "الألوان".

(7) في ف: "جبال"، وفي أ: "حبائل".

(8) صحيح البخاري برقم (349).

(9) صحيح البخاري برقم (1636، 3342).

(10) صحيح مسلم برقم (163).

(11) في ت، ف، أ: "رأيت".

(12) المسند (5/147).

(13) زيادة من ت، ف، أ، ومسلم.

(14) في ف: "قال".

كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورًا" (1) .

رواية أنس، عن أبي بن كعب الأنصاري، رضي الله عنه:

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد بن المسيبي (2) حدثنا أنس بن عياض، عن يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب: قال أنس بن مالك: كان أبي بن كعب يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغها (3) في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. فلما جاء السماء [فافتتح فقال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فافتح. فلما علونا السماء الدنيا] (4) إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح". قال: "قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة (5) عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين هم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله هم أهل النار. فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى" قال: "ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح له". قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت لي كيف منازلهم؟ غير أنه ذكر أنه وجد آدم، عليه السلام، في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرّ جبريل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: "مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح". قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا إدريس"، قال: "ثم مررت بموسى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا. قال: هذا عيسى ابن مريم" قال: "ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم". قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام" قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض الله على أمتي خمسين صلاة" قال: "فرجعت بذلك حتى أمر (6) على موسى، فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. فقال لي موسى: راجع ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك" قال: "فراجعت ربي فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك (7) فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت (8) فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي". قال: "فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك. فقلت (9) قد استحييت من ربي" قال: "ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى. قال: "فغشيها ألوان ما أدري (10) ما هي؟" قال: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".

هكذا رواه عبد الله بن [الإمام] (11) أحمد في مسند أبيه (12) . وليس هو في شيء من الكتب

__________

(1) صحيح مسلم برقم (178).

(2) في ف، أ: "بن محمد بن المثنى".

(3) في ت: "ففرغهما".

(4) زيادة من ف، أ، والمسند.

(5) في ت، ف: "الأسودة التي".

(6) في ت، ف، أ: "حتى أتى".

(7) في ف: "راجع ربك".

(8) في ف، أ: "فرجعت ربي".

(9) في ت: "قلت".

(10) في ف: "لا أدري".

(11) زيادة من: ف، أ.

(12) زوائد المسند (5/143) وقال الهيثمي في المجمع (1/66): "رجاله رجال الصحيح".

الستة، وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس، عن الزهري (1) ، عن أبي ذر، مثل هذا السياق سواء، فالله أعلم (2) .

رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي:

قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم -واللفظ له-قالا حدثنا أبو نُميلَة، أخبرنا الزبير بن جنادة، عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري به (3) قال: فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق".

ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نُميلَة، ولا نعلم (4) هذا الحديث [يروى] (5) إلا عن بريدة. وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه، عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِي به (6) وقال: غريب.

رواية جابر بن عبد الله، رضي الله عنه (7) :

قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يحدث: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (8) : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر فَجَلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه".

أخرجاه في الصحيحين من طرق، عن الزهري به، (9) .

وقال البيهقي: أخبرنا أحمد بن الحسن (10) القاضي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسَان، عن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس، لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى، وإنه أتي بقدحين: قدح من لبن وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن. فقال جبريل (11) : أصبت، هديت للفطرة (12) ، لو اخترت الخمر لغوت أمتك. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه.

قال ابن شهاب: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهز -أو كلمة نحوها-ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك (13) أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سمي أبو بكر: الصديق.

__________

(1) في ت، ف، أ: "عن الزهري، عن أنس".

(2) في ت: "والله أعلم".

(3) في ف: "أسري بي".

(4) في ت: "يعلم".

(5) زيادة من أ.

(6) سنن الترمذي برقم (3132).

(7) في ف، أ: "عنهما".

(8) في ت، ف، أ: "قال".

(9) المسند (3/377)، وصحيح البخاري برقم (4710) وصحيح مسلم برقم (170).

(10) في ت، ف: "الحسين".

(11) في ف، أ: "فقال له جبريل عليه السلام".

(12) في ف: "الفطرة".

(13) في ت: "من هذا".

(5/20)

 

 

قال أبو سلمة: فسمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" (1) .

رواية حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه:

قال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا شيبان، عن عاصم، عن زِرَّ بن حُبَيْش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "فانطلقنا (2) حتى أتينا (3) بيت المقدس". فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه. قال: ما اسمك يا أصلع؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك؟ قال: قلت: أنا زر بن حُبَيْش. قال: فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآن يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن فلج (4) ، اقرأ. قال: فقلت: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } قال: يا أصلع، هل تجد "صلى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، ولو صلى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال: وتحدثوا (5) أنه ربطه لا يفر منه، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة. قلت: أبا عبد الله (6) أي دابة البراق؟ قال: دابة أبيض طويل هكذا، خطوه مد البصر.

ورواه أبو داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، به. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم -وهو ابن أبي النجود-به (7) ، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وهذا الذي قاله حذيفة، رضي الله عنه، نفي، وما أثبته غيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة ومن الصلاة بالبيت المقدس، مما سبق وما سيأتي مقدم على قوله، والله أعلم بالصواب.

رواية أبي سعيد -سعد بن مالك بن سنان الخدري:

قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوّة":

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا أبو محمد راشد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله، أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها، قال: قال الله عز وجل: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

__________

(1) دلائل النبوة (2/359).

(2) في ف: "فانطلقا".

(3) في ف: "أتيا".

(4) في ت، ف، أ: "فلح".

(5) في ت: "ويحدثون" وفي ف، أ: "وتحدثون".

(6) في ت: "يا عبد الله".

(7) المسند (5/387) ومسند الطيالسي برقم (411)، وسنن الترمذي برقم (3147) وسنن النسائي الكبرى برقم (11280).

(5/21)

 

 

قال: فأخبرهم فقال: "فبينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت فلم أر شيئًا، وإذا أنا بكهيئة خيال، فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد (1) فإذا أنا بدابة أدنى في شبهه بدوابكم هذه، بغالكم هذه، مضطرب (2) الأذنين يقال له: البراق. وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره عند مَدِّ بصره، فركبته، فبينما أنا أسير عليه، إذ دعاني داع، عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك، يا محمد، انظرني أسألك، فلم أجبه ولم أقم عليه، [فبينما أنا أسير عليه، إذ دعاني داع، عن يساري: يا محمد، انظرني أسألك، فلم أجبه ولم أقم عليه] (3) ، فبينما أنا أسير، إذ أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة خلقها الله، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها. حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها. فأتاني (4) جبريل، عليه السلام بإناءين: أحدهما خمر، والآخر لبن، فشربت اللبن، وتركت الخمر، فقال جبريل: أصبت الفطرة (5) فقلت: الله أكبر، الله أكبر. فقال: جبريل: ما رأيت في وجهك هذا؟" قال: "فقلت: بينما أنا أسير، إذ دعاني داع، عن يميني: يا محمد، انظرني أسألك. فلم أجبه ولم أقم عليه. قال: ذاك داعي اليهود، أما إنك لو أجبته -أو: وقفت عليه-لتهودت أمتك" . قال: (6) : فبينما أنا أسير، إذ دعاني داع عن يساري قال: يا محمد، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليه ولم أقم عليه. قال: ذاك داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك". قال: "فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول: يا محمد، انظرني أسألك. فلم أجبها ولم أقم عليها". قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة".

قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين.

ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج (7) عليه أرواح بني آدم (8) ، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحًا إلى السماء، فإنما يشق بصره طامحًا إلى السماء عجبه بالمعراج". قال: "فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال: له: إسماعيل. وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جُنْده مائة ألف ملك". قال: "وقال: الله [عز وجل] (9) { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر: 31 ] فاستفتح (10) جبريل باب السماء، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله، عز وجل على صورته (11) ، هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين.

__________

(1) في ت، ف، أ: "المسجد الحرام".

(2) في ف، أ: "غير أنه مضطرب".

(3) زيادة من ف، أ والدلائل.

(4) في ت: "أتاني" وفي ف: "ثم أتاني"

(5) في ف، أ: "أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك".

(6) في ف: "قلت".

(7) في ت: "يعرج".

(8) في أ: "الأنبياء".

(9) زيادة من : ف، أ.

(10) في ف، أ: "قال: فاستفتح".

(11) في أ: "على صورته لم يتغير منه شيء".

(5/22)

 

 

ثم مضيت هنية (1) ، فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخْوِنَة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون (2) الحرام."

قال: "ثم مضيت هنية (3) ، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خرّ يقول: اللهم، لا تقم الساعة"، قال: "وهم على سابلة آل فرعون". قال: "فتجيء السابلة فتطؤهم". قال: "فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل". قال: "قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة: 275 ].

قال: "ثم مضيت هنية (4) ، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل". قال: "فتفتح على أفواههم ويلقمون من ذلك الجمر، ثم يخرج من أسافلهم. فسمعتهم يضجون إلى الله ،عز وجل، فقلت (5) : من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء: 10 ].

قال: "ثم مضيت هنية، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن (6) فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت: يا جبريل من هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك".

قال: "ثم مضيت هنية (7) فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمونه، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون".

قال: "ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، عز وجل، قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم عليّ.

ثم صعدت (8) إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى وعيسى، عليهما السلام، ومعهما نفر من قومهما، فسلمت عليهما وسلما عليّ.

ثم صعدت (9) إلى السماء الرابعة، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانًا عليًا، فسلمت عليه وسلم عليّ".

قال: "ثم صعدت (10) إلى السماء الخامسة، فإذا [أنا] (11) بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه، هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم عليّ.

ثم صعدت (12) إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى بن عمران، رجل آدم كثير الشعر، لو كان

__________

(1) في ف، أ: "هنيهة".

(2) في أ: "ويأكلون".

(3) في ف، أ: "هنيهة".

(4) في ف، أ: "هنيهة".

(5) في ف: "قلت".

(6) في ت، أ: "بأيديهن".

(7) في ف، أ: "هنيهة".

(8) في ف، أ: "صعدنا".

(9) في ف، أ: "صعدنا".

(10) في ف، أ: "صعدنا".

(11) زيادة من ت، ف، أ.

(12) في ت: "صعد بي".

(5/23)

 

 

عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص، فإذا (1) هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله تعالى مني". قال: "قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران، عليه السلام، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم علي.

ثم صعدت إلى السماء السابعة، فإذا أنا بأبينا إبراهيم (2) خليل الرحمن ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال، قلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أبوك (3) خليل الرحمن ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه فسلم عليّ، وإذا [أنا] (4) بأمتي شطرين: شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس. وشطر عليهم ثياب رُمْد". قال: "فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد، وهم على خير. فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور، ثم خرجت أنا ومن معي". قال: "والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، لا (5) يعودون فيه إلى يوم القيامة".

قال: "ثم دفعت لي سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري يقال لها: سلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما: الكوثر، والآخر: يقال له: نهر الرحمة. فاغتسلت فيه، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.

ثم إني دفعت إلي الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت (6) لزيد بن حارثة، وإذا [أنا] (7) بأنهار من [ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من] (8) عسل مصفى، وإذا رمانها كأنه الدلاء عظمًا، وإذا أنا بطيرها كأنها بختيكم هذه". فقال عندها صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" .

قال: "ثم عرضت علي النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت (9) دوني.

ثم إني دفعت (10) إلى سدرة المنتهى، فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى". قال: "ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة". قال: "وفرضت علي خمسون (11) وقال: لك بكل حسنة عشر، إذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة، فإذا عملتها كتبت لك عشرًا، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء، فإن (12) عملتها كتبت عليك سيئة واحدة.

ثم دفعت إلى موسى فقال: بما أمرك ربك؟ قلت: بخمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، ومتى لا [تطيقه] (13) تكفر (14) فرجعت إلى ربي [عز . وجل] (15) فقلت: يا رب، خفف عن أمتي، فإنها أضعف الأمم. فوضع عني عشرًا، وجعلها

__________

(1) في ت، ف: "وإذا".

(2) في ت: "فإذا أنا بإبراهيم".

(3) في ف، أ: "أبوك إبراهيم".

(4) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(5) في ت، ف، أ: "ثم لا".

(6) في ف: "قالت".

(7) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(8) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(9) في ف: "غلقت".

(10) في ف: "رفعت".

(11) في أ: "خمسون صلاة".

(12) في ف: "فإذا".

(13) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(14) في ت: "يكفر".

(15) زيادة من ف، أ.

(5/24)

 

 

أربعين. فما زلت أختلف بين موسى وربي (1) كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته، حتى رجعت إليه فقال لي: بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشر صلوات. قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (2) فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت إلى ربي [سبحانه وتعالى] (3) فقلت: أي رب، خفف عن أمتي، فإنها أضعف الأمم. فوضع عني خمسًا، وجعلها خمسًا. فناداني ملك عندها: تممت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.

ثم رجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمس صلوات. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنه لا يؤوده شيء، فاسأله التخفيف لأمتك". "فقلت (4) : رجعت إلى ربي حتى استحييته" ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب: "إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء، ورأيت كذا وكذا (5) " . فقال أبو جهل -يعني ابن هشام-: ألا تعجبون مما يقول محمد؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس، ثم أصبح فينا. وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرًا، ومقفلة شهرًا، فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة! قال: فأخبرهم بعير لقريش: "لما كنت (6) في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا، وأنها نفرت، فلما رجعت رأيتها عند العقبة". وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا، ومتاعه كذا وكذا. فقال أبو جهل: يخبرنا (7) بأشياء. فقال رجل من المشركين: أنا أعلم الناس ببيت المقدس، وكيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ [فإن يك محمد صادقا فسأخبركم، وإن يك كاذبًا فسأخبركم. فجاء ذلك المشرك فقال: يا محمد، أنا أعلم الناس ببيت المقدس، فأخبرني كيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل] (8) . قال: فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده، فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته: بناؤه كذا وكذا، وهيئته كذا وكذا، وقربه من الجبل كذا وكذا. فقال الآخر: صدقت. فرجع إلى أصحابه فقال: صدق محمد فيما قال أو نحو هذا (9) الكلام (10) .

وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله، عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، وعن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، به. ورواه، أيضًا، من حديث محمد بن إسحاق: حدثني روح بن القاسم، عن أبي هارون، به نحو سياقه المتقدم (11) .

ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أحمد بن عبدة، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، فذكره (12) بسياق طويل حسن أنيق، أجود مما ساقه غيره، على غرابته وما فيه من النكارة.

__________

(1) في ف، أ: "بين موسى وبين ربي عز وجل".

(2) زيادة من ف، أ.

(3) زيادة من : ت.

(4) في ف، أ: "قال: فقلت".

(5) في ف، أ: "ورأيت كذا ورأيت كذا".

(6) في ت، ف، أ: "كانت".

(7) من ف، أ: "تخبرنا".

(8) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(9) في ت: "أو نحوه من هذا".

(10) دلائل النبوة (2/390).

(11) تفسير الطبري (15/10).

(12) في ف، أ: "فذكر".

(5/25)

 

 

ثم ذكره (1) البيهقي، أيضًا، من رواية نوح بن قيس الحُدَّاني وهُشَيم ومعمر، عن أبي هارون العبدي -واسمه عمارة بن جوين (2) وهو مضعف عند الأئمة (3) .

وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه (4) من الشواهد لغيره، ولما رواه البيهقي:

أخبرنا [الإمام] (5) أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن (6) ، أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزاز، حدثنا أبو حامد (7) بن بلال، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال: رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، رجل من أمتك يقال له: "سفيان الثوري" لا بأس به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس به"، حدثنا عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عنك (8) ليلة أسري بك، قلت (9) "رأيت في السماء" فحدثه بالحديث؟ فقال لي: "نعم". فقلت له: يا رسول الله، إن ناسًا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب؟ فقال لي: "ذلك (10) حديث القصاص" (11) .

رواية شداد بن أوس:

قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزَّبيدي، حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم (12) الأشعري، عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، حدثنا الوليد (13) بن عبد الرحمن، عن جبير (14) بن نفير: حدثنا (15) شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله، كيف أسري بك؟ قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتمًا". قال: "فأتاني جبريل، عليه السلام، بدابة أبيض -أو قال: بيضاء-فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب. فاستصعبت علي، فرازها (16) بأذنها، ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضًا ذات نخل (17) فأنزلني فقال: صل. فصليت، ثم ركبنا (18) فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها. ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل. [فنزلت] (19) ثم قال: صل. فصليت ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال (20) صل فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين (21) ، في أحدهما لبن وفي الآخر

__________

(1) في ت، ف، أ : "ذكر".

(2) في ت، أ: "جرين"، وفي ف: "جرير".

(3) دلائل النبوة (2/396).

(4) في أ: "سياقه".

(5) زيادة من ت، ف، أ.

(6) في ف، أ: "أبو عثمان علي بن عبد الرحمن".

(7) في ف: "حدثنا أحمد".

(8) في ف، أ: "عنك يا رسول الله".

(9) في أ: "أنك قلت".

(10) في ت، ف، أ: "ذاك".

(11) دلائل النبوة (2/405).

(12) في ت: "سلام".

(13) في ت، ف: "أبو الوليد".

(14) في ت، ف: "أن جبير".

(15) في ت، ف، أ: "قال: حدثنا".

(16) في أ: "مزارها".

(17) في ت: "نخيل".

(18) في ف، أ: "ركبت".

(19) زيادة من الدلائل.

(20) في ت: "قال".

(21) في ت: "بإناءات".

(5/26)

 

 

عسل، أرسل إليّ بهما جميعًا، فعدلت بينهما، ثم هداني الله عز وجل (1) ، فأخذت اللبن فشربت (2) حتى قَرَعت به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثواة له، فقال: أخذ صاحبك الفطرة، إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة، فإذا جهنم [تنكشف] (3) عن مثل الزرابي، قلت: يا رسول الله، كيف وجدتها؟ قال: مثل الحمة السخنة. ثم انصرف بي (4) فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرًا لهم، قد جمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة"، فأتاني أبو بكر، رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أين كنت الليلة؟ فقد التمستك في مظانك (5) . فقال: "علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة؟". فقال: يا رسول الله، إنه مسيرة شهر، فصفه لي. قال: "ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه". قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كَبْشَة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة!. قال: فقال: "إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيرًا لهم، فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان". فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون (6) حتى كان قريب من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي، به (7) . ثم قال بعد تمامه: "هذا إسناد صحيح، وروى ذلك مفرقًا في أحاديث غيره، ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا". ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث. وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره، عن أبيه، عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، به. ولا شك أن هذا الحديث -أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس-مشتمل (8) على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر، كالصلاة في بيت لحم، وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس، وغير ذلك. والله أعلم.

رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال: حدثنا ابن عباس قال: ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، فسمع في جانبها وَجْسًا (9) فقال: "يا جبريل، ما هذا؟" قال: "هذا بلال المؤذن". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس: "قد أفلح بلال، قد رأيت له كذا وكذا". قال: فلقيه موسى، عليه السلام، فرحب به، وقال: "مرحبًا بالنبي الأمي"، قال: "وهو رجل آدم طويل، سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما"، فقال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا موسى. [قال: فمضى، فلقيه عيسى فرحب به، وقال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا عيسى". قال] (10) فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه وكلهم يسلم عليه، قال: "من هذا يا جبريل؟" قال: "هذا أبوك إبراهيم"، قال: ونظر في النار، فإذا قوم يأكلون الجيف، قال: "من هؤلاء يا جبريل؟" قال: "هؤلاء الذين يأكلون لحم (11) الناس"، ورأى رجلا أحمر أزرق جدًا، قال: "من هذا يا جبريل؟"

__________

(1) في أ: "تعالى".

(2) في ت: "فشربت اللبن".

(3) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(4) في أ: "بنا".

(5) في ف، أ: "منامك".

(6) في ت: "ينتظرون".

(7) دلائل النبوة (2/355).

(8) في ف، أ: "يشتمل".

(9) في ت، ف، أ: "وخشا".

(10) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.

(11) في أ: "لحوم".

(5/27)

 

 

قال: "هذا عاقر الناقة"، قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، [فالتفت ثم التفت] (1) فإذا النبيون أجمعون يصلون معه. فلما انصرف جيء بقدحين، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن فشرب منه، فقال الذي كان معه القدح: أصبت الفطرة. إسناد صحيح ولم يخرجوه (2) .

طريق أخرى:

قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ثابت أبو زيد، حدثنا هلال، حدثني عكرمة، عن ابن عباس قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم، فقال ناس: نحن لا نصدق محمدًا بما يقول! فارتدوا كفارًا، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل (3) وقال أبو جهل (4) يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا، ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام، وعيسى وموسى وإبراهيم. فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال فقال: "رأيته فيلمانيًا أقمر هجانا، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة. ورأيت عيسى أبيض، جعد الرأس، حديد البصر، مبطن الخلق. ورأيت موسى أسحم آدم، كثير الشعر، شديد الخلق. ونظرت إلى إبراهيم فلم أنظر إلى إرب منه إلا نظرت إليه مني، حتى كأنه صاحبكم. قال جبريل: سلم على مالك فسلمت عليه".

ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد (5) عن هلال -وهو ابن خباب-به، وهو (6) إسناد صحيح.

طريق أخرى:

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر الشافعي، أنبأنا إسحاق بن الحسن، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن أبي العالية قال: حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا طوالا جعدًا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس". وأرى مالكًا خازن جهنم والدجال، في آيات أراهن الله إياه، قال: { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } [ السجدة: 23 ] فكان قتادة يفسرها: أن نبي الله [صلى الله عليه وسلم] (7) قد لقي موسى [عليه السلام] (8) { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل (9) .

رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن شيبان (10) . وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرًا (11) .

__________

(1) زيادة من المسند مستفاد من هامش ط. الشعب.

(2) المسند (1/257) وفيه قابوس بن أبي ظبيان وقد تكلم فيه خاصة روايته عن أبيه، وقال ابن عدي: "أحاديثه متقاربة، وأرجو أنه لا بأس" فمثل حديثه أقرب درجاته التحسين.

(3) في ف، أ: "أبي جهل قبحهم الله".

(4) في ف، أ: "أبو جهل قبحه الله".

(5) في ت، ف: "أبي يزيد ثابت بن زيد".

(6) المسند (1/374) وسنن النسائي الكبرى برقم (11484).

(7) زيادة من ت، أ.

(8) زيادة من أ.

(9) دلائل النبوة (2/386).

(10) صحيح مسلم برقم (165).

(11) صحيح البخاري برقم (3239) وصحيح مسلم برقم (165).

طريق أخرى:

قال [البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفَّار، حدثنا دُبَيْس المُعدَّل، حدثنا عفان قال: حدثنا] (1) حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي، مرت بي رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة؟ قالوا: ماشطة بنت فرعون وأولادها، سقط مُشْطُهَا من يدها فقالت: باسم الله: فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك. قالت: أولك رب غير أبي؟ قالت: نعم، ربي وربك ورب أبيك الله" . قال: "فدعاها فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، عز وجل". قال: "فأمر بنقرة (2) من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها، قالت: إن لي [إليك] (3) حاجة. قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع، قال (4) ذاك لك، لما لك علينا من الحق"، قال: "فأمر بهم فألقوا واحدًا واحدًا، حتى بلغ رضيعًا فيهم، فقال: يا أمه، قعي ولا تقاعسي، فإنك (5) على الحق". قال: "وتكلم أربعة وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم، عليه السلام" (6) .

إسناد لا بأس به، ولم يخرجوه.

طريق أخرى:

وقال الإمام أحمد [أيضًا] (7) حدثنا محمد بن جعفر وروح المعنى (8) قالا حدثنا عوف، عن زُرَارة بن أوفى، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، فظعت [بأمري] (9) وعرفت أن الناس مكذبي" فقعد (10) معتزلا حزينًا، فمرّ به عدو الله أبو جهل (11) فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: وما هو؟ قال "إني أسري بي الليلة": قال إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم". قال: فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، فقال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: هيا (12) معشر بني كعب بن لؤي، قال: فانتفضت (13) إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي الليلة". فقالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس" قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم". قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب -زعم-قالوا: وتستطيع أن تنعت [لنا] (14) المسجد -وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد-قال (15) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت" قال: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقيل -أو عقال-فَنَعتُّه

__________

(1) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(2) في ت، ف، أ: "ببقرة".

(3) زيادة من أ، والدلائل.

(4) في ف: "فقال".

(5) في ف: "فأنا".

(6) دلائل النبوة (2/389) ورواه البزار في مسنده برقم (54) "كشف الأستار" من طريق عفان به وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.

(7) زيادة من ف، أ.

(8) في ف، أ: "وروح بن المعين".

(9) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.

(10) في ت، ف: "فقعدت"، وفي أ: "فعدت".

(11) في ف، أ: "أبو جهل قبحه الله".

(12) في ف، أ: "فيا".

(13) في ت، ف: "فانقضت".

(14) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.

(15) في ف: "فقال".

(5/29)

 

 

وأنا أنظر إليه". قال: وكان مع هذا نعت لم أحفظه -يقول عوف-: قال: فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.

وأخرجه (1) النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة -وهو الأعرابي، به. ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة، عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، أحد الأئمة الثقات، به (2) .

رواية عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا السري بن خزيمة، حدثنا يوسف بن بُهلول، حدثنا عبد الله بن نمير، عن مالك بن مِغْوَل، عن الزبير بن عدي، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن مرة الهَمْدَاني، عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط [به] (3) من فوقها حتى يقبض [منها] (4) { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم: 16 ] قال: غشيها فراش من ذهب، وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله (6) المقحمات، يعني الكبائر.

ورواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب، كلاهما عن عبد الله بن نمير، به (7) . ثم قال البيهقي: "وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج، وقد رواه أنس بن مالك، عن مالك بن صَعْصَعَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه مرة مرسلا دون ذكرهما" (8) ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدّم.

قلت: وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا، وفيه غرابة، وذلك فيما رواه "الحسن بن عرفة" في جزئه المشهور. حدثنا مروان بن معاوية، عن قنان بن عبد الله النهمي (9) ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال: كنا جلوسًا عند أبي عبيدة بن عبد الله -يعني ابن مسعود-ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وهما جالسان، فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: لا بل حدثنا أنت عن أبيك. فقال محمد: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت! قال: فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، فحملني عليه، ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال أزد شنوءة، وهو يقول -فيرفع (10) صوته يقول-أكرمته وفضلته". قال: "فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد (11) ، قال: مرحبًا بالنبي الأمي العربي، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته". قال: "ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا موسى بن عمران". قال:

__________

(1) في ت: "أخرجه".

(2) المسند (1/309) وسنن النسائي الكبرى برقم (11285) ودلائل النبوة للبيهقي (2/363).

(3) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(4) زيادة من ف، أ، والدلائل.

(5) في ت: "صلى الله عليه وسلم تسليما".

(6) في ت: "بالله من أمتي"، وفي ف: "بالله شيئا".

(7) دلائل النبوة (2/372) وصحيح مسلم برقم (173).

(8) دلائل النبوة (2/373).

(9) في ت، ف، أ: "التيمي".

(10) في ف: "فرفع".

(11) في ت: "محمد".

قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك! قلت: فيرفع صوته على ربه؟! قال: إن الله [عز وجل] (1) قد عرف له حدته". قال: "ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السُّرُج تحتها شيخ وعياله". قال: "فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم. فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال إبراهيم: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا ابنك أحمد". قال: "فقال: مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، يا بني، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل". قال: "ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها. ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين راكع وقائم وساجد". قال: "ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال: أصبت الفطرة ورب محمد". قال: "ثم أقيمت الصلاة فأممتهم، ثم انصرفنا فأقبلنا" (2) .

إسناد غريب ولم يخرجوه، فيه من الغرائب (3) سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء، ثم سؤاله عنهم (4) بعد انصرافه. والمشهور في الصحاح كما تقدم: أن جبريل [عليه السلام] (5) كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة. وفيه (6) أنه اجتمع بالأنبياء عليهم (7) السلام قبل دخوله المسجد (8) ، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه، وصلى بهم فيه، ثم إنه ركب البراق وكر راجعًا إلى مكة، والله أعلم.

طريق أخرى:

قال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيم، أخبرنا العوام، عن جبلة بن سُحَيْم، عن مُوثَر (9) بن عفارة، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة" قال: "فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام (10) فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى. فقال: لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، عز وجل، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج". قال: "ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص". قال: "فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله". قال: "فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم (11) " . قال: "فعند (12) ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه" قال: "ثم يرجع الناس إليّ فيشكونهم. فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم -أي: تنتن" قال: "فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إلي ربي: أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها، ليلا أو نهارًا".

وأخرجه ابن ماجه، عن بُنْدار، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب (13) .

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) جزء الحسن بن عرفة برقم (69).

(3) في ت، ف: "من الغرابة".

(4) في ت: "ثم سؤالهم له".

(5) زيادة من ف، أ.

(6) في ف: "وقيل".

(7) في ت: "عليه".

(8) في ف، أ: "المسجد الأقصى".

(9) في ت، ف: "مرثد".

(10) في ت: "عليه الصلاة والسلام".

(11) في ت: "وأقطانهم".

(12) في ت: "فبعد".

(13) المسند (1/375)، وسنن ابن ماجه برقم (4081) وقال البوصري في الزوائد (3/261): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، مؤثر ابن عفارة ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".

رواية عبد الرحمن بن قرط، أخي عبد الله بن قرط الثمالي:

قال سعيد بن منصور: حدثنا مسكين بن ميمون -مؤذن (1) مسجد الرملة-حدثني عُروة بن رُوَيْم، عن عبد الرحمن بن قُرط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بين زمزم (2) والمقام، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السموات العلى، فلما رجع قال: "سمعت تسبيحًا في السموات العلى مع تسبيح كثير (3) ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى" (4) .

ويذكر هذا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ } الآية [ الإسراء: 44 ] .

رواية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:

قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان بالجابية، فذكر فتح بيت المقدس قال: قال أبو سلمة: فحدثني أبو سنان، عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال (5) إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر رضي الله عنه: ضاهيت اليهودية، [لا] (6) ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة، فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس (7) .

فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه، كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم. ولكن منّ الله عليه بالإسلام، فهُدي إلى الحق؛ ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين: ضاهيت اليهودية، ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود، ولكن أماط الأذى، وكنس عنها الكناس بردائه. وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغَنَوِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (8) .

رواية أبي هريرة، رضي الله عنه:

وهي مطولة جدًا وفيها غرابة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير "سورة سبحان": حدثنا علي بن سهل، حدثنا حجاج، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره -شك أبو جعفر-في قول الله عز وجل: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } قال: جاء جبريل [إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل، فقال جبريل] (9) لميكائيل: ائتني بطَسْت من ماء زمزم، كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. قال: فشق عنه بطنه، فغسله ثلاث مرات. واختلف إليه

__________

(1) في ت، أ: "مؤدب".

(2) في ت، ف: "من بين زمزم".

(3) في ت: "كبير".

(4) سيأتي من رواية الطبراني من طريق سعيد بن منصور، وانظر تخريجه هناك عند الآية: 44 من هذه السورة.

(5) في ف: "فقال".

(6) زيادة من ت، ف، والمسند.

(7) المسند (1/38).

(8) صحيح مسلم برقم (972).

(9) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.

ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم، فشرح صدره ونزع ما كان فيه من غل، وملأه حلمًا وعلمًا، وإيمانًا ويقينًا وإسلامًا، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة.

ثم أتاه بفرس فحمل (1) عليه، كل خطوة منه منتهى بصره -أو: أقصى بصره-قال: فسار وسار معه جبريل عليهما (2) السلام قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، ما هذا؟" قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين.

ثم أتى على قوم تُرضَخ رءوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والنعم، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها، قال (4) : " ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئًا وما الله بظلام للعبيد.

ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر (5) ولحم نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" فقال: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيبة، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، [والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبًا، فتأتي رجلا خبيثًا فتبيت معه حتى تصبح] (6) .

قال: ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: "ما هذا يا جبريل؟" قال: هذا مثل أقوام من أمتك، يقعدون على الطريق يقطعونه (7) ثم تلا { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] (8) } [ الأعراف: 86 ].

قال: ثم أتى على رجل قد جمع (9) حزمة [حطب] (10) عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: "ما هذا يا جبريل؟" فقال (11) هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها.

ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء خطباء الفتنة.

ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من [حيث] (12) خرج، فلا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل؟" فقال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.

ثم أتى على واد فوجد ريحًا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتًا، فقال: "يا جبريل، ما هذه (13) الريح الطيبة الباردة؟ وما هذا المسك؟ وما هذا الصوت؟" قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي، وإستبرقي وحريري وسندسي، وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني، وفضتي

__________

(1) في ف، أ: "فحمله".

(2) في ت، ف، أ: "عليه".

(3) في ف: "فقال رسول الله".

(4) في ف: "فقال".

(5) في ت، ف: "قدور".

(6) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.

(7) في ت، ف: "فيقطعونه".

(8) زيادة من ف، أ.

(9) في ت: "حمل".

(10) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.

(11) في ف: "قال".

(12) في ت، هـ: "موضع" والمثبت من الطبري.

(13) في ت، ف، أ: "ما هذا".

وذهبي وأكوابي وصحافي، وأباريقي ومراكبي، وعسلي ومائي، وخمري ولبني فآتني ما (1) وعدتني. فقال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادًا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت.

قال: "ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحًا منتنة، فقال: ما هذه (2) الريح يا جبريل؟ وما هذا الصوت؟" فقال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وحميمي، وضريعي، وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني كل ما وعدتني، فقال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت: قد رضيت.

قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل، من هذا معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: أوقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء.

قال: ثم لقي أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكًا عظيمًا، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ بردًا وسلامًا. ثم (3) إن موسى، عليه السلام (4) ، أثنى على ربه، عز وجل، فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليمًا، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود، عليه السلام (5) أثنى على ربه [عز وجل] (6) ، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان، عليه السلام، أثنى على ربه [عز وجل] (7) فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء فضلا وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكًا طيبًا ليس فيه حساب. ثم إن عيسى، عليه السلام، أثنى على ربه، عز وجل، فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: "كن" فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه (8) ، ورفعني وطهرني، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل. قال: ثم إن محمدًا (9) صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، عز وجل، فقال: "فكلكم أثنى على ربه، وإني مثن على ربي [عز وجل] (10) فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليّ الفرقان (11) فيه بيان لكل شيء، وجعل

__________

(1) في ت: "بما".

(2) في أ: "ما هذا".

(3) في ف، أ: "قال: ثم".

(4) في ت: "عليه الصلاة والسلام".

(5) في ت: "عليه الصلاة والسلام".

(6) زيادة من أ.

(7) زيادة من أ.

(8) في ف، أ: "بإذن الله".

(9) في أ: "محمدا رسول الله".

(10) زيادة من ف، أ.

(11) في ت، ف: "القرآن".

أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطًا، وجعل أمتي هم الأولين وهم الآخرين، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا" فقال إبراهيم [عليه السلام] (1) : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر الرازي: خاتم النبوة، فاتح بالشفاعة يوم القيامة.

ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل: اشرب. فشرب منه يسيرًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له: اشرب، فشرب منه حتى روي. ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب فقال: "لا أريده قد رويت". فقال له جبريل [عليه السلام] (2) : أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل.

قال: ثم صعد به إلى السماء فاستفتح، فقيل: من هذا يا جبريل؟ فقال: محمد، فقالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. فدخل فإذا هو برجل تام الخلق (3) لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس، عن (4) يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن، فقلت: "يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء؟ وما هذان البابان؟ " فقال: هذا أبوك آدم [عليه السلام] (5) ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخل (6) من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته بكى وحزن.

ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا معك؟ فقال: محمد رسول الله. قالوا: أوقد أرسل محمد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فلنعم الأخ ولنعم الخليفة ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو بشابين فقال: "يا جبريل، من هذان الشابان؟" قال: هذا عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، ابنا الخالة عليهما السلام.

قال: فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قال: "من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن؟" قال: هذا أخوك يوسف، عليه السلام (7) .

قال: ثم صعد به إلى السماء (8) الرابعة فاستفتح، فقالوا (9) من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل ؟ (10) قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل، فإذا هو برجل، قال: "من هذا يا جبريل؟" قال: هذا إدريس رفعه الله [تعالى] (11) مكانًا عليًا.

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ.

(3) في ف: "تام الخلقة".

(4) في ف: "على".

(5) زيادة من أ

(6) في ت، ف: "يدخله".

(7) في ت: "عليه الصلاة والسلام".

(8) في ف: "ثم صعدت إلى السماء".

(9) في ف: "فقيل".

(10) في ف، أ: "أرسل إليه".

(11) زيادة من ت.

ثم صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل (1) إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه (2) الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم، قال: "من هذا يا جبريل؟ ومن هؤلاء حوله؟" قال: هذا هارون المحبب [في قومه] (3) وهؤلاء بنو إسرائيل.

ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح، قيل: (4) من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أرسل؟ (5) قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء (6) . فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل، فقال: "يا جبريل، من هذا؟" قال: موسى، قال: "فما باله (7) يبكي؟" قال: زعم (8) بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته.

قال: ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل له: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرًا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد (9) خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص [من] (10) ألوانهم [شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم] (11) فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: "يا جبريل من هذا الأشمط؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه؟ ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء؟ وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاءوا وقد صَفَت ألوانهم؟" قال: هذا أبوك إبراهيم [عليه السلام] (12) أول من شمط على الأرض. وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فقوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتابوا فتاب الله عليهم. وأما الأنهار فأولها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث سقاهم ربهم شرابًا طهورًا.

قال: ثم انتهى إلى السدرة فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك. فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والورقة منها مغطية للأمة كلها. قال: فغشيها نور الخلاق، عز وجل، وغشيتها (13) الملائكة أمثال الغربان حين يقعن (14) على الشجرة قال: فكلمه الله عند ذلك (15)

__________

(1) في ف، أ: "أرسل إليه".

(2) في ف، أ: "قالوا: مرحبا به حياه".

(3) زيادة من ف، ت، أ، والطبري.

(4) في ف: "فقيل".

(5) في ف، أ: "أرسل إليه".

(6) في ت، ف، أ: "المجيء جاء".

(7) في ت: "فما له".

(8) في ت، أ: "يزعم".

(9) في ت: "قد".

(10) زيادة من ف، أ، والطبري.

(11) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.

(12) زيادة من ف، أ.

(13) في ت: "وغشيها".

(14) في ت، ف، أ: "حتى تقع".

(15) في ت: "فكلمه يعني عند ذلك".

قال له: سل (1) ، قال: "إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكًا عظيمًا، وكلمت موسى تكليمًا، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا، وألنت له الحديد، وسخرت له [الجبال، وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا، وسخرت له الجن والإنس والشياطين، وسخرت له] (2) الرياح، وأعطيت له ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل". فقال له ربه عز وجل: وقد اتخذتك خليلا -وهو مكتوب في التوراة: حبيب الرحمن (3) -وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطًا، وجعلت أمتك هم الأولين والآخرين، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقوامًا قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقًا، وآخرهم بعثًا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعًا من المثاني لم يعطها نبي قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيًا قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام، والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحًا وخاتمًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام (4) وخواتيمه وجوامع الحديث، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا ومسجدًا".

قال: وفرض عليه خمسين صلاة. فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد؟ قال: "بخمسين صلاة" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، عز وجل، فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. ثم رجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "بأربعين" قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه [عز وجل] (5) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بثلاثين"، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] (6) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى فقال (7) بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشرين". قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (8) فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه [عز وجل] (9) فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرًا. فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: "أمرت بعشر"، قال: ارجع إلى ربك [عز وجل] (10) فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع على حياء إلى ربه [عز وجل] (11) فسأله التخفيف فوضع عنه خمسًا. فرجع إلى موسى، عليه السلام، فقال (12) بكم أمرت؟ قال: "بخمس" فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن

__________

(1) في ف: "فقال".

(2) زيادة من ف، أ، والطبري.

(3) في ت: "محمد حبيب الرحمن".

(4) في ف: "الكلم".

(5) زيادة من ف.

(6) زيادة من ف، أ.

(7) في ت: "قال".

(8) زيادة من ف، أ.

(9) زيادة من ف، أ.

(10) زيادة من ف، أ.

(11) زيادة من ف، أ.

(12) في ف: "قال".

أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: "قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فما أنا براجع إليه"، قيل: أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كل حسنة بعشر أمثالها. قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا، قال: وكان موسى، عليه السلام، من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم له حين رجع إليه (1) .

ثم رواه ابن جرير، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره -شك أبو جعفر-عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه (2) .

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن محمد بن الحسن السَّكُوني البالسي بالرملة، حدثنا علي بن سهل، فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه (3) ، وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، عن جده، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن حاتم بن إسماعيل، حدثني عيسى بن ماهان -يعني أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره (4) .

وقال: ابن أبي حاتم: ذكر أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي (5) -يعني: أبا جعفر الرازي-عن الربيع بن أنس البكري، عن أبي العالية أو غيره -شك عيسى-، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى] (6) } فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه.

قلت: "أبو جعفر الرازي" قال فيه الحافظ أبو زرعة: "الرازي يهم في الحديث كثيرًا" وقد ضعفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه (7) شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم.

وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَرُ، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به: "لقيت موسى" قال: فنعته فإذا رجل -حسبته قال:-مضطرب، رَجْل الرأس، كأنه من رجال شنوءة. قال: "ولقيت عيسى" -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم-ربعة (8) أحمر كأنما خرج من ديماس -يعني حمام. قال: "ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به". قال: "وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، قيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة -أو: أصبت الفطرة-أما إنك لو

__________

(1) تفسير الطبري (15/6).

(2) تفسير الطبري (15/10).

(3) دلائل النبوة (2/296 ، 297).

(4) دلائل النبوة (2/397).

(5) في ت: "اليمني".

(6) زيادة من ت.

(7) في ت: "فيه".

(8) في ت، أ: "قال: ربعة".

أخذت الخمر غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر. عن الزهري -به نحوه (1) .

وفي صحيح مسلم، عن محمد بن رافع، عن حُجَيْن بن المثنى، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي (2) فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي، وإذا هو رجل ضربٌ جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه-فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، [فسلم عليه] (3) فالتفت إليه فبدأني بالسلام " (4) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوق (5) فإذا رعد وبرق وصواعق". قال: "وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا بِرَهَج ودخان وأصوات، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحرفون على أعين بني آدم ألا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب".

ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان، كلاهما عن حماد بن سلمة، به. ورواه ابن ماجه من حديث حماد، به (6) .

رواية جماعة من الصحابة [رضي الله عنهم] (7) ممن تقدم وغيرهم:

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله -يعني الحاكم-أخبرنا عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق بهمذان، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني، حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري، حدثنا عمر بن سعد النصري (8) من بني نصر (9) بن قُعَين، حدثني عبد العزيز، وليث بن أبي سليم (10) وسليمان الأعمش، وعطاء بن السائب -بعضهم يزيد في الحديث على بعض-عن علي بن أبي طالب وعبد الله (11) بن عباس -ومحمد بن إسحاق بن يسار، عمن حدثه عن ابن عباس-

__________

(1) صحيح البخاري برقم (3394) وصحيح مسلم برقم (168).

(2) في ت: "عن أمري".

(3) زيادة من ف، أ، ومسلم.

(4) صحيح مسلم برقم (172).

(5) في ف، أ: "فوق رأسي".

(6) المسند (2/353- 363) وسنن ابن ماجة برقم (2273) . وسبق الحديث من رواية أحمد عند تفسير الآية: 185 من سورة الأعراف، وعقب عليه الحافظ ابن كثير بقوله: "علي بن زيد بن جدعان له منكرات".

(7) زيادة من أ.

(8) في ف: "النضري".

(9) في ف: "من بني نضرة".

(10) في أ: "سلمة".

(11) في ت، ف: "وعن عبد الله".

وعن سليم بن مسلم العقيلي، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن مسعود -وجويبر، عن الضحاك، ابن مزاحم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ راقدًا، وقد صلى العشاء الآخرة. قال أبو عبد الله الحاكم: قال لنا هذا الشيخ . . . وذكر الحديث، فكتب (1) المتن من نسخة مسموعة منه، فذكر حديثًا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية.

قال البيهقي: فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية، وبالله التوفيق (2) .

قلت: وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين، رحمة الله عليهم أجمعين.

رواية عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها:

قال [الإمام] (3) البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني مكرم بن أحمد القاضي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (4) ، حدثنا محمد بن كثير الصَّنْعاني، حدثنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! فقال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدْوة أو رَوْحة. فلذلك سمي أبو بكر: الصديق، رضي الله عنه (5) .

رواية أم هانئ بنت أبي طالب، رضي الله عنها:

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح باذان، عن أم هانئ بنت أبي طالب [رضي الله عنها] (6) في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" (7) .

الكلبي: متروك بمرة ساقط، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري، عن ضَمْرَة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني (8) ، عن أبي صالح، عن أم هانئ بأبسط من هذا

__________

(1) في ت: "فثبت".

(2) دلائل النبوة (2/404).

(3) زيادة من ف، أ.

(4) في ت: "البكري".

(5) دلائل النبوة (2/360) وهو في المستدرك (3/62) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(6) زيادة من أ.

(7) رواه الطبري في تفسيره (15/3) من طريق محمد بن إسحاق.

(8) في ت، ف، أ: "الشيباني"

السياق، فليكتب هاهنا (1) .

وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاور، عن عكرمة، عن أم هانئ قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي، ففقدته من الليل، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل، عليه السلام، أتاني فأخذ بيدي فأخرجني، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار، فحملني عليها، ثم انطلق حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي، ويشبه خلقي خلقه، وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر، شبهته برجال أزد شنوءة، وأراني عيسى ابن مريم رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى، شبهته بقطن بن عبد العزى"

__________

(1) كذا ولم أجد فى النسخ إثباته، وقد رواه أبو يعلى فى معجم شيوخه برقم (10) قال: "حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا يحيى بن أبى عمرو السيباني، عن أبى صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس، فجلس، وأنا على فراشي، فقال: "شعرت أنى بت الليلة فى المسجد الحرام، فأتاني جبريل، فذهب بى إلى باب المسجد، فإذا بدابة أبيض، فوق الحمار، ودون البغل، مضطرب الأذنين، فركبت وكان يضع حافره مد بصره، إذا أخذني فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، وإذا أخذني في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني، حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التى كانت الأنبياء توثق بها، فنشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، فصليت بهم، وكلمتهم، وأتيت بإناءين أحمر وأبيض، فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن، وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته، فأتيت المسجد الحرام وصليت به الغداة" قالت: فعلقت بردائه: أنشدك الله يا ابن عمى! أن تحدث بهذا قريشا، فيكذبك من صدقك. فضرب بيده على ردائه، فانتزعه من يدى، فارتفع عن بطنه، فنظرت إلى عكنه، فوق إزاره كأنها طى القراطيس، فإذا نور ساطع عند فؤاده، كاد يخطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه، فانظرى ماذا يقول، وماذا يقال له؟ فلما رجعت نبعة، أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش، فى الحطيم، فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقال: "إنى صليت الليلة العشاء فى هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، وصليت بهم وكلمتهم".

فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: "أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى، فضخم آدم، طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس. وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خلقا، وخلقا". قال: فضجوا، وأعظموا ذلك، فقال المطعم بن عدي: كل أمرك كان قبل اليوم، كان أمما غير قولك اليوم، أما أنا، فأشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، نصعد شهرا، ونحدر شهرا، تزعم أنك أتيته فى ليلة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان الذى تقول قط. وكان للمطعم بن عدي حوض على زمزم أعطاه إياه عبد المطلب، فهدمه وأقسم باللات والعزى لا يسقى قطرة أبدا، فقال أبو بكر: يا مطعم، بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته، أنا أشهد أنه صادق، فقالوا: يا محمد، فصف لنا بيت المقدس، قال: "دخلت ليلا وخرجت منه ليلا". فأتاه جبريل بصورته فى جناحه، فجعل يقول: "باب منه كذا، فى موضوع كذا، وباب منه كذا، فى موضع كذا"، وأبو بكر يقول: صدقت، قالت نبعة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: "يا أبا بكر، إنى قد سميتك (الصديق)". قالوا: يا مطعم، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس. يا محمد، أخبرنا عن عيرنا، فقال: "أتيت على عير بنى فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا فى طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء، فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك " قالوا: هذه والإله آية. "ثم انتهيت إلى عير بنى فلان، فنفرت منى الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق محيط ببياض، لا أدرى أكسر البعير، أم لا، فاسألوهم عن ذلك" قالوا: هذه والإله آية "ثم انتهيت إلى عير بنى فلان فى التنعيم، يقدمها جمل أورق ، وها هى ذه يطلع عليكم من الثنية". فقال الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال. فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال، فأنزل الله عز وجل: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن" (الإسراء : 60) قلت لأم هانئ: ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ قالت: الذين خوفوا فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا وكفرا".

قال: "وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت". فأخذت بثوبه فقلت: إني أذكرك (1) الله، إنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك، فأخاف أن يسطوا بك. قالت: فضرب ثوبه من يدي، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس، فأخبرهم ما أخبرني، فقام جبير بن مطعم فقال: يا محمد لو كنت شابا (2) كما كنت، ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم: يا محمد، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، والله قد وجدتهم أضلوا بعيرًا لهم فهم في طلبه" .

قال: فهل مررت بإبل لبني فلان؟ قال: "نعم، وجدتهم في مكان كذا وكذا، وقد انكسرت (3) لهم ناقة حمراء، وعندهم قصعة من ماء، فشربت ما فيها". قالوا: فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة [قال: "قد كنت عن عدتها مشغولا". فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة] (4) ثم أتى قريشا فقال لهم: "سألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة فلان وفلان، وسألتموني عن إبل بني فلان، فهي كذا وكذا، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان، وهي مصبحتكم من الغداة (5) على الثنية". قال: فقعدوا (6) على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال؟ فاستقبلوا الإبل فسألوهم: هل ضل لكم بعير؟ قالوا: نعم. فسألوا الآخر: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا: نعم. قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال: أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، ولا أهراقوه في الأرض. فصدقه أبو بكر [رضي الله عنه] (7) وآمن به، فسمي يومئذ الصديق (8) .

فصل

وإذا (9) حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء، عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب.

وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه، عليه السلام (10) أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدًا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقلته (11) الناس على التعدد والتكرر.

قال موسى بن عقبة، عن الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة. وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرًا.

والحق أنه، عليه السلام (12) أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس، راكبًا البراق،

__________

(1) في ت: "أذكر".

(2) في ت، ف: "أن لو كنت لك شابا".

(3) في ت: "وقد كسرت".

(4) زيادة من الخصائص الكبرى للسيوطي (1/439) .

(5) في ف: "بالغداة".

(6) في ت، ف: "فغدوا".

(7) زيادة من ف، أ.

(8) المعجم الكبير (24/432) وعبد الأعلى بن أبي المساور كذاب.

(9) في ف: "فإذا".

(10) في ف: "بأنه صلى الله عليه وسلم".

(11) في ت: "ولتعلمه".

(12) في ف: "أنه صلى الله عليه وسلم".

فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين. ثم أتى المعراج (1) -وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها-فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم عليه الأنبياء [عليهم السلام] (2) الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع (3) فيه صريف الأقلام، أي: أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله، تعالى، عظمة عظيمة، من فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هنالك جبريل على صورته، وله ستمائة جناح، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور (4) وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار، وفرض الله [عز وجل] (5) عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده. وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول (6) دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبًا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله، تعالى. ثم لما فرغ من الذي أريد به، اجتمع هو وإخوانه من النبيين [صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين] (7) ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام (8) له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل، أو اللبن والخمر، أو اللبن والماء، أو الجميع -فقد ورد أنه في بيت المقدس، وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا؛ لأنه كالضيافة للقادم، والله أعلم.

ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام (9) وروحه؟ أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، ولا ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا، ثم رآه بعده يقظة؛ لأنه عليه السلام (10) كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ والدليل على هذا قوله [عز وجل] (11) { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، ولو كان منامًا لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم. وأيضًا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد،

__________

(1) في ت، ف: "بالمعراج".

(2) زيادة من ف.

(3) في ت: "سمع"، وفي ف، أ: "فسمع".

(4) في ت، ف، أ: "المعمور الذي".

(5) زيادة من ف.

(6) في ف، أ: "كان في أول".

(7) زيادة من ف، أ.

(8) في ت: "عليه الصلاة والسلام"

(9) في ف: "صلى الله عليه وسلم".

(10) في أ: "صلى الله عليه وسلم".

(11) زيادة من: ف، أ.

وقد قال [عز شأنه] (1) { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } وقد قال تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [ الأسراء: 60 ] قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ليلة أسري به، والشجرة الملعونة: شجرة الزقوم] (3) رواه البخاري. وقال تعالى: { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم: 17 ]، والبصر من آلات الذات لا الروح. وأيضًا فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب (4) عليه، والله أعلم.

وقال آخرون: بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس؛ أن معاوية بن أبي سفيان [رضي الله عنهما] (5) كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه.

قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ولقول (6) الله في الخبر عن إبراهيم: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } [ الصافات: 102 ]، ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظًا ونياما.

فكان (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تنام عيناي، وقلبي يقظان" فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه من الله ما عاين، على أي حالاته كان، نائمًا أو يقظان، كل ذلك حق وصدق. انتهى كلام ابن إسحاق (8) .

وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع، بأن هذا خلاف (9) ظاهر سياق القرآن، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم (10) والله أعلم.

فائدة حسنة جليلة:

روى الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة" من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمرو بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دَحْية بن خليفة إلى قيصر -فذكر وروده عليه وقدومه إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وُفُور عقل هرقل-ثم استدعى من بالشام من التجار، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ.

(3) زيادة من ت، ف، أ.

(4) في ف: "يركب".

(5) زيادة من ف، أ.

(6) في ف: "وكقول".

(7) في ف: "وكان".

(8) ذكره الطبري في تفسيره (15/13) بإسناده إلى ابن إسحاق.

(9) في ف: "اختلاف".

(10) تفسير الطبري (15/13،14)

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

وأصحابه، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم، كما سيأتي بيانه، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ، ولا يصدقني بشيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال: فقلت: أيها الملك، ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا -أرض الحرم-في ليلة فجاء مسجدكم هذا-مسجد إيلياء، ورجع (1) إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبَطْرِيقُ إيلياء عند رأس قيصر، فقال: بَطْرِيق إيلياء: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر (2) قيصر، وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبني، فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه النجاجرة، فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية الباب (3) مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا. وذكر تمام الحديث (4) .

فائدة:

قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دَحْيَة في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير" وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس، وتكلم عليه فأجاد وأفاد-ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي [بن أبي طالب] (5) وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قُرْط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين (6) ، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جُنْدُب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن (7) رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض فيه الزنادقة الملحدون (8) { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف: 8 ].

{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) } .

لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد، صلوات الله وسلامه عليه (9) ، عطف بذكر موسى عبده

__________

(1) في ف: "فرجع".

(2) في ف، أ: "فنظر إليه".

(3) في ف، هـ: "المسجد".

(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/224) وعزاه لأبي نعيم في الدلائل، ولم أجده في المطبوع من الدلائل.

(5) زيادة من ف.

(6) في ت، ف: "الأنصاري".

(7) في ف: "يكن".

(8) في ف: "والملحدون".

(9) في ف: "صلى الله عليه وسلم".

وكليمه [عليه السلام] (1) أيضًا، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام (2) وبين ذكر التوراة والقرآن؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب { هُدًى } أي هاديًا { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا } أي لئلا تتخذوا { مِنْ دُونِي وَكِيلا } أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله (3) أن يعبده وحده لا شريك له.

ثم قال: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي: يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف: أن نوحًا، عليه السلام، كان يحمد الله [تعالى] (4) على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله; فلهذا سمي عبدًا شكورًا.

قال: الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي حُصَين، عن عبد الله بن سنان، عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبدًا شكورًا؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله (5) .

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بُرْدَة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها".

وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة، به (6) .

وقال مالك، عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال.

وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (7) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا سيد الناس يوم القيامة -بطوله، وفيه -: فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت (8) أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكماله (9) .

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في ت: "عليهما الصلاة والسلام" . وفي ف، أ: "عليهما من الله الصلاة والسلام".

(3) في ت: "أرسل".

(4) زيادة من أ.

(5) المعجم الكبير (6/32).

(6) المسند (3/117) ، وصحيح مسلم برقم (2734) وسنن الترمذي برقم (1816) وسنن النسائي الكبرى برقم (6899).

(7) زيادة من ف، أ.

(8) في ف، أ: "يانوح، إنك أنت".

(9) صحيح البخاري برقم (4712).

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }

.الإسراء - تفسير القرطبي

سورة الإسراء

مقدمة السورة

هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل (وإن كادوا ليستفزونك) [الإسراء: 76] حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء. وقوله عز وجل: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) [الإسراء: 80] وقوله تعالى (إن ربك أحاط بالناس) [الإسراء: 60] الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل (إن الذين أوتوا العلم من قبله) [الإسراء: 107] الآية. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي؛ يريد من قديم كسبه.

الآية: 1 {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}

قوله تعالى: "سبحان" (سبحان) اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجرى بوجوه الإعراب، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره؛ فأما قول ا لشاعر:

أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيدالله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: (تنزيه الله من كل سوء). والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها؛ فوقع (سبحان الله) مكان قولك تنزيها.

قوله تعالى: "أسرى بعبده" "أسرى" فيه لغتان: سرى وأسرى؛ كسقى وأسقى، كما تقدم. قال:

أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد

وقال آخر:

حي النضيرة ربة الخدر أسرت إلي ولم تكن تسري

فجمع بين اللغتين في البيتين. والإسراء: سير الليل؛ يقال: سريت مسرى وسرى، وأسريت إسراء؛ قال الشاعر:

وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني من سراها ليت

وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره؛ والأول أعرف.

قوله تعالى: "بعبده" قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:

يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

وقد تقدم. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة.

ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه - قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس - قال - فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء - قال - ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة - قال - ثم عرج بنا إلى السماء...) وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري والسمرقندي، قال الآجري عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك - قال - ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك - قال - ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة - قال - ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد أرسل إليه؟ قال نعم ففتحوا لي وسلموا علي وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف - قال - وما يعلم جنود ربك إلا هو...) وذكر الحديث إلى أن قال: (ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم علي ورحب بي - فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال - رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما...) الحديث.

وروى البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم في الحجر إذ أتاني آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها مني جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى...) الحديث. وذكر أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولأم موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطه وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه..) وذكر الحديث.

فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الإسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده؛ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى.

فأما المسألة الأولى: وهي هل كان إسراء بروحه أو جسده؛ اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكي عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح؛ واحتجوا بقوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى" فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفي اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم أسري بجسده. وعلى هذا تدل الأخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله "ما زاغ البصر وما طغى" [النجم: 17] يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها؟ قال: (بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان) فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير؟ قال: (تأتيكم يوم كذا وكذا). قالوا: أية ساعة؟ قال: (ما أدري، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا). فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط - قال - فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به...) الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية (إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم (بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على (كتاب الشفاء) للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" [الإسراء: 60] فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا" ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الإسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم معارج؛ فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان...) الحديث. ويحتمل أن يرد من الإسراء إلى نوم. والله أعلم.

في تاريخ الإسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروي عن الوقاصي قال: أسري به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربي: أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن علي ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم.

وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهي تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله (فصارت سنة) قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها.

قد مضى الكلام في الأذان في "المائدة" والحمد لله. ومضى في "آل عمران" أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبي ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبدالله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس). خرجه مالك من حديث أبي هريرة. وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد؛ لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلي في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب.

قوله تعالى: "إلى المسجد الأقصى" سمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة، ثم قال: "الذي باركنا حوله" قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي). "لنريه من آياتنا" هذا من باب تلوين الخطاب.

والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. "إنه هو السميع البصير" تقدم.

الآية: 2 {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا}

أي كرمنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. "وجعلناه" أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب؛ فخرج من الغيبة إلى الإخبار عن نفسه جل وعز. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله: "لنريه من آياتنا" [الإسراء: 1] فحمل "وآتينا موسى الكتاب" على المعنى. "ألا تتخذوا" قرأ أبو عمرو (يتخذوا) بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب. "وكيلا" أي شريكا؛ عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم؛ حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم؛ قاله الكلبي. وقال الفراء: كافيا؛ والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الأمر.

الآية: 3 {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا}

أي يا ذرية من حملنا، على النداء؛ قال مجاهد ورواه عنه ابن أبي نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض؛ ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعني موسى وقومه من بني إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ (ذرية) بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد عن زيد بن ثابت. وروي عن زيد بن ثابت أيضا "ذرية" بكسر الذال وشد الراء. ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لأجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء لأحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون "ذرية" مفعولا ثانيا "لتتخذوا" ويكون قوله: "وكيلا" يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعني الياء والتاء في "تتخذوا". ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون "ذرية" بدلا من قوله "وكيلا" لأنه بمعنى الجمع؛ فكأنه قال لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعني وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في "تتخذوا" في قراءة من قرأ بالياء؛ ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لأن المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بني إسرائيل في الوجهين. فأما "أن" من قوله "ألا تتخذوا" فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الإعراب، وتكون "لا" للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهي.

الآية: 4 {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}

قوله تعالى: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية "في الكتب" على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع؛ فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى "قضينا" أعلمنا وأخبرنا؛ قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا؛ وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا؛ ولذلك قال: "إلى بني إسرائيل". وعلى قول قتادة يكون "إلى" بمعنى على؛ أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. "لتفسدن" وقرأ ابن عباس "لتفسدن". عيسى الثقفي "لتفسدن". والمعنى في القراءتين قريب؛ لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. "في الأرض" يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. "مرتين ولتعلن" اللام في "لتفسدن ولتعلن" لام قسم مضمر كما تقدم. "علوا كبيرا" أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.

الآية: 5 {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}

قوله تعالى: "فإذا جاء وعد أولاهما" أي أولى المرتين من فسادهم. "بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد" هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه؛ قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل؛ ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد؛ ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بني إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بختنصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا؛ فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة؛ وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم؛ فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: "ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار" هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا؛ وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرأ ابن عباس: (حاسوا) بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها؛ وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل؛ وهو قول أبي عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين؛ فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم؛ وأنشد لحسان:

ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر

وقال قطرب: نزلوا؛ قال:

فجسنا ديارهم عنوة وأبنا بسادتهم موثقينا

"وكان وعدا مفعولا" أي قضاء كائنا لا خلف فيه.

الآية: 6 {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}

قوله تعالى: "ثم رددنا لكم الكرة عليهم" أي الدولة والرجعة؛ وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. "وأمددناكم بأموال وبنين" حتى عاد أمركم كما كان. "وجعلناكم أكثر نفيرا" أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته؛ يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد؛ قال الشاعر:

فاكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا

والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا؛ جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

الآية: 7 {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}

قوله تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم" أي نفع إحسانكم عائد عليكم. "وإن أسأتم فلها" أي فعليها؛ نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:

فخر صريعا لليدين وللفم

أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة؛ لقوله تعالى: "بأن ربك أوحى لها" [الزلزلة: 5] أي إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا خطابا لبني إسرائيل في أول الأمر؛ أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. "فإذا جاء وعد الآخرة" من إفسادكم؛ وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بني إسرائيل يقال له لاخت؛ قاله القتبي. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ؛ حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل. وقال السدي: كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الأمر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك؛ فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله؛ فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب؛ ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك؛ لا تحل لك؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي؛ ذكره الثعلبي وغيره. وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن علي قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغي؛ فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يمض له نزع من ملكه؛ ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا؛ إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها.

قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... )وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: (بعث يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك فقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا؛ فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبي. وعن ابن عباس قال: (أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا). وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي؛ وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله؛ قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن: "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا" [مريم: 15]. كله من التاريخ المذكور.

واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة؛ فقيل: بختنصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر؛ وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء. قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة.

قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى - وبعض الناس يقول: لما قتلوا زكريا - بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بني إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس، وخلا في بني إسرائيل وقال: يا نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به؛ فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل.

قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في كتاب التذكرة مقطعا في أبواب في أخبار المهدي، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد): وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله: "فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا" فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل؛ فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله: "عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا" [الإسراء: 8] فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله: "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبير" فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين... وذكر الحديث.

قوله تعالى: "فإذا جاء وعد الآخرة" أي من المرتين؛ وجواب "إذا" محذوف، تقديره بعثناهم؛ دل عليه "بعثنا" الأول. "ليسوؤوا وجوهكم" أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم؛ فـ"ليسوؤوا" متعلق بمحذوف؛ أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة؛ أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي "لنسوء" بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله "وقضينا - وبعثنا - ورددنا". ونحوه عن علي. وتصديقها قراءة أُبَي (لنسوءن) بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر (ليسوء) بالياء على التوحيد وفتح الهمزة؛ ولها وجهان: أحدهما: ليسوء الله وجوهكم. والثاني: ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ الباقون "ليسوؤوا" بالياء وضم الهمزة على الجمع؛ أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا" أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا؛ قال الشاعر:

فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع

"ما علوا" أي غلبوا عليه من بلادكم "تتبيرا".

...الإسراء - تفسير الطبري

 

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله تعالى(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا) تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنَّ له من خلقه شريكا: وأن له صاحبة وولدا، وعلوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم.

وقد بيَّنت فيما مضى قبل، أن قوله: سبحان: اسم وُضع موضع المصدر، فنصب لوقوعه موقعه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد كان بعضهم يقول: نصب لأنه غير موصوف، وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها، فمنها الصلاة، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله(فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ): فلولا أنه كان من المصلين. ومنها الاستثناء، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى(ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ): لولا تستثنون، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل اليمن، ويستشهد لصحة تأويله ذلك بقوله( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ )( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) فذكرهم تركهم الاستثناء. ومنها النور، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لَولا ذلكَ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء" أنه عنى بقوله سبحات وجهه: نور وجهه.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،

قال: أخبرنا الثوريّ، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه سُئل عن التسبيح أن يقول الإنسان: سُبْحان الله، قال: "إنزاهُ الله عَنِ السُّوءِ".

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن الحسن بن صالح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: سبحان الله: قال: إنكاف لله. وقد ذكرنا من الآثار في ذلك ما فيه الكفاية فيما مضى من كتابنا هذا قبل. والإسراء والسُّرى: سير الليل. فمن قال: أسَرْى، قال: يُسري إسراء؛ ومن قال: سرى، قال: يَسري سرى، كما قاله الشاعر:

ولَيْلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَبْتُ... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُواها لَيْتُ (1)

ويروى: ذات ندى سَريْت.

ويعني بقوله(لَيْلا) من الليل. وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرؤها.

حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تجيء بمثل عاصم ولا زر، قال: قرأ حُذيفة:(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللَّيْلِ مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَام إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) وكذا قرأ عبد الله.

وأما قوله(مِنَ المَسْجِدِ الحَرَام) فإنه اختُلف فيه وفي معناه، فقال بعضهم: يعني من الحرم، وقال: الحرم كله مسجد. وقد بيَّنا ذلك في غير

__________

(1) البيتان في (اللسان: ليت) شاهدا على أنه لاته عن وجهه يليته ويلوته ليتا : حبسه عن وجهه وصرفه قال الراجز : "وليلة ذات سرى سريت" .... إلخ. وقيل معنى هذا : لم يلتني عن سراها أن أتندم فأقول: ليتني ما سريتها. وقيل معناه: لم يصرفني عن سراها صارف ، أي لم يلتني لائت ، فوضع المصدر موضع الاسم . وفي التهذيب : أن لم يلتني عنها نقص ولا عجز . وكذلك ألاته عن وجهه : فعل وأفعل : بمعنى . أ هـ . و (في اللسان : سرى) السرى: سير الليل: عامته، وقيل السرى : سير الليل كله ، تذكره العرب وتؤنثه . وسريت سرى ومسرى ، وأسريت: بمعنى: إذا سرت ليلا . بالألف : لغة أهل الحجاز. وجاء القرآن العزيز بهما جميعا. أ هـ . وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت. وقال السهيلي في الروض الأنف (1: 243) اتفقت الرواة على تسميته إسراء ، ولم يسمه أحد منهم سرى، وإن كان أهل اللغة قد قالوا: سرى ، وأسرى بمعنى واحد ، فدل على أن أهل اللغة لم يحققوا في العبارة .. إلى أن قال: لا يجوز أن يقال: سرى بعبده، بوجه من الوجوه؛ فلذلك لم تأت التلاوة إلا بوجه واحد في هذه القصة. أ ه.

موضع من كتابنا هذا. وقال: وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال : ثني محمد بن السائب، عن أبي صالح بن باذام عن أمّ هانئ بنت أبي طالب، في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنها كانت تقول: ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر، أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أمّ هانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمْ العِشاءَ الآخِرَةَ كَمَا رأيْت بِهَذَا الوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الغدَاةِ مَعَكُمُ الآنَ كَمَا تَرينَ".

وقال آخرون: بل أُسري به من المسجد، وفيه كان حين أسري به.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر بن عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن

أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة، وهو رجل من قومه قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أَنا عِنْدَ البَيْتِ بينَ النَّائِم واليَقْظَانِ، إِذْ سَمعْتُ قائلا يَقُولُ أَحَدُ الثلاثَةِ، فأتيت بطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلى كَذَا وكَذَا، قال قتادة: قلت: ما يعني به؟ قال: إلى أسفل بطنه؛ قال: فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ أبْيَض"، وفي رواية أخرى: "بِدَابَّة بَيْضَاءُ يُقال لَهُ البُرَاقُ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فحُمِلْتُ عَلَيْه ثُمَّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنَا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ بالنَّبِيينَ والمُرْسَلِينَ إماما، ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا ".... فذكر الحديث.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك، يعني ابن صعصعة رجل من قومه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه، قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: ثني عمرو بن عبد الرحمن، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أنا نائمٌ في الحِجْر جاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي، فجاءَني الثَّانِيةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئا، فَعُدْتُ لمَضْجَعِي، فجاءَني الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي إلى بابِ المَسْجِدِ، فإذَا دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بينَ الحِمارِ والبَغْلِ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جنَاحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِه، فحَمَلَني عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعي، لا يَفُوتُني ولا أفُوتُهُ".

حدثنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر (1) قال: سمعت أنسا يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أوّلهم: أيهم هو؟ قال: أوسطهم هو خيرهم، فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبرائيل عليه السلام، فشقّ ما بين نحره إلى لبَّته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم حتى أنقى جوفه، ثم أُتِيَ بطست من ذهب فيه تور محشوّ إيمانا وحكمة، فحشا به جوفه وصدره

__________

(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (المطبعة المصرية 2: 210) ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في صحيحه وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه (الجمع بين الصحيحين) بعد ذكر هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة . وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين، كابن شهاب ، وثابت البناني وقتادة (يعني عن أنس) فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. وانظر أيضا ما قاله الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض في شرح فاء القاضي عياض 2: 243 - 244، في نقده لرواية شريك بن أبي نمر سندا ومتنا).

ولغاديده (1) ثم أطبقه ثم ركب البراق، فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنَّبيين والمرسلين إماما، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء : من هذا؟ قال: هذا جبرائيل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل : أوقد بُعث إليه (2) ؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبا به وأهلا فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله بأهل الأرض حتى يُعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبرائيل: هذا أبوك ، فسلَّم عليه، فردّ عليه، فقال: مرحبا بك وأهلا يا بني، فنعم الابن أنت، ثم مضى به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ فقال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم قد أُرسل إليه، فقيل: مرحبا به وأهلا ففُتح لهما؛ فلما صعد فيها فإذا هو بنهرين يجريان، فقال: ما هذان النهران يا جبرائيل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما (3) ؛ ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بُعث إليه؟ قال: نعم قد بُعث إليه، قيل: مرحبا به وأهلا ففُتح له فإذا هو بنهر عليه قباب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، فذهب يشمّ ترابه، فإذا هو مسك أذفر، فقال: يا جبرائيل ما هذا النهر؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك في الآخرة؛ ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى الخامسة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك؛ ثم عرج به إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، وكلّ سماء فيها أنبياء قد سماهم أنس ، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه الله، فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا باب الجبَّار ربّ العزّة، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما شاء، وأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه، فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال: "عهد إليّ خمسين صلاة على أمتي كل يوم وليلة ؛ قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك وعنهم، فالتفتّ إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه أن نعم، فعاد به جبرائيل حتى أتى الجبَّار عزّ وجلّ وهو مكانه، فقال: "ربّ خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات؛ ثم رجع إلى موسى عليه السلام فاحتبسه، فلم يزل يردّده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه عند الخمس، فقال: يا محمد قد والله راودتُ بني إسرائيل على أدنى من هذه الخمس، فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كلّ ذلك يلتفت إلى جبرائيل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبرائيل، فرفعه عند الخمس، فقال: يا ربّ إن أمتي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فخفف عنا، قال الجبَّار جلّ جلاله: يا محمد، قال: لبَيك وسعديك، فقال: إني لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت عليك في أمّ الكتاب، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها، وهي خمسون في أمّ الكتاب، وهي خمس عليك؛ فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفَّف عني، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها، قال: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فتركوه فارجع فليخفف عنك أيضا، قال: "يا موسى قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه، قال: فاهبط باسم الله، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه، وقوله(إلى المَسْجِدِ الأقْصَى) يعني: مسجد بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتغَى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام. فتأويل الكلام تنزيها لله، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة، وما يجلّ عنه جلّ جلاله، الذي سار بعبده ليلا من بيته الحرام إلى بيته الأقصى.

__________

(1) في البخاري (باب التوحيد): فحشا به صدوره ولغاديده، يعني عروق حلقه.

(2) في البخاري (طبعة الحلبي 9: 183): "وقد بعث" . وقد أبقينا رواية المؤلف كما هي، لاختلاف نسخ البخاري في رواية بعض الكلم.

(3) كذا في البخاري أيضا.

ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال بعضهم: أسرى الله بجسده، فسار به ليلا على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه، فجمعت له به الأنبياء، فصلى بهم هُنالك، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السماوات السبع، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته، فصلى به صلاة الصبح.

* ذكر من قال ذلك، وذكر بعض الروايات التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به على البُراق، وهي دابَّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام، يقع حافرها موضع طرفها، قال: فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية، فنفرت العير، وفيها بعير عليه غرارتان: سوداء، وزرقاء ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتى بقدحين: قدح خمر، وقدح لبن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن، فقال له جبرائيل: هُديت إلى الفطرة، لو أخذت قدح الخمر غوت أمتك. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي هناك إبراهيم موسى وعيسى، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "فَأمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وأمَّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛ وأمَّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ؛ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث قريشا أنه أُسري به. قال عبد الله: فارتدّ ناس كثير بعد ما أسلموا، قال أبو سلمة: فأتى أبو بكر الصدّيق، فقيل له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة، قال أبو بكر: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ قال: إني أصدّقه بأبعد من ذلك، أصدّقه بخبر

السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ الله لي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقتُ أُخْبرُهُم عَنْ آياتِهِ وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ".

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك، قال: لما جاء جبرائيل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنها ضربت بذنبها، فقال لها جبرائيل: مه يا براق، فوالله إن ركبك مثله، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق: أي على جنب الطريق.

قال أبو جعفر : ينبغي أن يقال: نائية، ولكن أسقط منها التأنيث.

فقال: "ما هذه يا جبرائيل؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلمّ يا محمد، قال جبرائيل : سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير؛ قال: ثم لقيه خلق من الخلائق، فقال أحدهم: السلام عليك يا أوّل، والسلام عليك يا آخر ، والسلام عليك يا حاشر، فقال له جبرائيل: اردد السلام يا محمد، قال: فردّ السلام، ثم لقيه الثاني، فقال له مثل مقالة الأوّلين (1) حتى انتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء واللبن والخمر، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبرائيل: أصبت يا محمد الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبرائيل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدوّ الله إبليس، أراد أن تميل إليه؛ وأما الذين سلَّموا عليك، فذاك إبراهيم وموسى وعيسى".

حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، قال: أخبرنا أبو جعفر

__________

(1) نص العبارة في الدر المنثور للسيوطي (4: 139) ثم بقية الثانية ، فقال له مثل ذلك ، ثم الثالثة كذلك ، ولعل في الكلام سقطا.

الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره "شكّ أبو جعفر" في قول الله عزّ وجلّ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قال: جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل، فقال جبرائيل لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح له صدره ، قال: فشقّ عن بطنه، فغسله ثلاث مرّات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غلّ، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما، وختم بين كتفيه بخاتم النبوّة، ثم أتاه بفرس فحمل عليه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره، قال: فسار وسار معه جبرائيل عليه السلام، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا جبْرَائيلُ ما هَذَا ؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تُضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين؛ ثم أتى على قوم تُرضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبرائِيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة؛ ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضريع والزقُّوم ورضف جهنم وحجارتها، قال: ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا، وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور، ولحم آخر نيء قذر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء، ويدَعون النضيج الطَّيب، فقال: ما هَؤُلاء يا جَبْرائِيلُ؟ قال : هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطَّيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا، فتبيت معه حتى تصبح؛ قال: ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقَّته، ولا شيء إلا خرقته، قال: ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه. ثم قرأ(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ ...) الآية. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع ح ملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جَبْرائِيلُ؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يزيد عليها، ويريد أن يحملها، فلا يستطيع ذلك؛ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: ما هؤلاء يا جَبْرائِيلُ؟ فقال: هؤلاء خطباء أمتك خطباء الفتنة يقولون ما لا يفعلون، ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هَذَا يا جَبْرائِيلُ؟ قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة، ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردّها، ثم أتى على واد، فوجد ريحا طيبة باردة، وفيه ريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جَبْرَائِيلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطَّيِّبَةُ البارِدَة وهَذِهِ الرَّائحَةُ الَّتي كَرِيحِ المسْكِ، ومَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا ربّ آتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي وعبقري، ولؤلؤي ومرجاني، وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي، وفواكهي ونخلي ورماني، ولبني وخمري، فآتني ما وعدتني، فقال: لك كلّ مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحا ولم يُشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكَّل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت؛ ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة، فقال: وما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَائِيلُ ومَا هَذَا الصَّوْتُ؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: يا ربّ آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي، وسعيري وجحيمي، وضريعي وغسَّاقي، وعذابي وعقابي، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي، فآتني ما وعدتني، قال: لك كلّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكلّ خبيث وخبيثة، وكلّ جبَّار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت؛ قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة؛ فلما قُضيت الصلاة. قالوا: يا جبرائيل من هذا معك؟ قال: محمد، فقالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ قال: ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما، وجعلني أمَّة قانتا لله يؤتمّ بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ بردا وسلاما؛ ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلَّمني تكليما، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحقّ وبه يعدلون؛ ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلَّمني الزّبور، وألان لي الحديد، وسخَّر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب؛ ثم إن سليمان أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي سخَّر لي الرياح، وسخَّر لي الشياطين، يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات، وعلَّمني منطق الطير، وآتاني من كلّ شيء فضلا وسخَّر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضَّلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب؛ ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين هيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمة والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل؛ قال: ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه، فقال: كُلْكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّه، وأنا مُثْنٍ عَلى رَبِّي، فقال: الحَمْدُ لله الذي أرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالَمِينَ، وكافةً للناس بَشِيراً ونَذَيرًا، وأَنزلَ عَليَّ الفُرقَانَ فِيه تِبْيانُ كُلّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الأوَّلوُنَ وَهُمُ الآخِرُونَ، وَشَرَحَ لي صَدْرِي، وَوَضَعَ عني وِزْرِي وَرَفَعَ لي ذِكْرِي، وَجَعَلَني فاتحا خاتِما، قال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. - قال أبو جعفر: وهو الرازي: خاتم النبوّة، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة - ثم أتي إليه بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فاتى بإناء منها فيه ماء، فقيل: اشرب، فشرب منه يسيرا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له: اشرب، فشرب منه حتى روي، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب، فقال: لا أريده قد رويت، فقال له جبرائيل صلى الله عليه وسلم: أما إنها سَتُحَرّم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل، ثم عَرَج به إلى سماء الدنيا، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ فقال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه، قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فدخل فإذا هو برجل تامّ الخلق لم ينقص من خلقه شيء، كما ينقص من خلق الناس، على يمينه باب، يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، فقلت: يا جَبْرَائيِلُ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ التَّامُ الخَلْقِ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، ومَا هَذَانِ البابان؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته بكى وحزن؛ ثم صعد به جبرائيل صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد رسول الله، فقالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فإذا هو بشابين، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَانِ الشابَّانِ؟ قال: هذا عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا ابنا الخالة؛ قال: فصعد به إلى السماء الثالثة، فاستفتح، فقالوا: من هذا؟ قال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل قد فَضَل على الناس كلهم في الحُسن، كما فُضّل القمرُ ليلة البدر على سائر الكواكب، قال: مَنْ هَذَا يا جِبْرَئِيلُ الَّذِي فَضَلَ على النَّاسِ في الحُسْنِ ؟ قال: هذا أخوك يوسف؛ ثم صعد به إلى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ قال: فدخل، فإذا هو برجل، قال: مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ؟ قال: هذا إدريس رفعه الله مكانا عليًّا؛ ثم صعد به إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبرائيل، فقالوا: من هذا؟ فقال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا : حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء؛ ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم، قال : مَنْ هَذَا يا جَبْرَائِيلُ وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ حَوْلَهُ؟ قال: هذا هارون المحبب في قومه، وهؤلاء بنو إسرائيل؛ ثم صعد به إلى السماء السادسة، فاستفتح جبرئيل، فقيل له: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، فإذا هو برجل جالس، فجاوزه، فبكى الرجل، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا؟ قال: موسى، قال: فَمَا بالُهُ يَبْكي ؟ قال: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بنى آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبيّ أمته؛ ثم صَعَد به إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حيَّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه، أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر، فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص ألوانهم شيء، فصارت مثل ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال: يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ، ثُمَّ مَنْ هَؤُلاء البيضُ وُجُوهُهُمْ، وَمَنْ هَؤُلاء الَّذِينَ في ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ، ومَا هَذِهِ الأنهَارُ الَّتي دَخَلُوا، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أوّل من شَمِط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه: فقوم لم يُلْبِسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا، فتاب الله عليهم، وأما الأنهار: فأولها رحمة الله، وثانيها: نعمة الله، والثالث: سقاهم ربهم شرابا طهورا؛ قال: ثم انتهى إلى السِّدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفَّى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلِّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطية للأمة كلها، قال: فغشيها نور الخلاق عزّ وجلّ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة، قال: فكلمه عند ذلك، فقال له: سل، فقال: اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته مُلكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجنّ والإنس والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلَّمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل. فقال له ربه: قد اتخذتك حبيبا وخليلا وهو مكتوب في التوراة: حبيب الله؛ وأرسلتك إلى الناس كافَّة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي؛ وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أوّل النَّبيين خَلْقا، وآخرهم بَعْثا، وأوّلَهم يُقْضَى له، وأعطيتك سبعا من المثاني، لم يُعطها نبيّ قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فضَّلَنِي ربَيّ بسِتّ: أعْطَانِي فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَجَوَامِعَ الحَدِيثِ، وأَرْسَلَنِي إلى النَّاسِ كافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوّي الرُّعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وأُحِلِّتْ لي الغَنائمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وجُعِلَتْ لي الأرْض كُلُّها طَهُورًا وَمَسْجِدًا، قال: وَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً؛ فلما رجع إلى موسى، قال: بِم أُمرت يا محمد، قال: بِخَمْسِينَ صَلاةً، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: بأرْبَعِينَ، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيتُ من بنى إسرائيل شدّة، قال: فرجع إلى ربه، فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أُمرت؟ قال: أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ، فقال له موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى فقال: بكم أمرت؟ قال: بعشرين، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال: فرجع إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أمرت؟ قال: بعشر، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة، قال: فرجع على حياء إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه خمسا ، فرجع إلى موسى، فقال: بكم أمرت؟ قاله: بخمس، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأم، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة، قال: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فقيل له: أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها، قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا" فكان موسى أشدّهم عليه حين مرّ به، وخيرهم له حين رجع إليه.

حدثني محمد بن عبيد الله، قال: أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره "شك أبو جعفر"، عن أبي هريرة في قوله(سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِه).... إلى قوله(إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) قال: جاء جبرئيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث عليّ بن سهل، عن حجاج، إلا أنه قال: جاء جبرائيل ومعه مكائيل، وقال فيه: وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم، وقال في كل موضع، قال عليّ ما هؤلاء، من هؤلاء يا جبرئيل، وقال في موضع تقرض ألسنتهم تقص ألسنتهم، وقال أيضا في موضع قال عليّ فيه: ونعم الخليفة. قال في ذكر الخمر، فقال: لا أريده قد رويت، قال: جبرائيل: قد أصبت الفطرة يا محمد، إنها ستحرم على أمتك، وقال في سدرة المنتهى أيضا:

هذه السدرة المنتهى، إليها ينتهي كلّ أحد خلا على سبيلك من أمتك؛ وقال أيضا في الورقة منها تظلّ الخلق كلهم، تغشاها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة، من حُبّ الله عزّ وجلّ وسائر الحديث مثل حديث عليّ.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري؛ وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، قال: أخبرنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، واللفظ لحديث الحسن بن يحيى، في قوله( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ) قال: ثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسري به فقال نبيّ الله: "أُتِيتُ بِدَابَّة هي أَشْبَهُ الدَّوَاب بالبَغْلِ، لَهُ أذُنانِ مُضّطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنَبْيِاءُ قَبْلِي، فَرَكِبْتُهُ، فانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِه، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي: يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شمِالي: يا مُحَمَّد عَلى رِسْلِك أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتُ امْرَأةً فِي الطَّرِيقِ، فَرأيْتُ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافعَةً يَدَها، تَقُولُ: يا مُحَمَّدُ على رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، أوْ قالَ المَسْجِدَ الأقْصَى، فَنزلْتُ عَنِ الدَّابَّةِ فَأوْثقْتُها بالحَلْقَة التي كانَت الأنْبِياءُ تُوثِقُ بِها، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، فقالَ لي جَبْرَئِيل: ماذَا رأيْتَ فِي وَجْهِكَ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قالَ: ذاكَ دَاعِيَ اليَهُود، أما لَو أنَّك وَقَفْتَ عليه لتهودت أُمَّتُكَ، قال: ثُمَّ سَمِعْتُ ندَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُحَمَّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، قالَ: ذَاكَ داعي النَّصَارَى، أمَا إِنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ، قُلْتُ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرأةٌ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلى رِسْلِكَ، أسألْكَ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، قال: تِلْكَ الدُّنْيا تَزَيَّنَتْ لَكَ، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْها لاخْتارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيا على الآخِرَةِ، ثُمَّ أُتِيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِيهِ لبَنٌ، والآخرُ فيه خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: اشْرَبْ أيَّهُما شِئْتَ، فَأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، قال: أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ: أخَذْتَ الفِطْرَةَ".

قال معمر: وأخبرني الزهري، عن ابن المسيب أنه قيل له: أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.

قال أبو هارون في حديث أبي سعيد: "ثُمَّ جِيءَ بالمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فإِذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَمْ تَرَ إلى المَيّتِ كَيْفَ يُحِدُّ بَصَرَهُ إلَيْهِ فَعُرِجَ بنا فِيهِ حتى انْتَهَيْنا إلى بابِ السَّماءِ الدُّنْيا، فاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قالَ جَبْرَائِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قال: نَعَمْ، فَفَتَحُوا وَسَلَّمُوا عَليَّ، وَإِذَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْرُسُ السَّماءَ يُقَال لَهُ إسْماعِيلُ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ، ثم قرأ(ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) وَإِذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَهُ الله لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيءٌ، فإِذَا هُوَ تُعْرَض عَلَيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيَّتِهِ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ، قالَ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي عِلِّيِينَ؛ وَإِذَا كانَ رُوحُ كافِرٍ قالَ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي سِجِّيلٍ، فَقُلْتُ: يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا؟ قال: أبُوك آدَمُ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ بِي وَدَعا لي بِخَيْرٍ وقَال: مَرْحَبا بالنَّبيّ الصَّالِحِ والوَلَدِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مشَافِرُ كمشَافِرِ الإبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ، ثُمَّ يُجْعَلُ في أفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ، قُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلْما، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِقَوْمٍ يُحْذَى مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدُّ فِي أفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يُقال: كُلُوا كمَا أكَلْتُمْ، فإِذَا أكْرَه ما خَلَقَ الله لَهُمْ ذلكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قال : هَؤُلاءِ الهَمَّازُونَ اللَّمازُون الذِينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، ويَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ، بالسَّبّ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلى مائِدَة عَلَيْها لَحْمٌ مَشْويّ كأَحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللحْمِ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ، فَجَعَلُوا يَمِيلُونَ عَلى الجِيَفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللحْمَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قالَ: هَؤُلاء الزُّناةُ عَمَدُوا إلى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمْ، وَتَرَكُوا ما أحَلَّ الله لَهُمْ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كأَنَّها الُبُيوتُ وَهيَ على سابِلَة آل فِرْعَوْنَ، فإذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا، فَيمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هَؤُلاء أكَلَةُ الرّبا، رَبا فِي بُطُونِهِم، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ

من المَسّ؛ ثُمَّ نَظَرْتُ، فإِذَا أنا بنِساءٍ مُعَلَّقاتٍ بِثُدُيِّهِنَّ، وَنِساءٌ مُنَكَّساتٌ بأرْجُلِهِنَّ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هنّ اللاتي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أولادَهُنَّ قالَ: ثُمَّ صَعَدْنا إلى السَّماء الثَّانِيَةِ، فإذَا أنا بِيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ الثَّالِثَةِ، فإذا أنا بابْنَيِ الخَالَةِ يَحيَى وَعِيسَى، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ، ثِيابُهما وَشَعْرُهُما، فَسَلَّما عَليَّ، وَرَحَّبا بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماء الرّابِعَةِ، فإذا أنا بإدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَليَّ وَرَحَّب وَقَدْ قالَ الله(وَرَفَعْناه مَكانا عَلِيًّا) ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماءِ الخَامِسَةِ، فإذا أنا بِهارُون المُحَبَّبِ فِي قَوْمِهِ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسَلَّمَ: طَوِيلُ اللِّحْيَة تَكادُ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ سُرَّتَهُ، فَسلَّمَ عَليَّ وَرَحَّبَ؛ ثُمَّ مَضَيْنا إلى السَّماء السَّادسَة فإذَا أنا بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَوَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عليه وسلَّمَ فقال: كَثِيرُ الشَّعْرِ لَوْ كانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُما؛ قالَ مُوسَى: تَزْعَمُ النَّاسُ أنّي أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى الله، فَهَذَا أكْرَمُ على الله مِنِّي، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَمْ أكُنْ أُبالي، وَلكِنْ كُلُّ نَبِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ؛ ثُمَّ مَضَيْنَا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فإِذَا أنا بإبْرَاهِيمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ فَسَلَّمَ عَليَّ وقَال: مَرْحَبا بالنَّبِيّ الصَّالِحِ وَالوَلَدِ الصَّالِحِ، فَقِيلَ: هَذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمَّتِك، ثُمَّ تَلا( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ثُمَّ دَخَلْتُ البَيْتَ المَعْمُورَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَى يَوْمِ القِيامَة؛ ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بِشَجَرَةٍ إِنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لمُغطِّيَةٌ هذهِ الأمَّةَ، فإذَا فِي أصْلِها عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعَّبَتْ شُعْبَتَيْنِ، فَقُلْتُ: ما هَذا يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: أمَّا هذَا: فَهُوَ نَهْرُ الرَّحمَةِ، وأمَّا هذَا: فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ الله، فاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرَّحمَةِ فَغُفِرَ لي ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي ومَا تَأخَّرَ، ثُمَّ أخذتُ عَلى الكَوْثَرِ حتى دَخَلْتُ الجَنَّة ، فإذَا فِيها، ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإِذَا فِيها رُمَّانٌ كأنَّهُ جُلُودُ الإبِلِ المُقَتَّبَةُ، وإِذَا فِيها طَيْرٌ كأنَّها البُخْتُ، فقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ تِلكَ الطَّيْرَ لنَاعِمَةٌ، قالَ: أكَلَتُها أنْعَمُ مِنْها يا أبا بَكْرٍ، وإنّي لأرْجو أنْ تَأكُلَ مِنْها، ورأيْتُ فِيها جارِيَةً، فَسألْتُها: لِمَنْ أنْتِ؟ فَقالَتْ: لِزَيْد بْنِ حارِثَة فَبَشَّرَ بها رَسُولُ الله صَلى الله عليه وسلَّمَ زَيْدًا؛ قالَ: ثُمَّ إِنَّ الله أمَرَنِي بأمْرِهِ، وفَرَضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسَى، فقالَ: بِمَ أمَرَكَ رَبُّكَ؟ قُلْتُ: فَرضَ عَليَّ خَمْسِينَ صَلاةً، قالَ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فإنَّ أُمَّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا، فَرَجَعْتُ إلى رَبّي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى مُوسَى، فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ إلى رَبّي إذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حتى فَرَضَ عَليَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقالَ مُوسَى: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسألْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْتُ؛ أو قالَ: قُلْتُ: ما أنا بِرَاجِعٍ، فَقِيلَ لي: إِنَّ لَكَ بِهذِه الخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئةٍ فَلَم يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحدَةً".

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق ، قال: ثني روح بن القاسم، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي، عن أبي سعيد الخدري؛ وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: وثني أبو جعفر، عن أبي هارون، عن أبي سعيد، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كانَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، أُتِيَ بالمِعْرَاجِ، ولَمْ أرَ شَيْئا قَطُّ أحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذا حَضَرَ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبي فِيهِ حتى انْتَهَى إلى بابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بَابُ الحَفَظَةِ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيلُ، تَحْتَ يَدَيْهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الحديث:(ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ) ثم ذكر نحو حديث معمر، عن أبي هارون إلا أنه قال في حديثه: قال: ثُمَّ دَخَلَ بِيَ الجَنَّةَ فَرأيْتُ فيها جارِيَةً، فَسألتُها لِمَنْ أنْتِ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِي حين رأيْتُها، فَقالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فبشَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلمة إلى ههنا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلة أُسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فقال: أمَّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أرَ رَجُلا أشْبَهُ بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ. وأمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى، كأنَّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ. وأمَّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بينَ القَصِير والطَّوِيلِ سَبِطُ الشَّعْرِ

كَثِيرُ خِيلانِ الوَجْهِ، كأنَّه خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ كأنَّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً، ومَا بِهِ ماءٌ، أشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ".

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يقل عن أبي هريرة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بالبراق ليلة أُسري به مسرجا ملجما ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبرائيل: ما يحملك على هذا، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم علي الله منه، قال: فارفض عرقا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أسري بِنَبِيِّ الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس، فصلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به، ثم أصبح بمكة. ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: حُمِلْتُ عَلى دابَّة يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فحدث نبيّ الله بذلك أهل مكة، فكذب به المشركون وأنكروه وقالوا: يا محمد تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس، وأقبلت من ليلتك، ثم أصبحت عندنا بمكة، فما كنت تجيئنا به، وتأتي به قبل هذا اليوم مع هذا، فصدقه أبو بكر، فسمِّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك.

حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شدّاد، قال: لما كان ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة يقال لها البراق، دون البغل وفوق الحمار، تضع حافرها عند منتهى ظفرها ؛ فلما أتى بيت المقدس أُتي بإناءين: إناء من لبن، وإناء من خمر، فشرب اللبن. قال: فقال له جبرائيل: هديت وهديت أمتك.

وقال آخرون من قال: أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به عليه السلام، غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصلّ فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان، قال: ثني عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش، عن حُذيفة بن اليمان، أنه قال في هذه الآية( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ) قال: لم يصلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة.

حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تجِيء بمثل عاصم ولا زر؛ قال: قال حُذيفة لزرّ بن حبيش؛ قال: وكان زرّ رجلا شريفا من أشراف العرب، قال: قرأ حُذيفة( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وكذا قرأ عبد الله، قال: وهذا كما يقولون: إنه دخل المسجد فصلى فيه، ثم دخل فربط دابته، قال: قلت: والله قد دخله، قال: من أنت فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك، قال: قلت: زرّ بن حبيش، قال: ما عملك هذا؟ قال: قلت: من قبَل القرآن، قال: من أخذ بالقرآن أفلح، قال: فقلت( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) قال: فنظر إليّ فقال : يا أصلع، هل ترى دخله؟ قال: قلت: لا والله، قال حُذيفة: أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخله، ولو دخله لوجبت عليكم صلاة فيه ، لا والله ما نزل عن البراق حتى رأى الجنة والنار، وما أعدّ الله في الآخرة أجمع؛ وقال: تدري ما البراق؟ قال: دابة دون البغل وفوق الحمار، خطوه مدّ البصر.

وقال آخرون: بل أسرى بروحه، ولم يسر بجسده.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، قال: ثني بعض آل أبي بكر، أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها الحسن أن هذه الآية نزلت( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) ولقول الله في الخبر عن إبراهيم، إذ قال لابنه( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ) ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "تَنَامُ عَيْني وَقَلْبي يَقْظانُ" فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه وعاين فيه من أمر الله ما عاين على أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق.

والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات؛ ولا معنى لقول من قال: أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلا على نبوّته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟ وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها، كما قال قائلهم:

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عنَاقا... ومَا هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالعْنَاقِ (1)

يعني: حسبت بغام راحلتي صوت عناق، فحذف الصوت واكتفى منه بالعناق، فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام. فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلِّم إلا ببيانه، فإنها لا تحذف ذلك؛ ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله(أسْرَى بِعَبْدِهِ) أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق؛ ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام. إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا: أسرى روحه: رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن جبرائيل حمله على البراق، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه، ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين.

وقوله(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) يقول تعالى ذكره: الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم. وقوله(لِنُرَيَهُ مِنْ آياتِنا) يقول تعالى ذكره: كي نري عبدنا محمدا من آياتنا، يقول: من عبرنا وأدلتنا وحججنا، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ.

__________

(1) البيت تقدم الاستشهاد به في (4 : 92) من هذا التفسير، واستشهد به الفراء (في معاني القرآن 179) ولكنه لم يبين موضع الشاهد فيه كما بينه المؤلف هنا ، وهو أن العرب قد تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه، كما في البيت، إذ إنه يريد: حسبت بغام راحلتي صوت عناق.

وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ما أراه الله من الآيات والعبر في طريق بيت المقدس.

وقوله( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول تعالى ذكره: إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، البصير بما يعملون من الأعمال، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علم شيء منه، بل هو محيط بجميعه علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، ليجزي جميعهم بما هم أهله.

وكان بعض البصريين يقول: كسرت "إن" من قوله( إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) لأن معنى الكلام: قل يا محمد: سبحان الذي أسرى بعبده، وقل: إنه هو السميع البصير.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) }

يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب، وردّ الكلام إلى(وآتَيْنا) وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه. وعنى بالكتاب الذي أوتي موسى: التوراة(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ) يقول: وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ، ودليلا لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم، وأمرهم به، ونهاهم عنه.

وقوله(ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا)

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة(ألا تَتَّخِذُوا) بالتاء بمعنى: وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل(مِنْ دُونِي وَكِيلا). وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة(ألا يَتَّخِذُوا) بالياء على الخبر عن بني إسرائيل، بمعنى: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، ألا يتَّخذ بنو إسرائيل من دوني وكيلا وهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقتان غير مختلفتين، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، غير أني أوثر القراءة بالتاء، لأنها أشهر في القراءة وأشد استفاضة فيهم من القراءة بالياء. ومعنى

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

الكلام: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي. وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى. وكان مجاهد يقول: معناه في هذا الموضع: الشريك.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله(ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا) قال: شريكا.

وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له، ووكيلا للذي أقامه مقام الله.

وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الآية، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله(وآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيل) جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعله رحمة لهم.

القول في تأويل قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) }

يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ذرية من حملنا مع نوح. وعنى بالذرية: جميع من احتجّ عليه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمم، عربهم وعجمهم من بني إسرائيل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من على الأرض من بني آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) والناس كلهم ذرّية من أنجى الله في تلك السفينة، وذُكر لنا أنه ما نجا فيها يومئذ غير نوح وثلاثة بنين له، وامرأته وثلاث نسوة، وهم: سام، وحام، ويافث؛ فأما سام: فأبو العرب؛ وأما حام: فأبو الحبش (1) ؛ وأما يافث: فأبو الروم.

__________

(1) الحبش : ليسوا حاميين، وإنما هم فرع من الساميين ولغة. وأولاد حام هم الزنوج.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) قال: بنوه ثلاثة ونساؤهم، ونوح وامرأته.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قالا ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح، ولم تكن امرأته.

وقد بيَّنا في غير هذا الموضع فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

وقوله( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) يعني بقوله تعالى ذكره: "إنه" إن نوحا، والهاء من ذكر نوح كان عبدا شكورا لله على نعمه.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي سماه الله من أجله شكورا، فقال بعضهم: سماه الله بذلك لأنه كان يحمد الله على طعامه إذا طعمه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي، قالا ثنا سفيان، عن التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: كان نوح إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما حمد الله، فسمِّي عبدا شكورا.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود بمثله.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، عن سعيد بن مسعود قال: ما لبس نوح جديدا قطّ، ولا أكل طعاما قطّ إلا حمد الله فلذلك قال الله(عَبْدًا شَكُورًا).

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: ثني سفيان الثوري، قال: ثني أيوب، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، قال: إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا لبس ثوبا حمد الله، وإذا أكل طعاما حمد الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) من بني إسرائيل وغيرهم(إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال: إنه لم يجدّد ثوبا قطّ إلا حمد الله، ولم يبل ثوبا قطّ إلا حمد الله، وإذا شرب شربة حمد الله، قال: الحمد لله الذي سقانيها على شهوة ولذّة وصحة، وليس في تفسيرها، وإذا شرب شربة قال هذا، ولكن بلغني ذا.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)

حدثني القاسم ، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو فضالة، عن النضر بن شفي، عن عمران بن سليم، قال: إنما سمي نوح عبدا شكورا أنه كان إذا أكل الطعام قال: الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني، وإذا لبس ثوبا قال: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، وإذا لبس نعلا قال: الحمد لله الذي حذاني، ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجة قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه، ولو شاء حبسه.

وقال آخرون في ذلك بما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجبار بن عمر أن ابن أبي مريم حدّثه، قال: إنما سمى الله نوحا عبدا شكورا، أنه كان إذا خرج البراز منه قال: الحمد لله الذي سوّغنيك طيبا، وأخرج عنى أذاك، وأبقى منفعتك.

وقال آخرون في ذلك بما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله لنوح(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) ذكر لنا أنه لم يستجد ثوبا قطّ إلا حمد الله، وكان يأمر إذا استجدّ الرجل ثوبا أن يقول: الحمد لله الذي كساني ما أتجمَّل به، وأواري به عورتي.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) قال: كان إذا لبس ثوبا قال: الحمد لله، وإذا أخلقه قال: الحمد لله.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) }

وقد بيَّنا فيما مضى قبل أن معنى القضاء: الفراغ من الشيء، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه، فتأويل الكلام في هذا الموضع: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم، وإخباره

لهم( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ) يقول: لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) يقول: ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال: أعلمناهم.

حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) يقول: أعلمناهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب، وسابق علمه.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قال: هو قضاء مضى عليهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سيعد، عن قتادة، قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ) قضاء قضاه على القوم كما تسمعون.

وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله(وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ) قال: أخبرنا بني إسرائيل.

وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله(وَقَضَيْنا) وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله(لَتُفِسُدَّن) بالتاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا عليهم في الكتاب، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم: كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة.

وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرةّ الأولى ما حدثني به هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في خبر ذكره عن

أبي صالح، وعن أبي مالك، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة(لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ) فكان أوّل الفسادين: قتل زكريا، فبعث الله عليهم ملك النبط، وكان يُدعى صحابين (1) فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأس شديد، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا، إنما خرج يستطعم، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم، واشتد القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول الله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهَّزوا، فغزوا النبط، فأصابوا مهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول الله( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول: عددا.

حدثني يونس، قال : أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس، من قتل زكريا، وسلَّط عليهم بختنصر من قتل يحيى.

حدثنا عصام بن رواد بن الجراح، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حُذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا، وقَتَلُوا الأنْبِيَاءَ، بَعَثَ الله عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسَ بُخْتَنَصَّر، وكانَ الله مَلَّكَهُ سَبْعَ مِئَة سَنةٍ، فسارِ إِلَيْهمْ حتى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَحَها، وَقَتَلَ عَلى دَمِ زَكَرِيَّا سَبْعينَ ألْفا، ثُمَّ سَبَى أهْلَها وبَنِي الأنْبِياء، وَسَلَبَ حُليَّ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلَيٍّ حتى أوْرَدَهُ بابِلَ، قال حُذيفة: فقلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس

__________

(1) في تاريخ الطبري (ج 2 قسم أول ص 657 طبعة أوربة): صيحانين، وفي بعض النسخ في هامشه، صحائين، وصيحابين، وسنحاريب، وفي 656 منه: صيحون، وفي رواية بهامشه عدة صور للتكملة.

عظيما عند الله؟ قال: أجَلْ بَناهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ، وكانَ بَلاطُه بَلاطَةً مِنْ ذَهَب وَبَلاطَةً منْ فِضَّةٍ، وعُمُدُهُ ذَهَبا، أعْطاهُ الله ذلك، وسَخَّرَ لَهُ الشَّياطينَ يأْتُونَهُ بِهذِهِ الأشْياءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَسارَ بُخْتَنَصَّر بهذِه الأشْياءِ حتى نزلَ بِها بابِلَ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيلَ في يَدَيهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ المَجُوسُ وأبْناءُ المَجُوسِ، فيهمُ الأنْبِياءُ وأبْناءُ الأنْبِياء، ثُمَّ إِنَّ الله رَحمَهُمْ، فأوْحَى إلى مَلِك مِنْ مُلُوكِ فارِس يُقالُ لَهُ كُورَسُ، وكانَ مُؤْمِنا، أَنْ سِرْ إلى بَقايا بَنِي إِسْرَائِيلَ حتى تَسْتَنْقذَهُمْ، فَسارَ كُورَسُ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وحُليِّ بَيْتِ المَقْدِسِ حتى رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأقامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعينَ لله مِئَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عادُوا في المعَاصِي، فَسَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ ابْطيانْحُوسَ (1) فَغَزَا بأبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصَّر، فَغَزَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى أتاهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَسَبى أهْلَها، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَقَالَ لَهُمْ: يا بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ عُدْتُمْ فِي المعَاصِي عُدْنا عَلَيْكُمْ بالسِّباءِ، فَعادُوا فِي المعَاصِي، فَسَيَّر الله عَلَيْهِمُ السِّباء الثَّالِثَ مَلِكَ رُوميَّةَ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبايُوس، فَغَزَاهُم فِي البَرّ والبَحْرِ، فَسَباهُمْ وَسَبى حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ بالنِّيرَانِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ، ويَرُدُّهُ المَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَهُوَ ألْفُ سَفِينَةٍ وسَبْعُ مِئَةِ سَفِينَةٍ، يُرْسَى بِها عَلى يافا حتى تُنْقَلَ إلى بَيْتَ المَقْدِسِ، وبِها يَجْمَعُ الله الأوَّلِينَ والآخِرِينَ".

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ).... إلى قوله( وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) فكانت بنو إسرائيل، وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان مما أُنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدَّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يُدعى صديقة، وكان الله إذا ملَّك الملِك عليهم، بعث نبيا

__________

(1) في الدر المنثور للسيوطي (4: 165): أبطانحوس.

(17/358)

 

 

يسدّده ويرشده، ويكون فيما بينه وبين الله، ويحدث إليه في أمرهم، لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة؛ فلما ملك ذلك الملك، بعث الله معه شعياء بن أمُصيا (1) وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا؛ فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل، ومعه ستّ مئة ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرّقوا منهم، فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده، فقال له النبيّ عليه السلام: لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك، فبيناهم على ذلك، أوحى الله إلى شعياء النبيّ: أن ائت ملك بني إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته. فأتى النبيّ شيعاء ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك، فإنك ميت؛ فلما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل على القبلة، فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق، اللهمّ ربّ الأرباب، وإله الآلهة، قدُّوس المتقدسين، يا رحمن يا رحيم، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي؛ سرّي وعلانيتي لك، وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخَّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشرّ والحزن وخرّ ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي؛ فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفي، وقال الملك لشعياء النبيّ: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا، قال: فقال الله لشعياء النبيّ: قل له: إني قد كفيتك عدوّك، وأنجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه؛ فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا؛ فلما خرج الملك التمس سنحاريب، فلم يُوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل؛ فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدا، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي، فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزّة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك، لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه، فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا، فافعل ما أمرت، فنقل بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم؛ فبلَّغ النبيّ شعياء الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل؛ فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهَّانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم، ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمَّة لا يستطيعها أحد مع ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين، ثم مات.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة؛ فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه، ولا يقبلون منه؛ فلما فعلوا ذلك، قال الله فيما بلغنا لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك؛ فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصَّهم بكرامته، وفضلهم على عباده، وفضَّلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها؛ فلما فعل ذلك بطرت، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين. إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه، وإن الحمار ربما يذكر الآريّ الذي شبع عليه فيراجعه، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقر ولا حمير، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه: قل لهم: كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قويّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيع وهو حكيم، فأحاط عليها جدارا،

__________

(1) اسمه في الكتاب المقدس: إشعياء بن آموص. وانظر خبر النبي شعياء في تاريخ الطبري (2 قسم أول 639) طبعة أوربة.

(17/359)

 

 

وشيَّد فيها قصرا، وأنبط فيها نهرا، وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب، وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمّة، حفيظا قويا أمينا، وتأنى طلعها وانتظرها؛ فلما أطلعت جاء طلعها خروبا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قيمها، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة، خربة مواتا لا عمران فيها، قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهر كتابي، وإن القِّيم نبيي، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنه مثَلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقِّه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا، فلما قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدا، فقال الله: قل لهم: إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولِّف بينها، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقِّه قلوبهم، وأنا الذي صوّرتها؛ يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلَّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئب، في كلّ ذلك لا نسمع، ولا يُستجاب لنا؛ قال الله: فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلت، كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري، ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها ؛ أو لأن البخل يعتريني، أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل؛ لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني، وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم، أو جر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد، وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبَّت ألسنتهم وعقولهم، يقولون لمَّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسرّ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بدّ أنه واقع، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه، أو في أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلِّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوّة في الأجراء، وأن أحوّل الملك في الرعاء، والعزّ في الأذلاء، والقوّة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والثروة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبردى في الغيطان، والعلم ف ي الجهلة، والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أمِّيا، ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالِّين، وليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفُحش، ولا قوّال للخنا، أسدده لكل جميل، أهب له كلّ خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والعرف خلقه؛ والعدل والمعروف سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلَّة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلِّف به قلوبا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأممًا متفرّقة، وأجعل أمته خير أمَّة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا وإخلاصا بي، يصلون لي قياما وقعودا، وركوعا وسجودا ، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والحمد والمدحة، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلِّلون، ويقدّسون على رءوس الأسواق، ويطهرون لي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها.

قال أبو جعفر: فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله، وعتوّهم على ربهم، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم

شعياء بن أمصيا نبيّ الله. وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل، وأن المقتول إنما هو شعياء، وأن بختنصر هو الذي سُلِّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء. حدثنا بذلك ابن حميد، عن سلمة عنه.

وأما إفسادهم في الأرض المرّة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. وقد اختلفوا في الذي سلَّطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله.

وأما قوله( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) فقد ذكرنا قول من قال: يعني به: استكبارهم على الله بالجراءة عليه، وخلافهم أمره.

وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) قال : ولتعلنّ الناس علوّا كبيرا.

حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وأما قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) يعني: فإذا جاء وعد أولى المرّتين اللتين يفسدون بهما في الأرض. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ) قال: إذا جاء وعد أولى تينك المرّتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل( لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ).

وقوله( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) يعني تعالى ذكره بقوله(بعَثْنا عَلَيْكُمْ) وجَّهنا إليكم، وأرسلنا عليكم( عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) يقول: ذوي بطش في الحروب شديد. وقوله( فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا )

يقول: فتردّدوا بين الدور والمساكن، وذهبوا وجاءوا، يقال فيه: جاس القوم بين الديار وحاسوا بمعنى واحد، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن ابن عباس.

حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ،

عن ابن عباس( فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) قال: مشوا. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان:

وَمِنَّا الَّذِي لاقى بسَيْفِ مُحَمَّدٍ... فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ (1)

وجائز أن يكون معناه: فجاسوا خلال الديار، فقتلوهم ذاهبين وجائين، فيصح التأويلان جميعا، ويعني بقوله( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك، لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله(أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم، ومن الذين بعث عليهم في المرّة الآخرة، وما كان من صنعهم بهم، فقال بعضهم: كان الذي بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت، وهو من أهل الجزيرة.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) قال: بعث الله عليهم جالوت، فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذلّ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون في سبيل الله، فبعث الله طالوت، فقاتلوا جالوت، فنصر الله بني إسرائيل، وقُتل جالوت بيدي داود، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ

__________

(1) البيت شاهد على أن جاس، معناه: قتل. وقال في (اللسان: جوس) الجوس: مصدر جاس جوسا وجوسانا: تردد. وفي التنزيل العزيز: "فجاسوا خلال الديار": أي ترددوا بينها للغارة. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، قال: وجاسوا وحاسوا بمعنى واحد: يذهبون ويجيئون. وقال الزجاج: "فجاسوا خلال الديار": فطافوا في خلال الديار، ينظرون: هل بقي أحد لم يقتلوه؛ وفي الصحاح: "فجاسوا خلال الديار": أي تخللوها ، فطلبوا ما فيها، كما يجوس الرجل الأخبار: أي يطلبها.

وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الديار كما قال الله، ثم رجع القوم على دخن فيهم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ، قال: أما المرّة الأولى فسلَّط الله عليهم جالوت، حتى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود.

وقال آخرون: بل بعث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول في قوله( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال: بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى، فسألت سعيدا عنها، فزعم أنها الموصل.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قال: ثنى يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) بكى وفاضت عيناه، وطبق المصحف، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان، ثم قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه، فأري في المنام مسكينا ببابل، يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له، وكان رجلا موسرا، فقيل له أين تريد؟ قال: أريد التجارة حتى نزل دارا ببابل، فاستكراها ليس فيها أحد غيره، فحمل يدعو المساكين ويلطف (1) بهم حتى لم يبق أحد، فقال: هل بقي مسكين غيركم؟ قالوا: نعم، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا، حتى أتاه، فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه، فنقله إليه ومرّضه حتى برأ، فكساه وأعطاه نفقة، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسيرا،

__________

(1) في عرائس المجالس للثعلبي: ويتلطف بهم، حتى لا يأتيه أحد مسكين إلا أعطاه.

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

إن ملكت أطعتني، فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزئ بي، ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله، إلا أنه يرى أنه يستهزئ به، فبكى الإسرائيلي وقال: ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه؛ فقال يوما صيحون، وهو ملك فارس ببابل: لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، فبعث رجلا وأعطاه مئة ألف، وخرج بختنصر في مطبخه، لم يخرج إلا ليأكل في مطبخه؛ فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، فكسر ذلك في ذرعه، فلم يسأل (1) قال: فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء، قالوا: لا نُحسن القتال، قال: فلو أنكم غزوتم، قالوا: إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى أنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان؛ فرُفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، وقالوا لي كذا وكذا، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم، قال الطليعة لبختنصر: إنك فضحتني (2) لك مئة ألف وتنزع عما قلت، قال: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت، ضرب الدهر من ضربه؛ فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا انثنوا ما قدروا عليه، قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، قال: بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني، فدعا بختنصر وأرسله، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ومات صيحون الملك (3) قالوا: استخلفوا رجلا قالوا: على رسلكم حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم، لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا؛ فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا، فملَّكوه.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام، فخرّب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة، فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم، فسكن.

وقال آخرون: يعني بذلك قوما من أهل فارس، قالوا: ولم يكن في المرّة الأولى قتال.

* ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ) قال: من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم، ويسمعون حديثهم، معهم بختنصر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال، ونصرت عليهم بنو إسرائيل، فهذا وعد الأولى.

حدثني الحرث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم، ثم ذكر نحوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال: ذلك أي من جاءهم من فارس، ثم ذكر نحوه.

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) }

__________

(1) في عرائس المجالس للثعلبي: فلم يسألهم عن شيء.

(2) كذا في تاريخ الطبري طبع أوربة. وفي الأصل : إن صحبتني. تحريف.

(3) كذا في عرائس المجالس للثعلبي ص 336 طبعة الحلبي ، وفي الأصل : ورمى في جنازة صحورا .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

يقول تعالى ذكره: ثم أدلناكم يا بني إسرائيل على هؤلاء القوم الذين وصفهم جلّ ثناؤه أنه يبعثهم عليهم، وكانت تلك الإدالة والكرّة لهم عليهم، فيما ذكر السديّ في خبره أن بني إسرائيل غزوهم، وأصابوا منهم، واستنقذوا ما في أيديهم منهم. وفي قول آخرين: إطلاق الملك الذي غزاهم ما في يديه من أسراهم، ورد ما كان أصاب من أموالهم عليهم من غير قتال، وفي قول ابن عباس الذي رواه عطية عنه هي إدالة الله إياهم من عدوّهم جالوت حتى قتلوه، وقد ذكرنا كلّ ذلك بأسانيده فيما مضى

( وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) يقول: وزدنا فيما أعطيناكم من الأموال والبنين.

وقوله( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول: وصيرناكم أكثر عدَدَ نافرٍ منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) : أي عددا، وذلك في زمن داود.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) يقول: عددا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قالا قال ابن زيد، في قوله( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) لبني إسرائيل، بعد أن كانت الهزيمة، وانصرف الآخرون عنهم( وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) قال: جعلناكم بعد هذا أكثر عددا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) ثم رددت الكرة لبني إسرائيل.

حدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، في قوله( وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) قال: أربعة آلاف.

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }

يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم، ولزمتم أمره ونهيه(أَحْسَنْتُمْ) وفعلتم ما فعلتم من ذلك(لأنْفُسِكُمْ) لأنَّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه(وإِنْ أَسَأْتُمْ) يقول: وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم، ويمكِّن منكم من بغاكم سوءا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فلها) والمعنى: فإليها كما قال(بأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها) والمعنى: أوحى إليها.

وقوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) يقول: فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) يقول: ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبِّحها.

وقد اختلف القراء في قراءة قوله(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل المدينة والبصرة(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) بمعنى: ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله(وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ) وقالوا: ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله(لِيَسُوءُوا) ، وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة:(لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على التوحيد وبالياء ، وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل، أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: ليسوء الله وجوهكم، فمن وجَّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله فإذا محذوفا، وقد استغني بما ظهر عنه، وذلك المحذوف "جاء"، فيكون الكلام تأويله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجَه تأويله إلى: ليسوء الله وجوهكم ، كان أيضا في الكلام محذوف، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه، غير أن ذلك المحذوف سوى "جاء"، فيكون معنى الكلام حينئذ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم، فيكون المضمر بعثناهم ، وذلك جواب إذا حينئذ.

وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين:(لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ) على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه.

وكان مجيء وعد المرّة الآخرة عند قتلهم يحيى.

ذكر الرواية بذلك، والخبر عما جاءهم من عند الله حينئذ.

كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب، فلما جاء وعلى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد في جانب البيت فضمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر لنا بها طعاما وشرابا، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك، ثم قال له: إني أُحبّ أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر بي؟ فقال: إني لا أسخر بك، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا، فكلمته أمه، فقالت: وما عليك إن كان ذلك وإلا لم ينقصك شيئا، فكتب له أمانا، فقال له : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك، فاجعل لي آية تعرفني بها قال: نرفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا، ويدني مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمرا دونه، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّجَ ابنتها، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا حمرا، وطيَّبتها وألبستها من الحُليّ، وقيل: إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا في طست، ففعلت، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها؛ فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل

حتى تعطيني ما أسألك، فقال: ما الذي تسأليني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا، فأوتي برأسه في هذا الطست، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلا هذا . قال: فلما ألحَّت عليه بعث إليه، فأتى برأسه، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك؛ فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقى عليه، فرقى الدم فوق التراب يغلي، فألقى عليه التراب أيضا، فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلى وبلغ صحابين، فثار في الناس، وأراد أن يبعث عليهم جيشا، ويؤمِّر عليهم رجلا فأتاه بختنصر وكلَّمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيف، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه، فسار بختنصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم، فلم يطقهم، فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه، أرادوا الرجوع، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتي بها إليه، فقالت له: إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت : إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع، ثم أقم على كلّ زاوية ربعا، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا، فإنها سوف تسَّاقط، ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له: اقتل على هذا الدم حتى يسكن، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفا وامرأة؛ فلما سكن الدم قالت له: كفّ يدك، فإن الله تبارك وتعالى إذا قتل نبيّ لم يرض، حتى يقتل من قتله، ومن رضي قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرّب بيت المقدس، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى، فلما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت؛ فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه ، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، فأمر بخدّ فخدّ لهم، فألقوا فيه وهم ستة، وألقي معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم، ولم يخدش منهم أحدا، ولم ينكأه شيئا، ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بال هذا السابع إنما كانوا ستة، فخرج إليهم السابع، وكان ملَكا من الملائكة، فلطمه لطمة فصار في الوحش، فكان فيهم سبع سنين، لا يراه وحشيّ إلا أتاه حتى ينكحه، يقتصّ منه ما كان يصنع بالرجال، ثم إنه رجع ورد الله عليه مُلكه، فكانوا أكرم خلق الله عليه. ثم إن المجوس وَشَوا به ثانية، فألقوا أسدا في بئر قد ضَرِي، فكانوا يلقون إليه الصخرة فيأخذها، فألقوا إليه دانيال، فقام الأسد في جانب، وقام دانيال في جانب لا يمسه، فأخرجوه، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا، فأوقد فيه نارا، حتى إذا أججها قذفهم فيها، فأطفأها الله عليهم ولم ينلهم منها شيء. ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك في منامه صنما رأسه من ذهب، وعنقه من شبه، وصدره من حديد، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير، ورجلاه من فخار؛ فبينا هو قائم ينظر، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة، فكسرت الصنم فجعلته هشيما، فاستيقظ فزعا وأُنسيها، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم، فقال: أخبروني عما رأيت، فقالوا له: لا بل أنت أخبرنا، ما رأيت فنعبره لك، قال: لا أدري، قالوا له: فهؤلاء الفتية الذين تكرمهم، فادعهم فاسألهم، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فما تصنع بهم؟ قال: أقتلهم، فأرسل إلى دانيال وأصحابه، فدعاهم، فقال لهم: أخبروني ماذا رأيت؟ فقال له دانيال: بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك، قال: لا أدري قد نسيتها، فقال له دانيال: كيف نعلم رؤيا لم تخبرنا بها؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم، فقال دانيال للبوّاب: إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه، فأخِّرنا ثلاثة أيام، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلا فاضرب أعناقنا، فأجَّلهم فدعوا الله، فلما كان اليوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر على حدة، فأتوا البوّاب فأخبروه، فدخل على الملك فأخبره، فقال: أدخلهم عليّ ؛ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا، إلا شيئا يذكرونه، فقالوا له: أنت رأيت كذا وكذا، فقصوها عليه، فقال: صدقتم، قالوا: نحن نعبرها لك. أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب، فإنه ملك حسن مثل الذهب، وكان قد ملك الأرض كلها؛ وأما العنق من الشبه، فهو ملك ابنك بعد، يملك فيكون ملكه حسنا، ولا يكون مثل الذهب؛ وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس، يملكون بعدك ابنك، فيكون ملكهم شديدا مثل الحديد؛ وأما بطنه الأخلاط، فإنه يذهب ملك أهل فارس، ويتنازع الناس الملك في كلّ قرية، حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين، والشهر والشهرين، ثم يُقتل، فلا يكون للناس قوام على ذلك، كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخار؛ فبينما هم كذلك، إذ بعث الله تعالى نبيا من أرض العرب؛ فأظهره على بقية مُلك أهل فارس، وبقية ملك ابنك وملكك، فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم، فعطف عليهم بختنصر فأحبهم، ثم إن المجوس وشوا بدانيال، فقالوا: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا، فجعل لهم بختنصر طعاما، فأكلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّل من يخرج عليك يبول، فاضربه بالطبرزين، وإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت، بختنصر أمرني، فحبس الله عن دانيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر، فقام مدلا وكان ذلك ليلا يسحب ثيابه؛ فلما رآه البواب شدّ عليه، فقال: أنا بختنصر، فقال: كذبت، بختنصر أمرني أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: بعث الله عليهم في المرّة الأولى سنحاريب، قال: فردّ الله لهم الكرّة عليهم، كما قال؛ قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرّة الآخرة بختنصر، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرّية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال الله عزّ وجلّ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) دخلوه فتبروه وخرّبوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر، فقال الله( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) فرحمهم فردّ إليهم ملكهم وخلص من كان

في أيديهم من ذرّية بني إسرائيل، وقال لهم: إن عدتم عدنا، فقال أبو المعلى، ولا أعلم ذلك؛ إلا من هذا الحديث، ولم يَعِدهم الرجعة إلى ملكهم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) قال: بعث الله ملك فارس ببابل جيشا، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل، فدمروهم، فكانت هذه الآخرة ووعدها.

حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

حدثا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، قال: لما ضرب لبختنصر الملك بجرانه، قال: ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فليمش إلى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل وأخرج بيت المقدس، ونزع حليته، فجعلها آنية ليشرب فيها الخمور، وخوانا يأكل عليه الخنازير، وحمل التوراة معه، ثم ألقاها في النار، وقدم فيما قدم به مئة وصيف منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل، فقال لإنسان: أصلح لي أجسام هؤلاء لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني، فقال دانيال لأصحابه: إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم، لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمر، فقالوا للذي يصلح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاما، هو أهون عليك في المئونة مما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك، قال: ماذا؟ قال: خبز الشعير والكرّاث، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم، فأخذهم بختنصر يخدمونه، فبينما هم كذلك، إذ رأى بختنصر رؤيا، فجلس فنسيها؛ فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرقد فرآها ، فخرج إلى الحجرة؛ فنسيها؛ فلما أصبح دعا العلماء والكهَّان، فقال: أخبروني بما رأيت البارحة، وأوّلوا لي رؤياي، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته، موعدكم ثالثة. فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه، وذكر كلاما لم أحفظه، قال: وجعل دانيال كلما مرّ به أحد من قرابته يقول: لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه، ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مرّ به كهل، فقال له ذلك، فرجع إليه فأخبره،

قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه، قال: وصدره من حديد، قال: إيه، قال: وبطنه من صفر، قال: إيه، قال: ورجلاه من آنك، قال: إيه، قال: وقدماه من فخار، قال: هذا الذي رأيت؟ قال: إيه، قال: فجاءت حصاة فوقعت في رأسه، ثم في عنقه، ثم في صدره، ثم في بطنه، ثم في رجليه، ثم في قدميه، قال: فأهلكته. قال: فما هذا؟ قال: أما الذهب فإنه ملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك، ثم ملك ابن ابنك، قال: وأما الفخار فملك النساء، فكساه جبة ترثون (1) وسوره وطاف به في القرية، وأجاز خاتمه، فلما رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي، فقالوا: ائتوه من نحو الفتية الثلاثة، ولا تذكروا له دانيال، فإنه لا يصدقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك، وآية ذلك أنك إن قربت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطب كثير فوضع، ثم أرقاهم عليه، ثم أوقد فيه نارا ، ثم خرج من آخر الليل يبول، فإذا هم يتحدّثون، وإذا معهم رابع يروح عليهم يصلي، قال: من هذا يا دانيال؟ قال: هذا جبريل، إنك ظلمتهم، قال: ظلمتهم، مر بهم ينزلوا؛ فأمر بهم فنزلوا، قال: ومسخ الله تعالى بختنصر من الدوابّ كلها، فجعل من كل صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السباع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه فرأى كفا خرجت بين لوحين، ثم كتبت سطرين، فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علما، فقالت له أمه: إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك، وكان قد جفاه، فدعاه، فقال : إني معيد إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السطران؟ قال: أما أن تعيد إليّ منزلتي من أبيك، فلا حاجة لي بها؛ وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة، فأخرج من في القصر أجمعين، وأمر بقفله، فأقفلت الأبواب عليه، وأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيف، فقال: من جاءك من خلق الله فاقتله، وإن قال أنا فلان؛ وبعث الله عليه البطن، فجعل يمشي حتى كان شطر الليل، فرقد ورقد صاحبه، ثم نبهه البطن، فذهب يمشي والآخر نائم، فرجع فاستيقظ به، فقال له: أنا فلان، فضربه بالسيف فقتله.

حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) آخر العقوبتين( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) كما دخله عدوهم قبل ذلك( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر المجوسي البابلي، أبغض خلق الله إليه، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ) من المرتين(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) قال: ليقبحوا وجوهكم(وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا) قال: يدمِّروا ما علوا تدميرا، قال: هو بختنصر، بعثه الله عليهم في المرة الآخرة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرّة الآخرة بختنصر، فخرّب المساجد وتبر ما علوا تتبيرا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: فيما بلغني، استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك، يعني بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له: ناشة بن آموص، فبعث الله الخضر نبيا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغني يقول: "إِنَّمَا سُمّيَ الخَضِرُ خَضِرًا، لأنَهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ" قال: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل: أرميا بن حلفيا، وكان من سبط هارون بن عمران.

حدثني محمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، قالا ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول: قال الله تبارك

__________

(1) كذا في الأصل . واللفظة محرفة . وفي الكتاب المقدس : سفر دانيال ، الإصحاح الخامس : "حينئذ أمر بلشاصر أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب في عنقه ".

وتعالى لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك في بطن أمك قدّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك، ولأمر عظيم اختبأتك؛ فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله؛ قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلُّوا المحارم، ونَسوا ما كان الله تعالى صنع بهم، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب وجنوده. فأوحى الله تعالى إلى إرمياء: أن ائت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إني ضعيف إن لم تقوّني، وعاجز إن لم تبلِّغني، ومخطئ إن لم تسدّدني، ومخذول إن لم تنصرني، وذليل إن لم تعزَّني، قال الله تبارك وتعالى: أوَلم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعني، وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السماوات والأرض وما فيهنّ بكلمتي، وأنا كلَّمت البحار، ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدَدت عليها بالبطحاء فلا تَدَّى حدّي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدّي ألبستها مذَّلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري إني معك ، ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي، لتبلغهم رسالاتي، ولتستحقّ بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصِّر عنها فلك مثل وزر من تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر لكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبَّة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبَّة معصيتي، وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي، فإن الدّوابّ مما تذكر أوطانها الصالحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهَلَكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خوَلا ليعبدوهم دوني وتحكَّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم مني. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعوهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني جراءة عليّ وغرّة وفرية عليّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني، وعظم شأني، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع في معصيتي، وهل ينبغي في أن أخلق عبادا أجعلهم أربابًا من دوني. وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنيا بالدين، ويتفقَّهون فيها لغير العلم، ويتعلَّمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء، فمكثرون مقهورون مغيرون، يخوضون مع الخائضين، ويتمنَّون عليّ مثل نُصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحدَ أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبُّر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جِدّهم في أمري حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصَدَقوا حتى عزّ أمري، وظهر ديني، فتأنَّيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطْوَلت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت في كل ذلك، أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدوّ فلا يزدادون إلا طغيانا وبُعدا مني، فحتى متى هذا؟ أبي يتمرّسون أم إياي يخادعون؟ وإني أحلف بعزّتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضلّ فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطنّ عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة ، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبان، ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بنى إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح، ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذَ الرماد على رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشرّ عليّ، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك؛ فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك عليك فيما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكْني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به، فقال الله: وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا، ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته، ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يُبْعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبَوا عليه أن ينزعوا عن شيء ما هم عليه، وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب ابن دارياس بن نمرود ابن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجَّه في ربه، أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل، فخرج في ستّ مئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس؛ فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس، حتى يكون منك الأمر في ذلك ؟ فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق؛ فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا فاستفته، وأمَرَه بالذي يستفتي فيه، فأقبل المَلك إلى إرمياء، وكان قد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له المَلَك: يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبيّ الله، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير وانصرف عنه، فمكث أياما، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي آتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبيّ الله: أو ما ظهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحبّ؟ فقال: يا نبيّ الله، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك، فقال النبيّ: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه، فقال المَلك من عنده، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس، ومعه خلائق من قومه كأمثال الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا إرميا، فقال: يا نبيّ الله أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرّتين، فقال له النبيّ: أولم يأن لهم أن يمتنعوا من الذي هم فيه مقيمون عليه؟ فقال له الملك: يا نبيّ الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مأربهم في ذلك سخطي؛ فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ، فقال له نبيّ الله: على أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم، فقال إرميا: يا مالك السماوات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فما خرجت الكلمة من في إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها؛ فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السماوات والأرض بيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني، فنودي إرميا: إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا، فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرّات، وأنه رسول ربه، ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ؛ فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب، ومن بقي من بني إسرائيل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقَرّ بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم، فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام، وعمارة بيت المقدس، وأمر عُزَير وكيف ردّ الله عليه التوراة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: ثم عمدت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، يعني بعد مهلك عُزَير، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل، ففريقا يكذّبون، وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، وكانوا من بيت آل داود.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد ابن إسحاق، عن

عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير أنه قال، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال: ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بني إسرائيل، كان فيهم ملك ، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك، فهمَّت ابنة ذلك الملك بأبيها، فقالت: لو أني تزوّجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء، فقالت له: يا أبت تزوّجني ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لي بيحيى بن زكريا ضيَّق عليّ، وحال بيني وبين أن أتزوّج بأبي، فأغلب على مُلكه ودنياه دون النساء؛ قال: فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت: ادخلوا عليه فالعبوا، حتى إذا فرغتم فإنه سيُحَكمكم ، فقولوا: دم يحيى بن زكريا ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الملك رواد، واسم ابنته البغيّ، وكان الملك فيهم إذا حدّث فكذب، أو وعد فأخلف خلع فاستُبدل به غيرُه؛ فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم، قال: سلوني أعطكم، فقالوا له: نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه، قال: ويحكم سلوني غير هذا، فقالوا: لا نسألك شيئا غيره، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يُسْتحَلّ بذلك خَلْعه، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي، فذبحوه في طست ثم حزّوا رأسه، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطّسْت معه. قال: فطلع برأسه يحمله حتى وقف به على الملك، ورأسه يقول في يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك، فقال رجل من بني إسرائيل: أيها الملك لو أنك وهبت لي هذا الدم؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهر منه الأرض، فإنه كان قد ضيقها علينا، فقال: أعطوه هذا الدم، فأخذه فجعله في قلة، ثم عمد به إلى بيت في المذبح، فوضع القلة فيه، ثم أغلق عليه، ففار في القُلَّة حتى خرج منها من تحت الباب من البيت الذي هو فيه؛ فلما رأى الرجل ذلك، فظع به، فأخرجه فجعله في فلاة من الأرض، فجعل يفور، وعظمت فيهم الأحداث، ومنهم من يقول: أقرّ مكانه في القربان ولم يحوّل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا(وبعض الناس يقول: وقتلوا زكريا)، ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليه بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنده

(17/384)

 

 

يدعى نبور زاذان صاحب القتل، فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله، فأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زادان، فدخل بيت المقدس، فقال في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي، فسألهم فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم الذي يغلي، أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره؟ فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قرّبناه فلم يُتَقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربان فتقبِّل منا إلا هذا القربان، قال: ما صَدَقْتموني الخبر قالوا له: لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا، ولكنه قد انقطع منا المُلك والنبوّة والوحي، فلذلك لم يُتقبل منا، فذبح منهم نبور زادان على ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحا من رءوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبع مئة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم، فذبحهم على الدم فلم يبرد ولم يهدأ؛ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويْلكم يا بني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر، فقالوا له: إن هذا دم نبيّ منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدّقه، فقتلناه، فهذا دمه، فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، قال: الآن صَدَقْتموني، بمثل هذا ينتقم ربكم منكم؛ فلما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله: غلقوا الأبواب، أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قُتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، ولو كان له شريك لم تستمسك السماوات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح فتبارك وتقدّس، وتسبح وتكبر وتعظم، ملك الملوك الذي له ملك السماوات السبع والأرض وما فيهن، وما بينهما، وهو على كل شيء قدير، فله الحلم والعلم والعزّة والجبروت، وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون مُلكه. فأوحى الله إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق، والحبور بالعبرانية: حديث الإيمان، وإن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، إن عدوّ الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لست أستطيع أن أعصيه، قالوا له : افعل ما أمرت به. فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل، فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك، فطُرحوا على ما قُتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم، فلم يظنّ خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل، فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم، فقد بلغتني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا، ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله عزّ ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) وعسى من الله حقّ، فكانت الوقعة الأولى: بختنصَر وجنوده، ثم ردّ الله لكم الكرّة عليهم، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تبارك وتعالى( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) ثم عاد الله عليهم فأكثر عددهم، ونشرهم في بلادهم، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم وضيَّعوا الحدود.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي عَتَّاب رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره، ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن، وفقه في

(17/385)

 

 

الدين، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة، ثم عُمِّر في الإسلام أربعين سنة، قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيّا بعثه الله إليهم، فقال لهم: يا بني إسرائيل إن الله يقول لكم: إني قد سلبت أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم، فهَمُّوا به ليقتلوه، فقال الله تبارك وتعالى له: ائتهم واضرب لى ولهم مثلا فقل لهم: إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: اقضوا بيني وبين كرمي، ألم أختر له البلاد، وطيبت له المدرة، وحظرته بالسياج، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج، وأحطته بردائي، ومنعته من العالم وفضَّلته، فلقيني بالشوك والجذوع، وكل شجرة لا تؤكل ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيَّبت المَدَرة، ولا حَظَرته بالسياج، ولا عَرَشْته السويق، ولا حُطْته بردائي، ولا منعته من العالم، فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي، ثم استقبلتموني بكلّ ما أكره من معصيتي وخلاف أمري لمه إن الحمار ليعرف مذوده، لمه إن البقرة لتعرف سيدها، وقد حلفت بعزّتي العزيزة، وبذراعي الشديد لآخذنّ ردائي، ولأمرجنّ الحائط، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم، قال: فوثبوا على نبيهم فقتلوه، فضرب الله عليهم الذّل، ونزع منهم الملك، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها، والملك في غيرهم من الناس، فإن يزالوا كذلك أبدا، ما كانوا على ما هم عليه.

قال: قال: فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد، في قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال : كانت الآخرة أشدّ من الأولى بكثير، قال: لأن الأولى كانت هزيمة فقط، والآخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراة حتى لم يبق منها حرف واحد، وخرب المسجد.

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا، في اثني عشر من الحواريين يعلِّمون الناس، قال: فكان فيما نهاهم عنه، نكاح ابنة الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها؛ فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك

(17/387)

 

 

فسألك حاجتك، فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا؛ فلما دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا! فقالت: ما أسألك إلا هذا، قال: فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه، فبدرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل، فدلَّته على ذلك الدم، قال: فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل سبعين ألفا منهم من سنّ واحد فسكن.

وقوله( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول: وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخلوه أوّل مرَّةٍ حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض.

وأما قوله( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) فإنه يقول: وليدمِّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا، يقال منه: دمَّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله، وتَبَر تَبْرا وتَبارا، وتَبَّرته أتبرُه تتبيرًا، ومنه قول الله تعالى ذكره( وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا ) يعني: هلاكا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال: تدميرا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) قال : يدمروا ما علوا تدميرا.

..الإسراء - تفسير الدر المنثور

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (17)

سُورَة الْإِسْرَاء

مَكِّيَّة وآياتها إِحْدَى عشرَة وَمِائَة

مُقَدّمَة سُورَة الْإِسْرَاء أخرج النّحاس وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: نزلت سُورَة بني إِسْرَائِيل بِمَكَّة

وَأخرج البُخَارِيّ وَابْن الضريس وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم: أَنَّهُنَّ من الْعتاق الأول وَهن من تلادي

وَأخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ كل لَيْلَة بني إِسْرَائِيل وَالزمر

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن أبي عمر الشَّيْبَانِيّ قَالَ: صلى بِنَا عبد الله الْفجْر فَقَرَأَ بسورتين الْآخِرَة مِنْهُمَا بَنو إِسْرَائِيل

الْآيَة 1 - 8

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

أخرج ابْن جرير عَن حُذَيْفَة أَنه قَرَأَ سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ من اللَّيْل من الْمَسْجِد الرحام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى

وَأخرج الطستي عَن ابْن عَبَّاس أَن نَافِع بن الْأَزْرَق سَأَلَهُ عَن قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} قَالَ: {سُبْحَانَ} تَنْزِيه الله تَعَالَى {الَّذِي أسرى} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {من الْمَسْجِد الْحَرَام} إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ رده إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام

قَالَ: وَهل تعرف الْعَرَب ذَلِك قَالَ: نعم أما سَمِعت الْأَعْشَى وَهُوَ يَقُول: قلت لَهُ لما علا فخره سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ثَابت عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أتيت بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّة أَبيض طَوِيل فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل يضع حَافره عِنْد مُنْتَهى طرفه

فركبته حَتَّى أتيت بَيت الْمُقَدّس فربطته بالحلقة الَّتِي ترْبط بهَا الْأَنْبِيَاء ثمَّ دخلت الْمَسْجِد فَصليت رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرجت فَجَاءَنِي جِبْرِيل بِإِنَاء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللَّبن فَقَالَ جِبْرِيل: اخْتَرْت الْفطْرَة

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من أَنْت قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بِآدَم فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من أَنْت قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بإبني الْخَالَة عِيسَى ابْن مَرْيَم وَيحيى بن زَكَرِيَّا فرحّبا بِي ودعوا إِلَيّ بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من أَنْت قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بِيُوسُف وَإِذا هُوَ قد أعطي شطر الْحسن فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بِإِدْرِيس فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بهَارُون فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بمُوسَى فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِخَير

ثمَّ عرج بِنَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: قد بعث إِلَيْهِ

فَفتح لنا فَإِذا أَنا بإبراهيم مُسْند ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور وَإِذا هُوَ يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألف ملك لَا يعودون إِلَيْهِ ثمَّ ذهب بِي إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا وَرقهَا فِيهَا كآذان الفيلة وَإِذا ثَمَرهَا كالقلال فَلَمَّا غشيها من أَمر الله مَا غشى تَغَيَّرت فَمَا أحد من خلق الله يَسْتَطِيع أَن ينعتها من حسنها فَأوحى إِلَيّ مَا أوحى وَفرض عليّ خمسين صَلَاة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة فَنزلت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فرض رَبك على أمتك قلت: خمسين صَلَاة

قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَإِن أمتك لَا تطِيق ذَلِك فَإِنِّي قد بلوت بني إِسْرَائِيل وخبرتهم

فَرَجَعت إِلَى رَبِّي فَقلت: يَا رب خفف عَن أمتِي

فحط عني خمْسا فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَقلت: حط عني خمْسا فَقَالَ: إِن أمتك لَا يُطِيقُونَ ذَلِك فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف

قَالَ: فَلم أزل أرجع بَين رَبِّي ومُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّد إنَّهُنَّ خمس صلوَات لكل يَوْم وَلَيْلَة بِكُل صَلَاة عشر فَتلك خَمْسُونَ صَلَاة وَمن هم بحسنة فَلم يعملها كتبت لَهُ حَسَنَة فَإِن عَملهَا كتبت لَهُ عشرا وَمن همّ بسيئة فَلم يعملها لم تكْتب شَيْئا فَإِن عَملهَا كتبت سَيِّئَة وَاحِدَة

فَنزلت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى

مُوسَى فَأَخْبَرته فَقَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَقلت: قد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى استحيت مِنْهُ

وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عَن أنس قَالَ: لَيْلَة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَسْجِد الْكَعْبَة جَاءَهُ ثَلَاثَة نفر قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَقَالَ أَوَّلهمْ: أَيهمْ هُوَ فَقَالَ أوسطهم: هُوَ خَيرهمْ

فَقَالَ أحدهم: خُذُوا

فَكَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة فَلم يرهم حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَة أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه وتنام عَيناهُ وَلَا ينَام قلبه وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء تنام أَعينهم وَلَا تنام قُلُوبهم فَلم يكلموه حَتَّى احتملوه فوصعوه عِنْد بِئْر زَمْزَم فتولاه مِنْهُم جِبْرِيل فشق جِبْرِيل مَا بَين نَحره إِلَى لبته حَتَّى فرغ من صَدره وجوفه فَغسله من مَاء زَمْزَم بِيَدِهِ حَتَّى أنقى جَوْفه ثمَّ أَتَى بطست من ذهب محشواً إِيمَانًا وَحِكْمَة فحشا بِهِ صَدره ولغاديده - يَعْنِي عروق حلقه - ثمَّ أطبقه ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَضرب بَابا من أَبْوَابهَا فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: مرْحَبًا بِهِ وَأهلا

وَوجد فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: هَذَا أَبوك آدم فسلمه عَلَيْهِ فَسلم عَلَيْهِ ورد عَلَيْهِ آدم وَقَالَ: مرْحَبًا وَأهلا بإبني

نعم الإبن أَنْت

فَإِذا هُوَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا بنهرين يطردان فَقَالَ: مَا هَذَانِ النهرين يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا النّيل والفرات عنصرهما

ثمَّ مضى بِهِ فِي السَّمَاء فَإِذا هُوَ بنهر آخر عَلَيْهِ قصر من لُؤْلُؤ وَزَبَرْجَد فَضرب بِيَدِهِ فَإِذا هُوَ مسك أذفر

قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي خبأ لَك رَبك

ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَقَالَت الْمَلَائِكَة لَهُ مثل مَا قَالَت لَهُ الأولى: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: مرْحَبًا بِهِ وَأهلا

ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَقَالُوا لَهُ مثل مَا قَالَت الأولى وَالثَّانيَِة

ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ عرج بِهِ إِلَى الْخَامِسَة فَقَالُوا مثل ذَلِك ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّادِسَة فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ عرج بِهِ إِلَى السَّابِعَة فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك كل سَمَاء فِيهَا أَنْبيَاء قد سماهم مِنْهُم إِدْرِيس فِي الثَّانِيَة وَهَارُون فِي الرَّابِعَة وَآخر فِي الْخَامِسَة وَلم أحفظ اسْمه وَإِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة

ومُوسَى فِي السَّابِعَة بتفضيل كَلَام الله فَقَالَ مُوسَى: رب لم أَظن أَن ترفع عليّ أحدا ثمَّ علا بِهِ فَوق ذَلِك بِمَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله حَتَّى جَاءَ سِدْرَة الْمُنْتَهى ودنا الْجَبَّار رب الْعِزَّة فتدلّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قاب قوسين أَو أدنى فَأوحى الله فِيمَا يوحي إِلَيْهِ خمسين صَلَاة على أمتك كل يَوْم وَلَيْلَة ثمَّ هَبَط حَتَّى بلغ مُوسَى فاحتبسه مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّد مَاذَا عهد إِلَيْك رَبك قَالَ: عهد إِلَيّ خمسين صَلَاة كل يَوْم وَلَيْلَة

قَالَ: إِن أمتك لَا تَسْتَطِيع ذَلِك ارْجع فليخفف عَنْك رَبك وعنهم

فَالْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ يستشيره فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيل أَن نعم إِن شِئْت فعلا بِهِ إِلَى الْجَبَّار تبَارك وَتَعَالَى فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رب خفف عَنَّا

فَإِن أمتِي لَا تَسْتَطِيع ذَلِك

فَوضع عَنهُ عشرات صلوَات

ثمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى واحتبسه قلم يزل يردده مُوسَى إِلَى ربه حَتَّى صَارَت إِلَى خمس صلوَات ثمَّ احتبسه مُوسَى عِنْد الْخمس فَقَالَ: يَا مُحَمَّد وَالله لقد راودت بني إِسْرَائِيل على أدنى من هَذَا فضعفوا وتركوه فأمتك أَضْعَف أجسادا وَقُلُوبًا وأبدانا وأبصارنا وأسماعاً فَارْجِع فليخفف عَنْك رَبك كل ذَلِك

يلْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جِبْرِيل ليشير عَلَيْهِ وَلَا يكره ذَلِك جِبْرِيل فرفعه عِنْد الْخَامِسَة فَقَالَ: يَا رب إِن أمتِي ضعفاء أَجْسَادهم وَقُلُوبهمْ وأسماعهم وأبدانهم فَخفف عَنَّا

فَقَالَ الْجَبَّار: يَا مُحَمَّد قَالَ: لبيْك وَسَعْديك

قَالَ: إِنَّه لَا يُبدل القَوْل لدي كَمَا فرضت عَلَيْك فِي أم الْكتاب وكل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا

فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أم الْكتاب وَهِي خمس عَلَيْك

فَرجع إِلَى مُوسَى فَقَالَ: كَيفَ فعلت فَقَالَ: خفف عَنَّا أَعْطَانَا بِكُل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا

فَقَالَ مُوسَى: قد وَالله راودت بني إِسْرَائِيل على أدنى من ذَلِك فَتَرَكُوهُ ارْجع إِلَى رَبك فليخفف عَنْك

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا مُوسَى قد وَالله استحييت من رَبِّي مِمَّا اخْتلفت إِلَيْهِ

قَالَ: فاهبط بِسم الله

واستيقظ وَهُوَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام

وَأخرج النَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق يزِيد بن أبي مَالك عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أتيت لَيْلَة أسرى بِي بِدَابَّة فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل خطوها عِنْد مُنْتَهى طرفها

كَانَت تسخّر للأنبياء قبلي فركبته معي جِبْرِيل فسرت فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ

فَفعلت

فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْن صليت صليت بِطيبَة وإليها المُهَاجر إِن شَاءَ الله

ثمَّ قَالَ: انْزِلْ فصل

فَفعلت فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْن صليت صليت بطور سيناء حَيْثُ كلم الله مُوسَى ثمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصلِّ

فَصليت

فَقَالَ أَتَدْرِي أَيْن صليت صليت بِبَيْت لحم حَيْثُ ولد عِيسَى

ثمَّ دخلت بَيت الْمُقَدّس فَجمع لي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فقدَّمني جِبْرِيل فَصليت بهم

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَإِذا فِيهَا آدم فَقَالَ لي: سلم عَلَيْهِ فَقَالَ: مرْحَبًا بإبني وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَإِذا فِيهَا ابْنا الْخَالَة عِيسَى وَيحيى ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَإِذا فِيهَا يُوسُف

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَإِذا فِيهَا هَارُون

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَإِذا فِيهَا إِدْرِيس

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَإِذا فِيهَا مُوسَى ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَإِذا فِيهَا إِبْرَاهِيم ثمَّ صعد بِي إِلَى فَوق السَّبع سموات وأتيت سِدْرَة الْمُنْتَهى فغشيتني ضَبَابَة

فَخَرَرْت سَاجِدا فَقيل لي: إِنِّي يَوْم خلقت السَّمَاوَات وَالْأَرْض فرضت عَلَيْك وعَلى أمتك خمسين صَلَاة فَقُمْ بهَا أَنْت وَأمتك فمررت على إِبْرَاهِيم فَلم يسألني شَيْئا ثمَّ مَرَرْت على مُوسَى فَقَالَ لي: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: خمسين صَلَاة

قَالَ: إِنَّك لن تَسْتَطِيع أَن تقوم بهَا أَنْت وَلَا أمتك فاسأل رَبك التَّخْفِيف

فَرَجَعت فَأتيت سِدْرَة الْمُنْتَهى فَخَرَرْت سَاجِدا

فَقلت: يَا رب فرضت عَليّ وعَلى أمتِي خمسين صَلَاة فَلَنْ أَسْتَطِيع أَن أقوم بهَا أَنا وَلَا أمتِي

فَخفف عني عشرا

فمررت على مُوسَى فَسَأَلَنِي فَقلت: خفف عني عشرا

قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَخفف عني عشرا ثمَّ عشرا حَتَّى قَالَ: هن خمس بِخَمْسِينَ فَقُمْ بهَا أَنْت وَأمتك

فَعلمت أَنَّهَا من الله صرى

فمررت على مُوسَى فَقَالَ لي: كم فرض عَلَيْك فَقلت: خمس صلوَات فَقَالَ: فرض على بني إِسْرَائِيل صلاتان فَمَا قَامُوا بهما فَقلت: إِنَّهَا من الله فَلم أرجع

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من وَجه آخر عَن يزِيد بن أبي مَالك عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما كَانَ لَيْلَة أسرِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِدَابَّة فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل

حمله جِبْرِيل عَلَيْهَا يَنْتَهِي خفها حَيْثُ يَنْتَهِي طرفها

فَلَمَّا بلغ بَيت الْمُقَدّس أَتَى إِلَى الْحجر الَّذِي ثمَّة فغمزه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بإصبعه فثقبه ثمَّ ربطها ثمَّ صعد

فَلَمَّا اسْتَويَا فِي صرحة الْمَسْجِد قَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد هَل سَأَلت رَبك أَن يُرِيك الْحور الْعين قَالَ: نعم

قَالَ: فَانْطَلق إِلَى أُولَئِكَ النسْوَة فسلّم عَلَيْهِنَّ وَهن جُلُوس عَن يسَار الصَّخْرَة

فأتيتهن فسلَّمت عَلَيْهِنَّ فرددن عليَّ

السَّلَام فَقلت: من أنتن فَقُلْنَ: خيرات حسان

نسَاء قوم أبرار نقوا فَلم يدرنوا وَأَقَامُوا فَلم يظعنوا وخلدوا فَلم يموتوا

ثمَّ انصرفت فَلم ألبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى اجْتمع نَاس كثير ثمَّ أذن مُؤذن وأقيمت الصَّلَاة فقمنا صُفُوفنَا فانتظرنا من يؤمنا فَأخذ جِبْرِيل بيَدي فقدّمني

فَصليت بهم فَلَمَّا انصرفت قَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد أَتَدْرِي من صلَّى خَلفك قلت: لَا

قَالَ: صلى خَلفك كل نَبِي بَعثه الله

ثمَّ أَخذ بيَدي فَصَعدَ بِي إِلَى السَّمَاء فَلَمَّا انتهينا إِلَى الْبَاب استفتح قَالُوا: من أَنْت قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قَالُوا: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم

ففتحوا لَهُ وَقَالُوا: مرْحَبًا بك وبمن مَعَك

فَلَمَّا اسْتَوَى على ظهرهَا إِذا فِيهَا آدم

فَقَالَ لي جِبْرِيل: أَلا تسلِّم على أَبِيك آدم قلت: بلَى

فَأَتَيْته فَسلمت عَلَيْهِ فردّ عليّ وَقَالَ لي: مرْحَبًا بِابْني وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا عِيسَى وَيحيى

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا يُوسُف

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ قَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا إِدْرِيس

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا هَارُون

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا مُوسَى

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَإِذا فِيهَا إِبْرَاهِيم

ثمَّ انْطلق بِي على ظهر السَّمَاء السَّابِعَة حَتَّى انْتهى بِي إِلَى نهر عَلَيْهِ خيام الْيَاقُوت واللؤلؤ والزبرجد وَعَلِيهِ طير خضر أنعم طير رَأَيْت

فَقلت: يَا جِبْرِيل إِن هَذَا الطير لناعم

قَالَ: يَا مُحَمَّد آكله انْعمْ مِنْهُ

ثمَّ قَالَ: اتدري أَي نهر هَذَا قلت: لَا

قَالَ: الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك الله إِيَّاه فَإِذا فِيهِ آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة تجْرِي على رَضْرَاض من الْيَاقُوت والزمرّد مَاؤُهُ أَشد بَيَاضًا من اللَّبن فَأخذت من آنِية فاغترفت من ذَلِك المَاء فَشَرِبت فَإِذا هُوَ أحلى من الْعَسَل وَأَشد رَائِحَة من الْمسك

ثمَّ انْطلق بِي حَتَّى انْتهى إِلَى الشَّجَرَة فغشيتني سَحَابَة فِيهَا من كل لون فرفضني جِبْرِيل وخررت سَاجِدا لله

فَقَالَ الله لي: يَا مُحَمَّد إِنِّي يَوْم خلقت السَّمَاوَات وَالْأَرْض فرضت عَلَيْك وعَلى أمتك خمسين صَلَاة فَقُمْ بهَا أَنْت وَأمتك

ثمَّ انجلت عني السحابة وَأخذ بيَدي جِبْرِيل فَانْصَرَفت سَرِيعا فَأتيت على إِبْرَاهِيم فَلم يقل لي شَيْئا ثمَّ أتيت على مُوسَى فَقَالَ: مَا صنعت يَا مُحَمَّد قلت:

فرض عليَّ وعَلى أمتِي خمسين صَلَاة

قَالَ: فَلَنْ تستطيعها أَنْت وَلَا أمتك

فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ أَن يُخَفف عَنْك

فَرَجَعت سَرِيعا حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الشَّجَرَة فغشيتني السحابة وخررت سَاجِدا وَقلت: رَبِّي خفف عنّا

قَالَ: قد وضعت عَنْكُم عشرا

ثمَّ انجلت عني السحابة فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَقلت: وضع عني عشرا

قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ أَن يُخَفف عَنْكُم

فَوضع عشرا إِلَى أَن قَالَ: هن خمس بِخَمْسِينَ ثمَّ انحدر فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجبريل: مَا لي لم آتٍ على أهل سَمَاء إِلَّا رحبوا بِي وَضَحِكُوا إِلَيّ غير رجل وَاحِد سلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ السَّلَام ورحب بِي وَلم يضْحك إِلَيّ قَالَ: ذَاك مَالك خَازِن النَّار لم يضْحك مُنْذُ خلق وَلَو ضحك لأحد لضحك إِلَيْك

قَالَ: ثمَّ ركبت منصرفاً فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بعض طَرِيقه مرّ بعير من قُرَيْش تحمل طَعَاما مِنْهَا جمل عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ غرارة سَوْدَاء وغرارة بَيْضَاء فَلَمَّا حَاذَى العير نفرت مِنْهُ واستدارت وصرع ذَلِك الْبَعِير وانكسر ثمَّ إِنَّه مضى فَأصْبح فَأخْبر عَمَّا كَانَ فَلَمَّا سمع الْمُشْركُونَ قَوْله أَتَوا أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا بكر هَل لَك فِي صَاحبك يخبر أَنه أَتَى فِي ليلته هَذِه مسيرَة شهر ثمَّ رَجَعَ من ليلته

فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: إِن كَانَ قَالَه فقد صدق وَإِنَّا لنصدقنه فِيمَا هُوَ أبعد من هَذَا نصدقه على خبر السَّمَاء

فَقَالَ الْمُشْركُونَ لرَسُول الله مَا عَلامَة مَا تَقول قَالَ: مَرَرْت بعير لقريش وَهِي فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا فنفرت العير منا واستدارت

وفيهَا بعير عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ: غرارة بَيْضَاء وغرارة سَوْدَاء

فصرع فانكسر فَلَمَّا قدمت العير سألوهم فَأَخْبرُوهُمْ الْخَبَر على مثل مَا حَدثهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن ذَلِك سمي أَبُو بكر (الصّديق) وسألوه: هَل كَانَ فِيمَن حضر مَعَك مُوسَى وَعِيسَى قَالَ: نعم

قَالُوا: فصفهما

قَالَ: أما مُوسَى فَرجل آدم كَأَنَّهُ من رجال أزدعمان

وَأما عِيسَى فَرجل ربعَة سبط تعلوه حمرَة كَأَنَّهُ يتحادر من لحيته الجمان

وَأخرج ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن هَاشم بن عتبَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْبُرَاقِ فَكَأَنَّهَا هزت أذنيها فَقَالَ جِبْرِيل: يَا براق فوَاللَّه مَا ركبك مثله

وَسَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا هُوَ بِعَجُوزٍ على جَانب الطَّرِيق فَقَالَ: مَا هَذِه يَا جِبْرِيل قَالَ: سر يَا مُحَمَّد

فَسَار مَا شَاءَ الله أَن يسير فَإِذا شَيْء يَدعُوهُ متنحياً عَن

الطَّرِيق يَقُول: هَلُمَّ يَا مُحَمَّد فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: سر يَا مُحَمَّد

فَسَار مَا شَاءَ الله أَن يسير فَلَقِيَهُ خلق من خلق الله فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك يَا أول

السَّلَام عَلَيْك يَا آخر

السَّلَام عَلَيْك يَا حاشر

فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: ارْدُدْ السَّلَام

فَرد السَّلَام ثمَّ لقِيه الثَّانِيَة فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك ثمَّ الثَّالِثَة كَذَلِك حَتَّى انْتهى إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَعرض عَلَيْهِ المَاء وَالْخمر وَاللَّبن فَتَنَاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّبن

فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أصبت الْفطْرَة وَلَو شربت المَاء لغرقت أمتك وَلَو شربت الْخمر لغوت أمتك ثمَّ بعث لَهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَمن دونه من الْأَنْبِيَاء فأمّهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ قَالَ جِبْرِيل: أما الْعَجُوز الَّتِي رَأَيْت على جَانب الطَّرِيق فَلم يبْق من الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَقِي من عمر تِلْكَ الْعَجُوز وَأما الَّذِي أَرَادَ أَن تميل إِلَيْهِ فَذَاك عَدو الله إِبْلِيس أَرَادَ أَن تميل إِلَيْهِ

وَأما الَّذين سلمُوا عَلَيْك فإبراهيم ومُوسَى وَعِيسَى

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق كثير بن خُنَيْس عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَيْنَمَا أَنا مُضْطَجع فِي الْمَسْجِد لَيْلَة نَائِما إِذْ رَأَيْت ثَلَاثَة نفر أَقبلُوا نحوي فَقَالَ الأول: هُوَ

هُوَ

قَالَ الْأَوْسَط: نعم

قَالَ الآخر: خُذُوا سيد الْقَوْم فَرَجَعُوا عني ثمَّ رَأَيْتهمْ اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَقَالَ الأول: هُوَ

هُوَ

قَالَ الْأَوْسَط: نعم

قَالَ الآخر: خُذُوا سيد الْقَوْم فَرَجَعُوا عني حَتَّى إِذا كَانَت اللَّيْلَة الثَّالِثَة رَأَيْتهمْ فَقَالَ الأول هُوَ هُوَ

وَقَالَ الْأَوْسَط: نعم

وَقَالَ الآخر: خُذُوا سيد الْقَوْم حَتَّى جاؤوا بِي زَمْزَم فاستلقوني على ظَهْري ثمَّ غسلوا حشْوَة بَطْني ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض: أنقوا

ثمَّ أَتَى بطست من ذهب مَمْلُوءَة حِكْمَة وإيماناً فأفرغ فِي جوفي

ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قَالُوا: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

فَفتح

فَإِذا آدم إِذا نظر عَن يَمِينه ضحك وَإِذا نظر عَن شِمَاله بَكَى

قلت: ياجبريل من هَذَا

قَالَ: هَذَا أَبوك آدم إِذا نظر على يَمِينه رأى من فِي الْجنَّة من ذُريَّته ضحك وَإِذا نظر عَن يسَاره رأى من فِي النَّار من ذُريَّته بَكَى

ثمَّ قَالَ أنس بن مَالك: يَا ابْن أخي إِنَّه يطول عَليّ الحَدِيث

ثمَّ عرج بِي حَتَّى جَاءَ السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ

فَقَالَ: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قَالَ: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قَالَ: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

فَفتح فَإِذا مُوسَى

ثمَّ

عرج بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ

قيل من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قَالَ: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

فَفتح فَإِذا إِبْرَاهِيم قَالَ مرْحَبًا بالابن وَالرَّسُول

ثمَّ مضى حَتَّى جَاءَ الْجنَّة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قَالَ: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

فَفتح الْبَاب

قَالَ: فَدخلت الْجنَّة فأُعْطِيتُ الْكَوْثَر فَإِذا نهر فِي الْجنَّة عضادتاه بيُوت مجوفة من لُؤْلُؤ ثمَّ مضى حَتَّى جَاءَ سِدْرَة الْمُنْتَهى (فَتَدَلَّى فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى) (النَّجْم آيَة 9)

فَفرض عليّ وعَلى أمتِي خمسين صَلَاة فَرَجَعت حَتَّى أَمر مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: خمسين صَلَاة

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَرَجَعت إِلَيْهِ فَوضع عني عشرا فمررت على مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: أَرْبَعِينَ صَلَاة

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَرَجَعت إِلَيْهِ فَوضع عني عشرا فمررت على مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: ثَلَاثِينَ صَلَاة

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَرَجَعت إِلَيْهِ فَوضع عني عشرا فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: عشْرين صَلَاة

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَرَجَعت فَوضع عني عشرا ثمَّ مَرَرْت على مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: عشر صلوَات

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَرَجَعت فَوضع عني خمْسا

ثمَّ قَالَ: إِنَّه لَا يُبدل قولي وَلَا ينْسَخ كتابي تخفيفها عَنْكُم كتخفيف خمس صلوَات وَإِنَّهَا لكم كَأَجر خمسين صَلَاة

فمررت على مُوسَى فَقَالَ: كم فرض عَلَيْك وعَلى أمتك قلت: خمس صلوَات

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ يُخَفف عَنْك وَعَن أمتك

فَإِن بني إِسْرَائِيل قد أُمِرُوا بأيسر من هَذَا فَلم يطيقوه

قَالَ: لقد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحي مِنْهُ

وَأخرج الْبَزَّار وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَصَححهُ عَن شَدَّاد بن أَوْس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُول الله كَيفَ أسرِي

بك فَقَالَ: صليت بِأَصْحَابِي الْعَتَمَة بِمَكَّة معتماً فَأَتَانِي جِبْرِيل بِدَابَّة بَيْضَاء فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل وَقَالَ: اركب فاستصعبت عَليّ فأدارها بأذنها ثمَّ حَملَنِي عَلَيْهَا فَانْطَلَقت تهوي بِنَا

يَقع حافرها حَيْثُ أدْرك طرفها حَتَّى بلغنَا أَرضًا ذَات نخل فَقَالَ: انْزِلْ

فَنزلت فَقَالَ: صل

فَصليت ثمَّ ركبنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْن صليت قلت: الله أعلم

قَالَ: صليت بِيَثْرِب

صليت بِطيبَة ثمَّ انْطَلَقت تهوي بِنَا يَقع حافرها حَيْثُ أدْرك طرفها ثمَّ بلغنَا أَرضًا فَقَالَ: انْزِلْ

فَنزلت

فَقَالَ: صل فَصليت ثمَّ ركبنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْن صليت قلت: الله أعلم

قَالَ: صليت بمدين صليت عِنْد شَجَرَة مُوسَى ثمَّ انْطَلَقت تهوي بِنَا يَقع حافرها حَيْثُ أدْرك طرفها ثمَّ بلغنَا أَرضًا بَدَت لنا قُصُورهَا فَقَالَ: انْزِلْ فَنزلت ثمَّ قَالَ: صَلِّ فَصليت ثمَّ ركبنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْن صليت فَقلت: الله أعلم

فَقَالَ: صليت بِبَيْت لحم حَيْثُ ولد عِيسَى الْمَسِيح ابْن مَرْيَم ثمَّ انْطلق بِي حَتَّى دَخَلنَا الْمَدِينَة من بَابهَا الْيَمَانِيّ فَأتى قبْلَة الْمَسْجِد فَربط فِيهِ الدَّابَّة ودخلنا الْمَسْجِد من بَاب فِيهِ تميل الشَّمْس وَالْقَمَر فَصليت من الْمَسْجِد حَيْثُ شَاءَ الله وأخذني من الْعَطش أَشد مَا أَخَذَنِي فأُتيتُ بإناءين فِي أَحدهمَا لبن وَفِي الآخر عسل أرسل إِلَيّ بهما جمعيا فعدلت بَينهمَا فهداني الله فَأخذت اللَّبن فَشَرِبت حَتَّى فرغت مِنْهُ وَكَانَ إِلَى جَانِبي شيخ يبكي متكئ على منبره فَقَالَ: أَخذ صَاحبك الْفطْرَة وَإنَّهُ لمهدي

ثمَّ انْطلق بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادي الَّذِي فِي الْمَدِينَة فَإِذا جَهَنَّم تنكشف عَن مثل الزرابي فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله كَيفَ وَجدتهَا قَالَ: مثل الْحمة السخنة

ثمَّ انْصَرف بِي فمررنا بعير قُرَيْش بمَكَان كَذَا وَكَذَا وَقد أَضَلُّوا بعير لَهُم قد جمعه فلَان فسلّمت عَلَيْهِم فَقَالَ بَعضهم: هَذَا صَوت مُحَمَّد ثمَّ أتيت أَصْحَابِي قبل الصُّبْح بِمَكَّة فَأَتَانِي أَبُو بكر فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَيْن كنت اللَّيْلَة قد التمستك فِي مَكَانك

فَقلت: أعلمت أَنِّي أتيت بَيت الْمُقَدّس اللَّيْلَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنَّه مسيرَة شهر فصفه لي

قَالَ: فَفتح لي صِرَاط كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إِلَّا أنبأتكم عَنهُ

فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: أشهد أَنَّك رَسُول الله

وَقَالَ الْمُشْركُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْن أبي كَبْشَة زعم أَنه أَتَى بَيت الْمُقَدّس اللَّيْلَة فَقَالَ: إِن من آيَة مَا أَقُول لكم: أَنِّي مَرَرْت بعير لكم بمَكَان كَذَا وَكَذَا وَقد أَضَلُّوا بعير لَهُم فَجَمعه فلَان وَإِن مَسِيرهمْ ينزلون بِكَذَا وَكَذَا ويأتونكم يَوْم كَذَا وَكَذَا ويقدمهم جمل آدم عَلَيْهِ شيخ أسود

وغراراتن سوداوان فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم أشرف الْقَوْم ينظرُونَ حَتَّى كَانَ قَرِيبا من نصف النَّهَار قدمت العير يقدمهم ذَلِك الْجمل الَّذِي وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَأخرج أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن مَالك بن صعصعة حَدثهُ أَن رَسُول الله حَدثهمْ عَن لَيْلَة أسرِي بِهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنا فِي الْحطيم - وَرُبمَا قَالَ قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ - فِي الْحجر مُضْطَجعا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَجعل يَقُول لصَاحبه: الْأَوْسَط بَين الثَّلَاثَة فَأَتَانِي فشق مَا بَين هَذِه إِلَى هَذِه - يَعْنِي من ثغر نَحره إِلَى شعرته - فاستخرج قلبِي فأوتيت بطست من ذهب مَمْلُوء إِيمَانًا وَحِكْمَة فَغسل قلبِي بِمَاء زَمْزَم ثمَّ حشى ثمَّ أُعِيد مَكَانَهُ

ثمَّ أُوتيت بِدَابَّة أَبيض دون الْبَغْل وَفَوق الْحمار يُقَال لَهُ الْبراق يَقع خطوه عِنْد أقْصَى طرفه فَحملت عَلَيْهِ فَانْطَلق بِي جِبْرِيل حَتَّى أَتَى بِي السَّمَاء فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت فَإِذا فِيهَا آدم فَقلت: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا أَبوك آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَسلم عَلَيْهِ

فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عليّ السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالابن الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فاستفتحفقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: أَو قد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت إِذا يحيى وَعِيسَى وهما ابْنا الْخَالَة فَقلت: يَا جِبْرِيل من هَذَانِ قَالَ: هَذَانِ يحيى وَعِيسَى فَسلم عَلَيْهِمَا فَسلمت عَلَيْهِمَا فَردا السَّلَام ثمَّ قَالَا: مرْحَبًا بالأخ الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت إِذا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالأخ الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ قيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت إِذا إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالأخ الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَاسْتَفْتَحَ

فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَلَمَّا خلصت إِذا هَارُون فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالأخ الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت إِذا أَنا بمُوسَى فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالأخ الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح فَلَمَّا تجاوزت بَكَى

قيل لَهُ: مَا يبكيك قَالَ: أبْكِي لِأَن غُلَاما بُعِثَ بعدِي يدْخل الْجنَّة من أمته أَكثر مِمَّا يدخلهَا من أمتِي

ثمَّ صعد حَتَّى أَتَى إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قيل: مرْحَبًا بِهِ ولنعم الْمَجِيء جَاءَ

فَفتح لنا فَلَمَّا خلصت إِذا إِبْرَاهِيم قلت: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا أَبوك إِبْرَاهِيم فسلّم عَلَيْهِ فَسلمت عَلَيْهِ فَرد السَّلَام ثمَّ قَالَ: مرْحَبًا بالابن الصَّالح وَالنَّبِيّ الصَّالح

ثمَّ رفعت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا نبقها مثل قلال هجر وَإِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة وَإِذا أَرْبَعَة أَنهَار يخْرجن من أَصْلهَا: نهران باطنان: ونهران ظاهران فَقلت: يَا جِبْرِيل مَا هَذِه الْأَنْهَار

فَقَالَ: أما الباطنان فنهران فِي الْجنَّة

وَأما الظاهران فالنيل والفرات ثمَّ رفع إليَّ الْبَيْت الْمَعْمُور قلت: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا قَالَ: هَذَا الْبَيْت الْمَعْمُور يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألفا من الْمَلَائِكَة إِذا خَرجُوا مِنْهُ لم يعودوا فِيهِ آخر مَا عَلَيْهِم

ثمَّ أُتِيتُ باناءين أَحدهمَا خمر وَالْآخر لبن فعرضا عليّ فَقيل: خُذ أَيهمَا شِئْت فَأخذت اللَّبن فَقيل لي: أصبت الْفطْرَة أَنْت عَلَيْهَا وَأمتك

ثمَّ فرضت عليَّ الصَّلَاة خَمْسُونَ صَلَاة كل يَوْم فَنزلت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فرض رَبك على أمتك قلت: خمسين صَلَاة كل يَوْم

قَالَ: إِن أمتك لَا تَسْتَطِيع ذَلِك وَإِنِّي قد خبرت النَّاس قبلك وعالجت بني إِسْرَائِيل أَشد المعالجة ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك

فَرَجَعت إِلَى رَبِّي فحط عني خمْسا فَأَقْبَلت حَتَّى أتيت على مُوسَى فأنبأته بِمَا حط فَقَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك فَإِن أمتك لَا يُطِيقُونَ ذَلِك

قَالَ: فَمَا زلت بَين موى وَبَين رَبِّي يحط عني خمْسا خمْسا حَتَّى أَقبلت بِخمْس صلوَات فَأتيت على مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أمرت قلت: بِخمْس صلوَات كل يَوْم

قَالَ: إِن أمتك لَا يُطِيقُونَ ذَلِك

إِنِّي بلوت النَّاس قبلك وعالجت بني إِسْرَائِيل أَشد المعالجة ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك

فَقلت: لقد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى لقد استحيت وَلَكِنِّي أرْضى وَأسلم فنوديت أَن يَا مُحَمَّد إِنِّي قد أمضيت فريضتي وخففت عَن عبَادي الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا

وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ يحدث أَن رَسُول الله قَالَ: فرج سقف بيني وَأَنا بِمَكَّة فَنزل جِبْرِيل فَفرج عَن صَدْرِي ثمَّ غسله بِمَا زَمْزَم ثمَّ جَاءَ بطست من ذهب ممتلئ حِكْمَة وإيماناً فأفرغه فِي صَدْرِي ثمَّ أطبقه ثمَّ أَخذ بيَدي فعرج بِي إِلَى السَّمَاء فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاء الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لخازن السَّمَاء: افْتَحْ

قَالَ: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قَالَ: هَل مَعَك أحد قَالَ: نعم معي مُحَمَّد

قَالَ: أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

فَفتح فَلَمَّا علونا السَّمَاء الدُّنْيَا إِذا رجل قَاعد عَن يَمِينه أَسْوِدَة وعَلى يسَاره أَسْوِدَة فَإِذا نظر قبل يَمِينه تَبَسم وَإِذا نظر قبل شِمَاله بَكَى فَقَالَ: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالح وَالِابْن الصَّالح قلت لجبريل: من هَذَا قَالَ: هَذَا آدم وَهَذِه الأسودة عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله نسم بنيه فَأهل الْيَمين مِنْهُم أهل الْجنَّة

والأسودة الَّتِي عَن شِمَاله أهل النَّار فَإِذا نظر عَن يَمِينه ضحك وَإِذا نظر عَن شِمَاله بَكَى ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَقَالَ لخازنها افْتَحْ

فَقَالَ لَهُ خازنها مثل مَا قَالَ الأول فَفتح

قَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ: فَذكر أَنه وجد فِي السَّمَاوَات آدم وَإِدْرِيس ومُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَلم يثبت كَيفَ مَنَازِلهمْ

قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي ابْن حزم أَن ابْن عَبَّاس وَأَبا حَبَّة الْأنْصَارِيّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ثمَّ عرج بِي حَتَّى ظَهرت بمستوى أسمع فِيهِ صريف الأقلام

قَالَ ابْن حزم وَأنس: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَفرض الله على أمتِي خمسين صَلَاة فَرَجَعت بذلك حَتَّى مَرَرْت على مُوسَى فَقَالَ: مَا فرض الله على أمتك قلت: فرض خمسين صَلَاة

قَالَ: فَارْجِع إِلَى رَبك فَإِن أمتك لَا تطِيق ذَلِك فَرَجَعت فَوضع شطرها فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرته فَقَالَ: رَاجع رَبك فَإِن أمتك لَا تطِيق ذَلِك

فراجعت رَبِّي فَقَالَ: هِيَ خمس وَهن خَمْسُونَ لَا يُبدل القَوْل لدي فَرَجَعت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ارْجع إِلَى رَبك

قلت: قد

استحيت من رَبِّي

ثمَّ انْطلق بِي حَتَّى انْتهى إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فغشيتها ألوان لَا أَدْرِي مَا هِيَ ثمَّ أدخلت الْجنَّة فَإِذا فِيهَا جنابذ اللُّؤْلُؤ وَإِذا ترابها مسك

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَابْن عَسَاكِر عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ عَن لَيْلَة أسرِي بِهِ من مَكَّة إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى قَالَ: بَينا أَنا نَائِم عشَاء بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام إِذْ أَتَانِي آتٍ فأيقظني فَاسْتَيْقَظت فَلم أر شَيْئا وَإِذا أَنا بكهيئة خيال فَأتبعهُ بَصرِي حَتَّى خرجت من الْمَسْجِد فَإِذا أَنا بِدَابَّة أدنى شُبْهَة بدوابكم هَذِه بغالكم غير أَن مُضْطَرب الْأُذُنَيْنِ يُقَال لَهُ الْبراق وَكَانَت الْأَنْبِيَاء تركبه قبلي

يَقع حَافره عِنْد مد بَصَره فركبته فَبينا أَنا أَسِير عَلَيْهِ إِذْ دَعَاني دَاع عَن يَمِيني: يَا مُحَمَّد انظرني أَسأَلك

فَلم أجبه ثمَّ دَعَاني دَاع عَن شمَالي يَا مُحَمَّد انظرني أَسأَلك فَلم أجبه فَبينا أَنا سَائِر إِذا بِامْرَأَة حَاسِرَة عَن ذراعيها وَعَلَيْهَا من كل زِينَة خلقهَا الله فَقَالَت: يَا مُحَمَّد أَنْظرنِي أَسأَلك

فَلَمَّا ألتفت إِلَيْهَا حَتَّى أتيت بَيت الْمُقَدّس فأوثقت دَابَّتي بالحلقة الَّتِي كَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام توثقها بهَا ثمَّ أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بإناءين أَحدهمَا خمر وَالْآخر لبن فَشَرِبت اللَّبن وَتركت الْخمر فَقَالَ جِبْرِيل: أصبت الْفطْرَة أما أَنَّك لَو أخذت الْخمر غوت أمتك

فَقلت: الله أكبر

الله أكبر

فَقَالَ جِبْرِيل: مَا رَأَيْت فِي وَجهك هَذَا قلت: بَينا أَنا اسير إِذْ دَعَاني دَاع عَن يَمِيني: يَا مُحَمَّد انظرني أَسأَلك فَلم أجبه

قَالَ: ذَاك دَاعِي الْيَهُود أما لَو أَنَّك لَو أَجَبْته لتهودت أمتك

قلت: وَبينا أَنا أَسِير إِذْ دَعَاني دَاع عَن يساري: يَا مُحَمَّد انظرني أَسأَلك فَلم أجبه

قَالَ: ذَاك دَاعِي النَّصَارَى أما أَنَّك لَو أَجَبْته لتنصرت أمتك فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير إِذا أَنا بِامْرَأَة حَاسِرَة عَن ذراعيها عَلَيْهَا من كل زِينَة تَقول: يَا مُحَمَّد انظرني أَسأَلك فَلم أجبها

قَالَ: تِلْكَ الدُّنْيَا أما أَنَّك لَو أجبتها لاختارت أمتك الدُّنْيَا على الْآخِرَة

ثمَّ دخلت أَنا وَجِبْرِيل بَيت الْمُقَدّس فصلى كل وَاحِد منا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أتيت بالمعراج الَّذِي تعرج عَلَيْهِ أَرْوَاح بني آدم فَلم تَرَ الْخَلَائق أحسن من الْمِعْرَاج

أما رَأَيْت الْمَيِّت حِين رمى بَصَره طامحا إِلَى السَّمَاء عجبه الْمِعْرَاج

فَصَعدت أَنا وَجِبْرِيل فَإِذا أَنا بِملك يُقَال لَهُ اسماعيل وَهُوَ صَاحب سَمَاء الدُّنْيَا وَبَين يَدَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك مَعَ كل ملك جنده مائَة ألف

فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل بَاب السَّمَاء قيل: من

هَذَا قَالَ: جِبْرِيل

قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد

قيل: قد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم فَإِذا أَنا بِآدَم كَهَيْئَته يَوْم خلقه الله على صورته لم يتَغَيَّر مِنْهُ شَيْء وَإِذا هُوَ تعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح ذُريَّته الْمُؤمنِينَ فَيَقُول: روح طيبَة وَنَفس طيبَة اجْعَلُوهَا فِي عليين

ثمَّ تعرض عَلَيْهِ أَرْوَاح ذُريَّته الْكفَّار الْفجار فَيَقُول: روح خبيثة وَنَفس خبيثة اجْعَلُوهَا فِي سِجِّين

فَقلت: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا أَبوك آدم فَسلم عَليّ ورحب بِي فَقَالَ: مرْحَبًا بالابن الصَّالح

ثمَّ مصيت هنيهة فَإِذا أَنا بأخونة عَلَيْهَا لحم قد أروح وأنتن عِنْدهَا أنَاس يَأْكُلُون مِنْهَا

قلت: يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ من أمتك يتركون الْحَلَال ويأتون الْحَرَام

وَفِي لفظ: فَإِذا أَنا بِقوم على مائدة عَلَيْهَا لحم مشوي كأحسن مَا رَأَيْت من اللَّحْم وَإِذا حوله جيف فَجعلُوا يقبلُونَ على الْجِيَف يَأْكُلُون مِنْهَا وَيدعونَ اللَّحْم فَقلت: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ الزناة

عَمدُوا إِلَى مَا حرم الله عَلَيْهِم وَتركُوا مَا أحل الله لَهُم ثمَّ مضيت هنيهة فَإِذا أَنا بِقوم بطونهم أَمْثَال الْبيُوت كلما نَهَضَ أحدهم خر يَقُول: الله لَا تقم السَّاعَة وهم على سابلة آل فِرْعَوْن فتجيء السابلة فتطؤهم فَسَمِعتهمْ يضجون إِلَى الله قلت: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ من أمتك الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس ثمَّ مضيت هنيهة فَإِذا أَنا بِأَقْوَام لَهُم مشافر كمشافر الْإِبِل قد وكِّل بهم من يَأْخُذ بمشافرهم ثمَّ يَجْعَل فِي أَفْوَاههم صخرا من نَار ثمَّ يخرج من أسافلهم فَسَمِعتهمْ يضجون إِلَى الله

قلت: يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ من أمتك (الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا وسيصلون سعيرا) ثمَّ مضيت هنيهة فَإِذا أَنا بنساء يعلقن بثديهن وَنسَاء منكسات بأرجلهن فسمعتهن يضججن إِلَى الله قلت يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ النِّسَاء قَالَ: هَؤُلَاءِ اللَّاتِي يَزْنِين ويقتلن أَوْلَادهنَّ ثمَّ مضيت هنيهة فَإِذا أَنا بِأَقْوَام يقطع من جنُوبهم اللَّحْم ثمَّ يدس فِي أَفْوَاههم وَيَقُول: كلوا مِمَّا أكلْتُم فَإِذا أكره مَا خلق الله لَهُم ذَلِك

قلت: يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الهمازون من أمتك اللمازون الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَإِذا أَنا بِرَجُل أحسن مَا خلق الله قد فضل النَّاس بالْحسنِ كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب قلت: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا أَخُوك يُوسُف وَمَعَهُ نفر من قومه فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم عَليّ ورحب بِي

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَإِذا أَنا

بِابْني الْخَالَة يحيى وَعِيسَى ومعهما نفر من قومهما شَبيه أَحدهمَا بِصَاحِبِهِ ثيابهما وشعرهما فَسلمت عَلَيْهِمَا وسلما عَليّ ورحبا بِي

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَإِذا أَنا بِإِدْرِيس قد رَفعه الله مَكَانا عليا فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم عَليّ ورحب بِي

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَإِذا أَنا بهَارُون وَنصف لحيته بَيْضَاء وَنِصْفهَا سَوْدَاء تكَاد لحيته تصيب سرته من طولهَا قلت: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا المحبب فِي قومه

هَذَا هرون بن عمرَان وَمَعَهُ نفر كثير من قومه فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم عَليّ ورحب بِي

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَإِذا أَنا بمُوسَى رجل آدم كثير الشّعْر لَو كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خرج شعره مِنْهُمَا وَإِذا هُوَ يَقُول: يزْعم النَّاس أَنِّي أكْرم الْخلق على الله وَهَذَا أكْرم على الله مني وَلَو كَانَ وَحده لم أبال وَلَكِن كل نَبِي وَمن تبعه من أمته

قلت: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا أَخُوك مُوسَى بن عمرَان وَمَعَهُ نفر من قومه فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم عَليّ ورحب بِي

ثمَّ صعدنا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَإِذا أَنا بإبراهيم وَإِذا هُوَ جَالس مُسْند ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور وَمَعَهُ نفر من قومه فَسلمت عَلَيْهِ وَسلم عَليّ وَقَالَ: مرْحَبًا بالابن الصَّالح فَقيل لي: هَذَا مَكَانك وَمَكَان أمتك ثمَّ تَلا (إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي وَالَّذين آمنُوا وَالله ولي الْمُؤمنِينَ) (آل عمرَان آيَة 68) وَإِذا بأمتي شطرين: شطر عَلَيْهِم ثِيَاب بيض كَأَنَّهَا الْقَرَاطِيس وَشطر عَلَيْهِم ثِيَاب رمد

ثمَّ دخلت الْبَيْت الْمَعْمُور وَدخل معي الَّذين عَلَيْهِم الثِّيَاب الْبيض وحجب الْآخرُونَ الَّذين عَلَيْهِم ثِيَاب رمد وهم على خير

فَصليت أَنا وَمن معي فِي الْبَيْت الْمَعْمُور ثمَّ خرجت أَنا وَمن معي قَالَ: وَالْبَيْت الْمَعْمُور يُصَلِّي فِيهِ كل يَوْم سَبْعُونَ ألف ملك لَا يعودون فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

ثمَّ رفعت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا كل ورقة مِنْهَا تكَاد تغطي هَذِه الْأمة وغذا فِي أَصْلهَا عين تجْرِي يُقَال لَهَا سلسبيل فَيشق مِنْهَا نهران فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل فَقَالَ: أما هَذِه فَهُوَ نهر الرَّحْمَة وَأما هَذَا فَهُوَ نهر الْكَوْثَر الَّذِي أعطاكه الله

فاغتسلت فِي نهر الرَّحْمَة فغفر لي من ذَنبي مَا تقدم وَمَا تَأَخّر ثمَّ أخذت على الْكَوْثَر حَتَّى دخلت الْجنَّة فَإِذا فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَمَا لَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَإِذا أَنا بأنهار من مَاء غير آسن وَأَنَّهَا من لبن لم يتَغَيَّر طعمه وأنهار من خمر لَذَّة

للشاربين وأنهار من عسل مصفى

وَإِذا فِيهَا رمان كَأَنَّهُ جُلُود الْإِبِل المقتبة وَإِذا فِيهَا طير كَأَنَّهَا البخت

قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: يَا رَسُول الله إِن تِلْكَ الطير لناعمة قَالَ: آكلها أنعم مِنْهَا يَا أَبَا بكر وَإِنِّي لأرجو أَن تَأْكُل مِنْهَا

قَالَ: وَرَأَيْت فِيهَا جَارِيَة لعساء فسألتها لمن أَنْت فَقَالَت: لزيد بن حَارِثَة

فبشر بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا

ثمَّ عرضت عَليّ النَّار فَإِذا فِيهَا غضب الله وزجره ونقمته وَلَو طرح فِيهَا الْحِجَارَة وَالْحَدِيد لأكلتها ثمَّ غلقت دوني

ثمَّ إِنِّي رفعت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فتغشاها فَكَانَ بيني وَبَينه قاب قوسين أَو أدنى وَنزل على كل ورقة ملك من الْمَلَائِكَة ثمَّ إِن الله أَمرنِي بأَمْره وَفرض عَليّ خمسين صَلَاة وَقَالَ: لَك بِكُل حَسَنَة عشر وَإِذا هَمَمْت بِالْحَسَنَة فَلم تعملها كتبت لَك حَسَنَة فَإِذا عملتها كتبت لَك عشرا وَإِذا هَمَمْت بِالسَّيِّئَةِ فَلم تعملها لم يكْتب عَلَيْك شَيْء فَإِن عملتها كتبت عَلَيْك سَيِّئَة

ثمَّ دفعت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أَمرك رَبك قلت: بِخَمْسِينَ صَلَاة

قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك فَإِن أمتك لَا يُطِيقُونَ ذَلِك

فَرَجَعت إِلَى رَبِّي فَقلت: يَا رب خفف عَن أمتِي فَإِنَّهَا أَضْعَف الْأُمَم

فَوضع عني عشرا

فَمَا زلت أختلف بَين مُوسَى وَبَين رَبِّي حَتَّى جعلهَا خمْسا فناداني ملك: عِنْدهَا تمت فريضتي وخففت عَن عبَادي فأعطيتهم بِكُل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا

ثمَّ رجعت إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أمرت قلت: بِخمْس صلوَات: قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك

قلت: قد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى استحييته

ثمَّ أصبح بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ الْعَجَائِب: إِنِّي رَأَيْت البارحة بَيت الْمُقَدّس وعرج بِي إِلَى السَّمَاء ثمَّ رَأَيْت كَذَا وَكَذَا فَقَالَ أَبُو جهل: أَلا تعْجبُونَ مِمَّا يَقُول مُحَمَّد قَالَ: فَأَخْبَرته بعير لقريش لما كَانَت فِي مصعدي رَأَيْتهَا فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا وَإِنَّهَا نفرت فَلَمَّا رجعت رَأَيْتهَا عِنْد الْعقبَة وَأَخْبَرتهمْ بِكُل رجل وبعيره كَذَا ومتاعه كَذَا

فَقَالَ رجل: أَنا أعلم النَّاس بِبَيْت الْمُقَدّس

فَكيف بِنَاؤُه وَكَيف هَيئته وَكَيف قربه من الْجَبَل فَرفع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيت الْمُقَدّس فَنظر إِلَيْهِ فَقَالَ: بِنَاؤُه كَذَا وهيئته كَذَا وقربه من الْجَبَل كَذَا

فَقَالَ: صدقت

وَأخرج الْبَزَّار وَأَبُو يعلى وَابْن جرير وَمُحَمّد بن نصر الْمروزِي فِي كتاب الصَّلَاة وَابْن أبي حَاتِم وَابْن عدي وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي باركنا حوله لنريه من آيَاتنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير}

قَالَ: جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى النَّبِي وَمَعَهُ مِيكَائِيل فَقَالَ جِبْرِيل لميكائيل عَلَيْهِمَا السَّلَام: ائْتِنِي بطست من مَاء زَمْزَم كَيْمَا أطهر قلبه وأشرح صَدره

فشق عَن بَطْنه فَغسله ثَلَاث مَرَّات وَاخْتلف إِلَيْهِ مِيكَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِثَلَاث طساس من مَاء زَمْزَم فشرح صَدره وَنزع مَا كَانَ فِيهِ من غلّ وملأه حلماً وعلماً وإيماناً ويقيناً وإسلاماً وَختم بَين كَتفيهِ بِخَاتم النبوّة ثمَّ أَتَاهُ بفرس فَحمل عَلَيْهِ

كل خطْوَة مِنْهُ مُنْتَهى بَصَره

فَسَار وَسَار مَعَه جِبْرِيل فَأتى على قوم يزرعون فِي يَوْم ويحصدون فِي يَوْم

كلما حصدوا عَاد كَمَا كَانَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا

قَالَ: هَؤُلَاءِ المجاهدون فِي سَبِيل الله يُضَاعف لَهُم الْحَسَنَة بسبعمائة ضعف وَمَا أَنْفقُوا من شَيْء فَهُوَ يخلفه

ثمَّ أَتَى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عَادَتْ كَمَا كَانَت وَلَا يفتر عَنْهُم من ذَلِك شَيْء فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذين تثتاقل رؤوسهم عَن الصَّلَاة

ثمَّ أَتَى على قوم على اقبالهم رقاع وعَلى أدبارهم رقاع

يسرحون كَمَا تسرح الْإِبِل وَالْغنم ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جَهَنَّم وحجارتها قَالَ: مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل

قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذين لَا يؤدون صدقَات أَمْوَالهم وَمَا ظلمهم الله شَيْئا

ثمَّ أَتَى على قوم بَين أَيْديهم لحم نضيج فِي قدر وَلحم آخر نيء خَبِيث فَجعلُوا يَأْكُلُون من النيء الْخَبيث ويتركون النضيج الطّيب

قلت: مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا الرجل من أمتك

تكون عِنْده الْمَرْأَة الْحَلَال فَيَأْتِي امْرَأَة خبيثة فيبيت عِنْدهَا حَتَّى يصبح وَالْمَرْأَة تقوم من عِنْد زَوجهَا حَلَالا طيبا فتأتي رجلا خبيثاً تبيت مَعَه حَتَّى تصبح

ثمَّ أَتَى على خَشَبَة على الطَّرِيق لَا يمر بهَا ثوب إِلَّا شقته وَلَا شي إِلَّا خرقته قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل

قَالَ: هَذَا مثل أوقام من أمتك

يَقْعُدُونَ على الطَّرِيق فيقطعونه

ثمَّ أَتَى على رجل قد جمع حزمة عَظِيمَة لَا يَسْتَطِيع حملهَا وَهُوَ يزِيد عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا الرجل من أمتك يكون عَلَيْهِ أمانات النَّاس لَا يقدر على أَدَائِهَا وَهُوَ يُرِيد أَن يحمل عَلَيْهَا

ثمَّ أَتَى على قوم تقْرض ألسنتهم بمقاريض من نَار

كلما قرضت عَادَتْ كَمَا كَانَت لَا يفتر عَنْهُم من ذَلِك شَيْء قَالَ: مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل

قَالَ: هَؤُلَاءِ خطباء الْفِتْنَة

ثمَّ أَتَى على حجر صَغِير يخرج مِنْهُ ثَوْر عَظِيم فَجعل الثور يُرِيد أَن يرجع من حَيْثُ خرج فَلَا يَسْتَطِيع

قَالَ: مَا

هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا الرجل يتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَة ثمَّ ينْدَم عَلَيْهَا فَلَا يَسْتَطِيع أَن يردهَا

ثمَّ أَتَى على وَاد فَوجدَ ريحًا طيبَة بَارِدَة وريح مسك وَسمع صَوتا فَقَالَ: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا قَالَ: هَذَا صَوت الْجنَّة

تَقول: يَا رب ائْتِنِي بِمَا وَعَدتنِي فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي واكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي ولبني وخمري فائتني مَا وَعَدتنِي فَقَالَ: لَك كل مُسلم ومسلمة وَمُؤمن ومؤمنة

قَالَت: رضيت

ثمَّ أَتَى على وادٍ فَسمع شكوى وَوجد ريحًا مُنْتِنَة فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا صَوت جَهَنَّم تَقول: رب ائْتِنِي بِمَا وَعَدتنِي فَلَقَد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي وَقد بعد قعري وَاشْتَدَّ حري فائتني مَا وَعَدتنِي قَالَ: لَك كل مُشْرك ومشركة وَكَافِر وكافرة وكل خَبِيث وخبيثة وكل جَبَّار لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب

قَالَت: قد رضيت

ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى بَيت الْمُقَدّس فَنزل فَربط فرسه إِلَى صَخْرَة ثمَّ دخل فصلى مَعَ الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام

فَلَمَّا قضيت الصَّلَاة قَالُوا: يَا جِبْرِيل من هَذَا مَعَك قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالُوا: وَقد بعث إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَمن خَليفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ

ثمَّ لَقِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَأَثْنوا على رَبهم فَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: الْحَمد لله الَّذِي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا وَأَعْطَانِي ملكا عَظِيما وَجَعَلَنِي أمة قَانِتًا يؤتم بِي وأنقذني من النَّار وَجعلهَا عليّ بردا وَسلَامًا

ثمَّ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أثنى على ربه عز وَجل فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي كلمني تكليماً وَجعل هَلَاك آل فِرْعَوْن وَنَجَاة بني إِسْرَائِيل على يَدي وَجعل من أمتِي (قوما يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ) (الْأَعْرَاف الْآيَة 159

وَنَصّ الْآيَة (وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ)

ثمَّ إِن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أثنى على ربه فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي جعل لي ملك عَظِيما وَعَلمنِي الزبُور وألان لي الْحَدِيد وسخر لي الْجبَال يسبحْنَ وَالطير وَأَعْطَانِي الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب

ثمَّ إِن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أثنى على ربه فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي سخر لي الرِّيَاح وسخر لي الشَّيَاطِين يعْملُونَ مَا شِئْت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وَعَلمنِي منطق الطير وآتاني من كل شَيْء فضلا وسخر لي جنود الشَّيَاطِين وَالْإِنْس وَالطير وفضلني على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ وآتاني ملكا عَظِيما لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي وَجعل ملكي

ملكا طيبا لَيْسَ فِيهِ حِسَاب ثمَّ إِن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أثنى على ربه فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي جعلني كَلمته وَجعل مثلي مثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ: كن فَيكون وَعَلمنِي الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل وَجَعَلَنِي أخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيراً بِإِذن الله وَجَعَلَنِي أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وَأمي من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَلم يكن للشَّيْطَان علينا سَبِيل

ثمَّ إِن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثنى على ربه عز وَجل فَقَالَ: كلكُمْ أثنى على ربه وَإِنِّي مثن على رَبِّي فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أَرْسلنِي رَحْمَة للْعَالمين وكافة للنَّاس بشيراً وَنَذِيرا وَأنزل عَليّ الْفرْقَان فِيهِ تبيان لكل شَيْء وَجعل أمتِي خير أمة أخرجت للنَّاس وَجعل أمتِي أمة وسطا وَجعل أمتِي هم الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وَشرح لي صَدْرِي وَوضع عني وزري وَرفع لي ذكري وَجَعَلَنِي فاتحاً وخاتماً

فَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام: بِهَذَا فَضلكُمْ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ثمَّ: أُتِي بآنية ثَلَاثَة مغطاة أفواهها فَأتي بِإِنَاء مِنْهَا فِيهِ مَاء فَقيل: اشرب فَشرب مِنْهُ يَسِيرا ثمَّ رفع إِلَيْهِ إِنَاء آخر فِيهِ لبن فَقيل: اشرب فَشرب مِنْهُ حَتَّى رُوِيَ ثمَّ رفع إِلَيْهِ إِنَاء آخر فِيهِ خمر فَقيل لَهُ: اشرب فَقَالَ: لَا أريده قد رويت

فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: - عَلَيْهِ السَّلَام - أما إِنَّهَا ستحرم على أمتك وَلَو شربت مِنْهَا لم يتبعك من أمتك إِلَّا قَلِيل

ثمَّ صعدوا بِي إِلَى السَّمَاء فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَمن خَليفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَدخل فَإِذا هُوَ بِرَجُل تَامّ الْخلق لم ينقص من خلقه شَيْء كَمَا ينقص من خلق النَّاس على يَمِينه بَاب يخرج مِنْهُ ريح طيبَة وَعَن شِمَاله بَاب يخرج مِنْهُ ريح خبيثة إِذا نظر إِلَى الْبَاب الَّذِي عَن يَمِينه فَرح وَضحك وَإِذا نظر إِلَى الْبَاب الَّذِي عَن يسَاره بَكَى وحزن فَقلت يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: هَذَا أَبوك آدم وَهَذَا الْبَاب الَّذِي يَمِينه بَاب الْجنَّة إِذا نظر إِلَى من يدْخلهُ من ذُريَّته ضحك واستبشر وَالْبَاب الَّذِي عَن شِمَاله بَاب جَهَنَّم إِذا نظر من يدْخلهُ بَكَى وحزن

ثمَّ صعد بِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السَّمَاء الثَّانِيَة فَاسْتَفْتَحَ قيل: من هَذَا مَعَك قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَخَلِيفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَإِذا هُوَ بشابين قَالَ: يَا جِبْرِيل من هَذَانِ قَالَ: عِيسَى ابْن مَرْيَم وَيحيى بن

زَكَرِيَّا

فَصَعدَ بِهِ إِلَى السَّمَاء الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ فَقَالُوا: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل قَالُوا: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَمن خَليفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَدخل فَإِذا هُوَ بِرَجُل قد فضل على النَّاس كَمَا فضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب قَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا أَخُوك يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام

ثمَّ صعد بِي إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل قَالُوا: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَمن خَليفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَدخل فَإِذا هُوَ بِرَجُل قَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا إِدْرِيس رَفعه الله مَكَان عليا

ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: مرْحَبًا بِهِ حَيَّاهُ الله من أَخ وَخَلِيفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ ثمَّ دخل فَإِذا هُوَ بِرَجُل جَالس وَحَوله قوم يقص عَلَيْهِم قَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل وَمن هَؤُلَاءِ حوله قَالَ: هَذَا هرون المحبب وَهَؤُلَاء بَنو إِسْرَائِيل

ثمَّ صعد بِهِ إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل لَهُ: من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَخَلِيفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَإِذا هُوَ بِرَجُل جَالس فجاوزه فَبكى الرجل قَالَ: يَا جِبْرِيل من هَذَا قَالَ: مُوسَى قَالَ: فَمَا لَهُ يبكي قَالَ: زعم بَنو إِسْرَائِيل أَنِّي أكْرم بني آدم على الله وَهَذَا رجل من بني آدم قد خلفني فِي دنيا وَأَنا فِي أُخْرَى فَلَو أَنه بِنَفسِهِ لم أبال وَلَكِن مَعَ كل نَبِي أمته

ثمَّ صعد بِهِ إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَاسْتَفْتَحَ فَقيل من هَذَا قَالَ: جِبْرِيل قيل: وَمن مَعَك قَالَ: مُحَمَّد قَالُوا: وَقد أرسل إِلَيْهِ قَالَ: نعم

قَالُوا: حَيَّاهُ الله من أَخ وَخَلِيفَة فَنعم الْأَخ وَنعم الْخَلِيفَة وَنعم الْمَجِيء جَاءَ فَدخل فَإِذا هُوَ بِرَجُل أشمط جَالس عِنْد بَاب الْجنَّة على كرْسِي وَعِنْده قوم جُلُوس بيض الْوُجُوه أَمْثَال الْقَرَاطِيس وَقوم فِي ألوانهم شَيْء فَقَامَ هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانها شَيْء فَدَخَلُوا نَهرا فاغتسلوا فِيهِ فَخَرجُوا وَقد خلص وَلم يكن فِي أبدانهم شَيْء ثمَّ دخلُوا نَهرا آخر فاغتسلوا فِيهِ فَخَرجُوا وَقد خلص من ألوانهم شَيْء ثمَّ دخلُوا نَهرا آخر فاغتسلوا فِيهِ فَخَرجُوا وَقد خلصت ألوانهم فَصَارَت مثل ألوان أَصْحَابهم فجاؤوا فجلسوا إِلَى أَصْحَابهم فَقَالَ:

يَا جِبْرِيل من هَذَا الأشمط وَمن هَؤُلَاءِ بيض الْوُجُوه وَمن هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء وَمَا هَذِه الْأَنْهَار الَّتِي دخلُوا قَالَ: هَذَا أَبوك إِبْرَاهِيم أول من شمط على الأَرْض

وَأما هَؤُلَاءِ الْبيض الْوُجُوه فقوم لم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم وَأما هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء فقوم خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا فتابوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم وَأما الْأَنْهَار فأولها رَحْمَة الله وَالثَّانِي نعْمَة الله وَالثَّالِث سقاهم رَبهم شرابًا طهُورا

ثمَّ انْتهى إِلَى السِّدْرَة قيل لَهُ: هَذِه السِّدْرَة يَنْتَهِي إِلَيْهَا كل وَاحِد خلا من أمتك على نسك فَإِذا هِيَ شَجَرَة يخرج من أَصْلهَا أَنهَار من مَاء غير آسن وأنهار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه وأنهار من خمرة لَذَّة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وَهِي شَجَرَة يسير الرَّاكِب فِي ظلها سبعين عَاما لَا يقطعهَا الورقة مِنْهَا مغطية للْأمة كلهَا فغشيها نور الخلاق عز وَجل وغشيتها الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام أَمْثَال الْغرْبَان حِين تقع على الشَّجَرَة

فَكَلمهُ الله تَعَالَى عِنْد ذَلِك فَقَالَ لَهُ: سل فَقَالَ: اتَّخذت إِبْرَاهِيم خَلِيلًا وأعطيته ملكا عَظِيما وَكلمت مُوسَى تكليماً وَأعْطيت دَاوُد ملكا عَظِيما وألنت لَهُ الْحَدِيد وسخرت لَهُ الْجبَال وَأعْطيت سُلَيْمَان ملكا عَظِيما وسخرت لَهُ الْجِنّ وَالْإِنْس وَالشَّيَاطِين وسخرت لَهُ الرِّيَاح وأعطيته ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَعلمت عِيسَى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَجَعَلته يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الْمَوْتَى بإذنك وَأَعَذْتَهُ وأمَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَلم يكن للشَّيْطَان عَلَيْهِمَا سَبِيل

فَقَالَ لَهُ ربه عز وَجل: وَقد اتخذتك خَلِيلًا وَهُوَ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة حبيب الرَّحْمَن وأرسلتك إِلَى النَّاس كَافَّة بشيراً وَنَذِيرا وشرحت لَك صدرك وَوضعت عَنْك وزرك

وَرفعت لَك ذكرك فَلَا أذكر إِلَّا وَذكرت معي وَجعلت أمتك خير أمة أخرجت للنَّاس وَجعلت أمتك لَا تجوز لَهُم خطْبَة حَتَّى يشْهدُوا أَنَّك عَبدِي ورسولي وَجعلت من أمتك أَقْوَامًا قُلُوبهم أَنَاجِيلهمْ وجعلتك أول النَّبِيين خلقا وَآخرهمْ بعثاً وأولهم يقْضى لَهُ وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعْطهَا نَبيا قبلك وأعطيتك خَوَاتِيم سُورَة الْبَقَرَة من كنز تَحت الْعَرْش لم أعْطهَا نَبيا قبلك وأعطيتك الْكَوْثَر وأعطيتك ثَمَانِيَة أسْهم: الْإِسْلَام وَالْهجْرَة وَالْجهَاد وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة وَصَوْم رَمَضَان وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وجعلتك فاتحاً وخاتماً

قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فضلني رَبِّي وأرسلني رَحْمَة للْعَالمين وكافة للنَّاس بشيراً وَنَذِيرا وَألقى فِي قلب عدوي الرعب من مسيرَة شهر وَأحل لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحد قبلي وَجعلت لي

الأَرْض كلهَا مَسْجِدا وَطهُورًا وَأعْطيت فواتح الْكَلَام وخواتمه وجوامعه وَعرضت عَليّ أمتِي فَلم يخف عَليّ التَّابِع والمتبوع ورأيتهم أَتَوا على قوم ينتعلون الشّعْر ورأيتهم أَتَوا على قوم عراض الْوُجُوه صغَار الْأَعْين كَأَنَّمَا خرمت أَعينهم بالمخيط فَلم يخف عليّ مَا هم لاقون من بعدِي وَأمرت بِخَمْسِينَ صَلَاة

فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: بِمَ أمرت قَالَ: بِخَمْسِينَ صَلَاة قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَإِن أمتك أَضْعَف الْأُمَم فقد لقِيت من بني إِسْرَائِيل شدَّة فَرجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ربه فَسَأَلَهُ التَّخْفِيف فَوضع عَنهُ عشرا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بكم أمرت قَالَ: بِأَرْبَعِينَ: قَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَرجع فَوضع عَنهُ عشرا إِلَى أَن جعلهَا خمْسا ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف قَالَ: قد رجعت إِلَى رَبِّي حَتَّى استحيت مِنْهُ فَمَا أَنا براجع إِلَيْهِ

قيل لَهُ: أما إِنَّك كَمَا صبرت نَفسك على خمس صلوَات فَإِنَّهُنَّ يجزين عَنْك خمسين صَلَاة وَإِن كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا فَرضِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل الرِّضَا

قَالَ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من أَشَّدهم عَلَيْهِ حِين مر بِهِ وَخَيرهمْ لَهُ حِين رَجَعَ إِلَيْهِ

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن أَخِيه عِيسَى عَن أَبِيه عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه أبي ليلى: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى النَّبِي بِالْبُرَاقِ فَحَمله بَين يَدَيْهِ ثمَّ جعل يسير بِهِ فَإِذا بلغ مَكَانا مطأطئاً طَالَتْ يَدَاهُ وَقصرت رِجْلَاهُ حَتَّى يَسْتَوِي بِهِ ثمَّ عرض لَهُ رجل عَن يَمِين الطَّرِيق فَجعل يُنَادِيه يَا مُحَمَّد إِلَى الطَّرِيق مرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: امْضِ وَلَا تكلم أحدا ثمَّ عرض لَهُ رجل عَن يسَار الطَّرِيق فَقَالَ لَهُ إِلَى الطَّرِيق يَا مُحَمَّد فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: امْضِ وَلَا تكلم أحدا ثمَّ عرضت لَهُ امْرَأَة حسناء جميلَة ثمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيل السَّلَام: تَدْرِي من الرجل الَّذِي دعَاك عَن يَمِين الطَّرِيق قَالَ: لَا قَالَ: تِلْكَ الْيَهُود دعتك إِلَى دينهم

ثمَّ قَالَ: تَدْرِي من الرجل الَّذِي دعَاك عَن يسَار الطَّرِيق قَالَ: لَا قَالَ: تِلْكَ النَّصَارَى دعتك إِلَى دينهم

ثمَّ قَالَ: تَدْرِي من الْمَرْأَة الْحَسْنَاء الجميلة قَالَ: لَا قَالَ: تِلْكَ الدُّنْيَا تدعوك إِلَى نَفسهَا ثمَّ انْطَلقَا حَتَّى أَتَيَا بَيت الْمُقَدّس فَإِذا هم بِنَفر جُلُوس فَقَالُوا مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي وَإِذا فِي النَّفر

شيخ قَالَ: وَمن هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا أَبوك إِبْرَاهِيم وَهَذَا مُوسَى وَهَذَا عِيسَى ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فتدافعوا

حَتَّى قدمُوا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَتَوا بأشربة فَاخْتَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّبن فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أصبت الْفطْرَة ثمَّ قيل لَهُ: قُم إِلَى رَبك فَقَامَ فَدخل ثمَّ جَاءَ فَقيل لَهُ: مَاذَا صنعت قَالَ: فرضت على أمتِي خَمْسُونَ صَلَاة فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف لأمتك فَإِن أمتك لَا تطِيق هَذَا فَرجع ثمَّ جَاءَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: مَاذَا صنعت فَقَالَ: ردهَا إِلَى خمسين وَعشْرين فَقَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَرجع ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: ردهَا إِلَى اثْنَتَيْ عشرَة فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف فَرجع ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: ردهَا إِلَى خمس فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: ارْجع فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيف قَالَ: قد استحيت من رَبِّي فَمَا أراجعه وَقد قَالَ لي رَبِّي أَن لَك بِكُل ردة رَددتهَا مَسْأَلَة أعْطَيْتُكَها

وَأخرج ابْن عَرَفَة فِي جزئه الْمَشْهُور وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل وَابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِدَابَّة دون الْبَغْل وَفَوق الْحمار فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثمَّ انْطلق يهوي بِنَا كلما صعد عقبَة اسْتَوَت رِجْلَاهُ كَذَلِك مَعَ يَدَيْهِ وَإِذا هَبَط اسْتَوَت يَدَاهُ مَعَ رجلَيْهِ حَتَّى مَرَرْنَا بِرَجُل طَوَال سِبْطَ آدم كَأَنَّهُ من رجال شنوأة وَهُوَ يَقُول: وَيرْفَع صَوته أكرمته وفضلته فدفعنا إِلَيْهِ فسلمنا فَرد السَّلَام فَقَالَ: من هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا أَحْمد قَالَ: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي الْعَرَبِيّ الَّذِي بلغ رِسَالَة ربه ونصح لأمته ثمَّ اندفعنا فَقلت: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قلت: وَمن يُعَاتب قَالَ: يُعَاتب ربه فِيك قلت: وَيرْفَع صَوته على ربه قَالَ: إِن الله قد عرف لَهُ حَدِيثه ثمَّ اندفعنا حَتَّى مَرَرْنَا بشجرة كَأَن ثَمَرهَا السراح تحتهَا شيخ وَعِيَاله فَقَالَ لي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: اعمد إِلَى أَبِيك إِبْرَاهِيم فدفعنا إِلَيْهِ فسلمنا عَلَيْهِ فَرد السَّلَام فَقَالَ إِبْرَاهِيم: من مَعَك يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا ابْنك أَحْمد فَقَالَ: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي الَّذِي بلغ رِسَالَة ربه ونصح لأمته يَا بني إِنَّك لَاق رَبك اللَّيْلَة وَإِن أمتك آخر الْأُمَم وأضعفها فَإِن اسْتَطَعْت أَن تكون حَاجَتك أَو جلها فِي أمتك فافعل ثمَّ اندفعنا حَتَّى انتهينا إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَنزلت

فَربطت الدَّابَّة بالحلقة الَّتِي فِي بَاب الْمَسْجِد الَّتِي كَانَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ترْبط بهَا ثمَّ دخلت الْمَسْجِد فَعرفت النَّبِيين من بَين قَائِم وَرَاكِع وَسَاجِد ثمَّ أتيت بكأسين من عسل وَلبن فَأخذت اللَّبن فَشَرِبت فَضرب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَنْكِبي وَقَالَ أصبت الْفطْرَة ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فأممتهم ثمَّ انصرفنا فأقبلنا

وَأخرج الْحَارِث بن أبي أُسَامَة وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل وَابْن عَسَاكِر من طَرِيق عَلْقَمَة رَضِي الله عَنهُ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتيت بِالْبُرَاقِ فركبته إِذا أَتَى على جبل ارْتَفَعت رِجْلَاهُ وَإِذا هَبَط ارْتَفَعت يَدَاهُ فَسَار بِنَا فِي أَرض غمَّة مُنْتِنَة ثمَّ أفضينا إِلَى أَرض فيحاء طيبَة فَسَأَلت جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: تِلْكَ أَرض النَّار وَهَذِه أَرض الْجنَّة فَأتيت على رجل قَائِم يُصَلِّي فَقلت: من هَذَا يَا جِبْرِيل فَقَالَ: هَذَا أَخُوك عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فسرنا فسمعنا صَوتا وتذمراً فأتينا على رجل فَقَالَ: من هَذَا مَعَك قَالَ: هَذَا أَخُوك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسلم ودعا بِالْبركَةِ وَقَالَ: سل لأمتك الْيُسْر فَقلت من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا أَخُوك مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قلت على من كَانَ تذمره قَالَ: على ربه عز وَجل قلت: على ربه قَالَ: نعم

قد عرف حِدته ثمَّ سرنا فَرَأَيْت مصابيح وضُوءًا فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذِه شَجَرَة أَبِيك إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ادن مِنْهَا فدنوت مِنْهَا فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بِالْبركَةِ ثمَّ مضينا حَتَّى أَتَيْنَا بَيت الْمُقَدّس فَربطت الدَّابَّة بالحلقة الَّتِي ترْبط بهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ دخلت الْمَسْجِد فنشرت لي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام من سمى مِنْهُم وَمن لم يسم فَصليت بهم إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاث: إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صليت لَيْلَة أسرِي بِي فِي مقدم الْمَسْجِد ثمَّ دخلت إِلَى الصَّخْرَة فَإِذا ملك قَائِم مَعَه آنِية ثَلَاث فتناولت الْعَسَل فَشَرِبت مِنْهُ قَلِيلا ثمَّ تناولت الآخر فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى رويت فَإِذا هُوَ لبن فَقَالَ اشرب من الآخر فَإِذا هُوَ خمر قلت قد رويت

قَالَ: أما أَنَّك لَو شربت من هَذَا لم تَجْتَمِع أمتك على الْفطْرَة أبدا ثمَّ انْطلق بِي إِلَى السَّمَاء فَفرضت عليّ الصَّلَاة ثمَّ رجعت إِلَى خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَا تحوّلت عَن جَانبهَا الآخر

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: بَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ فِي بَيْتِي فَفَقَدته من اللَّيْل فَامْتنعَ عني النّوم مَخَافَة أَن يكون عرض لَهُ بعض قُرَيْش فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي فَأخذ بيَدي فَأَخْرجنِي فَإِذا على الْبَاب دَابَّة دون الْبَغْل وَفَوق الْحمار فَحَمَلَنِي عَلَيْهَا ثمَّ انْطلق حَتَّى أَتَى بِي إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَأرَانِي إِبْرَاهِيم يشبه خلقه خلقي وَيُشبه خلقي خلقه وأرأني مُوسَى آدم طوَالًا سبط الشّعْر أشبهه بِرِجَال ازد شنوأة وَأرَانِي عِيسَى ابْن مَرْيَم ربعَة أَبيض يضْرب إِلَى الْحمرَة شبهته بِعُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَأرَانِي الدَّجَّال مَمْسُوح الْعين الْيُمْنَى شبهته بِقطن بن عبد الْعُزَّى قَالَ: وَأَنا أُرِيد أَن أخرج إِلَى قُرَيْش فَأخْبرهُم مَا رَأَيْت فَأخذت بِثَوْبِهِ فَقلت إِنِّي أذكرك الله إِنَّك تَأتي قوما يكذبُونَك وَيُنْكِرُونَ مَقَالَتك فَأَخَاف أَن يَسْطُوا بك قَالَت: فَضرب ثَوْبه من يَدي ثمَّ خرج إِلَيْهِم فَأَتَاهُم وهم جُلُوس فَأخْبرهُم فَقَامَ مطعم بن عدي فَقَالَ: يَا مُحَمَّد لَو كنت شَابًّا كَمَا كنت مَا تَكَلَّمت بِمَا تَكَلَّمت بِهِ وَأَنت بَين ظهرانينا

فَقَالَ رجل من الْقَوْم: يَا مُحَمَّد هَل مَرَرْت بِإِبِل لنا فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا قَالَ: نعم وَالله وَجَدتهمْ قد أَضَلُّوا بعير لَهُم فهم فِي طلبه قَالَ: هَل مَرَرْت بِإِبِل لبني فلَان قَالَ: نعم وَجَدتهمْ فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا قد انْكَسَرت لَهُم نَاقَة حَمْرَاء فوجدتهم وَعِنْدهم قَصْعَة من مَاء فَشَرِبت مَا فِيهَا قَالُوا: فَأخْبرنَا عَن عدتهَا وَمَا فِيهَا من الرعاء

قَالَ: قد كنت عَن عدتهَا مَشْغُولًا فَقَامَ وأتى بِالْإِبِلِ فَعَدهَا وَعلم مَا فِيهَا من الرعاء

ثمَّ أَتَى قُريْشًا فَقَالَ لَهُ: سَأَلْتُمُونِي عَن إبل بني فلَان فَهِيَ كَذَا وَكَذَا وفيهَا من الرعاء فلَان وَفُلَان وَسَأَلْتُمُونِي عَن إبل بني فلَان فَهِيَ كَذَا وَكَذَا وفيهَا من الرعاء ابْن أبي قُحَافَة وَفُلَان وَفُلَان وَهِي مُصَبِّحَتكُمْ الْغَدَاة الثَّنية فقعدوا إِلَى الثَّنية ينظرُونَ أصدقهم مَا قَالَ فَاسْتَقْبلُوا الْإِبِل فسألوا هَل ضل لكم بعير قَالُوا: نعم

فسألوا الآخر هَل انْكَسَرَ لكم نَاقَة حَمْرَاء قَالُوا: نعم

قَالَ: فَهَل كَانَ عنْدكُمْ قَصْعَة من مَاء قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: وَالله أَنا وَضَعتهَا فَمَا شربهَا أحد منا وَلَا أهريقت فِي الأَرْض فَصدقهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وآمن بِهِ فَسُمي يَوْمئِذٍ الصّديق

وَأخرج أَبُو يعلى وَابْن عَسَاكِر عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا قَالَ: دخل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَلَس وَأَنا على فِرَاشِي فَقَالَ: شَعرت أَنِّي نمت اللَّيْلَة فِي الْمَسْجِد

الْحَرَام فَأَتَانِي جِبْرِيل فَذهب بِي إِلَى بَاب الْمَسْجِد فَإِذا دَابَّة أَبيض فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل مُضْطَرب الْأُذُنَيْنِ فركبته فَكَانَ يضع حَافره فِي مد بَصَره إِذا أَخذ بِي فِي هبوط طَالَتْ يَدَاهُ وَقصرت رِجْلَاهُ وَإِذا أَخذ بِي فِي صعُود طَالَتْ رِجْلَاهُ وَقصرت يَدَاهُ وَجِبْرِيل لَا يفوتني حَتَّى انتهينا إِلَى بَيت الْمُقَدّس فأوثقته بالحلقة الَّتِي كَانَت الْأَنْبِيَاء توثق بهَا فنشر لي رَهْط من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مِنْهُم إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فَصليت بهم وكلمتهم وأتيت بإناءين أَحْمَر وأبيض فَشَرِبت الْأَبْيَض فَقَالَ لي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: شربت اللَّبن وَتركت الْخمر لَو شربت الْخمر لارتدت أمتك ثمَّ ركبته فَأتيت الْمَسْجِد الْحَرَام فَصليت بِهِ الْغَدَاة فتعلقت بردائه وَقلت: أنْشدك الله يَا ابْن عَم إِن تحدث بهَا قُريْشًا فيكذبك من صدقك فَضربت بيَدي على رِدَائه فانتزعته من يَدي فارتفع عَن بَطْنه فَنَظَرت إِلَى عكنه فَوق ازاره كَأَنَّهَا طي الْقَرَاطِيس وَإِذا نور سَاطِع عِنْد فُؤَاده كَاد أَن يختطف بَصرِي فَخَرَرْت سَاجِدَة فَلَمَّا رفعت رَأْسِي إِذا هُوَ قد خرج فَقلت لجاريتي: وَيحك اتبعيه وانظري مَاذَا يَقُول وماذا يُقَال لَهُ فَلَمَّا رجعت أَخْبَرتنِي أَنه انْتهى إِلَى نفر من قُرَيْش فيهم الْمطعم بن عدي وَعَمْرو بن هِشَام والوليد بن الْمُغيرَة

فَقَالَ: إِنِّي صليت اللَّيْلَة الْعشَاء فِي هَذِه الْمَسْجِد وَصليت بِهِ الْغَدَاة وأتيت فِيمَا بَين ذَلِك بِبَيْت الْمُقَدّس فنشر لي رَهْط من الْأَنْبِيَاء فيهم إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فَصليت بهم وكلمتهم فَقَالَ عَمْرو بن هِشَام - كَالْمُسْتَهْزِئِ -: صفهم لي

فَقَالَ: أما عِيسَى ففوق الربعة وَدون الطَّوِيل عريض الصَّدْر جعد الشّعْر يعلوه صهبة كَأَنَّهُ عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَأما مُوسَى فضخم آدم طوال كَأَنَّهُ من رجال شنوأة كثير الشّعْر غائر الْعَينَيْنِ متراكب الْأَسْنَان مقلص الشّفة خَارج اللثة عَابس وَأما إِبْرَاهِيم فوَاللَّه لأَنا أشبه النَّاس بِهِ خلقا فضجوا وأعظموا ذَاك فَقَالَ الْمطعم: كل أَمرك قبل الْيَوْم كَانَ أمماً غير قَوْلك الْيَوْم أَنا أشهد أَنَّك كَاذِب نَحن نضرب أكباد الْإِبِل إِلَى بَيت الْمُقَدّس مصعداً شهرا ومنحدراً شهرا تزْعم أَنَّك أَتَيْته فِي لَيْلَة وَاللات والعزى لَا أصدقك

فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: يَا مطعم بئس مَا قلت لِابْنِ أَخِيك جَبهته وكذبته أَنا أشهد أَنه صَادِق فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد صف لنا بَيت الْمُقَدّس قَالَ: دَخلته لَيْلًا وَخرجت مِنْهُ لَيْلًا فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فصوّره فِي جنَاحه فَجعل يَقُول بَاب مِنْهُ كَذَا فِي مَوضِع كَذَا وَبَاب مِنْهُ

كَذَا فِي مَوضِع كَذَا وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَقُول: صدقت صدقت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ: يَا أَبَا بكر إِن الله قد سماك الصّديق قَالُوا يَا مُحَمَّد أخبرنَا عَن عيرنَا قَالَ: أتيت على عير بني فلَان بِالرَّوْحَاءِ قد أَضَلُّوا نَاقَة لَهُم فَانْطَلقُوا فِي طلبَهَا فانتهيت إِلَى رحالهم لَيْسَ بهَا مِنْهُم أحد وَإِذا قدح مَاء فَشَرِبت مِنْهُ ثمَّ انْتَهَيْت إِلَى عير بني فلَان فنفرت مني الْإِبِل وبرك مِنْهَا جمل أَحْمَر عَلَيْهِ جوالق مخطط ببياض لَا أَدْرِي أكسر الْبَعِير أم لَا ثمَّ انْتَهَيْت إِلَى عير بني فلَان فِي التَّنْعِيم يقدمهَا جمل أَوْرَق وَهَا هِيَ ذه تطلع عَلَيْكُم من الثَّنية فَقَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: سَاحر فَانْطَلقُوا فنظروا فوجدوا كَمَا قَالَ فَرَمَوْهُ بِالسحرِ وَقَالُوا: صدق الْوَلِيد

فَأنْزل الله (وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس) (الْإِسْرَاء آيَة 60)

وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: مَا أسرِي برَسُول الله إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي نَائِم عِنْدِي تِلْكَ اللَّيْلَة فصلى الْعشَاء الْآخِرَة ثمَّ نَام وَنِمْنَا فَلَمَّا كَانَ قبيل الْفجْر أهبنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا صلى الصُّبْح وصلينا مَعَه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أم هَانِئ لقد صليت مَعكُمْ الْعشَاء الْآخِرَة كَمَا رَأَيْت بِهَذَا الْوَادي ثمَّ جِئْت بَيت الْمُقَدّس فَصليت فِيهِ ثمَّ صليت صَلَاة الْغَدَاة مَعكُمْ الْآن كَمَا تَرين

وَأخرج ابْن سعد وَابْن عَسَاكِر عَن عبد الله بن عمر وَأم سَلمَة وَعَائِشَة وَأم هَانِئ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا دخل حَدِيث بَعضهم فِي بعض قَالُوا: أسرِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة سبع عشرَة من شهر ربيع الأول قبل الْهِجْرَة بِسنة من شعب أبي طَالب إِلَى بَيت الْمُقَدّس

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حملت على دَابَّة بَيْضَاء بَين الْحمار وَبَين الْبَغْل فِي فَخذهَا جَنَاحَانِ تحفز بهما رِجْلَيْهَا فَلَمَّا دَنَوْت لأركبها شمست فَوضع جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَده على مَعْرفَتهَا ثمَّ قَالَ: أَلا تستحتين يَا براق مِمَّا تصنعين وَالله مَا ركبك عبد لله قبل مُحَمَّد أكْرم على الله مِنْهُ فاستحيت حَتَّى ارفضت عرقاً ثمَّ قرت حَتَّى ركبتها فعلت بأذنيها وقبضت الأَرْض حَتَّى كَانَ مُنْتَهى وَقع حافرها طرفها وَكَانَت طَوِيلَة الظّهْر طَوِيلَة الْأُذُنَيْنِ

وَخرج معي جِبْرِيل لَا يفوتني وَلَا أفوته حَتَّى أَتَى بَيت الْمُقَدّس فَأتى الْبراق إِلَى موقفه الَّذِي كَانَ يقف فربطه فِيهِ وَكَانَ مربط الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام رَأَيْت الْأَنْبِيَاء جمعُوا لي فَرَأَيْت إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فَظَنَنْت أَنه لَا بُد أَن يكون لَهُم

إِمَام فَقَدَّمَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى صليت بَين أَيْديهم وسألتهم فَقَالُوا: بعثنَا بِالتَّوْحِيدِ

وَقَالَ بَعضهم: فقد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة فتفرقت بَنو عبد الْمطلب يطلبونه يلتمسونه وَخرج الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حَتَّى إِذا بلغ ذَا طوى فَجعل يصْرخ يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد فَأَجَابَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبيْك لبيْك فَقَالَ: ابْن أخي أعييت قَوْمك مُنْذُ اللَّيْلَة فَأَيْنَ كنت قَالَ: أتيت من بَيت الْمُقَدّس قَالَ: فِي ليلتك قَالَ: نعم

قَالَ: هَل أَصَابَك إِلَّا خير قَالَ: مَا أصابني إِلَّا خير

وَقَالَت أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا: مَا أسرِي بِهِ إِلَّا من بيتنا بَينا هُوَ نَائِم عندنَا تِلْكَ اللَّيْلَة صلى الْعشَاء ثمَّ نَام فَلَمَّا كَانَ قبل الْفجْر أنبهناه للصبح فَقَامَ فصلى الصُّبْح

قَالَ: يَا أم هَانِئ لقد صليت مَعكُمْ الْعشَاء كَمَا رَأَيْت بِهَذَا الْوَادي ثمَّ قد جِئْت بَيت الْمُقَدّس فَصليت بِهِ ثمَّ صليت الْغَدَاة مَعكُمْ ثمَّ قَامَ ليخرج فقت لَا تحدث هَذَا النَّاس فيكذبوك ويؤذوك

فَقَالَ: وَالله لأحدثنهم فَأخْبرهُم فتعجبوا وَقَالُوا لم نسْمع بِمثل هَذَا قطّ

وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام: يَا جِبْرِيل إِن قومِي لَا يصدقوني قَالَ: يصدقك أَبُو بكر وَهُوَ الصّديق

وافتتن نَاس كثير وَضَلُّوا كَانُوا قد أَسْلمُوا وَقمت فِي الْحجر فجلا الله لي بَيت الْمُقَدّس فطفقت أخْبرهُم عَن آيَاته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ فَقَالَ بَعضهم: كم لِلْمَسْجِدِ من بَاب - وَلم أكن عددت أبوابه - فَجعلت أنظر إِلَيْهَا وأعدها بَابا وأعلمهم وَأَخْبَرتهمْ عَن عير لَهُم فِي الطَّرِيق وعلامات فِيهَا فوجدوا ذَلِك كَمَا أَخْبَرتهم

وَأنزل الله (وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس) قَالَ: كَانَت رُؤْيا عين رَآهَا بِعَيْنِه

وَأخرج أَحْمد وَعبد بن حميد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِل عَن أنس - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِالْبُرَاقِ لَيْلَة أسرِي بِهِ مسرجاً مُلجمًا ليركبه فاستصعب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أبمحمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفعل هَذَا فوَاللَّه مَا ركبك خلق أكْرم على الله مِنْهُ

قَالَ: فأرفضّ عرقاً

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: أسرِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة سبع عشرَة من شهر ربيع الأول قبل الْهِجْرَة بِسنة

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن ابْن شهَاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أسرِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس قبل خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة بِسِتَّة عشر شهرا

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن عُرْوَة مثله

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ عَن السّديّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أسرِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس قبل مهاجره بِسِتَّة عشر شهرا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتاب حَيَاة الْأَنْبِيَاء عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَرَرْت لَيْلَة أسرِي بِي على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما يُصَلِّي فِي قَبره عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر

وَأخرج أَبُو يعلى وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: حَدثنِي بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ مر على مُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبره

قَالَ: وَذكر لي أَنه حمل على الْبراق

قَالَ: فأوثقت الْفرس

أَو قَالَ: الدَّابَّة بالحلقة

فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ صفها لي يَا رَسُول الله قَالَ: كذه وذه

وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قد رَآهَا

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي إِلَى السَّمَاء رَأَيْت مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبره

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على مُوسَى وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي مَرَرْت بمُوسَى وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لما أسرِي بِالنَّبِيِّ جعل يمر بِالنَّبِيِّ والنبيين مَعَهم الرَّهْط والنبيين مَعَهم الْقَوْم وَالنَّبِيّ والنبيين لَيْسَ مَعَهم أحد حَتَّى مر بسواد عَظِيم فَقلت: من هَؤُلَاءِ فَقيل مُوسَى وَقَومه وَلَكِن ارْفَعْ رَأسك وَانْظُر فَإِذا سَواد عَظِيم قد سد الْأُفق من ذَا الْجَانِب وَذَا الْجَانِب فَقيل لي: هَؤُلَاءِ وَسوى هَؤُلَاءِ من أمتك سَبْعُونَ ألفا يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب قَالَ: فَدخل وَلم يسألوه بِأَنْفسِهِم وَلم يُفَسر لَهُم

فَقَالَ قَائِلُونَ: نَحن هم

وَقَالَ قَائِلُونَ هم أَبْنَاؤُنَا الَّذين ولدُوا فِي الْإِسْلَام فَخرج فَقَالَ: هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ

فَقَامَ عكاشة بن مُحصن فَقَالَ: أَنا مِنْهُم يَا رَسُول الله فَقَالَ: أَنْت مِنْهُم فَقَامَ رجل آخر فَقَالَ: أَنا مِنْهُم قَالَ: سَبَقَك بهَا عكاشة

وَأخرج أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي مرت بِي رَائِحَة طيبَة فَقلت: يَا جِبْرِيل مَا هَذِه الرَّائِحَة الطّيبَة قَالَ: ماشطة بنت فِرْعَوْن وَأَوْلَادهَا كَانَت تمشطهَا فَسقط الْمشْط من يَدهَا فَقَالَت بِسم الله فَقَالَت ابْنة فِرْعَوْن أبي قَالَت: بل رَبِّي وَرَبك وَرب أَبِيك

قَالَت: أولك رب غير أبي قَالَت: أَلَك رب غَيْرِي قَالَ: نعم رَبِّي وَرَبك الله الَّذِي فِي السَّمَاء

فَأمر ببقرة من نُحَاس فأحميت ثمَّ أَمر بهَا لتلقي فِيهَا وَأَوْلَادهَا

قَالَت: إِن لي إِلَيْك حَاجَة قَالَ: وَمَا هِيَ قَالَت: تجمع عِظَامِي وَعِظَام وَلَدي فتدفنه جَمِيعًا

قَالَ: ذَلِك لَك لما لَك علينا من الْحق فَألْقوا وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى بلغ رضيعاً فيهم قَالَ: أسرعي يَا أمه وَلَا تقاعسي فَإنَّك على الْحق فألقيت هِيَ وَوَلدهَا

قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَتكلم أَرْبَعَة وهم صغَار: هَذَا وَشَاهد يُوسُف وَصَاحب جريج وَعِيسَى ابْن مَرْيَم

وَأخرج ابْن ماجة وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيْلَة أسرِي بِي وجدت ريحًا طيبَة فَقلت: يَا جِبْرِيل مَا هَذِه قَالَ: هَذِه الماشطة وَزوجهَا وَابْنهَا بَيْنَمَا هِيَ تمشط ابْنة فِرْعَوْن إِذْ سقط الْمشْط من يَدهَا فَقَالَ: تعس فِرْعَوْن فَأخْبرت أَبَاهَا وَكَانَ للْمَرْأَة ابْنَانِ وَزوج فَأرْسل إِلَيْهِم فراود الْمَرْأَة وَزوجهَا أَن يرجعا عَن دينهما فأبيا فَقَالَ: إِنِّي قاتلكما: فَقَالَا إِحْسَان مِنْك إِلَيْنَا إِن قتلتنا أَن تجعلنا فِي بَيت فَفعل فَلَمَّا أسرِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد ريحة طيبَة فَسَأَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبرهُ

وَأخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما عرج بِي مَرَرْت بِقوم لَهُم أظفار من نُحَاس يخمشون فِي وُجُوههم وصدورهم فَقلت: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس ويقعون فِي أعراضهم

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيْلَة أسرِي بِي مَرَرْت بناس تقْرض شفاههم بمقاريض من نَار كلما قرضت عَادَتْ كَمَا كَانَت فَقلت: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ خطباء أمتك الَّذين يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة أسرِي بِي رَأَيْت رجلا يسبح فِي نهر يلقم الْحِجَارَة فَسَأَلت من هَذَا فَقيل لي: هَذَا آكل الرِّبَا

وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن بُرَيْدَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما كَانَ لَيْلَة أسرِي بِي أَتَى جِبْرِيل الصَّخْرَة الَّتِي بِبَيْت الْمُقَدّس فَوضع أُصْبُعه فِيهَا فخرقها فَشد بهَا الْبراق

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن صُهَيْب بن سِنَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما عرض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ المَاء ثمَّ الْخمر ثمَّ اللَّبن أَخذ اللَّبن

فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أصبت الْفطْرَة وَبِه غذيت كل دَابَّة وَلَو أخذت الْخمر غويت وغوت أمتك وَكنت من أهل هَذِه وَأَشَارَ إِلَى الْوَادي الَّذِي يُقَال لَهُ وَادي جَهَنَّم فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ نَار تلتهب

وَأخرج أَحْمد وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَيْلَة أسرِي بِي وضعت قدمي حَيْثُ تُوضَع أَقْدَام الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من بَيت الْمُقَدّس وَعرض عليّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا أقرب النَّاس بِهِ شبها عُرْوَة بن مَسْعُود وَعرض عليّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا رجل جعد ضرب من الرِّجَال وَعرض عليّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِذا أقرب النَّاس بِهِ شبها صَاحبكُم

وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن جرير عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حِين أسرِي بِي لقِيت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فنعته فَإِذا هُوَ رجل مُضْطَرب رجل الرَّأْس كَأَنَّهُ من رجال شنوأة وَلَقِيت عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فنعته ربعَة أَحْمَر كَأَنَّمَا خرج من ديماس وَرَأَيْت إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنا أشبه وَلَده بِهِ وأتيت بإناءين فِي أَحدهمَا لبن وَفِي الآخر خمر قيل لي خُذ أَيهمَا شِئْت فَأخذت اللَّبن فَشَرِبت قيل لي هديت للفطرة أما لَو أَنَّك لَو أخذت الْخمر غوت أمتك

وَأخرج مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد رَأَيْتنِي فِي الْحجر وقريش تَسْأَلنِي عَن مسراي فسألوني عَن أَشْيَاء من بَيت الْمُقَدّس لم أثبتها فكربت كرباً مَا كربت مثله قطّ فرفعه الله لي أنظر إِلَيْهِ مَا سَأَلُونِي عَن شَيْء إِلَّا أنبأتهم بِهِ وَقد رَأَيْتنِي فِي جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء

صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وَإِذا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم وَإِذا رجل ضرب جعد كَأَنَّهُ من رجال شنوأة وَإِذا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم يُصَلِّي أقرب النَّاس بِهِ شبها عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَإِذا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم يُصَلِّي أشبه النَّاس بِهِ صَاحبكُم - يَعْنِي نَفسه - فحانت الصَّلَاة فأممتهم فَلَمَّا فرغت قَالَ قَائِل: يَا مُحَمَّد هَذَا مَالك خَازِن النَّار فَالْتَفت إِلَيْهِ فبدأني بِالسَّلَامِ

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أسريَ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مَالِكًا خَازِن النَّار فَإِذا رجل عَابس يعرف الْغَضَب فِي وَجهه

وَأخرج أَحْمد عَن عبيد بن آدم عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ بالجابية فَذكر فتح بَيت الْمُقَدّس فَقَالَ لكعب رَضِي الله عَنهُ: أَيْن ترى أَن أُصَلِّي قَالَ: خلف الصَّخْرَة

قَالَ: لَا

وَلَكِن أُصَلِّي حَيْثُ صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتقدم إِلَى الْقبْلَة فصلى

وَأخرج أَحْمد وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل والضياء فِي المختارة بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: لَيْلَة أسرِي بِالنَّبِيِّ دخل الْجنَّة فَسمع فِي جَانبهَا وجساً فَقَالَ: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا فَقَالَ: هَذَا بِلَال الْمُؤَذّن

فَقَالَ النَّبِي حِين جَاءَ إِلَى النَّاس: قد أَفْلح بِلَال رَأَيْت لَهُ كَذَا وَكَذَا فَلَقِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي قَالَ: وَهُوَ رجل آدم طَوِيل سبط شعره مَعَ أُذُنَيْهِ أَو فَوْقهمَا فَقَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا مُوسَى فَمضى فَلَقِيَهُ رجل فَرَحَّبَ بِهِ قَالَ: من هَذَا قَالَ: هَذَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَمضى فَلَقِيَهُ شيخ جليل مهيب فَرَحَّبَ بِهِ وَسلم عَلَيْهِ وَكلهمْ يسلم عَلَيْهِ قَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: أَبوك إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام

قَالَ: وَنظر فِي النَّار فَإِذا قوم يَأْكُلُون الْجِيَف قَالَ: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس

وَرَأى رجلا أَحْمَر أَزْرَق جدا قَالَ: من هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذَا عَاقِر النَّاقة فَلَمَّا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِد الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي ثمَّ الْتفت فَإِذا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يصلونَ مَعَه فَلَمَّا انْصَرف جِيءَ بقدحين أَحدهمَا عَن الْيَمين وَالْآخر عَن الشمَال فِي أَحدهمَا لبن وَفِي الْآخِرَة عسل فَأخذ اللَّبن فَشرب مِنْهُ فَقَالَ الَّذِي كَانَ مَعَه الْقدح: أصبت الْفطْرَة

وَأخرج أَحْمد وَأَبُو يعلى وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ:

أسرِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ جَاءَ من ليلته فَحَدثهُمْ بمسيره وبعلامة بَيت الْمُقَدّس وبعيرهم فَقَالَ نَاس: نَحن لَا نصدق مُحَمَّدًا بِمَا يَقُول: فَارْتَدُّوا كفَّارًا فَضرب الله رقابهم مَعَ أبي جهل

وَقَالَ أَبُو جهل: يخوفنا مُحَمَّد بشجرة الزقوم هاتوا تَمرا وزبداً فتزقموا بِهِ

وَرَأى الدَّجَّال فِي صورته رُؤْيا عين لَيْسَ برؤيا مَنَام

وَعِيسَى ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام فَسئلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الدَّجَّال فَقَالَ: رَأَيْته [] قيلمانياً أقمرهجان إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري كَأَن شعره أَغْصَان شَجَرَة

وَرَأَيْت عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام شَابًّا أَبيض جعد الرَّأْس حَدِيد الْبَصَر مبطن الْخلق وَرَأَيْت مُوسَى أسحم آدم كثير الشّعْر شَدِيد الْخلق وَنظرت إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا أنظر إِلَى أرب مِنْهُ إِلَّا نظرت إِلَيْهِ مني حَتَّى كَأَنَّهُ صَاحبكُم قَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام سلم على أَبِيك فَسلمت عَلَيْهِ

وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق قَتَادَة عَن أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام رجلا طوَالًا جَعدًا كَأَنَّهُ من رجال شنوأة وَرَأَيْت عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام مَرْبُوع الْخلق إِلَى الْحمرَة وَالْبَيَاض سبط الرَّأْس وَرَأَيْت مَالِكًا خَازِن جَهَنَّم والدجال فِي آيَات أراهن الله قَالَ: (فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه) (السَّجْدَة آيَة 73) فَكَانَ قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ يُفَسِّرهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسام قد لَقِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَأحمد وَابْن أبي شيبَة وَابْن ماجة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث والنشور عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لقِيت لَيْلَة أسرِي بِي إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام فتذاكروا أَمر السَّاعَة فَردُّوا أَمرهم إِلَى إِبْرَاهِيم فَقَالَ لَا علم لي بهَا فَردُّوا أَمرهم إِلَى مُوسَى فَقَالَ: لَا علم لي بهَا فَردُّوا أَمرهم إِلَى عِيسَى فَقَالَ: أما وجبتهُّا فَلَا يعلم بهَا أحد إِلَّا الله تَعَالَى

وَفِيمَا عهد إليّ رَبِّي أَن الدَّجَّال خَارج وَمَعِي قضيبان فَإِذا رَآنِي ذاب كَمَا يذوب الرصاص فيهلكه الله إِذا رَآنِي حَتَّى أَن الْحجر وَالشَّجر يَقُول: يَا مُسلم إِن تحتي كَافِرًا فتعال

فاقتله فيهلكهم الله ثمَّ يرجع النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وأوطانهم فَعِنْدَ ذَلِك يخرج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ فيطأون بِلَادهمْ لَا يأْتونَ على شَيْء إِلَّا أهلكوه لَا يَمرونَ على مَاء إِلَّا شربوه ثمَّ يرجع إِلَيّ فيشكونهم فأدعو الله تَعَالَى عَلَيْهِم فيهلكهم ويميتهم حَتَّى تجيف الأَرْض من نَتن ريحهم فَينزل الله الْمَطَر فيجترف أَجْسَادهم حَتَّى يقذفهم فِي الْبَحْر

فَفِيمَا عهد إليَّ رَبِّي إِن كَانَ كَذَلِك أَن السَّاعَة كالحامل المتم لَا يدْرِي أَهلهَا مَتى تفجؤهم بولادتها لَيْلًا أَو نَهَارا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ أَنه حدث عَن لَيْلَة أسرِي بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا زايل الْبراق حَتَّى فتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاوَات فَرَأى الْجنَّة وَالنَّار ووعد الْآخِرَة أجمع ثمَّ عَاد وَلَفظ ابْن مرْدَوَيْه فأري مَا فِي السَّمَاوَات وأري مَا فِي الأَرْض قيل لَهُ أَي دَابَّة الْبراق قَالَ: دَابَّة طَوِيل أَبيض خطوه مد الْبَصَر

وَأخرج أَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن عَسَاكِر عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة عرج بِي إِلَى السَّمَاء مَا مَرَرْت بسماء إِلَّا وجدت اسْمِي فِيهَا مَكْتُوبًا مُحَمَّد رَسُول الله وَأَبُو بكر الصّديق خَلْفي

وَأخرج الْبَزَّار عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما عرج إِلَى السَّمَاء مَا مَرَرْت بسماء إِلَّا وجدت اسْمِي فِيهَا مَكْتُوبًا مُحَمَّد رَسُول الله

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَرَرْت لَيْلَة أسرِي بِي على الْمَلأ الْأَعْلَى فَإِذا جِبْرِيل كالحلس الْبَالِي من خشيَة الله وَفِي لفظ لِابْنِ مرْدَوَيْه مَرَرْت على جِبْرِيل فِي السَّمَاء الرَّابِعَة فَإِذا هُوَ كَأَنَّهُ حلْس بَال من خشيَة الله

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الْمعرفَة عَن عبد الرَّحْمَن بن قرط رَضِي الله عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَيْلَة أسرِي بِي إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى كَانَ بَين الْمقَام وزمزم جِبْرِيل عَن يَمِينه وَمِيكَائِيل عَن يسَاره فطَارَا بِهِ حَتَّى بلغ السَّمَاوَات العلى فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: سَمِعت تسبيحاً فِي السَّمَوَات العلى مَعَ تَسْبِيح كثير سبحت السَّمَاوَات العلى من ذِي المهابة مشفقات من ذِي العلوّ بِمَا علا سُبْحَانَ الْعلي الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرى بِي جِبْرِيل سَمِعت تسبيحاً فِي السَّمَاوَات العلى فَرَجَفَ فُؤَادِي فَقَالَ لي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: تقدم يَا مُحَمَّد وَلَا تخف فَإِن اسْمك مَكْتُوب على الْعَرْش لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله

وَأخرج ابْن أبي شيبَة ووَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة أسرِي بِي لما نتهينا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة نظرت فَوق فَإِذا رعد وبرق وصواعق وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فِيهَا الْحَيَّات والعقارب ترى من خَارج بطونهم فَقلت: من هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكلَة الرِّبَا فَلَمَّا نزلت إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا نظرت إِلَى أَسْفَل مني فَإِذا أَنا برهج ودخان وأصوات فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل قَالَ: هَذِه الشَّيَاطِين يحومون على أعين بني آدم لَا يتفكرون فِي ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَوْلَا ذَلِك لرأوا الْعَجَائِب

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي مرت بالكوثر فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك رَبك فَضربت بيَدي على تربته فَإِذا مسك أذفر

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لما عرج بِي إِلَى السَّمَاء رَأَيْت نَهرا يطرد عجاجاً مثل السهْم أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل حافتاه قباب من در مجوف فَضربت بيَدي إِلَى جَانِبه فَإِذا مسكة ذفراء فضربيت بيَدي إِلَى رضراضها فَإِذا در

قلت: يَا جِبْرِيل مَا هَذَا النَّهر قَالَ: هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك رَبك

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت إِبْرَاهِيم لَيْلَة أسرِي بِي وَهُوَ أشبه من رَأَيْت بصاحبكم

وَأخرج أَحْمد وَابْن أبي حَاتِم وَابْن حبَان وَابْن رمدويه عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: عرج بِي إِلَى السَّمَاء فَرَأَيْت إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فَقَالَ إِبْرَاهِيم: يَا جِبْرِيل من هَذَا الَّذِي مَعَك فَقَالَ جِبْرِيل: هَذَا مُحَمَّد فَرَحَّبَ بِي وَقَالَ: مر أمتك فليكثروا من غراس الْجنَّة فَإِن

تربَتهَا طيبَة وأرضها وَاسِعَة

فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا غراس الْجنَّة قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتيت لَيْلَة أسرِي بِي على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أخبر أمتك أَن الْجنَّة قيعان وَأَن غراسها سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر

وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقِيت إِبْرَاهِيم لَيْلَة أسرِي بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أَقْْرِئ أمتك مني السَّلَام وَأخْبرهمْ أَن الْجنَّة طيبَة التربة عذبة المَاء وَأَنَّهَا قيعان وَأَن غراسها: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي رَأَيْت الْجنَّة من درة بَيْضَاء فَقلت يَا جِبْرِيل إِنَّهُم يَسْأَلُونِي عَن الْجنَّة قَالَ: أخْبرهُم أَن أرْضهَا قيعان وترابها الْمسك

وَأخرج و [] الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث والنشور عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي مَكْتُوبًا على بَاب الْجنَّة الصَّدَقَة بِعشر أَمْثَالهَا وَالْقَرْض بِثمَانِيَة عشر فَقلت: يَا جِبْرِيل مَا بَال الْقَرْض أفضل من الصَّدَقَة قَالَ: لِأَن السَّائِل يسْأَل وَعِنْده والمستقرض لَا يستقرض إِلَّا من حَاجَة

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي إِلَى السَّمَاء أدخلت الْجنَّة فَوَقَعت على شَجَرَة من أَشجَار الْجنَّة لم أر فِي الْجنَّة أحسن مِنْهَا وَلَا أَبيض وَرقا وَلَا أطيب ثَمَرَة فتناولت ثَمَرَة من ثمراتها فَأَكَلتهَا فَصَارَت نُطْفَة فِي صلبي فَلَمَّا هَبَطت إِلَى الأَرْض واقعت خَدِيجَة فَحملت بفاطمة رَضِي الله عَنْهَا فَإِذا أَنا اشْتقت إِلَى ريح الْجنَّة شممت ريح فَاطِمَة

وَأخرج الْحَاكِم وَضَعفه عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي اله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بسفرجلة فَأَكَلتهَا لَيْلَة أسرِي بِي فعلقت خَدِيجَة بفاطمة فَكنت إِذا اشْتقت إِلَى رَائِحَة الْجنَّة شممت رَقَبَة فَاطِمَة

وَأخرج الْبَزَّار وَأَبُو قَاسم الْبَغَوِيّ وَابْن قَانِع كِلَاهُمَا فِي مُعْجم الصَّحَابَة وَابْن عدي

وَابْن عَسَاكِر عَن عبد الله بن أسعد بن زُرَارَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة أسرِي بِي انْتَهَيْت إِلَى قصر من لؤلؤة وَلَفظ الْبَغَوِيّ أسرِي بِي فِي قفص من لؤلؤة فرَاشه ذهب يتلألأ نورا وَأعْطيت ثَلَاثًا: إِنَّك سيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقأئد الغر المعجلين

وَأخرج ابْن قَانِع وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن أبي الْحَمْرَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَإِذا على سَاق الْعَرْش الْأَيْمن لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله

وَأخرج ابْن عدي وَابْن عَسَاكِر عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله: لما عرج بِي رَأَيْت على سَاق الْعَرْش مَكْتُوبًا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله أيدته بعلي

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن عَليّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْلَة أسرِي بِي رَأَيْت على الْعَرْش مَكْتُوبًا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله أَبُو بكر الصّديق عمر الْفَارُوق عُثْمَان ذُو النورين

وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَاد والخطيب وَابْن عَسَاكِر عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي فِي الْعَرْش فريدة خضراء فِيهَا مَكْتُوب بِنور أَبيض لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله أَبُو بكر الصّديق عمر الْفَارُوق

وَأخرج الْبَزَّار عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يعلم رَسُوله الْأَذَان أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِدَابَّة يُقَال لَهَا الْبراق فَذهب يركبهَا فاستصعبت فَقَالَ لَهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أسكني فوَاللَّه مَا ركبك عبد أكْرم على الله من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فركبها حَتَّى انْتهى إِلَى الْحجاب الَّذِي يَلِي الرَّحْمَن فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ خرج عَلَيْهِ ملك من الْحجاب فَقَالَ الْملك: الله أكبر الله أكبر فَقيل من وَرَاء الْحجاب: صدق عَبدِي أَنا أكبر أَنا أكبر ثمَّ قَالَ الْملك: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَقيل هَل من وَرَاء الْحجاب: صدق عَبدِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا

فَقَالَ الْملك: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَقيل من وَرَاء الْحجاب: صدق عَبدِي أَنا أرْسلت مُحَمَّدًا فَقَالَ الْملك: حيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح قد قَامَت الصَّلَاة

ثمَّ قَالَ: الله أكبر الله أكبر فَقيل من وَرَاء الْحجاب: صدق عَبدِي أَنا أكبر أَنا أكبر ثمَّ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله فَقيل من وَرَاء الْحجاب: صدق عَبدِي لَا إِلَه إِلَّا

أَنا ثمَّ أَخذ الْملك بيد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقدمه فَأم أهل السَّمَوَات فيهم آدم ونوح فَيَوْمئِذٍ أكمل الله لمُحَمد الشّرف على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض

وَأخرج أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء فَانْتهى إِلَى مَكَان من السَّمَاء وقف فِيهِ وَبعث الله ملكا فَقَامَ من السَّمَاء مقَاما مَا قامه قبل ذَلِك فَقيل لَهُ: علمه الْأَذَان فَقَالَ الْملك: الله أكبر الله أكبر فَقَالَ الله: صدق عَبدِي أَنا الله الْأَكْبَر فَقَالَ الْملك: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَقَالَ الله: صدق عَبدِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فَقَالَ الْملك: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَقَالَ الله: صدق عَبدِي أَنا أَرْسلتهُ وَأَنا اخترته وَأَنا ائتمنته فَقَالَ: حَيّ على الصَّلَاة فَقَالَ الله: صدق عَبدِي ودعا إِلَيّ فريضتي وحقي فَمن أَتَاهَا محتسباً كَانَت كَفَّارَة لكل ذَنْب فَقَالَ الْملك: حَيّ على الْفَلاح فَقَالَ الله: صدق عَبدِي أَنا أَقمت فرائضها وعدتها ومواقيتها ثمَّ قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تقدم فَتقدم فائتم بِهِ أهل السَّمَوَات فتم لَهُ شرفه على سَائِر الْخَلَائق

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي إِلَى السَّمَاء أذن جِبْرِيل فظنت الْمَلَائِكَة أَنه يُصَلِّي بهم فقدّمني فَصليت بِالْمَلَائِكَةِ

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسرِي بِهِ إِلَى السَّمَاء أوحى إِلَيْهِ بِالْأَذَانِ فَنزل بِهِ فَعلمه جِبْرِيل

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - علم الْأَذَان لَيْلَة أسرِي بِهِ وفرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة لَيْلَة أسرِي بِهِ

وَأخرج أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: فرض الله على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة خمسين صَلَاة فَسَأَلَ ربه فَجَعلهَا خمس صلوَات

وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَت الصَّلَاة خمسين وَالْغسْل من الْجَنَابَة سبع مَرَّات وَغسل الْبَوْل من الثَّوْب سبع مَرَّات فَلم يزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل حَتَّى الصَّلَاة خمْسا وَغسل الْجَنَابَة مرّة وَغسل الْبَوْل من الثَّوْب مرّة

وَأخرج مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أسريَ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْتهى إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى وإليها يَنْتَهِي مَا يصعد بِهِ وَفِي لفظ: يعرج بِهِ من الْأَرْوَاح حَتَّى يقبض مِنْهَا وإليها يَنْتَهِي مَا يهْبط من فَوْقهَا حَتَّى يقبض (إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى) (النَّجْم آيَة 16) قَالَ: غشيها فرَاش من ذهب

وَأعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَوَات الْخمس وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة وَغفر لمن لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا من أمته الْمُقْحمَات

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لما أسرِي بِي انْتَهَيْت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا نبقها أَمْثَال القلال

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ - وَسلم لما انْتهى إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى رأى فراشا من ذهب يلوذ بهَا

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أَسمَاء بنت أبي بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ يَقُول: يصف سِدْرَة الْمُنْتَهى فَقَالَ: فِيهَا فرَاش من ذهب وَثَمَرهَا كالقلال وأوراقها كآذان الفيلة قلت: يَا رَسُول مَا رَأَيْت عِنْدهَا قَالَ: رَأَيْته عِنْدهَا يَعْنِي ربه عز وَجل

وَأخرج و [] ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا مَرَرْت لَيْلَة أسرِي بِي بملأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا لي يَا مُحَمَّد مر أمتك بالحجامة

وَأخرج أَحْمد ووَالْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا مَرَرْت بملأ من الْمَلَائِكَة لَيْلَة أسرِي بِي إِلَّا قَالُوا عَلَيْك بالحجامة وَفِي لفظ مر أمتك بالحجامة

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا مَرَرْت على مَلأ من الْمَلَائِكَة لَيْلَة أسرِي بِي إِلَّا أمروني بالحجامة

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَعَثَنِي الله لَيْلَة أسرِي بِي إِلَى يَأْجُوج وَمَأْجُوج أدعوهم إِلَى دين الله وعبادته فَأمروا أَن يجيبوني وهم فِي النَّار مَعَ من يُحْصى من ولد آدم وَولد إِبْلِيس

وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَابْن سعد وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَابْن مرْدَوَيْه عَن

أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ فَكَانَ بِذِي طوى قَالَ: جِبْرِيل إِن قومِي لَا يصدقوني قَالَ يصدقك أَبُو بكر وَهُوَ الصّديق

وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ وَابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: لما أسرِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى أصبح يحدث النَّاس بذلك فَارْتَد نَاس مِمَّن كَانُوا آمنُوا بِهِ وَصَدقُوهُ وَسعوا بذلك إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالُوا: هَل لَك فِي صَاحبك يزْعم أَنه أسرِي بِهِ اللَّيْلَة إِلَى بَيت الْمُقَدّس

قَالَ: أَو قَالَ ذَلِك قَالُوا: نعم

قَالَ: لَئِن قَالَ ذَلِك لقد صدق

قَالُوا: فتصدقه أَنه ذهب اللَّيْلَة إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَجَاء قبل أَن يصبح قَالَ: نعم

إِنِّي لَأُصَدِّقهُ بِمَا هُوَ أبعد من ذَلِك أصدقه بِخَبَر السَّمَاء فِي غدْوَة أَو رَوْحَة

فَلذَلِك سمي أَبَا بكر الصّديق

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَأحمد وَالنَّسَائِيّ وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه وَأَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل والضياء فِي المختارة وَابْن عَسَاكِر بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما كَانَ لَيْلَة أسرِي بِي فَأَصْبَحت فِي مَكَّة قطعت وَعرفت أَن النَّاس مُكَذِّبِي فَقَعَدت مُعْتَزِلا حَزينًا فَمر بِهِ عدوّ الله أَبُو جهل فجَاء حَتَّى جلس إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ كل كَانَ من شَيْء قَالَ: نعم

قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ: قَالَ إِنِّي أسرِي بِي اللَّيْلَة قَالَ: إِلَى أَيْن قَالَ: إِلَى بَيت الْمُقَدّس قَالَ: ثمَّ أَصبَحت بَين ظهرانينا قَالَ: نعم

فَلم يرد أَن يكذبهُ مَخَافَة أَن يجحده الحَدِيث إِن دَعَا قومه إِلَيْهِ

قَالَ: أَرَأَيْت إِن دَعَوْت قَوْمك أتحدثهم بِمَا حَدَّثتنِي قَالَ: نعم

قَالَ: هيا يَا معشر بني كَعْب بن لؤَي فانقضت إِلَيْهِ الْمجَالِس وجاؤوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهَا

قَالَ: حدث قَوْمك بِمَا حَدَّثتنِي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي أسرِي بِي اللَّيْلَة قَالُوا: إِلَى أَيْن قَالَ: إِلَى بَيت الْمُقَدّس قَالُوا إيليا قَالَ: نعم

قَالُوا: ثمَّ أَصبَحت بَين ظهرانينا قَالَ: نعم

قَالَ: فَمن بَين مُصَفِّق وَمن بَين وَاضع يَده على رَأسه معجبا قَالُوا: وتستطيع أَن تنْعَت الْمَسْجِد وَفِي الْقَوْم من قد سَافر إِلَيْهِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَذَهَبت أَنعَت فَمَا زلت أَنعَت حَتَّى الْتبس عليّ بعض النَّعْت فجيء بِالْمَسْجِدِ وَأَنا أنظر إِلَيْهِ حَتَّى وضع دون دَار عقيل أَو عقال فنعته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ فَقَامَ الْقَوْم أما النَّعْت فوَاللَّه لقد أصَاب

وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن جرير عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما كذبتني قُرَيْش لما أسرِي بِي إِلَى بَيت الْمُقَدّس قُمْت فِي الْحجر فجلا الله لي بَيت الْمُقَدّس فطفقت أخْبرهُم عَن آيَاته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ

وَأخرج أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن عُرْوَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَت قُرَيْش لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخْبرهُم بمسراه إِلَى بَيت الْمُقَدّس أخبرنَا مَاذَا ضل عَنَّا وائتنا بِآيَة مَا تَقول: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ضلت مِنْكُم نَاقَة وَرْقَاء عَلَيْهَا بر لكم فَلَمَّا قدمت عَلَيْهِم قَالُوا انعت لنا مَا كَانَ عَلَيْهَا وَنشر لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا عَلَيْهَا كُله ينظر إِلَيْهِ فَأخْبرهُم بِمَا كَانَ عَلَيْهَا وهم قيام ينظرُونَ فَزَادَهُم ذَلِك شكا وتكذيباً

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن السّديّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أسريَ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبر قومه بالرفقة والعلامة فِي العير قَالُوا: فَمَتَى تَجِيء قَالَ: يَوْم الْأَرْبَعَاء فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم أشرفت قُرَيْش ينظرُونَ وَقد ولى النَّهَار وَلم تجئ فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فزيد لَهُ فِي النَّهَار سَاعَة وحبست عَلَيْهِ الشَّمْس فَلم ترد الشَّمْس على أحد إِلَّا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى يُوشَع بن نون عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَاتل الجبارين

وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَابْن جرير عَن عبد الله بن شَدَّاد رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أسرِي بِالنَّبِيِّ أَتَى بِدَابَّة دون الْبَغْل وَفَوق الْحمار يضع حَافره عِنْد مُنْتَهى طرفه يُقَال لَهُ الْبراق

وَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعير للْمُشْرِكين فنفرت فَقَالُوا: يَا هَؤُلَاءِ مَا هَذَا فَقَالُوا مَا نرى شَيْئا مَا هَذِه الرَّائِحَة الأريح حَتَّى أَتَى بَيت الْمُقَدّس فَأتى بإناءين: فِي أَحدهمَا خمر وَفِي الآخر لبن فَأخذ اللَّبن فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: هديت وهديت أمتك

وَأخرج ابْن سعد وَابْن عَسَاكِر عَن الْوَاقِدِيّ عَن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سُبْرَة وَغَيره من رِجَاله قَالُوا: كَانَ رَسُول الله يسْأَل ربه أَن يرِيه الْجنَّة وَالنَّار فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة السبت لسبع عشرَة خلت من رَمَضَان قبل الْهِجْرَة بِثمَانِيَة عشر شهرا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَائِم فِي بَيته ظهرا أَتَاهُ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل فَقَالَا: انْطلق إِلَى مَا سَأَلت الله فَانْطَلقَا بِهِ إِلَى السَّمَوَات مَا بَين الْمقَام وزمزم فَأتي بالمعراج فَإِذا هُوَ أحسن شَيْء منْظرًا فعرج بِهِ إِلَى السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء فلقي فِيهَا الْأَنْبِيَاء وانْتهى إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى وَرَأى الْجنَّة وَالنَّار

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلما انْتَهَيْت إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة لم أسمع إِلَّا

صريف الأقلام وفرضت عَلَيْهِ الصَّلَوَات الْخمس وَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فصلى برَسُول الله الصَّلَوَات فِي مواقيتها

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنْذُ أسرِي بِهِ رِيحه ريح عروس وَأطيب من ريح عروس

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن جُبَير قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ عَن لَيْلَة أسرِي بِهِ فَقَالَ: أسرِي بِبدنِهِ

وَأخرج أَبُو نعيم فِي الدَّلَائِل عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دحْيَة الْكَلْبِيّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى قَيْصر وَكتب إلبه مَعَه فَلَقِيَهُ بحمص ودعا الترجمان فَإِذا فِي الْكتاب من مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى قَيْصر صَاحب الرّوم فَغَضب أَخ لَهُ وَقَالَ: تنظر فِي كتاب رجل بَدَأَ بِنَفسِهِ قبلك وَسماك قَيْصر صَاحب الرّوم وَلم يذكر أَنَّك ملك قَالَ لَهُ قَيْصر: إِنَّك وَالله مَا علمت أَحمَق صَغِيرا مَجْنُونا كَبِيرا: تُرِيدُ أَن تحرق كتاب رجل قبل أَن أنظر فِيهِ فلعمري لَئِن كَانَ رَسُول الله كَمَا يَقُول: فنفسه أَحَق أَن يبْدَأ بهَا مني وَإِن كَانَ سماني صَاحب الرّوم فَلَقَد صدق مَا أَنا إِلَّا صَاحبهمْ وَمَا أملكهم وَلَكِن الله سخرهم لي وَلَو شَاءَ لسلطهم عَليّ

ثمَّ قَرَأَ قَيْصر الْكتاب فَقَالَ: يَا معشر الرّوم إِنِّي لأَظُن هَذَا الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى ابْن مَرْيَم وَلَو أعلم أَنه هُوَ مشيت إِلَيْهِ حَتَّى أخدمه بنفسي لَا يسْقط وضوءه إِلَّا على يَدي

قَالُوا: مَا كَانَ الله ليجعل ذَلِك فِي الإِعراب الْأُمِّيين ويدعنا وَنحن أهل الْكتاب

قَالَ: فَأصل الْهدى بيني وَبَيْنكُم الإِنجيل نَدْعُو بِهِ فنفتحه فَإِن كَانَ هُوَ إِيَّاه اتبعناه وَإِلَّا أعدنا عَلَيْهِ خواتمه كَمَا كَانَت إِنَّمَا هِيَ خَوَاتِيم مَكَان خَوَاتِم

قَالَ: وعَلى الإِنجيل يَوْمئِذٍ اثْنَا عشر خَاتمًا من ذهب ختم عَلَيْهِ هِرقل فَكَانَ كل ملك يليله بعده ظَاهر عَلَيْهِ بِخَاتم آخلا حَتَّى ألْقى ملك قَيْصر وَعَلِيهِ إثنا عشر خَاتمًا يخبر أوّلهم لآخرهم أَنه لَا يحل لَهُم أَن يفتحوا الْإِنْجِيل فِي دينهم وَإِنَّهُم يَوْم يفتحونه يُغير دينهم وَيهْلك ملكهم فَدَعَا بالإنجيل ففض عَنهُ أحد عشر خَاتمًا حَتَّى بَقِي عَلَيْهِ خَاتم وَاحِد فَقَامَتْ الشمامسة والأساقفة والبطارقة فشقوا ثِيَابهمْ وصكوا وُجُوههم ونتفوا رؤوسهم قَالَ: مَا لكم قَالُوا: الْيَوْم يهْلك ملك بَيْتك وَتغَير دين قَوْمك

قَالَ: فَأصل الْهدى عِنْدِي

قَالُوا: لَا تعجل حَتَّى نسْأَل عَن هَذَا ونكاتبه وَنَنْظُر فِي أمره قَالَ: فَمن نسْأَل عَنهُ قَالُوا: قوما كثيرا بِالشَّام فَأرْسل

يَبْتَغِي قوما يسألهم

فَجمع لَهُ أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه فَقَالَ: أَخْبرنِي يَا أَبَا سُفْيَان عَن هَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم

فَلم يأل أَن يصغر أمره مَا اسْتَطَاعَ قَالَ: أَيهَا الْملك لَا يكبر عَلَيْك شَأْنه إِنَّا لنقول: هُوَ سَاحر ونقول: هُوَ شَاعِر ونقول: هُوَ كَاهِن

قَالَ قَيْصر: كَذَلِك وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ كَانَ يُقَال للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام قبله

قَالَ: أَخْبرنِي عَن مَوْضِعه فِيكُم

قَالَ: هُوَ أوسطنا

قَالَ: كَذَلِك بعث الله كل نَبِي من أَوسط قومه

أَخْبرنِي عَن أَصْحَابه

قَالَ: غلماننا وأحداث أسنانهم والسفهاء أما رؤساؤنا فَلم يتبعهُ مِنْهُم أحد

قَالَ: أُولَئِكَ وَالله تبَاع الرُّسُل أما الْمَلأ والرؤوس فَأَخَذتهم الحمية

قَالَ: أَخْبرنِي عَن أَصْحَابه هَل يفارقونه بَعْدَمَا يدْخلُونَ فِي دينه قَالَ: مَا يُفَارِقهُ مِنْهُم أحد

قَالَ: فَلَا يزَال دَاخل مِنْكُم فِي دينه قَالَ: نعم

قَالَ: مَا تزيدونني عَلَيْهِ إِلَّا بَصِيرَة وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليوشكن أَن يغلب على مَا تَحت قدمي

يَا معشر الرّوم هلموا إِلَى أَن نجيب هَذَا الرجل إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ ونسأله الشَّام أَن لَا يطَأ علينا أبدا

فَإِنَّهُ لم يكْتب قطّ نَبِي من الْأَنْبِيَاء إِلَى ملك من الْمُلُوك يَدعُوهُ إِلَى الله فَيُجِيبهُ إِلَى مَا دَعَاهُ ثمَّ يسْأَله مَسْأَلَة إِلَّا أعطَاهُ مَسْأَلته مَا كَانَت فأطيعوني

قَالُوا: لَا نطاوعك فِي هَذَا أبدا

قَالَ أَبُو سُفْيَان: وَالله مَا يَمْنعنِي من أَقُول عَلَيْهِ قولا أسْقطه من عينه إِلَّا أَنِّي أكره أَن أكذب عِنْده كذبة يَأْخُذهَا عَليّ وَلَا يصدقني حَتَّى ذكرت قَوْله لَيْلَة أسرِي بِهِ

قلت: أَيهَا الْملك أَنا أخْبرك عَنهُ خَبرا تعرف أَنه قد كذب

قَالَ: وَمَا هُوَ قلت: إِنَّه يزْعم لنا أَنه خرج من أَرْضنَا أَرض الْحرم فِي لَيْلَة فجَاء مَسْجِدكُمْ هَذَا مَسْجِد إيليا وَرجع إِلَيْنَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة قبل الصَّباح قَالَ: وبطريق إيليا عِنْد رَأس قَيْصر

قَالَ البطريق: قد علمت تِلْكَ اللَّيْلَة

فَنظر إِلَيْهِ قَيْصر فَقَالَ مَا علمك بِهَذَا قَالَ: إِنِّي كنت لَا أَبيت لَيْلَة حَتَّى أغلق أَبْوَاب الْمَسْجِد فَلَمَّا كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة أغلقت الْأَبْوَاب كلهَا غير بَاب وَاحِد غلبني فاستعنت عَلَيْهِ عمالي وَمن يحضرني كلهم فعالجته فَلم نستطع أَن نحركه كَأَنَّمَا نزاول بِهِ جبلا فدعوت الناجرة فنظروا إِلَيْهِ فَقَالُوا هَذَا بَاب سقط عَلَيْهِ [] التجاق والبنيان فَلَا نستطيع أَن نحركه حَتَّى نصبح فَنَنْظُر من ايْنَ أَتَى فَرَجَعت وَتركته مَفْتُوحًا فَلَمَّا أَصبَحت غَدَوْت فَإِذا الْحجر الَّذِي من زَاوِيَة الْبَاب مثقوب وَإِذا فِيهِ أثر مربط الدَّابَّة فَقلت لِأَصْحَابِي مَا حبس هَذَا الْبَاب اللَّيْلَة إِلَّا على نَبِي فقد صلى اللَّيْلَة فِي مَسْجِدنَا

فَقَالَ قَيْصر: يَا معشر الرّوم أَلَيْسَ تعلمُونَ أَن

بَين عِيسَى وَبَين السَّاعَة نَبِي بشركم بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا هُوَ النَّبِي الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى فأجيبوه إِلَى مَا دعل إِلَيْهِ

فَلَمَّا رأى نفورهم قَالَ: يَا معشر الرّوم دعَاكُمْ ملككم يختبركم كَيفَ صلابتكم فِي دينكُمْ فشتمتموه وسببتموه وَهُوَ بَين أظْهركُم فَخَروا لَهُ سجدا

وَأخرج الوَاسِطِيّ فِي فَضَائِل بَيت الْمُقَدّس عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ وقف الْبراق فِي الْموقف الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ الْأَنْبِيَاء ثمَّ دخل من بَاب النَّبِي وَجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَمَامه فأضاء لَهُ ضوء كَمَا تضيء الشَّمْس ثمَّ تقدم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَمَامه حَتَّى كَانَ من شَامي الصَّخْرَة فَأذن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَنزلت الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام من السَّمَاء وَحشر الله لَهُم الْمُرْسلين عَلَيْهِم السَّلَام فَأَقَامَ الصَّلَاة ثمَّ تقدم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَلَائِكَةِ وَالْمُرْسلِينَ ثمَّ تقدم قُدَّام ذَلِك إِلَى مَوضِع فَوضع لَهُ مرقاة من ذهب ومرقاة من فضَّة وَهُوَ الْمِعْرَاج حَتَّى عرج جِبْرِيل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السَّمَاء

وَأخرج الوَاسِطِيّ من طَرِيق أبي حُذَيْفَة مُؤذن بَيت الْمُقَدّس عَن جدته أَنَّهَا رَأَتْ صَفِيَّة زوج النَّبِي رَضِي الله عَنْهَا وكعبا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: لَهَا يَا أم الْمُؤمنِينَ صلي هَهُنَا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بالنبيين عَلَيْهِم السَّلَام حِين أسرِي بِهِ هَهُنَا وَأَوْمَأَ أَبُو حُذَيْفَة بِيَدِهِ على الْقبْلَة القصوى فِي دبر الصَّخْرَة

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن الْوَلِيد بن مُسلم رَضِي الله عَنهُ قَالَ: حَدثنِي بعض أشياخنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ظهر على بَيت الْمُقَدّس لَيْلَة أسرِي بِهِ فَإِذا عَن يَمِين الْمَسْجِد وَعَن يسَاره نوران ساطعان فَقلت يَا جِبْرِيل مَا هَذَانِ النوران قَالَ: أما هَذَا الَّذِي عَن يَمِينك فَإِنَّهُ محراب أَخِيك دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَام - وَأما هَذَا الَّذِي عَن يسارك فعلى قبر أختك مَرْيَم

وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر عَن الْحسن بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَينا أَنا نَائِم فِي الْحجر جَاءَنِي جِبْرِيل فهمزني بِرجلِهِ فَجَلَست فَلم أر شَيْئا فعدت لمضجعي فَجَاءَنِي الثَّانِيَة فهمزني بقدمه فَجَلَست فَلم أر شَيْئا فعدت لمضجعي فَجَاءَنِي فهمزني بقدمه فَجَلَست فَأخذ بعضدي فَقُمْت مَعَه فَخرج إِلَى بَاب الْمَسْجِد فَإِذا دَابَّة أَبيض بَين الْحمار والبغل لَهُ فِي فَخذيهِ جناحتن يحفز بهما رجلَيْهِ يضع يَده فِي مُنْتَهى طرفه فَحَمَلَنِي ثمَّ

خرج لَا يفوتني وَلَا أفوته

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ عَن أبي مَالك وَأبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَن مرّة الْهَمدَانِي عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} الْآيَة

قَالَ: أَتَى جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة فَحَمله على الْبراق فَسَار بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَمر بِأبي سُفْيَان فِي بعض الطَّرِيق وَهُوَ يحتلب نَاقَة فنفرت من حس الْبراق فأهرقت اللَّبن فسب أَبُو سُفْيَان من نفرها ونَدَّ جمل لَهُم أَوْرَق فَذهب إِلَى بعض الْمِيَاه فطلبوه فَأَخَذُوهُ وَمر بواد فَنفخ عَلَيْهِ من ريح الْمسك فَسَأَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا هَذَا الرّيح فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل بَيت من الْمُسلمين حرقوا بالنَّار فِي الله عز وَجل

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عبد الله بن حِوَالَة الْأَزْدِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي عمودا أَبيض كَأَنَّهُ لؤلؤة تحمله الْمَلَائِكَة قلت: مَا تحملون قَالُوا: عَمُود الْإِسْلَام أمرنَا أَن نضعه بِالشَّام

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} قَالَ: أسرِي بِهِ من شعب أبي طَالب

وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: مَا فقدت جَسَد رَسُول الله وَلَكِن الله أسرى بِرُوحِهِ

وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن جرير عَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: أَنه كَانَ إِذا سُئِلَ عَن مسرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كَانَت رُؤْيا من الله صَادِقَة

وَأخرج ابْن النجار فِي تَارِيخه عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَانِي جِبْرِيل بِالْبُرَاقِ فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: قد رَأَيْتهَا يَا رَسُول الله قَالَ: صفها لي قَالَ: بَدَنَة

قَالَ: صدقت قد رَأَيْتهَا يَا أَبَا بكر

وَأخرج الْخَطِيب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أسرِي بِي إِلَى السَّمَاء قربني الله تَعَالَى حَتَّى كَانَ بيني وَبَينه كقاب قوسين أَو أدنى لَا بل أدنى وَعَلمنِي المسميات قَالَ: يَا مُحَمَّد قلت: لبيْك يَا رب قَالَ: هَل غمك أَن جعلتك آخر النَّبِيين قلت: يَا رب لَا

قَالَ: فَهَل غم أمتك أَن جعلتهم آخر الْأُمَم قلت: يَا رب لَا قَالَ: أبلغ أمتك مني السَّلَام - وَأخْبرهمْ أَنِّي جعلتهم آخر الْأُمَم لأفضح الْأُمَم عِنْدهم وَلَا أفضحهم عِنْد الْأُمَم

وَأخرج الطَّبَرَانِيّ عَن أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسرِي بِهِ: إِنِّي أُرِيد أَن أخرج إِلَى قُرَيْش فَأخْبرهُم فَكَذبُوهُ وَصدقه أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ - فَسُمي يَوْمئِذٍ الصّديق

وَأخرج ابْن جرير من طَرِيق ابْن شهَاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أَخْبرنِي ابْن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أسرِي بِهِ على الْبراق - وَهِي دَابَّة إِبْرَاهِيم الَّتِي كَانَ يزور عَلَيْهَا الْبَيْت الْحَرَام يَقع حافرها مَوضِع طرفها

قَالَ: فمرت بعير من عيرات قُرَيْش - بواد من تِلْكَ الأودية فنفر بعير عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ سَوْدَاء وزرقاء حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيليا فَأتي بقدحين قدح خمر وقدح لبن فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّبن

قَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: هديت إِلَى الْفطْرَة لَو أخذت قدح الْخمر غوت أمتك

قَالَ ابْن شهَاب رَضِي الله عَنهُ: فَأَخْبرنِي ابْن الْمسيب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقِي هُنَاكَ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فنعتهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أما مُوسَى فَضرب رجل الرَّأْس كَأَنَّهُ من رجال شنوأة وَأما عِيسَى فَرجل أَحْمَر كَأَنَّمَا خرج من ديماس فَأشبه من رَأَيْت بِهِ عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَأما إِبْرَاهِيم فَأَنا أشبه وَلَده بِهِ

فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله حدث قُريْشًا أَنه أسرِي بِهِ فَارْتَد نَاس كثير بَعْدَمَا أَسْلمُوا

قَالَ أَبُو سَلمَة: فَأتى أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ - فَقيل لَهُ: هَل لَك فِي صَاحبك يزْعم أَنه أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ رَجَعَ فِي لَيْلَة وَاحِدَة

قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: أَو قَالَ ذَلِك قَالُوا: نعم

قَالَ: فَأشْهد إِن كَانَ قَالَ ذَلِك لقد صدق

قَالُوا: أفتشهد أَنه جَاءَ الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة قَالَ: إِنِّي أصدقه بأبعد من ذَلِك أصدقه بِخَبَر السَّمَاء

وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف عَن ابْن جريج قَالَ نَافِع بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ وَغَيره: لما أصبح النَّبِي من اللَّيْلَة الَّتِي أسرِي بِهِ فِيهَا لم يرعه إِلَّا جِبْرِيل عَلَيْهِ الشَّمْس يتدلى حِين زاغت الشَّمْس وَلذَلِك سميت الأولى فَأمر بِلَالًا يَصِيح فِي النَّاس الصَّلَاة جَامِعَة فَاجْتمعُوا فصلى جِبْرِيل بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - للنَّاس طوّل الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين ثمَّ قصروا فِي الْبَاقِيَتَيْنِ ثمَّ سلم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس ثمَّ فِي الْعَصْر عمل مثل ذَلِك فَفَعَلُوا كَمَا فعلوا فِي الظّهْر ثمَّ نزل فِي أول اللَّيْل فصيح الصلاةُ جَامِعَة فصلى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - للنَّاس طوّل فِي

(5/228)

 

 

الأولتين وَقصر فِي الثَّالِثَة ثمَّ سلم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ سلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس ثمَّ لما ذهب ثلث اللَّيْل نزل فصيح الصَّلَاة جَامِعَة فَاجْتمعُوا فصلى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس فَقَرَأَ فِي الأولتين فطوّل وجَهَرَ وَقصر فِي الْبَاقِيَتَيْنِ ثمَّ سلم جِبْرِيل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس ثمَّ لما طلع الْفجْر صِيحَ الصَّلَاة جَامِعَة فصلى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس فَقَرَأَ فيهمَا وجهر وَطول وَرفع صَوته ثمَّ سلم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَسلم النَّبِي على النَّاس

وَأخرج أَبُو بكر الوَاسِطِيّ فِي كتاب فَضَائِل بَيت الْمُقَدّس عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَت الأَرْض مَاء فَبعث الله تَعَالَى ريحًا فمسحت المَاء مسحا فظهرت الأَرْض زبدة فَقَسمهَا أَربع قطع: خلق من قِطْعَة مَكَّة وَالثَّانيَِة مَكَّة وَالثَّالِثَة بَيت الْمُقَدّس وَالرَّابِعَة الْكُوفَة

وَقَالَ الوَاسِطِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن وهب بن مُنَبّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ أَن يعلم عدد بني إِسْرَائِيل كم هم فَبعث نقباء وعرفاء وَأمرهمْ أَن يرفعوا إِلَيْهِ مَا بلغ عَددهمْ فعتب الله عَلَيْهِ لذَلِك وَقَالَ: قد علمت أَنِّي وعدت إِبْرَاهِيم أَن أبارك فِيهِ وَفِي ذُريَّته حَتَّى أجعلهم كعدد الذَّر وأجعلهم لَا يُحْصى عَددهمْ وَأَرَدْت أَن تعلم عَددهمْ إِنَّه لَا يُحْصى عَددهمْ فَاخْتَارُوا إثنين أَن أبتليكم بِالْجُوعِ ثَلَاث سِنِين أَو أسلط عَلَيْكُم الْعَدو ثَلَاثَة أشهر أَو الْمَوْت ثَلَاثَة أَيَّام فَأَشَارَ بذلك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام على بني إِسْرَائِيل فَقَالُوا مَا لنا بِالْجُوعِ ثَلَاث سِنِين صَبر وَلَا بالعدوّ ثَلَاثَة أشهر صَبر فَلَيْسَ لَهُم تقية فَإِن كَانَ لَا بُد فالموت بِيَدِهِ لَا بِيَدِهِ غَيره

فَمَاتَ مِنْهُم فِي سَاعَة أُلُوف كَثِيرَة مَا يدْرِي عَددهمْ فَلَمَّا رأى ذَلِك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام شقّ عَلَيْهِ مَا بلغه من كَثْرَة الْمَوْت فَسَأَلَ الله ودعا فَقَالَ: يَا رب أَنا آكل الحامض وَبَنُو إِسْرَائِيل تدرس أَنا طلبت ذَلِك وَأمرت بِهِ بني إِسْرَائِيل فَمَا كَانَ من شَيْء فَبِي وارفع عَن بني إِسْرَائِيل

فَاسْتَجَاب لَهُ وَرفع عَنْهُم الْمَوْت فَرَأى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام سالين سيوفهم يغمدونها يرفعون فِي سلم من ذهب من الصَّخْرَة فَقَالَ دَاوُد: هَذَا مَكَان يَنْبَغِي أَن يبْنى فِيهِ لله مَسْجِد أَو تكرمة وَأَرَادَ أَن يَأْخُذ فِي بُنْيَانه فَأوحى الله إِلَيْهِ: هَذَا بَيت الْمُقَدّس وَإنَّك بسطت يدك

(5/229)

 

 

فِي الدِّمَاء فلست ببانيه وَلَكِن ابْن لَك اسْمه سُلَيْمَان أسلمه من الدِّمَاء

فَلَمَّا ملك سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بناه وشرفه فَلَمَّا أَرَادَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَن يبنيه قَالَ للشياطين: إِن الله عز وَجل أَمرنِي أَن أبني بَيْتا لَهُ لَا يقطع فِيهِ حجر بحديدة

فَقَالَت الشَّيَاطِين: لَا يقدر على هَذَا إِلَّا شَيْطَان فِي الْبَحْر لَهُ مشربَة يردهَا فَانْطَلقُوا إِلَى مشْربَته فأخرجوا ماءها وَجعلُوا مَكَانَهُ خمرًا فجَاء يشرب فَوجدَ ريحًا فَقَالَ شَيْئا وَلم يشرب فَلَمَّا اشْتَدَّ ظمؤه جَاءَ فَشرب فَأخذ فَبَيْنَمَا هم فِي الطَّرِيق إِذا هم بِرَجُل يَبِيع الثوم بالبصل فَضَحِك ثمَّ مر بِامْرَأَة تكهن لقوم فَضَحِك فَلَمَّا انْتهى إِلَى سُلَيْمَان أخبر بضحكه فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَرَرْت بِرَجُل يَبِيع الدَّوَاء بالداء ومررت بِامْرَأَة تكهن وتحتها كنز لَا تعلم بِهِ

فَذكر لَهُ شَأْن الْبناء فَأمر أَن يُؤْتى بِقدر من نُحَاس لَا تقلها الْبَقر

فجعلوها على فروخ النسْر فَفَعَلُوا ذَلِك فَأقبل إِلَيْهِ فَلم يصل إِلَى فروخه فعلا فِي جوّ السَّمَاء ثمَّ تدلى فَأقبل بِعُود فِي منقاره فَوَضعه على الْقدر فانفلقت فعمدوا إِلَى ذَلِك الْعود فَأَخَذُوهُ فَعَلمُوا [فعملوا] بِهِ الْحِجَارَة

وَأخرج ابْن سعد عَن سَالم أبي النَّضر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما كثر الْمُسلمُونَ فِي عهد عمر رَضِي الله عَنهُ ضَاقَ بهم الْمَسْجِد فَاشْترى عمر رَضِي الله عَنهُ مَا حول الْمَسْجِد من الدّور إِلَّا دَار الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَحجر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ للْعَبَّاس: يَا أَبَا الْفضل إِن مَسْجِد الْمُسلمين فِي مَسْجِدهمْ قد ضَاقَ بهم وَقد ابتعت مَا حوله من الْمنَازل نوسع بِهِ على الْمُسلمين فِي مَسْجِدهمْ إِلَّا دَارك وَحجر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ

قَالَ عمر: فَأَما حجر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فَلَا سَبِيل إِلَيْهَا وَأما دَارك فبعينها بِمَا شِئْت من بَيت مَال الْمُسلمين أوسع بهَا فِي مَسْجِدهمْ

فَقَالَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: مَا كنت لأَفْعَل

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: اختر مني أحدى ثَلَاث: إِمَّا أَن تبيعنيها بِمَا شِئْت من بَيت مَال الْمُسلمين وَإِمَّا أَن أحطك حَيْثُ شِئْت من الْمَدِينَة وأبنيها لَك من بَيت مَال الْمُسلمين وَإِمَّا أَن تصدق بهَا على الْمُسلمين فيوسع بهَا فِي مَسْجِدهمْ

فَقَالَ: لَا وَلَا وَاحِدَة مِنْهَا

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: اجْعَل بيني وَبَيْنك من شِئْت

فَقَالَ أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَانْطَلقَا إِلَى أبي فقصا عَلَيْهِ الْقِصَّة

فَقَالَ أبي رَضِي الله عَنهُ: إِن شئتما حدثتكما بِحَدِيث سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

فَقَالَا: حَدثنَا

فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الله أوحى إِلَى دَاوُد ابْن لي بَيْتا أُذْكَرُ فِيهِ فَخط لَهُ هَذِه

(5/230)

 

 

الخطة - خطة بَيت الْمُقَدّس - فَإِذا بربعها زَاوِيَة بَيت من بني إِسْرَائِيل فَسَأَلَ دَاوُد أَن يَبِيعهُ إِيَّاه فَأبى فَحدث دَاوُد نَفسه أَن يَأْخُذهُ مِنْهُ فَأوحى الله إِلَيْهِ: أَن يَا دَاوُد أَمرتك أَن تبني لي بَيْتا أذكر فِيهِ فَأَرَدْت أَن تدخل فِي بَيْتِي الْغَصْب وَلَيْسَ من شأني الْغَصْب وَإِن عُقُوبَتك أَن لَا تبنيه قَالَ: يَا رب فَمن وَلَدي قَالَ: من ولدك

قَالَ: فَأخذ عمر رَضِي الله عَنهُ بِمَجَامِع ثِيَاب أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ: جئْتُك بِشَيْء فَجئْت بِمَا هُوَ أَشد مِنْهُ لتخرجنّ مِمَّا قلت فجَاء يَقُودهُ حَتَّى أدخلهُ الْمَسْجِد فأوقفه على حَلقَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فيهم أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ

فَقَالَ أبي رَضِي الله عَنهُ: إِنِّي نشدت الله رجلا سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر حَدِيث بَيت الْمُقَدّس حَيْثُ أَمر الله تَعَالَى دَاوُد أَن يبنيه إِلَّا ذكره

فَقَالَ أَبُو ذَر: أَنا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَقَالَ آخر: أَنا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

فَأرْسل أَبَيَا

فَأقبل أبي على عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: يَا عمر أتتهمني على حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عمر: يَا أَبَا الْمُنْذر لَا وَالله مَا اتهمتك عَلَيْهِ وَلَكِنِّي كرهت أَن يكون الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَاهرا

قَالَ: وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ للْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: اذْهَبْ فَلَا أعرض لَك فِي ذَلِك

فَقَالَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: أما إِذْ فعلت هَذَا فَإِنِّي تَصَدَّقت بهَا على الْمُسلمين أوسع بهَا عَلَيْهِم فِي مَسْجِدهمْ فَأَما وَأَنت تخاصمني فَلَا

فَخط لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ دَاره الَّتِي هِيَ لَهُ الْيَوْم وبناها من بَيت مَال الْمُسلمين

وَأخرج ابْن سعد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَت للْعَبَّاس دَار بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: هبها لي أَو بِعَينهَا حَتَّى أدخلها فِي الْمَسْجِد فَأبى

قَالَ: اجْعَل بيني وَبَيْنك رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعلَا أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ بَينهمَا فَقضى أبي على عمر

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: مَا من أَصْحَاب رَسُول الله أحد أجرأ عَليّ من أبي

قَالَ: إِذْ أنصح لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما علمت قصَّة الْمَرْأَة أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لما بنى بَيت الْمُقَدّس ادخل فِيهِ بَيت امْرَأَة بِغَيْر إِذْنهَا فَلَمَّا بلغ حجر لرجال منع بناءه فَقَالَ: أَي رب إِذْ منعتني فَفِي عَقبي من بعدِي

فَلَمَّا كَانَ بعد قَالَ لَهُ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: أَلَيْسَ قد قضيت لي قَالَ: بلَى

قَالَ: فَهِيَ لَك قد جَعلتهَا لله

وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي المُصَنّف عَن سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ قَالَ:

(5/231)

 

 

أَرَادَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْخُذ دَار الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ليزِيد بهَا فِي الْمَسْجِد فَأبى الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَن يُعْطِيهَا إِيَّاه

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لآخذنها

قَالَ: فَاجْعَلْ بيني وَبَيْنك أبي بن كَعْب

قَالَ: نعم فَأتيَا أَبَيَا فذكرا لَهُ فَقَالَ أبي رَضِي الله عَنهُ: أوحى الله إِلَى سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَبْنِي بَيت الْمُقَدّس وَكَانَت أَرض لرجل فَاشْترى مِنْهُ الأَرْض فَلَمَّا أعطَاهُ الثّمن قَالَ: الَّذِي أَعْطَيْتنِي خير أم الَّذِي أخذت مني قَالَ: بل الَّذِي أخذت مِنْك

قَالَ: فَإِنِّي لَا أُجِيز ثمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِشَيْء أَكثر من ذَلِك فَصنعَ الرجل مثل ذَلِك مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَاشْترط عَلَيْهِ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: أَنِّي أبتاعها مِنْك على حكمك وَلَا تَسْأَلنِي أَيهمَا خير

قَالَ: نعم

فاشتراها مِنْهُ بحكمة فاحتكم إثني عشر ألف قِنْطَار ذَهَبا فتعاظم ذَلِك سُلَيْمَان أَن يُعْطِيهِ فَأوحى الله إِلَيْهِ إِن كنت تعطيه من شَيْء هُوَ لَك فَأَنت أعلم وَإِن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حَتَّى يرضى

قَالَ: فَفعل

قَالَ: وَإِنِّي أرى أَن عباسا رَضِي الله عَنهُ أَحَق بداره حَتَّى يرضى

قَالَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: فَإذْ قضيت فَإِنِّي أجعلها صَدَقَة على الْمُسلمين

وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن زيد بن أسلم قَالَ: كَانَ للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب دَار إِلَى جنب مَسْجِد الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ بِعَينهَا

وَأَرَادَ عمر أَن يدخلهَا فِي الْمَسْجِد فَأبى الْعَبَّاس أَن يَبِيعهَا إِيَّاه

فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: فهبها لي فَأبى

فَقَالَ عمر: فوسعها أَنْت فِي الْمَسْجِد

فَأبى فَقَالَ عمر: لَا بُد لَك من إِحْدَاهُنَّ فَأبى عَلَيْهِ

قَالَ: فَخذ بيني وَبَيْنك رجلا

فأخذا أبي بن كَعْب فاختصما إِلَيْهِ فَقَالَ أبي لعمر: مَا أرى أَن تخرجه من دَاره حَتَّى ترضيه: فَقَالَ لَهُ عمر: أَرَأَيْت قضاءك هَذَا فِي كتاب الله أم سنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أبي: بل سنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

فَقَالَ عمر: وَمَا ذَاك قَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِن سُلَيْمَان بن دَاوُد لما بنى بَيت الْمُقَدّس جعل كلما بنى حَائِطا أصبح منهدماً فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن لَا تبن فِي حق رجل حَتَّى ترضيه فَتَركه عمر رَضِي الله عَنهُ فوسعها الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ بعد ذَلِك فِي الْمَسْجِد

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما أَمر الله تَعَالَى دَاوُد أَن يَبْنِي بَيت الْمُقَدّس قَالَ: يَا رب وَأَيْنَ أبنيه قَالَ: حَيْثُ ترى الْملك شاهراً

 

سَيْفه قَالَ: فَرَآهُ فِي ذَلِك الْمَكَان

فَأخذ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَأَسَّسَ قَوَاعِده وَرفع حَائِطه فَلَمَّا ارْتَفع انْهَدم

فَقَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: يَا رب أَمرتنِي أَن أبني لَك بَيْتا فَلَمَّا ارْتَفع هدمته فَقَالَ: يَا دَاوُد إِنَّمَا جعلت خليفتني فِي خلقي لم أَخَذته من صَاحبه بِغَيْر ثمن إِنَّه يبنيه رجل من ولدك فَلَمَّا كَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام ساوم صَاحب الأَرْض بهَا

فَقَالَ لَهُ: هِيَ بقنطار فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: قد استوجبتها فَقَالَ لَهُ صَاحب الأَرْض: هِيَ خير أم ذَاك قَالَ: لَا بل هِيَ خير قَالَ: فَإِنَّهُ قد بدا لي

قَالَ: أَو لَيْسَ قد أوجبتها

قَالَ: لَا وَلَكِن البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا

قَالَ ابْن الْمُبَارك رَضِي الله عَنهُ: هَذَا أصل الْخِيَار

فَلم يزل يزايده وَيَقُول مثل قَوْله الأول حَتَّى استوجبتها مِنْهُ بِتِسْعَة قناطير فبناه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى فرغ مِنْهُ وتغلقت أَبْوَابهَا فعالجها سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَن يفتحها فَلم تنفتح حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ: بصلوات أبي دَاوُد إِلَّا تفتحت الْأَبْوَاب فتفتحت الْأَبْوَاب

قَالَ: ففرغ لَهُ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: عشرَة آلَاف من قراء بني إِسْرَائِيل خَمْسَة آلَاف بِاللَّيْلِ وَخَمْسَة آلَاف بِالنَّهَارِ وَلَا تَأتي سَاعَة من ليل وَلَا نَهَار إِلَّا الله عز وَجل يعبد فِيهِ

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن الشَّيْبَانِيّ قَالَ: أوحى الله تبَارك وَتَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّك لم تتمّ بِنَاء بَيت الْمُقَدّس

قَالَ أَي رب وَلم قَالَ: لِأَنَّك غمرت يدك فِي الدَّم

قَالَ: أَي رب وَلم يكن ذَلِك فِي طَاعَتك قَالَ: بلَى وَإِن كَانَ

وَأخرج ابْن حبَان فِي الضُّعَفَاء وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن مرْدَوَيْه والواسطي عَن رَافع بن عُمَيْر رَضِي الله عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: قَالَ الله لداود عَلَيْهِ السَّلَام: ابْن لي بَيْتا فِي الأَرْض فَبنى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بَيْتا لنَفسِهِ قبل الْبَيْت الَّذِي أَمر بِهِ

فَأوحى الله إِلَيْهِ: يَا دَاوُد قضيت بَيْتك قبل بَيْتِي قَالَ: يَا رب هَكَذَا قلت: من ملك اسْتَأْثر ثمَّ أَخذ فِي بِنَاء الْمَسْجِد فَلَمَّا تمّ السُّور سقط ثلث فَشَكا ذَلِك إِلَى الله

فَأوحى الله إِلَيْهِ: إِنَّك لَا تصلح أَن تبني لي بَيْتا قَالَ: وَلم يَا رب قَالَ: لما جرى على يَديك من الدِّمَاء قَالَ: يَا رب أَو لم يكن ذَلِك فِي هَوَاك ومحبتك قَالَ: بلَى وَلَكنهُمْ عبَادي وَأَنا أرحمهم فشق ذَلِك عَلَيْهِ فَأوحى الله إِلَيْهِ لَا تحزن فَإِنِّي سأقضي بناءه على يَدي ابْنك سُلَيْمَان فَلَمَّا مَاتَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ سُلَيْمَان فِي بنائِهِ فَلَمَّا تمّ قرب القرابين وَذبح الذَّبَائِح وَجمع بني إِسْرَائِيل

فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ: قد أرى سرورك ببنيان بَيْتِي فاسأني أعطك قَالَ: أَسأَلك ثَلَاث خِصَال: حكما يُصَادف حكمك وملكاً لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي وَمن أَتَى هَذَا الْبَيْت لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: - أما الاثنتان فقد أعطيهما وَأَنا أَرْجُو أَن يكون قد أعطي الثَّالِثَة

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن كَعْب قَالَ: أوحى الله إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: ابْن لي بَيت الْمُقَدّس: فعارضه بِبِنَاء لَهُ

فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا دَاوُد أَمرتك أَن تبني بَيْتا لي فعارضته بِبِنَاء لَك لَيْسَ لَك أَن تبنيه قَالَ: يَا رب فَفِي عَقبي

قَالَ: فِي عقبك

فَلَمَّا ولي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أوحى الله إِلَيْهِ أَن ابْن بَيت الْمُقَدّس فبناه فَلَمَّا خر سَاجِدا شاكرا لَهُ تَعَالَى

قَالَ: يَا رب من دخله من خَائِف فَأَمنهُ أَو من دَاع فاستجب لَهُ أَو مُسْتَغْفِر فَاغْفِر لَهُ فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي قد خصصت لآل دَاوُد الدُّعَاء قَالَ: فذبح أَرْبَعَة آلَاف بقرة وَسَبْعَة آلَاف شَاة وصنع طَعَاما ودعا بني إِسْرَائِيل

وَأخرج أَحْمد والحكيم التِّرْمِذِيّ فِي نَوَادِر الْأُصُول وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما بنى بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ ربه ثَلَاثًا فَأعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَأَنا أَرْجُو أَن يكون أعطَاهُ الثَّالِثَة

سَأَلَهُ حكما يُصَادف حكمه فَأعْطَاهُ إِيَّاه وَسَأَلَهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده فَأعْطَاهُ إِيَّاه وَسَأَلَهُ أَيّمَا رجل خرج من بَيته لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِي هَذَا الْمَسْجِد يَعْنِي بَيت الْمُقَدّس خرج من خطيئته كَيَوْم وَلدته أمه قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَنحن نرجو أَن يكون الله أعطَاهُ ذَلِك

وَأخرج ابْن أبي شيبَة والواسطي عَن عبد الله بن عمر قَالَ: إِن الْحرم لَحَرَم فِي السَّمَوَات السَّبع بمقداره من الأَرْض

وَإِن بَيت الْمُقَدّس لمقدس فِي السَّمَوَات السَّبع بمقداره من الأَرْض

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَمُسلم وَابْن ماجة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة عَن أبي سعيد

الْخُدْرِيّ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لما فرغ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام من بِنَاء بَيت الْمُقَدّس أنبت الله لَهُ شجرتين عِنْد بَاب الرَّحْمَة: إِحْدَاهمَا تنْبت الذَّهَب وَالْأُخْرَى تنْبت الْفضة

فَكَانَ فِي كل يَوْم ينتزع من كل وَاحِدَة مِائَتي رَطْل من ذهب وَفِضة ففرش الْمَسْجِد بلاطة ذَهَبا وبلاطة فضَّة فَلَمَّا جَاءَ بخْتنصر خربه وَاحْتمل مِنْهُ ثَمَانِينَ عجلة ذَهَبا وَفِضة فطرحه برومية

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن يحيى بن عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ: لما بنى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس نهى أَن يدْخل الرخام بَيت الْمُقَدّس لِأَنَّهُ الْحجر الملعون فَخر على الْحِجَارَة فلعن

وَأخرج الْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: تَذَاكرنَا وَنحن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيهمَا أفضل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا أفضل من أَربع صلوَات فِيهِ ولنعم الْمصلى وليوشكن أَن يكون للرجل مثل بسط فرشه من الأَرْض حَيْثُ يرى مِنْهُ بَيت الْمُقَدّس خير لَهُ من الدُّنْيَا جَمِيعًا أَو قَالَ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن الله عزَّ وجلَّ ينظر إِلَى بَيت الْمُقَدّس كل يَوْم مرَّتَيْنِ

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ وَهُوَ بِبَيْت الْمُقَدّس: يَا نَافِع أخرج بِنَا من هَذَا الْبَيْت فَإِن السَّيِّئَات تضَاعف فِيهِ كَمَا تضَاعف الْحَسَنَات

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن مَكْحُول رَضِي الله عَنهُ: أَن مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بَيت الْمُقَدّس قَالَ: نعم الْمسكن بَيت الْمُقَدّس وَمن صلى فِيهِ صَلَاة بِأَلف صَلَاة فِيمَا سواهُ قَالَت: فَمن لم يطق ذَلِك قَالَ فليهد إِلَيْهِ زيتاً

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن مَكْحُول رَضِي الله عَنهُ قَالَ: من صلى فِي بَيت الْمُقَدّس ظهرا وعصراً ومغرباً وعشاءً وصبحاً ثمَّ صلى الْغَدَاة خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن كَعْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: شكا بَيت الْمُقَدّس إِلَى الله عز وَجل الخراب فَقيل: هَل يتَكَلَّم الْمَسْجِد فَقَالَ: إِنَّه مَا من مَسْجِد إِلَّا وَله عينان يبصر بهما ولسان يتَكَلَّم بِهِ وَإنَّهُ ليلتوي من البزاق والنجاسة كَمَا تلتوي الدَّابَّة من ضَرْبَة السَّوْط

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن كَعْب فِي بَيت الْمُقَدّس: الْيَوْم فِيهِ كألف يَوْم والشهر فِيهِ كألف شهر وَالسّنة فِيهِ كألف سنة وَمن مَاتَ فِيهِ فَكَأَنَّمَا مَاتَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا

وَأخرج الوَاسِطِيّ عَن الشَّيْبَانِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لَيْسَ يعد من الْخُلَفَاء إِلَّا من ملك المسجدين الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد بَيت الْمُقَدّس

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {الَّذِي باركنا حوله} قَالَ: أنبتنا حوله الشّجر

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {وآتينا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} قَالَ جعله الله لَهُم هدى يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَجعله رَحْمَة لَهُم

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا} قَالَ: شَرِيكا

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح} قَالَ: هُوَ على النداء يَا ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح مَا كَانَ مَعَ نوح إِلَّا أَرْبَعَة أَوْلَاد: حام وسام وَيَافث وكوش فَذَاك أَرْبَعَة أَوْلَاد انتسلوا هَذَا الْخلق

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن أبي فَاطِمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كَانَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحمل شَيْئا صَغِيرا وَلَا كَبِيرا إِلَّا قَالَ: بِسم الله وَالْحَمْد لله فَسَماهُ الله عبدا شكُورًا

وَأخرج الْفرْيَابِيّ وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ نوح عَلَيْهِ

السَّلَام إِذا لبس ثوبا أَو طعم طَعَاما قَالَ: الْحَمد لله فَسُمي عبدا شكُورًا

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ عَن سعيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِنَّمَا سمي نوح عَلَيْهِ السَّلَام عبدا شكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أكل أَو شرب أَو لبس ثوبا حمد الله

وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن نوحًا لم يقم عَن خلاء قطّ إِلَّا قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أذاقني لذته وَأبقى فيّ منفعَته وَأخرج عني أَذَاهُ

وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف عَن العوّام قَالَ: حدثت أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَقُول: الْحَمد لله الَّذِي أذاقني لذته وَأبقى فِي منفعَته وأذهب عني أَذَاهُ

وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان عَن أصبغ بن زيد: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا خرج من الكنيف قَالَ ذَلِك فَسُمي {عبدا شكُورًا}

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ رَضِي الله عَنهُ: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا خرج من الْغَائِط قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني

وَأخرج عبد الله بن أَحْمد فِي زَوَائِد الزّهْد عَن إِبْرَاهِيم رَضِي الله عَنهُ قَالَ: شكره أَن يُسَمِّي إِذا أكل ويحمد الله إِذا فرغ

وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الإِيمان عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا} قَالَ: لم يَأْكُل شَيْئا قطّ إِلَّا أَحْمد الله وَلم يشرب شرابًا قطّ إِلَّا حمد الله عَلَيْهِ فَأثْنى عَلَيْهِ {إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا}

وَأخرج أَحْمد فِي الزّهْد وَابْن أبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ رَضِي اله عَنهُ قَالَ: كَانَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أكل قَالَ: الْحَمد لله وَإِذا شرب قَالَ: الْحَمد لله وَإِذا لبس قَالَ: الْحَمد لله وَإِذا ركب قَالَ: الْحَمد لله فَسَماهُ الله {عبدا شكُورًا}

وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن معَاذ بن أنس الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِنَّمَا سمى الله نوحًا {عبدا شكُورًا} لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أَمْسَى وَأصْبح قَالَ:

سُبْحَانَ الله حِين تمسون وَحين تُصبحُونَ وَله الْحَمد فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وعشياً وَحين تظْهرُونَ

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: حق الطَّعَام أَن يَقُول العَبْد: بِسم الله اللَّهُمَّ بَارك لنا فِيمَا رزقتنا وشكره أَن يَقُول: الْحَمد لله الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن تَمِيم بن سَلمَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: حدثت أَن الرجل إِذا ذكر اسْم الله على طَعَامه وَحمد الله على آخِره لم يسْأَل عَن نعيم لَذَّة الطَّعَام

وَأخرج ابْن أبي شيبَة وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة وَالطَّبَرَانِيّ فِي الدُّعَاء عَن حَاتِم عَن عمر بن الْخطاب أَنه لبس ثوبا جَدِيدا فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي كساني مَا أواري بِهِ عورتي وأتجمل بِهِ فِي حَياتِي

ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من لبس ثوبا جَدِيدا فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي كساني مَا أواري بِهِ عورتي وأتجمل بِهِ فِي حَياتِي ثمَّ عمد إِلَى الثَّوْب الَّذِي خلق فَتصدق بِهِ كَانَ فِي كنف الله وَفِي حفظ الله وَفِي ستر الله حَيا وَمَيتًا قَالَهَا ثَلَاثًا

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا لبس أحدكُم ثوبا جَدِيدا فَلْيقل الْحَمد لله الَّذِي كساني مَا أواري بِهِ عورتي وأتجمل بِهِ فِي النَّاس

وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عون بن عبد الله قَالَ: لبس رجلا ثوبا جَدِيدا فَحَمدَ الله فَأدْخل الْجنَّة أَو غفر لَهُ

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل} قَالَ: أعلمناهم

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل} قَالَ: أخبرناهم

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل} قَالَ: قضينا عَلَيْهِم

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ} قَالَ: هَذَا تَفْسِير الَّذِي قبله

(5/238)

 

 

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَالْحَاكِم عَن طَاوس قَالَ: كنت عِنْد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا ومعنا رجل من الْقَدَرِيَّة فَقلت إِن أُنَاسًا يَقُولُونَ لَا قدر

قَالَ: أوفي الْقَوْم أحد مِنْهُم قلت: لَو كَانَ مَا كنت تصنع بِهِ قَالَ: لَو كَانَ فيهم أحد مِنْهُم لأخذت بِرَأْسِهِ

ثمَّ قَرَأت عَلَيْهِ {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا}

وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِن الله عهد إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي التَّوْرَاة {لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ}

فَكَانَ أوّل الْفساد: قتل زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَبعث الله عَلَيْهِم ملك النبط فَبعث الْجنُود وَكَانَت أساورته ألف فَارس فهم أولو بَأْس فتحصنت بَنو إِسْرَائِيل وَخرج فيهم بخْتنصر يَتِيما مِسْكينا إِنَّمَا خرج يستطعم وتلطف حَتَّى دخل الْمَدِينَة فَأتى مجَالِسهمْ وهم يَقُولُونَ: لَو يعلم عدوّنا مَا قذف فِي قُلُوبنَا من الرعب بذنوبنا مَا أَرَادوا قتالنا فَخرج بخْتنصر حِين سمع ذَلِك مِنْهُم وَأَشد الْقيام على الْجَيْش فَرَجَعُوا وَذَلِكَ قَول الله: {فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد} الْآيَة

ثمَّ أَن بني إِسْرَائِيل تجهزوا فغزوا النبط فَأَصَابُوا مِنْهُم فاستنقذوا مَا فِي أَيْديهم فَذَلِك قَوْله: {ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم} الْآيَة

وَأخرج ابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ} قَالَ: الأولى قتل زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْأُخْرَى قتل يحيى عَلَيْهِ السَّلَام

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ} قَالَ: أفسدوا فِي الْمرة الأولى فَبعث الله عَلَيْهِم جالوت فَقَتلهُمْ وأفسدوا الْمرة الثَّانِيَة فَقتلُوا يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام فَبعث الله عَلَيْهِم بخْتنصر

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: بعث الله عَلَيْهِم فِي الأولى جالوت فجاس خلال دِيَارهمْ وَضرب عَلَيْهِم الْخراج والذل فسألوا الله أَن يبْعَث إِلَيْهِم ملكا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فَبعث الله طالوت فَقتل جالوت فنصر بَنو إِسْرَائِيل وَقتل جالوت بيَدي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَرجع إِلَى بني

إِسْرَائِيل ملكهم فَلَمَّا أفسدوا: بعث الله عَلَيْهِم فِي الْمرة الْآخِرَة بخْتنصر فخرب الْمَسَاجِد وتبر {مَا علوا تتبيراً} قَالَ الله: بعد الأولى وَالْآخِرَة (عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا) قَالَ: فعادوا فَسلط الله عَلَيْهِم الْمُؤمنِينَ

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي هَاشم الْعَبْدي عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: ملك مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ أما الكافران فالفرخان [و] بخْتنصر

فَأَنْشَأَ أَبُو هَاشم يحدث قَالَ: كَانَ رجل من أهل الشَّام صَالحا فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب} إِلَى قَوْله: {علوا كَبِيرا}

قَالَ: يَا رب أما الأولى فقد فاتتني فأرني الْآخِرَة

فَأتى وَهُوَ قَاعد فِي مُصَلَّاهُ قد خَفق بِرَأْسِهِ فَقيل: الَّذِي سَأَلت عَنهُ بِبَابِل واسْمه بخْتنصر

فَعرف الرجل أَنه قد اسْتُجِيبَ لَهُ فَاحْتمل جراباً من دَنَانِير فَأقبل حَتَّى انْتهى إِلَى بابل فَدخل على الفرخان فَقَالَ: إِنِّي قد جِئْت بِمَال فأقسمه بَين الْمَسَاكِين

فَأمر بِهِ فَأنْزل فجمعوهم لَهُ ثمَّ جعل يعطيهم ويسألهم عَن أسمائهم حَتَّى إِذا فرغ مِمَّن بِحَضْرَتِهِ قيل لَهُ: فَإِنَّهُ قد بقيت مِنْهُم بقايا فِي الرساتيق فَجعل يبْعَث فتاه حَتَّى إِذا كَانَ اللَّيْل رَجَعَ إِلَيْهِ فاقرأه رجلا رجلا فَأتى على ذكر بخْتنصر فَقَالَ: قف

كَيفَ قلت قَالَ: بخْتنصر

قَالَ: وَمَا بخْتنصر هَذَا قَالَ: هُوَ أَشَّدهم فاقة وَهُوَ مقْعد يَأْتِي عَلَيْهِ السفارون فيلقي أحدهم إِلَيْهِ الكسرة وَيَأْخُذ بِأَنْفِهِ

قَالَ: فَإِنِّي مُسلم بِهِ [] لَا بُد

قَالَ الآخر: فَإِنَّمَا هُوَ فِي خيمة لَهُ يحدث فِيهَا حَتَّى أذهب فأقلبها وأغسله

قَالَ: دُونك هَذِه الدَّنَانِير

فَأقبل إِلَيْهِ بِالدَّنَانِيرِ فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا

ثمَّ رَجَعَ إِلَى صَاحبه فجَاء مَعَه فَدخل الْخَيْمَة فَقَالَ: مَا اسْمك قَالَ: بخْتنصر

قَالَ: من سماك بخْتنصر قَالَ: من عَسى أَن يسميني إِلَّا أُمِّي قَالَ: فَهَل لَك أحد قَالَ: لَا وَالله إِنِّي لههنا أَخَاف بِاللَّيْلِ أَن تأكلني الذئاب

قَالَ: فَأَي النَّاس أَشد بلَاء قَالَ: أَنا

قَالَ: أَفَرَأَيْت إِن ملكت يَوْمًا من دهر أَتجْعَلُ لي أَن لَا تعصيني قَالَ أَي سَيِّدي لَا يَضرك أَن لَا تهزأ بِي

قَالَ: أَرَأَيْت إِن ملكت مرّة أَتجْعَلُ لي أَن لَا تعصيني قَالَ: أما هَذِه فَلَا أجعلها لَك وَلَكِن سَوف أكرمك كَرَامَة لَا أكرمها أحدا

قَالَ دُونك هَذِه الدَّنَانِير ثمَّ انْطلق فلحق بأرضه فَقَامَ الآخر فَاسْتَوَى على رجلَيْهِ ثمَّ انْطلق فَاشْترى حمارا وأرساناً ثمَّ جعل يستعرض تِلْكَ الْأَعَاجِم فيجزها فيبيعه ثمَّ قَالَ: إِلَى مَتى هَذَا الشَّقَاء فَعمد فَبَاعَ ذَلِك الْحمار وَتلك الأرسان

واكتسى كسْوَة ثمَّ أَتَى بَاب الْملك فَجعل يُشِير عَلَيْهِم بِالرَّأْيِ وترتفع مَنْزِلَته حَتَّى انْتَهوا إِلَى بواب الفرخان الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ لَهُ الفرخان: قد ذكر لي رجل عنْدك فَمَا هُوَ قَالَ: مَا رَأَيْت مثله قطّ قَالَ: ائْتِنِي بِهِ فَكَلمهُ فأعجب بِهِ

قَالَ: إِن بَيت الْمُقَدّس وَتلك الْبِلَاد قد استعصوا علينا وانا باعثون عَلَيْهِم بعثاً وَإِنِّي باعث إِلَى الْبِلَاد من يختبرها فَنظر حِينَئِذٍ إِلَى رجال من أهل الأرب والمكيدة فبعثهم جواسيس فَلَمَّا فصلوا إِذا بخْتنصر قد أَتَى بخرجيه على بغلة قَالَ: أَيْن تُرِيدُ قَالَ: مَعَهم قَالَ: أَفلا آذنتني فابعثك عَلَيْهِم قَالَ: لَا حَتَّى إِذا وَقَعُوا بِالْأَرْضِ قَالَ: تفَرقُوا

وَسَأَلَ بخْتنصر عَن أفضل أهل الْبَلَد فَدلَّ عَلَيْهِ فَألْقى خرجيه فِي دَاره

قَالَ لصَاحب الْمنزل: أَلا تُخبرنِي عَن أهل بلادك قَالَ: على الْخَبِير سَقَطت هم قوم فيهم كتاب فَلَا يقيمونه وأنبياء فَلَا يطيعونهم وهم متفرقون

قَالَ بخْتنصر كالمتعجب مِنْهُ: كتاب لَا يقيمونه وأنبياء لَا يطيعونهم وهم متفرقون فكتبهن فِي ورقة وَألقى فِي خرجيه وَقَالَ: ارتحلوا

فاقبلوا حَتَّى قدمُوا على الفرخان فَجعل يسْأَل كل رجل مِنْهُم فَجعل الرجل يَقُول: أَتَيْنَا بِلَاد كَذَا وَلها حصن كَذَا وَلها نهر كَذَا قَالَ: يَا بخْتنصر مَا تَقول قَالَ: قدمنَا أَرضًا على قوم لَهُم كتاب لَا يقيمونه وأنبياء لَا يطيعونهم وهم متفرقون

فَأمر حِينَئِذٍ فندب النَّاس وَبعث إِلَيْهِم سبعين ألفا وَأمر عَلَيْهِم بخْتنصر فَسَارُوا حَتَّى إِذا علوا فِي الأَرْض أدركهم الْبَرِيد إِن الفرخان قد مَاتَ وَلم يسْتَخْلف أحدا

قَالَ للنَّاس: مَكَانكُمْ

ثمَّ أقبل على الْبَرِيد حَتَّى قدم على النَّاس وَقَالَ: كَيفَ صَنَعْتُم قَالُوا: كرهنا أَن نقطع أمرا دُونك

قَالَ: إِن النَّاس قد بايعوني

فَبَايعُوهُ ثمَّ اسْتخْلف عَلَيْهِم وَكتب بَينهم كتابا ثمَّ انْطلق بهم سَرِيعا حَتَّى قدم على أَصْحَابه فَأَرَاهُم الْكتاب فَبَايعُوهُ وَقَالُوا: مَا بِنَا رَغْبَة عَنْك

فَسَارُوا فَلَمَّا سمع أهل بَيت الْمُقَدّس تفَرقُوا وطاروا تَحت كل كَوْكَب فشعث مَا هُنَاكَ أَي أفسد وَقتل من قتل وَخرب بَيت الْمُقَدّس واستبى أَبنَاء الْأَنْبِيَاء فيهم دانيال

فَسمع بِهِ صَاحب الدَّنَانِير فَأَتَاهُ فَقَالَ: هَل تعرفنِي قَالَ: نعم

فأدنى مَجْلِسه وَلم يشفعه فِي شَيْء حَتَّى إِذا نزل بابل لَا ترد لَهُ راية

فَكَانَ كَذَلِك مَا شَاءَ الله ثمَّ إِنَّه رأى رُؤْيا فأفظعته فَأصْبح قد نَسِيَهَا

قَالَ: عليّ بالسحرة والكهنة

قَالَ: أخبروني عَن رُؤْيا رَأَيْتهَا اللَّيْلَة وَالله لتخبرني بهَا أَو لأقتلنكم

قَالُوا: مَا هِيَ قَالَ: قد نسيتهَا قَالُوا: مَا عندنَا من هَذَا علم إِلَّا أَن

ترسل إِلَى أَبنَاء الْأَنْبِيَاء

فَأرْسل إِلَى أَبنَاء الْأَنْبِيَاء

قَالَ: أخبروني عَن رُؤْيا رَأَيْتهَا اللَّيْلَة وَالله لتخبروني بهَا أَو لأقتلنكم

قَالُوا: مَا هِيَ قَالَ: قد نسيتهَا

قَالُوا غيب وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله تَعَالَى

قَالَ وَالله لتخبرني بهَا أَو لَأَضرِبَن أَعْنَاقكُم

قَالُوا: فَدَعْنَا حَتَّى نَتَوَضَّأ وَنُصَلِّي وندعو الله تَعَالَى

قَالَ: فافعلوا

فَانْطَلقُوا فَأحْسنُوا الْوضُوء فَأتوا صَعِيدا طيبا فدعوا الله فَأخْبرُوا بهَا ثمَّ رجعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: رَأَيْت كَأَن رَأسك من ذهب وصدرك من فخار ووسطك من نُحَاس ورجليك من حَدِيد

قَالَ: نعم

قَالَ: أخبروني بعبارتها أَو لأقتلنكم

قَالُوا: فَدَعْنَا نَدْعُو رَبنَا

قَالَ اذْهَبُوا فدعوا رَبهم فَاسْتَجَاب لَهُم فَرَجَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: رَأَيْت كَأَن رَأسك من ذهب ملكك هَذَا يذهب عِنْد رَأس الْحول من هَذِه اللَّيْلَة

قَالَ: ثمَّ مَه قَالُوا: ثمَّ يكون بعْدك ملك يفخر على النَّاس ثمَّ يكون ملك يخْشَى النَّاس شدته ثمَّ يكون ملك لَا يقلهُ شَيْء إِنَّمَا هُوَ مثل الْحَدِيد يَعْنِي الْإِسْلَام

فَأمر بحصن فَبنِي لَهُ بَينه وَبَين السَّمَاء ثمَّ جعل ينطقه بمقاعد الرِّجَال والاحراس وَقَالَ لَهُم: إِنَّمَا هِيَ هَذِه اللَّيْلَة لَا يجوز عَلَيْكُم أحد وَإِن قَالَ أَنا بخْتنصر إِلَّا قَتَلْتُمُوهُ مَكَانَهُ كَائِنا من كَانَ من النَّاس

فَقعدَ كل أنَاس فِي مكانهم الَّذِي وكلوا بِهِ

واهتاج بَطْنه من اللَّيْل فكره أَن يرى مَقْعَده هُنَاكَ

وَضرب على أسمخة الْقَوْم فاستثقلوا نوماً فَأتى عَلَيْهِم وهم نيام ثمَّ أَتَى عَلَيْهِم فَاسْتَيْقَظَ بَعضهم فَقَالَ: من هَذَا قَالَ: بخْتنصر

قَالَ: هَذَا الَّذِي حفي إِلَيْنَا فِيهِ اللَّيْلَة

فَضَربهُ فَقتله فَأصْبح الْخَبيث قَتِيلا

وَأخرج ابْن جرير نَحوه أخصر مِنْهُ عَن سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ وَعَن السّديّ وَعَن وهب بن مُنَبّه

وَأخرج ابْن جرير عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: ظهر بخْتنصر على الشَّام فخرب بَيت الْمُقَدّس وقتلهم ثمَّ أَتَى دمشق فَوجدَ بهَا دَمًا يغلي على كباء فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّم قَالُوا: أدركنا آبَائِنَا على هَذَا وَكلما [] ظهر عَلَيْهِم الْبكاء ظهر فَقتل على ذَلِك الدَّم سبعين ألفا من الْمُسلمين وَغَيرهم فسكن

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ: أَن بخْتنصر لما قتل بني إِسْرَائِيل وَهدم بَيت الْمُقَدّس وَسَار بسبايا بني إِسْرَائِيل إِلَى أَرض بابل فسامهم سوء الْعَذَاب أَرَادَ أَن يتَنَاوَل السَّمَاء فَطلب حِيلَة يصعد بهَا فَسلط الله عَلَيْهِ

بعوضة فَدخلت منخره فوقفت فِي دماغه فَلم تزل تَأْكُل دماغه وَهُوَ يضْرب رَأسه بِالْحجرِ حَتَّى مَاتَ

وَأخرج ابْن جرير عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن بني إِسْرَائِيل لما اعتدوا فِي السبت وعلوا وَقتلُوا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام بعث الله عَلَيْهِم ملك فَارس بخْتنصر وَكَانَ الله ملكه سَبْعمِائة سنة فَسَار إِلَيْهِم حَتَّى دخل بَيت الْمُقَدّس فحاصرها وَفتحهَا وَقتل على دم زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام سبعين ألفا ثمَّ سبى أَهلهَا وَبني الْأَنْبِيَاء وسلب حلى بَيت الْمُقَدّس واستخرج مِنْهَا سبعين ألفا وَمِائَة ألف عجلة من حلى حَتَّى أوردهُ بابل قَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: فَقلت: يَا رَسُول الله لقد كَانَ بَيت الْمُقَدّس عَظِيما عِنْد الله قَالَ: أجل فبناه سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام من ذهباودر وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد وَكَانَ بلاطة ذَهَبا وبلاطة فضَّة وعمده ذَهَبا أعطَاهُ الله ذَلِك وسخر لَهُ الشَّيَاطِين يأتونه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فِي طرفَة عين فَسَار بخْتنصر بِهَذِهِ الْأَشْيَاء حَتَّى نزل بهَا بابل فَأَقَامَ بَنو إِسْرَائِيل مائَة سنة يعذبهم الْمَجُوس وَأَبْنَاء الْمَجُوس فيهم الْأَنْبِيَاء وَأَبْنَاء الْأَنْبِيَاء ثمَّ إِن الله رَحِمهم فَأوحى إِلَى ملك من مُلُوك فَارس يُقَال لَهُ كورس - وَكَانَ مُؤمنا -: أَن سر إِلَى بقايا بني إِسْرَائِيل حَتَّى تستنقذهم فَسَار كورس ببني إِسْرَائِيل وَدخل بَيت الْمُقَدّس حَتَّى رده إِلَيْهِ فَأَقَامَ بَنو إِسْرَائِيل مُطِيعِينَ لله مائَة سنة ثمَّ إِنَّهُم عَادوا فِي الْمعاصِي فَسلط عَلَيْهِم ابطنانحوس فغزا ثَانِيًا بِمن غزا مَعَ بخْتنصر فغزا بني إِسْرَائِيل حَتَّى أَتَاهُم بَيت الْمُقَدّس فسبى أَهلهَا وأحرق بَيت الْمُقَدّس

وَقَالَ لَهُم: يَا بني إِسْرَائِيل إِن عدتم فِي الْمعاصِي عدنا عَلَيْكُم فِي السباء فعادوا فِي الْمعاصِي فسير الله علبهم السباء الثَّالِث: ملك رُومِية يُقَال لَهُ فاقس بن اسبايوس فغزاهم فِي الْبر وَالْبَحْر فسباهم وسيَّر حلى بَيت الْمُقَدّس وأحرق بَيت الْمُقَدّس بالنيران فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَهَذَا من صفة حلى بَيت الْمُقَدّس وَيَردهُ الْمهْدي إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ ألف سفينة وَسَبْعمائة سفينة يرسى بهَا على يافا حَتَّى تنْتَقل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَبهَا يجْتَمع إِلَيْهِ الأوّلون وَالْآخرُونَ

وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد قَالَ: كَانَ إفسادهم الَّذِي يفسدون فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ: قتل زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام وَيحيى بن زَكَرِيَّا فَسلط عَلَيْهِم سَابُور ذَا الأكتاف ملكا من مُلُوك فَارس من قبل زَكَرِيَّا وسلط عَلَيْهِم بخْتنصر من قبل يحيى

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما} قَالَ: إِذا جَاءَ وعد أولى تينك الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل {لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ}

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد} قَالَ جند أَتَوا من فَارس يتجسسون من أخبارهم ويسمعون حَدِيثهمْ مَعَهم بخْتنصر فوعى حَدِيثهمْ من بَين أَصْحَابه ثمَّ رجعت فَارس وَلم يكثر قتال ونصرت عَلَيْهِم بَنو إِسْرَائِيل فَهَذَا وعد الأولى {فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة} بعث ملك فَارس بِبَابِل جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِم بخْتنصر فدمروهم فَهَذَا وعد الْآخِرَة

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {فجاسوا} قَالَ فَمَشَوْا

وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أما الْمرة الأولى فَسلط عَلَيْهِم جالوت حَتَّى بعث طالوت وَمَعَهُ دَاوُد فَقتله دَاوُد ثمَّ رد الكرة لبني إِسْرَائِيل {وجعلناكم أَكثر نفيراً} أَي عددا وَذَلِكَ فِي زمَان دَاوُد {فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة} آخر العقوبتين {ليسوؤوا وُجُوهكُم} قَالَ ليقبحوا وُجُوهكُم {وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة} قَالَ: كَمَا دخل عدوهم قبل ذَلِك {وليتبروا مَا علوا تتبيرا} قَالَ: يدمروا مَا علوا تدميراً فَبعث الله عَلَيْهِم فِي الْآخِرَة بخْتنصر البابلي الْمَجُوسِيّ أبْغض خلق الله إِلَيْهِ فسبى وَقتل وَخرب بَيت الْمُقَدّس وسامهم سوء الْعَذَاب

وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي الْآيَة قَالَ: كَانَت الْآخِرَة أَشد من الأولى بِكَثِير فَإِن الأولى كَانَت هزيمَة فَقَط وَالْآخِرَة كَانَت تدميراً وَحرق بخْتنصر التَّوْرَاة حَتَّى لم يتْرك فِيهَا حرفا وَاحِدًا وَخرب بَيت الْمُقَدّس

وَأخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {تتبيراً} قَالَ: تدميراً

وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن جُبَير رَضِي الله عَنهُ قَالَ: {تبرنا} دمرنا بالنبطية

وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الضَّحَّاك رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ} قَالَ: كَانَت الرَّحْمَة الَّتِي وعدهم: بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {وَإِن عدتم عدنا} قَالَ: فعادوا فَبعث الله عَلَيْهِم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم يُعْطون (الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون) (التَّوْبَة آيَة - 29)

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} قَالَ: سجناً

وَأخرج ابْن النجار فِي تَارِيخه عَن أبي عمرَان الْجونِي فِي قَوْله: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} يَقُول: جعل الله مأواهم فِيهَا

وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: {حَصِيرا} قَالَ: يحصرون فِيهَا

وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن الْحسن فِي قَوْله: {حَصِيرا} قَالَ: فراشا ومهادا

الْآيَة 9 - 10

الإسراء - تفسير أضواء البيان

.المجلد الثالث

سورة بني إسرائيل

...

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة بني إسرائيل

قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول، فإنا نبين ذلك. فإذا علمت ذلك.

فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، زاعماً أنه في المنام لا اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي.

وزعم بعضهم: أن الإسراء بالجسدِ، والمعراج بالروح دون الجسد، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظةً لا مناماً، لأنه قال: {بِعَبْدِهِ} والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال: {سُبْحَانَ} والتَّسبيح إنما يكون عند الأمور العظام. فلو كان مناماً لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه. ويؤيده قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [53/17]؛ لأن البصر من آلات الذات لا الروح، وقوله هنا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } [17/1].

ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [17/60] فإنها رؤيا عين يقظة، ولا رؤيا منام، كما صحَّ عن ابن عباس وغيره.

ومن الأدلة الواضحة على ذلك: أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة، ولا سبباً لتكذيب قريش، لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار، لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح، فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب.

فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة، فصار فتنة لهم. وكون الشجرة المعلونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم: أن الله لما أنزل قوله: {إِنَّهَا

(3/3)

 

 

شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [37/64]، قالوا: ظهر كذبه؛ لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار كما تقدم في البقرة.

ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [17/1]، وقوله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [53/18،17]، وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام، مردود. بل التحقيق: أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضاً؛ ومنه قول الراعي وهو عربي قح:

فكبر للرُّؤيا وهش فؤاده ... وبشَّر نفساً كان قبل يلومها

فإنه يعني رؤية صائد بعينه. ومنه أيضاً قول أبي الطيب:

ورؤياك أحلى في العيون من الغمض

قال صاحب اللسان.

وزعم بعض أهل العلم: أن المراد بالرؤيا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ...} الآية[17/60]، رؤيا منام، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية[48/27].. والحق الأول.

وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه؛ لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف، وعلى كل حال:

فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه: أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع.

وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه، يقظة لا مناماً، كما دلت على ذلك أيضاً الآيات التي ذكرنا.

وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين. وما ثبت في الصَّحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه: "أن الإسراء

(3/4)

 

 

المذكور وقع مناماً"ـ لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة. لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوماً، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقاً لتلك الرؤيا المنامية. كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة، لا مناماً، تصديقاً لتلك الرؤيا. كما قال تعالى: {لقد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ...} الآية[48/27] الآية. ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس، وزاد فيها ونقص، وقدم وأخر. ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور.

وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى. فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعاً حسناً بإتقان. ثم قال رحمه الله: "والحق أنه عليه الصلاة والسلام أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درجٍ يرقى فيها، فصعد فيه إلى السّماء الدنيا، ثم إلى بقية السموات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوىً يسمع فيه صريف الأقلام ـ أي أقلام القدر ـ بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل بانِيَ الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه. لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار. وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده. وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء. فصلى بهم فيه لما حانت الصَّلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، ولكن

(3/5)

 

 

في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى.

ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النَّبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو متواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش ممن رواه: عشرين صحابياً، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما، وبسط قصة الإسراء، تركناه لشهرته عند العامة، وتواتره في الأحاديث.

وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين، قال في أولاهما: "فائدة حسنة جليلة. وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر. فذكر وروده عليه وقدومه إليه، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه.

فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه. وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقِّر أمره ويصغِّره عنده، قال في السياق عن أبي سفيان: "والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه به من عينه إلا أنا أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليَّ ولا يصدقني في شيءٍ. قال: حتَّى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال فقلت: أيُّها الملك، ألا أخبرك خبراً تعرف به أَنه قد كذب. قال: وما هو؟ قال: قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلةٍ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصَّباح، قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة.

قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلةً حتَّى أغلق أبواب المسجد. فلما كانت تلك اللَّيلةِ أغلقت الأَبواب كلَّها غير بابٍ واحدٍ

غلبني، فاستعنت عليه بعمَّالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً، فدعوت إليه النَّجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إنَّ هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحرِّكه، حتى نصبح فننظر من أين أتى قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلمَّا أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب. وإذا فيه أَثر مربط الدابة. قال: فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب اللَّيلة إلا على نبيٍّ وقد صلَّى الليلة في مسجدنا اهـ.

ثم قال في الأخرى: فائدة: قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه التنوير في مولد السراج المنير وقد ذكر حديث الإسراء عن طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد. ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وأبي ذرٍّ، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أَوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبُريدة، وأبي أيوب، وأبي أُمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانىء، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة «فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} اهـ من ابن كثير بلفظه.

وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في {سُبْحَانَ } [17/1]، أنه مفعول مطلق، منصوب بفعل محذوف: أي أسبح الله سبحاناً أي تسبيحاً. والتسبيح: الإبعاد عن السوء. ومعناه في الشرع: التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله، كما قدمنا. وزعم بعض أهل العلم: أن لفظة {سُبْحَانَ} ، علم للتنزيه؛ وعليه فهو علم جنسٍ لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة، مشيراً إلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات:

ومثله برة للمبرة ... كذا فجار علم للفجرة

وعلى أنه علم: فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه غير علم، وأن معنى {سُبْحَانَ} ، تنزيهاً لله عن كل ما لا يليق به. ولفظة {سُبْحَانَ} من الكلمات الملازمة للإضافة، وورودها غير مضافة قليل؛ كقول

الأعشى:

فقلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر

ومن الأدلة على أنه غير علم: ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها، وقد سمعت لفظة {سُبْحَانَ} غير مضافة مع التنوين والتعريف؛ فمثاله مع التنوين قوله:

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد

ومثاله معرفاً قول الراجز:

سبحانك اللهم ذا السبحان

والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها. إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق، ورأى من آيات ربّه الكبرى. وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق، ولله المثل الأعلى:

يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والراءي

لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي

واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها {لَيْلاً} في هذه الآية الكريمة.

قال الزمخشري في الكشاف: أراد بقوله: {لَيْلاً} [17/1]، بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أُسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة {مِّنَ اللَّيْلِ} أي بعض الليل. كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [17/79]، يعني بالقيام في بعض الليل اهـ واعترض بعض أهل العلم هذا.

وذكر بعضهم: أن التنكير في قوله {لَيْلاً} للتعظيم. أي ليلاً أي ليل، دنا فيه المحب إلى المحبوب وقيل فيه غير ذلك. وقد قدمنا: أن أسرى وسرى لغتان. كسقى وأسقى، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه:

حي النضيرة ربه الخدر ... أسرت إليك ولم تكن تسري

بفتح التاء من "تسري" والباء في اللغتين للتعدية، كالباء في {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}

[17/2]،وقد تقدمت شواهد هذا في "سورة هود".

تنبيه

اختلف العلماء: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء بعين رأسه أولاً؟ فقال ابن عباس وغيره: رآه بعين رأسه وقالت عائشة وغيرها: لم يره. وهو خلاف مشهور، بين أهل العلم معروف.

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع: أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه. وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه؛ فالمراد به الرؤية بالقلب. كما في صحيح مسلم: أنه رآه بفؤاده مرتين لا بعين الرأس.

ومن أوضح الأدلة على ذلك: أن أبا ذر رضي الله عنه "وهو هو في صدق اللهجة" سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها. فأفتاه بما مقتضاه: أنه لم يره. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن زيد بن إبراهيم، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال:" سأَلت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأَيت ربك؟ قال: "نور! أنى أراه" !؟.

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي "ح" وحدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، كلاهما عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق قال:"قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نوراً" هذا لفظ مسلم.

وقال النووي في شرحه لمسلم: أما قوله صلى الله عليه وسلم: "نور! أَنى أراه" !! فهو بتنوين «نور» وفتح الهمزة في «أَنى»، وتشديد النون وفتحها. و«أَراه» بفتح الهمزة هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والروايات. ومعناه: حجابة نور، فكيف أراه!!.

قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: الضمير في «أراه» عائد إلى الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أن النور منعني من الرؤية؛ كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "رأَيت نوراً" معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. قال: وروي «نوراني» فتح الراء وكسر النون وتشديد الياء. ويحتمل أن يكون معناه راجعاً إلى ما قلناه؛

أي خالق النور المانع من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لم تقع إلينا ولا رأيناها في شيء من الأصول اهـ محل الغرض من كلام النووي.

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق الذي لا شك فيه هو: أن معنى الحديث هو ما ذكر، من كونه لا يتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه. ومن أصرح الأدلة على ذلك أيضاً حديث أبي موسى المتفق عليه "حِجَابُهُ النُّور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نور أني أراه" ؟. أي كيف أراه وحجابه نور، من صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه.

وقد قدمنا: أن تحقيق المقام في رؤية الله جل وعلا بالأبصار: أنها جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، بدليل قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [7/143]، لأنه لا يجهل المستحيل في حقّه جل وعلا. وأنها جائزة شرعاً وواقعة يوم القيامة، ممتنعة شرعاً في الدنيا قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [7/143]، إلى قوله {جَعَلَهُ دَكّاً} [7/143].

ومن أصرح الأدلة في ذلك حديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" ، في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة كما تقدم.

وأما قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [53/8،9]، فذلك جبريل على التحقيق، لا الله جلَّ وعلا. قوله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } . أظهر التفسيرات فيه: أن معنى {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أكثرنا حوله الخير والبركة بالأشجار والثمار والأنهار. وقد وردت آيات تدل على هذا. كقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [21/71]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [21/81]، فإن المراد بتلك الأرض: الشام. والمراد بأنه بارك فيها: أنه أكثر فيها البركة والخير بالخصب والأشجار والثمار والمياه. كما عليه جمهور العلماء.

وقال بعض العلماء: المراد بأنه بارك فيها أنه بعث الأنبياء منها، وقيل غير ذلك، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى :{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، الظاهر إنما أراه الله من آياته في هذه الآية الكريمة: أنه أراه إياه رؤية عين. فهمزة التعدية داخلة على رآى البصرية. كقولك: أرأيت زيداً دار عمرو. أي جعلته يراها بعينه. و {من} في الآية للتبعيض، والمعنى {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، أي: بعض آياتنا فنجعله يراها بعينه. وذلك ما رآه صلى الله عليه وسلم بعينه ليلة الإسراء من الغرائب والعجائب. كما جاء مبيناً في الأحاديث الكثيرة.

ويدل لما ذكرنا في الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النجم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [53/18،17].

قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ، لما بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم، الذي أنزله إليه، وهو التوراة. مبيناً أنه جعله هدىً لبني إسرائيل. وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن. كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [32/24،23]، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [28/43]، وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ } [6/154]،وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [7/154]الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً } . اعلم أن هذا الحرف قرأه جمهور القراء {إِلا تَتَّخِذُونَ} بالتاء على وجه الخطاب. وعلى هذا فـ"أن" هي المفسرة. فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله. لأن الإخلاص لله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وعلى هذه القراءة فـ«لا» في قوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا } [17/2]، ناهية. وقرأه أبو عمرو من السبعة {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً}، بالياء على الغيبة. وعلى هذه القراءة فالمصدر المنسبك من «أن» وصلتها مجرور بحرف التعليل المحذوف؛ أي: وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأجل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً. لأن اتخاذ الوكيل الذي تسند إليه الأمور، وتفوض من دون الله ليس من الهدى؛ فمرجع القراءتين إلى شيء واحد، وهو أن التوكل إنما يكون على الله وحده لا على غيره.

وكرر هذا المعنى في موضع كثيرة. كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [73/9]، وقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [67/29]، وقوله :{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [9/129]، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [65/3]، وقوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [14/12،11]، وقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [11/56]، وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [10/71]، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [33/3]، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ...} الآية[25/85]، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، وقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [3/173]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.

والوكيل: فعيل من التوكل. أي متوكلاً عليه، تفوضون إليه أموركم. فيوصل إليكم النفع، ويكف عنكم الضر.

وقال الزمخشري: {وَكِيلاً} [17/2]، أي: رباً تكلون إليه أموركم.

وقال ابن جرير: حفيظاً لكم سواي.

وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده. لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل اهـ. قاله أبو حيان في البحر.

وقال القرطبي: {وَكِيلاً} ، أي: شريكاً. عن مجاهد. وقيل: كفيلاً بأمورهم. حكاه الفراء. وقيل: ربًّا يتوكلون عليه في أمورهم. قاله الكلبي. وقال الفراء: كافياً اهـ والمعاني متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الوكيل: من يتوكل عليه. فتفوض الأمور إليه، ليأتي بالخير، ويدفع الشر. وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا. ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه. لأنه لا نافع ولا ضار، ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا.. عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ، ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح. تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق. ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله. أي يا ذرية من حملنا مع نوح، فنجيناهم من الغرق، تشبهوا بأبيكم، فاشكروا نعمنا. وأشار إلى هذا المعنى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [19/58].

وبين في مواضع أخر الذين حملهم مع نوح من هم؟ وبين الشيء الذي حملهم فيه، وبين من بقي له نسل، وعقب منهم، ومن انقطع ولم يبق له نسل ولا عقب.

فبين أن الذين حملهم مع نوح: هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} [11/40].

وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل بقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} .

وبين أن ممن سبق عليه القول من أهله بالشقاء امرأته وابنه. قال في امرأته: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ} ، إلى قوله {ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، وقال في ابنه: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ، وقال فيه أيضاً: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. وقوله: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [11/46]، أي الموعود بنجاتهم في قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ...} الآية[23/27]، ونحوها من الآيات.

وبين أن الذي حملهم فيه هو السفينة في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} . أي السّفينة، وقوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} . أي أدخل فيها ـ أي السفينة ـ {مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [23/27].

وبين أن ذرية من حمل من نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [37/77]، وكان نوح يحمد الله على طعامه وشرابه، ولباسه وشأنه كله. فسّماه الله عبداً شكوراً.

وأظهر أوجه الإعراب في قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا...} الآية[17/3]، أنه منادى بحرف محذوف. قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} . أظهر الأقوال فيه: أنه بمعنى أخبرناهم وأعلمناهم.

ومن معاني القضاء: الأخبار والإعلام. ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} والظّاهر أن تعديته بـ «إلى» لأنه مضمن معنى الإيحاء. وقيل: مضمن معنى: تقدمنا إليهم فأخبرناهم. قال معناه ابن كثير. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن ـ أي بالإيمان والطاعة ـ فإنه إنما يحسن إلى نفسه.

لأن نفع ذلك لنفسه خاصة. وأن من أساء ـ أي بالكفر والمعاصي ـ فإنه إنما يسيء على نفسه. لأن ضرر ذلك عائد إلى نفسه خاصة.

وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا...} [41/46،و45//15]، وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [99/7-8]، وقوله: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

واللام في قوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [17/7]، بمعنى: على، أي فعليها، بدليل قوله {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [41/46،و45/15]. ومن إتيان اللام بمعنى على قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ...} الآية[17/109]. أي عليها: وقوله: {فَسَلَامٌ لَّكَ} . أي سلام عليك ـ على ما قاله بعض العلماء. ونظير ذلك من كلام العرب: قول جابر التغلبي، أو شريح العبسي، أو زهير المزني أو غيرهم:

تناوله بالرمح ثم انثنى له ... فخر صريعاً لليدين وللفم

أي على اليدين وعلى الفم. والتعبير بهذه اللام في هذه الآية للمشاكلة. كما قدمنا في نحو: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} ، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ

عَلَيْهِ} الآية[2/194].

قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} . جواب إِذَا في هذه الآية الكريمة محذوف، وهو الذي تتعلق به اللام في قوله: {لِيَسُوءُواْ} وتقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسؤوا وجوهكم. بدليل قوله في الأولى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا...} الآية[17/5]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن": ونظيره في حذف العامل قول حميد بن ثور:

رأتني بحبليها فصدت مخافة ... وفي الحبل روعاه الفؤاد فروق

أي رأتني أقبلت، أو مقبلاً. وفي هذا الحرف ثلاث قرآت سبعيات: قرأه على الكسائي «لنسوء وجوهكم» بنون العظمة وفتح الهمزة. أي لنسوءها بتسليطنا إياهم عليكم يقتلونكم ويعذبونكم. وقرأه ابن عامر وحمزة وشعبة عن عاصم «ليسوء وجوهكم» بالياء وفتح الهمزة والفاعل ضمير عائد إلى الله. أي ليسوء هو. أي الله وجوهكم بتسليطه إياهم عليكم.

وقرأه الباقون {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [17/7]، بالياء وضم الهمزة بعدها واو الجمع التي هي فاعل الفعل، ونصبه بحذف النون، وضمير الفاعل الذي هو واو عائد إلى الذين بعثهم الله عليهم ليسؤوا وجوههم بأنواع العذاب والقتل. قوله تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} . لما بين جلَّ وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما: بعث عليهم عباداً له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة: بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً.

وبين أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم. وذلك في قوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [17/8]، ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟

ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جلَّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [17/8] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين. فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع

وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذلة والمسكنة.

فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [2/90،89]، وقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ} [2/100]، وقوله: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} ، ونحو ذلك من الآيات.

ومن الآيات الدالة على أنه عاد للانتقام منهم، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [59/46،2-3]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [33/27،26]، ونحو ذلك من الآيات.

وتركنا بسط قصة الذين سُلطوا عليهم في المرتين. لأنها أخبار إسرائيلية. وهي مشهورة في كتب التفسير والتاريخ. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . في قوله: {حَصِيرًا} [17/8]، في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، كل منهما يشهد لمعناه قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه وكلها صحيح ويشهد له قرآن. فنورد جميع ذلك لأنه كله حق:

الأول ـ أن الحصير: المحبس والسجن. من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصراً: ضَيَّق عليه، وأَحاط به. وهذا الوجه يدل له قوله

(3/16)

 

 

تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [25/13]، ونحو ذلك من الآيات.

الوجه الثاني ـ أن معنى {حَصِيرًا} أي فراشاً ومهاداً. من الحصير الذي يفرش. لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيراً. قال الثعلبي: وهو وجه حسن. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [7/41]، ونحو ذلك من الآيات. والمهاد: الفراش. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جلَّ وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. فـ {الَّتِى} نعت لموصوف محذوف. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:

وما من المنعوت والنعت عقل ... يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.

وهذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم. لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة. ولكنَّنا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة مِن هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيهاً ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفَّار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة.

فمن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا: فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته. وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول ـ توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...} [43/87]، وقال: {قُلْ مَنْ

(3/17)

 

 

يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [10/31]، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [26/23]، تجاهل من عارف أنه عبد مربوب. بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [17/102]، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [27/14]، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله. كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً.

الثاني ـ توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى «لا إله إلاَّ الله» وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [38/5].

ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ...} [47/19]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [16/36]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [21/25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [43/45]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [21/108]، فقد أمَر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد. لشمول كلمة «لا إله إلاَّ الله» لجميع ما جاء في الكُتب. لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده. فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتْبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.

النوع الثالث ـ توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيدِ

(3/18)

 

 

ينبني على أصلين:

الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [42/11].

والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه. أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [42/11]، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [20/110]، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفًى موضحاً بالآيات القرآنية «في سورة الأعراف».

ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا ـ على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير. فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده. لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [10/31]، إلى قوله {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [10/31]، فلَّما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [10/31].

ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [10/31]، فلمَّا اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [23/87،86]، فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ، ثم قال: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [23/89،88]، فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [23/89].

ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [13/16]، فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا} [13/16].

(3/19)

 

 

ومنها قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [43/87]، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [43/87].

ومنها قوله تعالى :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاٌّرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [29/63]، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم شِركهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [29/63]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [31/25]، فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [31/25]، وقوله تعالى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [27/60،59]، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أن القادر على خلق السَّموات والأرض وما ذكر معها، خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله. {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [27/60]، ثم قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [27/61]، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [27/61]، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خلَفَاءَ الْأَرْضَ أَإِلَهٌ} [27/62]، ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [27/62]، ثم قال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَينَ يَدَى رَحْمَتِهِ} [27/63]، ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [27/63]، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والاٌّرْضِ} [27/64]، ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين الاعتراف وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [27/62]،وقوله: {اللَّهُ

(3/20)

 

 

الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَىْءٍ} [30/40]، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا أي ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [30/40].

والآيات بنحو هذا كثيرة جداً. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع: أن كل الاسئلة المتعلِّقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار. لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة. نحو قوله تعالى: {أَفِى اللَّهِ شَكٌّ} [14/10]، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا} [6/164]، وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار. لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلِّق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار، لأنهم لا ينكرون الربوبية، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه.

والكلام على أقسام التوحيد ستجِده إن شاء الله في مواضع كثيرة مِن هذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر.

ومن هدي القرآن لِلتي هي أقوم ـ جعله الطلاق بيد الرجل. كما قال تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...} الآية[65/1]، ونحوها من الآيات. لأن النساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض. كما قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [2/223].

ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق: أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه لأنه يراه غير صالح له، والدليل الحسي القاطع على ما جاء به القرآن من أن الرجل زارع، والمرأة مزرعة ـ أن آلة الازدراع مع الرجل. فلو أرادت المرأة أن تجامع الرجل وهو كاره لها، لا رغبة له فيها لم ينتشر، ولم يقم ذكره إليها فلا تقدر منه على شيء، بخلاف الرجل فإنه قد يرغمها وهي كارهة فتحمل وتلد. كما قال أبو كبير الهذلي:

ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل

فدلت الطبيعة والخلقة على أنه فاعل وأنها مفعول به ولذا أجمع العقلاء على نسبة

(3/21)

 

 

الولد له لا لها.

وتسوية المرأة بالرجل في ذلك مكابرة في المحسوس، كما لا يخفى.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم ـ إباحته تعدد الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن، لزمه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه، كما قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4/3] ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كلَّ العُقَلاء.

منها ـ أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض، وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأُمة، فلو حبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلاً في غير ذنب.

ومنها: أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عدداً من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضاً لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة. فلو قصر الرجل على واحدة، لبقي عدد ضخم من النساء محروماً من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة، والمحافظة على الشرف والمروءة والأخلاق فسبحان الحكيم الخبير كتاب حكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

ومنها: أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم. فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء. لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح. فلو قصر الواحد على الواحدة، لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضاً بعدم وجود أزواج. فيكون ذلك سبباً لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة، والانحطاط الخلقي، وضياع القيم الإنسانية، كما هو واضح. فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن، وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه. لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [16/90]، والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز، لقوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [4/129]، أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض، فهو غير مستطاع دفعه للبشر، لأنه انفعال وتأثر نفساني لا فعل، وهو المراد بقوله:

(3/22)

 

 

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية [4/129]، ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام، من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة، لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سَخطت الأخرى. فهو بين سخطتين دائماً ـ وأن هذا ليس من الحكمة. فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل. لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه ألبتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة. فهو أمر عادي ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام ـ كلا شيء، لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى.

فلو فرضنا أن المشاغَبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا، كما هو معروف في الأصول. قال في مراقي السعود عاطفاً على ما تلغى فيه المفسدة المرجوحة في جنب المصلحة الراجحة:

أو رجح الإصلاح كالأسارى ... تفدى بما ينفع للنصارى

وانظر تدلي دوالي العنب ... في كل مشرق وكل مغرب

ففداء الأسارى مصلحة راجحة، ودفع فدائهم النافع للعدو مفسدة مرجوحة، فتقدم عليها المصلحة الراجحة. أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة، أو كانت المفسدة أرجح كفداء الأسارى بسلاح يتمكن بسببه العدو من قتل قدر الأسارى أو أكثر من المسلمين، فإن المصلحة تلغى لكونها غير راجحة، كما قال في المراقي:

اخرم مناسباً بمفسد لزم ... للحكم وهو غير مرجوح علم

وكذلك العنب تعصر منه الخمر وهي أم الخبائث، إلا أن مصلحة وجود العنب والزبيب والانتفاع بهما في أقطار الدنيا مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر منها ألغيت لها تلك المفسدة المرجوحة. واجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون سبباً لحصول الزنى إلا أن التعاون بين المجتمع من ذكور وإناث مصلحة أرجح من تلك المفسدة، ولذا لم يقل أحد من العلماء إنه يجب عزل النساء في محلَّ مستقل عن الرجال، وأن يجعل عليهن حصن قوي لا يمكن الوصول إليهن معه، وتجعل المفاتيح بيد أمين

(3/23)

 

 

معروف بالتقى والديانة كما هو مقرر في الأصول.

فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل بعدم تعطّل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر. وتحديد الزوجات بأربع تحديد من حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع. والعلم عند الله تعالى.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم ـ تفضيله الذكر على الأنثى في الميراث. كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [4/176].

وقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا. فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعاً.

ثم بين أنه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [4/176]، وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } [4/11].

ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث الذي ذكره الله تعالى. كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ} أي وهو الرجال {عَلَى بَعْضٍ} [4/34]، أي: وهو النساء، وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [2/228]، وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال. والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس.

وقد أشار جلَّ وعلا إلى ذلك بقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [43/18]؛ لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا له ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما. ولذلك ينشأ في الحلية أي الزينة من أنواع الحلي والحلل ليجبر نقصه الخلقي

(3/24)

 

 

الطبيعي بالتجميل بالحُلِي والحلل وهو الأنثى. بخلاف الرجل. فإن كمال ذكورته وقوتها وجمالها يكفيه على الحلي. كما قال الشاعر:

وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا

وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [53/21-22]، وإنما كانت هذه القسمة ضيزى ـ أي غير عادلة ـ؛ لأن الأُنثى أنقص من الذكر خلقة وطبيعة. فجعلوا هذا النصيب الناقص لله جلَّ وعلا ـ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! وجعلوا الكامل لأنفسهم كما قال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [16/62]، أي: وهو البنات. وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} إلى قوله {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [16/59،58]،وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً} أي وهو الأنثى {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [43/17].

وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة والطبيعة، وأن الذكر أفضل وأكمل منها: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [37/153-154]، {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً} الآية[17/40]، والآيات الدالة على تفضيله عليها كثيرة جداً.

ومعلوم عند عامة العقلاء: أن الأنثى متاع لا بد له ممن يقوم بشؤونها ويحافظ عليه.

وقد اختلف العلماء في التمتع بالزوجة: هل هو قوت؟ أو تفكه؟ وأجرى علماء المالكية على هذا الخلاف حكم إلزام الابن بتزويج أبيه الفقير قالوا: فعلى أن النكاح قوت فعليه تزويجه؟ لأنه من جملة القوت الواجب له عليه. وعلى أنه تفكه لا يجب عليه على قول بعضهم. فانظر شبه النساء بالطعام والفاكهة عند العلماء. وقد جاءت السنة الصحيحة بالنهي عن قتل النساء والصبيان في الجهاد. لأنهما من جملة مال المسلمين الغانمين. بخلاف الرجال فإنهم يقتلون.

ومن الأدلة على أفضلية الذكر على الأنثى: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول. فأصلها جزء منه. فإذا عرفت من هذه الأدلة: أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار، يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته، يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته؛

(3/25)

 

 

ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر. كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [4/34].

وإذا علمت ذلك فاعلم: أنه لما كانت الحكمة البالغة، تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقوماً عليه من قبل القوي الكامل، اقتضى ذلك أن يكون الرجل ملزماً بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازِمهن في الحياة. كما قال تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [4/34]، ومال الميراث ما مسحا في تحصيله عرقاً، ولا تسببا فيه البتة، وإنما هو تمليك من الله ملكهما إياه تمليكاً جبرياً. فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث وإن أدليا بسبب واحد. لأن الرجل مترقب للنقص دائماً بالإنفاق على نسائه، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر. والمرأة مترقبة للزِّيادة بدفع الرجل لها المهر، وإنفاقه عليها وقيامه بشؤونها. وإيثار مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً لجبر بعض نقصه المترقب ـ حكمته ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي. ولذا قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [4/11]، ولأجل هذه الحكم التَّي بينا بها فضل نوع الذكر على نوع الأنثى في أصل الخلقة والطبيعة، جعل الحكيم الخبير الرجل هو المسؤول عن المرأة في جميع أحوالها. وخصه بالرسالة والنبوة والخلافة دونها، وملكه الطلاق دونها. وجعله الولي في النكاح دونها، وجعل انتساب الأولاد إليه لا إليها، وجعل شهادته في الأموال بشهادة امرأتين في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [2/282]، وجعل شهادته تقبل في الحدود والقصاص دونها، إلى غير ذلك من الفوارق الحسية والمعنوية والشرعية بينهما.

ألا ترى أن الضعف الخلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال،

مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب. قال جرير:

إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا

وقال ابن الدمينة: بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأَذى لم يدر كيف يجيب

فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب

(3/26)

 

 

فالأول ـ تشبب بهن بضعف أركانهن والثاني ـ بعجزهن عن الإبانة في الخصام. كما قال تعالى: {وَهُوَ فِى الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [43/18]، ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين، صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر. قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال هذا لفظ البخاري في صحيحه. ومعلوم أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله. لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ...} الآية [59/7]، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم.

فلتعلمن أيتها النساء اللاتي تحاولن أن تكن كالرجال في جميع الشؤون أنكن مترجلات متشبهات بالرجال، وأنكن ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك المخنثون المتشبهون بالنساء، فهم أيضاً ملعونون في كتاب الله على لسانه صلى الله عليه وسلم، ولقد صدق من قال فيهم:

وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب

واعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه. أن هذه الفكرة الكافرة، الخاطئة الخاسئة، المخالِفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق البارِىء. من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين. فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأِن الله جلَّ وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني، صلاحاً لا يصلحه لها غيرها، كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد، وخدمة البيت، والقيام على شؤونه. من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك. وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة، وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقِيم الإنسانية ـ لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب. فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم: أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها، لا تقدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد. فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة: من حفظ الأولاد الصغار، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله. فلو أجروا إنساناً يقوم مقامها، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت

(3/27)

 

 

المرأة فراراً منه؛ فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين؛ لأن المرأة متاع، هو خير متاع الدنيا، وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضاً للخيانة.

لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكراً؛ فتعريضها لأَن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل. وكذلك إذا لمس شيئاً من بدنها بدون خائل سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية. ولاسيَّما إذا كان القلب فارغاً من خشية الله تعالى، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدراً. وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالباً سبباً لما هو شر منه. كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام، وتركت الصيانة. فصارت نساؤها يخرجن متبرِّجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله. لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق، ومن كل سوء، ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرُّؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال. لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس. كلام في غاية السقوط والخسة. لأن معناه: إشباع الرَّغبة مما لا يجوز، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته، وهذا كما ترى. ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء. لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته. كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر:

لقد أسمعت لو ناديتَ حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي

وقد أَمر رب السموات والأرض، خالق هذا الكون ومدبر شؤونه، العالم بخفايا أموره، وبكل ما كان وما سيكون بغض البصر عما لا يحل. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [24/31،30].

ونهى المرأة أن تضرب برجلها لتسمع الرجال صوت خلخالها في قوله: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ} [24/31]، ونهاهن عن لين الكلام. لئلا يطمع أهل الخنى فيهن. قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ

(3/28)

 

 

وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [33/32]، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق المقام في مسألة الحجاب "في سورة الأحزاب" كما قدمنا الوعد بذلك في ترجمة هذا الكتاب المبارك.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: ملك الرقيق المعبر عنه في القرآن بملك اليمين في آيات كثيرة. كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4/3]، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [23/5-6]، في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، وسأل سائل»، وقوله: {وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4/36]، وقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ...} الآية [4/24]، وقوله جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} الآية [24/33]، وقوله: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [33/52]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [33/50]، وقوله جلَّ وعلا: {وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [33/55]، وقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [24/31]، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} [4/25]، وقوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [16/71]، وقوله: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} [30/28]، إلى غير ذلك من الآيات.

فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات ونحوها: ملك الرقيق بالرق. ومن الآيات الدالة على ملك الرقيق قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} [16/57]، وقوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ...} الآية [2/221]، ونحو ذلك من الآيات.

وسبب الملك بالرق: هو الكُفر، ومحاربة الله ورسوله. فإذا أقدر الله المسلمين المجاهدين الباذلين مهجهم وأموالهم، وجميع قواهم، وما أعطاهم الله لِتكون كلمة الله هي العليا على الكفار ـ جعلهم ملكاً لهم بالسبي. إلا إذا اختار الإمام المن أو الفداء. لما في ذلك من المصلحة على المسلمين.

(3/29)

 

 

وهذا الحكم من أعدل الأحكام وأوضحها وأظهرها حكمة. وذلك أن الله جلَّ وعلا خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه. كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [51/57،56]، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [14/34]، وفي الآية الأخرى «في سورة النحل»: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [16/18]، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروه, كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [16/78]، فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره. وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.

فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير جلَّ وعلا ـ عقوبة شديدة تُناسب جريمتهم. فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشِراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلباً كلياً. فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم. كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، مع الإيصاء عليهم في القرآن. كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} إلى قوله {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4/36]، كما تقدم.

وتشوف الشارع تشوفاً شديداً للحرية والاخراج من الرق. فأكثر أسباب ذلك، كما أوجبه في الكفارات من قتل خطأ وظِهار ويمين وغير ذلك. وأوجب سراية العتق، وأمر بالكتابة في قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [24/33]، ورغب في الإعتاق ترغيباً شديداً. ولو فرضنا ولله المثل الأعلى أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق، وتشنع في ذلك على دين الإسلام، قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان، ودبر عليها ثورة

(3/30)

 

 

شديدة يريد بها إسقاط حكمها، وعدم نفوذ كلمتها، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفيذ أنظمتها، التي يظهر لها أن بهما صلاح المجتمع، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة. ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه. فهو أشد سلباً لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل. والكافر قام ببذل كل ما في وسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعه. ليسير عليه خلقه فينشر بسببه في الأرض الأمن والطمأنينة. والرخاء والعدالة، والمساواة في الحقوق الشرعية، وتنتظم به الحياة على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [16/90]، فعاقبه الله هذه المعاقبة بمنعه التصرف. ووضع درجته وجريمته تجعله يستحق العقوبة بذلك.

فإن قيل: إذا كان الرقيق مسلماً فما وجه ملكه بالرق؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟

فالجواب: أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء: أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها. فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي: ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع، وهو الحكيم الخبير. فإذا استقر هذا الحق وثبت، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقاً بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه. كما هو معلوم عند العقلاء. نعم، يحسن بالمالك ويجمل به: أن يعتقه إذا أسلم، وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه، وفتح له الأبواب الكثيرة كان قدمنا ـ فسبحان الحكيم الخبير {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [6/115]، فقوله: {صِدْقاً} ، أي: في الأخبار وقوله {وَعَدْلاً} ، أي: في الأحكام. ولا شك أن من ذلك العدل: الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: القصاص. فإن الإنسان إذا غضب وهم بأن يقتل إنساناً آخر فتذكر أنه إن قتله قتل به، خاف العاقبة فترك القتل. فحيي ذلك الذي كان يريد

(3/31)

 

 

قتله، وحيي هو. لأنه لم يقتل فيقتل قصاصاً. فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا؛ قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [2/79]، ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديماً وحديثاً قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم كتاب الله. لأن القصاص رادع عن جريمة القتل؛ كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفاً. وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة. لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحْبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع. كله كلام ساقط، عار من الحكمة لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل. فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل. فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [5/38]، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "لو سرقت فاطمة لقطعت يدها" .

وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع، وأنها اليمنى. وكان ابن مسعود وأصحابه يقرؤون "فاقطعوا أَيمانهما".

والجمهور أنه إن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم يعزر. وقيل يقتل. كما جاء في الحديث: "ولا قطع إلا في ربْع دينار أو قيمته أو ثلاثة دراهم" كما هو معروف في الأحاديث.

وليس قصدنا هنا تفصيل أحكام السرقة. وشروط القطع، كالنصاب والإخراج من حرز. ولكن مرادنا أن نبين أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم.

وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة، التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نهيه، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني، فمدت أصابعها الخائنة، إلى مال الغير لتأخذه بغير حَق، واستعملت قُوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر، وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح، يد نجسة قذرة، ساعية في الإخلال بنظام المجتمع. إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالِقها بالقطع والإزالة. كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن، فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن، وتطهيراً له من المرض. ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ارتكاب معصية السرقة، مع الردع البالغ

(3/32)

 

 

بالقطع عن السرقة؛ قال البخاري في صحيحه: باب الحدود كفَّارة، حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ابن عيينة عن الزُّهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفَّارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه. إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه" . اهـ هذا لفظ البخاري في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "فهو كفارته" نص صريح في أن الحدود تطهر المرتكبين لها من الذنب.

والتحقيق في ذلك ما حققه بعض العلماء: من أن حقوق الله يطهر منها بإقامة الحد. وحق المخلوق يبقى. فارتكاب جريمة السرقة مثلاً يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى، لأن السرقة علة موجبة حكمين: وهما القطع، والغرم. قال في مراقي السعود:

وذاك في الحكم الكثير أطلقه ... كالقطع مع غرم نصاب السرقه

مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: لا يلزمه الغرم مع القطع. لظاهر الآية الكريمة: فإنها نصَّت على القطع ولم تذكر غرماً.

وقال جماعة: يغرم المسروق مطلقاً، فات أو لم يفت، معسراً كان أو موسراً. ويتبع به ديناً إن كان معسراً.

وقال جماعة: يرد المسروق إن كان قائماً. وإن لم يكن قائماً رد قيمته إن كان موسراً، فإن كان معسراً فلا شيء عليه ولا يتبع به ديناً.

والأول مذهب أبي حنيفة. والثاني مذهب الشافعي وأحمد. والثالث مذهب مالك. وقطع السارق كان معروفاً في الجاهلية فأقره الإسلام.وعقد ابن الكلبي باباً لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة، فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب. وذكر ممن قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم، ومقيس بن قيس بن عدي بن سهم وغيرهما، وأن عوفاً السابق لذلك ـ انتهى.

وكان من هدايا الكعبة صورة غزالين من ذهب، أهدتهما الفرس لبيت الله الحرام، كما عقده البدوي الشنقيطي في نظم عمود النسب بقوله:

ومن خباياه غزالاً ذهب ... أهدتهما الفرس لبيت العرب

(3/33)

 

 

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: وقد قُطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام. فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم. وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد. وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: ما ذكره القرطبي رحمه الله من أن المخزومية التي سرقت فقطع النَّبي صلى الله عليه وسلم يدها أولاً هي مرة بنت سفيان خلاف التحقيق. والتحقيق أنها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل، الذي كان زوج أم سلمة قبل النَّبي صلى الله عليه وسلم. قتل أبوها كافراً يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقطع النَّبي صلى الله عليه وسلم يدها وقع في غزوة الفتح. وأما سرقة أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ابنة عم المذكورة، وقطع النَّبي صلى الله عليه وسلم يدها ففي حجة الوداع، بعد قصة الأولى بأكثر من سنتين.

فإن قيل: أخرج الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. وفي لفظ بعضهم "قيمته ثلاثة دراهم". وأخرج الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن غير ابن ماجه وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم:كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً، مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية، ودية الذهب ألف دينار. فتكون دية اليد خمسمائة دينار. فكيف تؤخذ في مقابلة ربع دينار؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك.

فالجواب: أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين لايؤمنون بالله ورسوله، هو الذي نظمه المعري بقوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار

وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظماً ونثراً. منها قول القاضي عبد الوهاب مجيباً له في بحره ورويه:

عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري

وقال بعضهم: لما خانت هانت. ومن الواضح: أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما

(3/34)

 

 

تحملت رذيلة السرقة وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن، بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل. فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة اهـ.

فانظر ما يدعو إليه القرآن: من مكارم الأخلاق، والتنزُّه عما لا يليق، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة. فانظر هذا الحط العظيم لدرجته، بسبب ارتكاب الرذائل.

وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصة دون غيرها من الجنايات على الأموال، كالغصب، والانتهاب، ونحو ذلك.

قال المازري ومن تبعه: صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها، من الانتهاب والغصب، ولسهولة إقامة البينة على ما عدى السرقة بخلافها، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر. ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد. ثم لما خانت هانت. وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:

صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... حماية المال فافهم حكمة الباري

وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال؛ فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين.

وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال: القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى. فإن الغصب أكثر هتكاً للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس؛ لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي.

(3/35)

 

 

وجوابه: أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام. اهـ بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.

قال مقيده عفا الله عنه: الفرق بين السرقة وبين الغصب ونحوه الذي أشار إليه المازري ؛ ظاهر، وهو أن النهب والغصب ونحوهما قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأن الأمر الظاهر غالباً توجد البينة عليه بخلاف السرقة. فإن السارق إنما يسرق خفية بحيث لا يطلع عليه أحد، فيعسر الإنصاف منه. فغلظت عليه الجناية ليكون أبلغ في الزجر. والعلم عند الله تعالى.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكراً كان أو أنثى، وجلد الزاني البكر مائة جلدة ذكراً كان أو أُنثى.

أما الرجم ـ فهو منصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم، وهي قوله تعالى: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم".

وقد قدمنا ذم القرآن للمعرض عما في التوراة من حكم الرجم. فدل القرآن في آيات محكمة ـ كقوله {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} الآية[5/41]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ...} الآية [3/23]، على ثبوت حكم الرجم في شريعة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لذمة في كتابنا للمعرِض عنه كما تقدم.

وما ذكرنا من أن حكم الرجم ثابت بالقرآن لا ينافي قول علي رضي الله عنه، حين رجم امرأة يوم الجمعة: رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها.

ويدل لذلك قول عمر رضي الله عنه في حديثه الصحيح المشهور: فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده... الحديث.

والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان. لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه.

والحاصل: أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى. لأن الزاني لما أدخل فرجه

(3/36)

 

 

في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، وتقذير الحُرمات، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني. والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله. ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة. فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة، وشر أمثاله عن المجتمع. ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورة التي ارتكب، وجعل قتلته أفظع قتلة. لأن جَرِيمته أفظع جريمة، والجزاء من جنس العمل.

وقد دل الشرع المطهر على أن إدخال الفرج في الفرج المأذون فيه شرعاً يوجب الغسل، والمنع من دخول المسجد على كل واحد منهما حتى يغتسل بالماء. فدل ذلك أن ذلك الفعل يتطلب طهارة في الأصل، وطهارته المعنوية إن كان حراماً قتل صاحبه المحصن. لأنه إن رجم كفر ذلك عنه ذنب الزنى، ويبقى عليه حق الآدمي. كالزوج إن زنى بمتزوجة، وحق الأولياء في إلحاق العار بهم كما أشرنا له سابقاً. وشدة قبح الزنى أمر مركوز في الطبائع، وقد قالت هند بنت عتبة وهي كافرة: ما أقبح ذلك الفعل حلالاً! فكيف به وهو حرام وغلظ جلَّ وعلا عقوبة المحصن بالرجم تغليظاً أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة. لأن المحصن قد ذاق عُسَيْلة النساء، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن. فلما كان الداعي إلى الزنى أعظم، كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم.

وأما جلد الزاني البكر ذكراً كان أو أنثى مائة جلدة ـ فهذا منصوص بقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...} الآية [24/2]؛ لأن هذه العقوبة تردعه وأمثاله عن الزنى، وتطهره من ذنب الزنى كما تقدَّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ما يلزم الزناة من ذكور إناث، وعبيد وأحرار «في سورة النور».

وتشريع الحكيم الخبير جلَّ وعلا ـ مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاءً وفاقاً.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين. فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام: من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام ـ باطل لا أَساس له، والقرآن الكريم يدعو إلَى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين. ولكن ذلك التقدم في حدود الدين، والتحلي بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} الآية

(3/37)

 

 

[8/60]،وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً...} [34/11،10]، فقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ،يدل على الاستعداد لمكافحة العدو، وقوله {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف. وداود من أنبياء «سورة الأنعام» المذكورين فيها في قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} [6/84]، وقد قال تعالى مخاطباً لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بعد أن ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/90].

وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة «في ص» فقال: أو ما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} الى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [6/84-90]، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود. فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا، وانظر قوله تعالى: {و َأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [8/60]، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت. فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد. ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين.

ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى: {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...} الآية[4/102]، فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو، وبين القيام بما شرعه الله جلَّ وعلا من دينه. فأمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [8/45]، فأمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيراً عند التحام القتال يدل على ذلك أيضاً دلالة واضحة. فالكفار خيلوا لضعاف العقول أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين، والسمت الحسن والأخلاق الكريمة ـ تباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود، والنفي والإثبات. أو الضدين

(3/38)

 

 

كالسواد والبياض، والحركة والسكون. أو المتضائفين كالأبوة والبنوة، والفوق والتحت. أو العدم والملكة كالبصر والعمى.

فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة، وكذلك الحركة والسكون مثلاً. وكذلك الأبوة والبنوة. فكل ذات ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها النبوة لها، بحيث يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد. كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة، أو الحركة والسكون في جرم. وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان.

فخيلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة، بحيث يستحيل اجتماعهما. فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم. فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

والتحقيق: أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة، إنما هي تباين المخالفة، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذات أخرى. كالبياض والبرودة، والكلام والقعود، والسواد والحلاوة.

فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج. وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقت واحد. وهكذا. فالنسبة بين التمسك بالدِّين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلاً أن يكون بارداً كالثلج، والإنسان القاعد يجوز عقلاً أن يكون متكلماً، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلاً أن يكون متقدماً. إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، مشتغلاً في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفَى، وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [22/40]، وقوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [30/47]، وقوله: {لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}

(3/39)

 

 

[37/171-173]،وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [58/21]، وقوله: {نَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [40/51]، وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [9/14]، ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث.

فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم، كالنسبة بين الملزوم ولازمه. لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم، كما صرحت به الآيات المذكورة. ومعلوم أن النسبة بين الملزوم ولازمه لا تعدو أحد أمرين: إما أن تكون المساواة أو الخصوص المطلق، لأن الملزوم لا يمكن أن يكون أعم من لازمه. وقد يجوز أن يكون مساوياً له أو خص منه، ولا يتعدى ذلك. ومثال ذلك: الإنسان مثلاً، فإنه ملزوم للبشرية الحيوانية، بمعنى أن الإنسان يلزم على كونه إنساناً أن يكون بشراً وأن يكون حيواناً، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصدق وهو البشر. والثاني أعم منه ما صدقاً وهو الحيوان، فالإنسان أخص منه خصوصاً مطلقاً كما هو معروف.

فانظر كيف خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين. وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم، لأنهم لو عرفوا الدِّين حقاً واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم، فالدين هو هو، وصلته بالله هي هي، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء. فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة. ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم، وقادوا جميع أهل الأرض، وهذا مما لا شك فيه {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [47/4].

ومن هدي القرآن للتي هي أقْوَم ـ بيانه أنه كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح، مخرج عن الملة الإسلامية. ولما قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال لهم: "الله قتلها" فقالوا له: ما ذبحتم بأيديهم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون إنه حرام فأنتم إذن أحسن من

(3/40)

 

 

الله!؟ أنزل الله فيهم قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [6/121]، وحذف الفاء من قوله {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جَواب ما أخرت فهو ملتزم

إذ لو كانت الجملة جواباً للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضاً:

واقرن بفا حتماً جواباً لو جعل ... شرطاً لأن أو غيرها لم ينجعل

فهو قسم من الله جلَّ وعلا أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [36/60]؛ لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [4/117]، أي: ما يعبدون إلا شيطاناً، وذلك باتباعهم تشريعه. وقال: {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [6/137]، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى. وقال عن خليله {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [19/44]، أي بطاعته في الكفر والمعاصي. ولما سأل عدي بن حاتم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} [9/31]، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم. والآيات بمثل هذا كثيرة.

والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام. كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [4/60]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [5/44]، وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [6/114].

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛

(3/41)

 

 

لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك، بساقك. كما جاء في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" . ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه. كقوله تعالى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} الآية[2/84]، أي لا تخرجون إخوانكم، وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [24/12]، أي: بإخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [49/11]،أي إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} الآية [2/188]، أي لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات. ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" .

ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية: قوله تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [58/22]، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والابناء والإخوان والعشائر. وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [9/71]، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [49/10]، وقوله: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} الآية[3/103]، إلى غير ذلك من الآيات.

فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية ـ لا يجوز، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين.

ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب قوله تعالى: {يقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [63/8]، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان قال: حفظناه من عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار!! وقال

(3/42)

 

 

المهاجري: يا للمهاجرين!! فسمَّعها الله رسوله قال: "ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" الحديث. فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين، هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" يقتضي وجوب ترك النداء بها؛ لأن قوله «دعوها» أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول. لأن الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [24/63]، ويقول لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [7/12]، فدل على أن مخالفة الأمر معصية. وقال تعالى عن نبيِّه موسى في خطابه لأخيه: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} [20/93]، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر: وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [33/36]، فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار، موجب للامتثال؛ لا سيما وقد أكد النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله: "فإنها منتنة" وحسبك بالنتن موجباً للتباعد لدلالته على الخبث البالغ.

فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاعله يتعاطى المنتن، ولا شك أن المنتن خبيث، والله تعالى يقول: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية [24/26]، ويقول: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} [7/157]، وحديث جابر هذا الذي قدمناه عن البخاري أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه قال رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وزهير بن حرب، وأحمد بن عبدة الضبي، وابن أبي عمر، واللفظ لابن أبي شيبة قال ابن عبدة: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول:"كنَّا مع النَّبي في غزاةٍ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية" قالوا:يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: "دعوها فإنها منتنة" . الحديث.

وقد عرفت وجه لدلالة هذا الحديث على التحريم، مع أن في بعض رواياته الثابتة في الصحيح التصريح بأن دعوى الرجل: "يا لبني فلان" من دعوى الجاهلية. وإذا صح بذلك

(3/43)

 

 

أنها من دعوى الجاهلية فقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" . وفي رواية في الصحيح: "ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية" ، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا، وهو دليل واضح على التحريم الشديد. ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" هذا حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد من طرق متعددة عن عتي بن ضمرة السعدي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وذكره صاحب الجامع الصغير بلفظ "إذا سمعتم من يعتزي بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا" وأشار لأنه أخرجه أحمد في المسند، والنسائي وابن حبان، والطبراني في الكبير، والضياء المقدسي عن أُبي رضي الله عنه، وجعل عليه علامة الصحة. وذكره أيضاً صاحب الجامع الصغير بلفظ "إذا رأيتم الرجل يتعزى.." الخ، وأشار إلى أنه أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي، وجعل عليه علامة الصحة. وقال شارحه المناوي: ورواه عنه أيضاً الطبراني، قال الهيتمي: ورجاله ثقات، وقال شارحه العزيزي: هو حديث صحيح. وقال فيه الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني في كتابه "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" قال النجم: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه. ومراده بالنجم: الشيخ محمد نجم الدين الغزي في كتابه المسمى "إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن" فانظر كيف سمى النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء "عزاء الجاهلية" وأمر أن يقال للداعي به "اعضض على هن أبيك" أي فرجه، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكتابة. فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النَّبي صلى الله عليه وسلم له.

واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة.

وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة. كقوله: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…} الآية[5/104]، وقوله: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…} الآية[2/107]، وأمثال ذلك من الآيات.

واعلم أنه لا خلاف بين العلماء ـ كما ذكرنا آنفاً ـ في منع النداء برابطة غير الإسلام. كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من وَرائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية. فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء

(3/44)

 

 

إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضاً مثلاً. فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام. واستبدالها به صفقة خاسرة. فهي كما قال الراجز:

بدلت بالجمة رأساً أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا

كما اشترى المسلم إذ تنصَّرا

وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى.

وقد بين الله جلَّ وعلا في محكم كتابه: أن الحكمة في جعله بني آدم شعوباً وقبائل هي التعارف فيما بينهم. وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها. قال جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [49/13]، فاللام في قوله {لِتَعَارَفُوا} لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين. فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [49/13]، ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبِية لا تمت إلى الإسلام بصلة. كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب. وقد بين الله جلَّ وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه. قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [93/6]، أي: آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.

ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسَّد في التُّراب دفينا

كما قدمنا في سورة هود.

وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما قال تعالى عن قومه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [11/91].

وقد نفع الله بها نبيه صالحاً أيضاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كما أشار تعالى لذلك بقوله: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [27/49]، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح،

(3/45)

 

 

ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءاً إلا ليلاً خفية. وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفاً منهم. ولما كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبة له في قومه ظهر فيه أثر ذلك حتى قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [11/80]، وقد قدمنا هذا مستوفى في "سورة هود".

فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمود وتأخر عن مسايرة ركب الحضارة. نعوذ بالله من طمس البصيرة. وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يؤيد هذا الدِّين بالرجل الفاجر" ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع. لأنها تشمل المسلم والكافر، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية[58/22]، كما تقدم.

والحاصل ـ أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة «لا إله إلا الله» ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف. قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [40/7-9]، فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي رَبَطَتْ بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله جلَّ وعلا. لأنه قال عن الملائكة: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}

(3/46)

 

 

[40/7]، فوصفهم بالإيمان. وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [40/7]، فوصفهم أيضاً بالإيمان. فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان وهو أعظم رابطة.

ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام ـ قوله تعالى في أبي لهب عم النَّبي صلى الله عليه وسلم: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [111/3]، ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: "سَلمان منا أهل البيت" رواه الطبراني والحاكم في المستدرك، وجعل عليه صاحب الجامع الصغير علامة الصحة. وضعفه الحافظ الذهبي. وقال الهيتمي فيه، عند الطبراني كثير بن عبد الله المزني ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. وقد أجاد من قال:

لقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب

وقد أجمع العلماء: على أن الرجل إن مات وليس له من القرباء إلا ابن كافر، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة. فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.

وبالجملة، فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض، وتربط بين أهل الأرض والسماء، هي رابطة «لا إله إلا الله» فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها. ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [5/51]، وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [8/37]، والعلم عند الله تعالى.

وبالجملة: فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:

الأولى: درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات.

والثانية: جلب المصالح، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات.

والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات. وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها.

فالضروريات التي هي درء المفاسد؛ إنما هي درؤها عن ستة أشياء:

(3/47)

 

 

الأوَّل ـ الدين، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعد لها. كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [2/193]، وفي سورة الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} الآية[39]، وقال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [48/16]، وقال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدو أن لا إله إلا الله" الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين.

والثاني ـ النفس، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك أوجب القصاص درءاً للمفسدة عن الأنفس، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} الآية[2/179]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية[2/178]، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} الآية [17/33].

الثالث ـ العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [5/91،90]، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" ، وقال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" كما قدمنا ذلك مستوفى «في سورة النحل» وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءاً للمفسدة عن العقل.

الرابع ـ النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت. لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب. قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [17/32]، ونحو ذلك من الآيات، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [24/2]، وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم. وقال تعالى في إيجاب العدة حفظاً للأنساب: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [2/228]، وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [2/234]، وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين.

ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره. فمنع نكاح الحامل حتى تضع، قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [65/4].

الخامس ـ العِرْض، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. فنهى

(3/48)

 

 

المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة. قال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم} [49/12]، وقبح جلَّ وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح. بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [49/12]، وقال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [49/11]، وقال في إيجاب حد القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} الآية [24/5،4].

السادس ـ المال، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق واعدلها. ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي، وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد كما تقدم. قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [4/29]، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [2/188]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّه} الآية[5/38]، وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.

المصلحة الثانية ـ جَلْب المصالح، وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها. ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [62/10] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال: {يضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ} [73/20]، وقال: {بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [4/29].

ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع. ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع، والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك.

المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها. والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جداً في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلقه القرآن لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق. لأن الله تعالى يقول

(3/49)

 

 

في نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [68/4].

فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق: أنه يكون على خُلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق، وسنذكر لك بعضاً من ذلك تنبيهاً به على غيره.

فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [2/237].

فانظر ما في هذه الآية من الحضّ على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل. وقال تعالى {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الآية [5/2]، وقال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [5/8]؛ فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق، والأمر بأن تُعامل من عَصى الله فيك بأن تُطيعه فيه. وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [4/36]؛ فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [16/90]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية [6/151]، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [25/72]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [28/55]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات.

ومن هدي القرآن للتي هي أقوم ـ هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها. ونحن دائماً في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام، ـ تنبيهاً بها على غيرها:

المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار. وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها. فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به

(3/50)

 

 

والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء. فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.

فمن الأدلة المبينة لذلك: أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [33/10-11]، كان علاج ذلك هو ما ذكرنا؛ فانظر شدة هذا الحصار العسكري وقوة أثره في المسلمين، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصاداً. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن العلاج الذي قابلوا به هذا الأمر العظيم، وحلوا به هذه المشكلة العظمى، هو ما بينه جلَّ وعلا "في سورة الأحزاب" بقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [33/22].

فهذا الإيمان الكامل، وهذا التسليم العظيم لله جلَّ وعلا، ثقةً به، وتوكلاً عليه، هو سبب حل هذه المشكلة العظمَى.

وقد صرح الله تعالى بنتيجة هذا العلاج بقوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [33/27،26،25].

وهذا الذي نصرهم الله به على عدوهم ما كانوا يظنونه، ولا يحسبون أنهم ينصرون به وهو الملائكة والريح. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [33/9]، ولما علم جلَّ وعلا من أهل بيعة الرضوان الإخلاص الكامل، ونوه عن إخلاصهم بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [48/18]، أي: من الإيمان والإخلاص؛ كان من نتائج ذلك ما ذكره الله جلَّ وعلا في قوله {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً} [48/21]فصرح جلَّ وعلا في هذه الآية بأنهم لم يقدروا

(3/51)

 

 

عليها، وأن الله جلَّ وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها، وذلك من نتائج قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم.

فدلت الآية على أن الإخلاص لله وقوة الإيمان به، هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2/249]، وقوله تعالى في هذه الآية: {لَم تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [48/21]، فعل في سياق النفي، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق، كما تقرر في الأصول. ووجهه ظاهر. لأن الفعل الصناعي «أعني الذي يسمى في الاصطلاح فعل الأمر أو الفعل الماضي أو الفعل المضارع» ينحل عند النحويين، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:

المصدر اسم ما سوى الزمان من ... مدلولي الفعل كأمن من أمن

وعند جماعة من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة، وهذا هو الظاهر كما حرره بعض البلاغيين، في بحث الاستعارة التبعية.

فالمصدر إذن كامن في مفهوم الفعل إجماعاً. فيتسلط النفي الداخل على الفعل على المصدر الكامن في مفهومه، وهو في المعنى نكرة. إذ ليس له سبب يجعله معرفة، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم.

فقوله: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [48/21]، في معنى لا قدرة لكم عليها، وهذا يعم سلب جميع أنواع القدرة. لأن النكرة في سياق النفي تدل على عموم السلب وشموله لجميع الأفراد الداخلة تحت العنوان. كما هو معروف في محله.

وبهذا تعلم أن جميع أنواع القدرة عليها مسلوب عنهم، ولكن الله جلَّ وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها. لما علم من الإيمان والإخلاص في قلوبهم {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِِبُونَ} [37/173].

المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء ـ مع أن المسلمين على الحق والكفار على الباطل.

وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم. فأفتى الله جل وعلا فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جلَّ وعلا.

وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد: فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن

(3/52)

 

 

عمته، ومثل بهما، وقتل غيرهما من المهاجرين، وقتل سبعون رجلاً من الأنصار، وجرح صلى الله عليه وسلم، وشُقَّت شفته، وكسرت رباعيته، وشج صلى الله عليه وسلم.

استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف يدال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فأنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [3/165].

وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} ، فيه إجمال بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} –الى قوله -: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} [3/152].

ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح. لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم، وإرادة بعضهم الدنيا مقدماً لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أوضحنا هذا في سورة "آل عمران" ومن عرف أصل الداء. عرف الدواء. كما لا يخفى.

المشكلة الثالثة:

هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة. كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [8/46].

وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة «الأنفال».

فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء، وإن جامل بعضهم بعضاً فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك.

وقد بين تعالى في سورة «الحشر» أن سبب هذا الداء الذي عَمت به البلوى إنما هو ضعف العقل. قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [59/14]، ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [59/14]، ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي. لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتاً ويضيء الطريق للمتمسِّك به. فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً، والنافع نافعاً، والضار ضاراً. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ

(3/53)

 

 

كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ} [6/122]، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [2/257]، ومن أخرج من الظلمات إلى النور أبصر الحق، لأن ذلك النور يكشف له عن الحقائق فيريه الحق حقاً، والباطل باطلاً، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [67/22]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [35/19-22]، وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [11/24]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلاً من الموت الذي كان فيه، ونوراً بدلاً من الظلمات التي كان فيها.

وهذا النور عظيم يكشف الحقائق كشفاً عظيماً. كما قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} إلى قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ} [24/35]، ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم، يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم. لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [59/7]، وكان تتبع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيهاً بها على غيرها والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} . في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير للعلماء. وأحدهما يشهد له قرآن.

وهو أن معنى الآية {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ} [17/11]، كأن يدعو على نفسه أو ولده بالهلاك عند الضجر من أمر. فيقول اللهم أهلكني، أو أهلك ولدي. فيدعو بالشر دعاء لا يحب أن يستجاب له. وقوله {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي يدعو بالشر كما يدعو بالخير فيقول عند الضجر: اللهم أهلك ولدي كما يقول في غير وقت الضجر: اللهم عافه، ونحو ذلك من الدعاء.

ولو استجاب الله دعاءه بالشر لهلك. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ سْتِعْجَالَهُم بِالخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [10/11]، أي: لو عجّل لهم الإجابة بالشر كما يعجل لهم الإجابة بالخير {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لهلكوا

(3/54)

 

 

وماتوا. فالاستعجال بمعنى التعجيل.

ويدخل في دعاء الإنسان بالشر قول النضر بن الحارث العبدري: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [8/32].

وممن فسر الآية الكريمة بما ذكرنا: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو أصح التفسيرين لدلالة آية يونس عليه.

الوجه الثاني في تفسير الآية ـ أن الإنسان كما يدعو بالخير فيسأل الله الجنة، والسلامة من النار، ومن عذاب القبر، كذلك قد يدعو بالشر فيسأل الله أن ييسر له الزنى بمعشوقته، أو قتل مسلم هو عدو له ونحو ذلك. ومن هذا القبيل قول ابن جامع:

أطوف بالبيت فيمن يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل

وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل

عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} . ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الليل والنهار آيتين. أي علامتين دالتين على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك معه غيره. وكرر تعالى هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [41/37]، وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [36/37]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [10/6]، وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [3/190]، وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} ـ إلى قوله ـ {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/164]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [23/80]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [25/62]، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [39/5]، وقوله :{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً

(3/55)

 

 

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [6/96]، وقوله {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَاوَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَاوَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} الآية[91/1-4]، وقوله {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} الآية [92/2،1]، وقوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [93/1-2]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [17/12]، يعني أنه جعل الليل مظلماً مناسباً للهدوء والراحة، والنهار مضيئاً مناسباً للحركة والاشتغال بالمعاش في الدنيا. فيسعون في معاشهم في النهار، ويستريحون من تعب العمل بالليل. ولو كان الزمن كله ليلاً لصعب عليهم العمل في معاشهم، ولو كان كله نهاراً لأهلكهم التعب من دوام العمل.

فكما أن الليل والنهار آيتان من آياته جلَّ وعلا، فهما أيضاً نعمتان من نعمه جلَّ وعلا.

وبين هذا المعنى المشار إليه هنا في مواضع أخر، كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [28/71-73].

فقوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} ، أي: في الليل، وقوله: {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [28/73]، أي: في النهار وقوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاًوَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [78/9-11]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [25/47]، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} الآية[30/23]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [6/60]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [17/12]، بين فيه نعمة أخرى على خلقه، وهي معرفتهم عدد السنين والحساب. لأنهم باختلاف

(3/56)

 

 

الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويعلمون مضي أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [65/4]،وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [2/234]، ويعرفون مضي الآجال المضروبة للديون والإجارات، ونحو ذلك.

وبين جلَّ وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر، كقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [10/5]، وقوله جلَّ وعلا :{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [2/189]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [17/12]، فيه وجهان من التفسير للعلماء:

أحدهما: أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: وجعلنا نيرى الليل والنهار، أي الشمس والقمر آيتين.

وعلى هذا القول: فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس. والمحو الطمس. وعلى هذا القول: فمحو آية الليل قيل معناه السواد الذي في القمر. وبهذا قال علي رضي الله عنه، ومجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: معنى {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [17/12]، أي: لم نجعل في القمر شعاعاً كشعاع الشمس ترى به الأشياء رؤية بينة. فنقص نور القمر عن نور الشمس هو معنى الطمس على هذا القول.

وهذا أظهر عندي لمقابلته تعالى له بقوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [17/12]، والقول بأن معنى محو آية الليل: السواد الذي في القمر ليس بظاهر عندي وإن قال به بعض الصحابة الكرام، وبعض أجلاء أهل العلم

وقوله: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ} ، على التفسير المذكور، أي: الشمس {مُبْصِرَةً} أي ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء على حقيقته.قال الكسائي: هو من قول العرب: أبصر النهار: إذا أضاء وصار بحالة يبصر

(3/57)

 

 

بها، نقله عنه القرطبي.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا التفسير من قبيل قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. ومنه قوله:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المحب بنائم

وغاية ما في الوجه المذكور من التفسير: حذف مضاف، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب إن دلت عليه قرينة. قال في الخلاصة:

وما يلي المضاف يأتي خلفا ... عنه في الإعراب إذا ما حذفا

والقرينة في الآية الكريمة الدالة على المضاف المحذوف قوله: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [17/12]، فإضافة الآية إلى الليل والنهار دليل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما أنفسهما. وحذف المضاف كثيرة في القرآن كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [12/82]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [4/23]، أي: نكاحها، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [5/3]، أي، أكلها، ونحو ذلك.

وعلى القول بتقدير المضاف، وأن المراد بالآيتين الشمس والقمر ـ فالآيات الموضحة لكون الشمس والقمر آيتين تقدمت موضحة في سورة النحل.

الوجه الثاني من التفسير ـ أن الآية الكريمة ليس فيها مضاف محذوف، وأن المراد بالآيتين نفس الليل والنهار، لا الشمس والقمر.

وعلى هذا القول فإضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، تنزيلاً لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى. وإضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. فمنه في القرآن قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الآية[2/185]، ورمضان هو نفس الشهر بعينه على التحقيق، وقوله: {وَلَدَارُ الاٌّخِرَةِ} [12/109]، والدار هي الآخرة بعينها. بدليل قوله في موضع آخر: {وَلَلدَّارُ الاٌّخِرَةُ} [6/32]، بالتعريف، والآخرة نعت للدار. وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [50/16]، والحبل هو الوريد، وقوله: {وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} الآية[35/42]، والمكر هو السيء بدليل قوله {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ

(3/58)

 

 

إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [35/43].

ومن أمثلته في كلام العرب قول امرىء القيس:

كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل

لأن المقاناة هي البكر بعينها، وقول عنترة في معلقته:

ومشك سابغة هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلم

لأن مراده بالمشك: السابغة بعينها. بدليل قوله: هتكت فروجها. لأن الضمير عائد إلى السابغة التي عبر عنها بالمشك.

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا: أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية. لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي. لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة:

ولا يضاف اسم لما به اتحد ... معنى وأول موهماً إذا ورد

ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله:

وإن يكونا مفردين فأضف ... حتما وإلا أتبع الذي ردف

لأن إيجاب إضافة العلم إلى اللقب مع اتحادهما في المعنى إن كانا مفردين المستلزم للتأويل، ومنع الإتباع الذي لا يحتاج إلى تأويل، دليل على أن ذلك من أساليب اللغة العربية، ولو لم يكن من أساليبها لوجب تقديم ما لا يحتاج إلى تأويل على المحتاج إلى تأويل كما ترى. وعلى هذا الوجه من التفسير، فالمعنى: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. أي جعلنا الليل مَمْحُو الضوء مطموسه، مظلماً لا تستبان فيه الأشياء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو. وجعلنا النهار مبصراً. أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.

وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [17/12]، تقدم إيضاحه، والآيات الدالة عليه في سورة «النحل» في الكلام على قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا

(3/59)

 

 

عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [16/89].

قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ، في قوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [17/13]، وجهان معروفان من التفسير:

الأول: أن المراد بالطائر: العمل، من قولهم: طار له سهم إذا خرج له. أي ألزمناه ما طار له من عمله.

الثاني: أن المراد بالطائر ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة. والقولان متلازمان. لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة.

فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم: أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال، وكلها حق، ويشهد له قرآن؛ فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن. لأنها كلها حق، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن.

أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله: فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جداً. كقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [4/123]، وقوله {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [66/7]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [84/6]، وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [41/46]، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.

وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوه أو السعادة :فالآيات الدالة علي ذلك أيضاً كثيرة ، كقوله {هو الذي خلكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [2/64],وقوله :{ولذلك خلقهم } [119/11], أي :للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم ,وقوله :{فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [30/7]وقوله: {فريق في الجنة وفريق في السعير } [7/42]،إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِى عُنُقِهِ} [17/13]، أي: جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة في عنقه. أي لازماً له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته؛

(3/60)

 

 

ومنه قول الشاعر:

اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه

فالمعنى في ذلك كله: اللزوم وعدم الانفكاك. وقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً مَنْشُوراً} [17/13]، ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوباً في كتاب يلقاه منشوراً، أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره.

وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشوراً في آيات أخر. فبين أن من صفاته: أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضراً ليس منه شيء غائباً، وأن الله جلَّ وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئاً. وذلك في قوله جلَّ وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [18/49].

وبين في موضع آخر: أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه ـ جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم. وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حساباً يسيراً، ويرجع إلى أهله مسروراً، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [84/7-9]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فهو فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [69/19/23].

وبين في موضع آخر: أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعاً. وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [69/25]

(3/61)

 

 

-32], أعذانا الله وإخواننا المسلمين من النار، ومما قرب إليها من قول وعمل.

وبين في موضع آخر: أن من أوتي كتابه وراء ظهره يصلى السعير، ويدعو الثبور. وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً و َيَصْلَى سَعِيراً} [84/10-12]، وقوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [14/17]، يعني أن نفسه تعلم أنه لم يظلم، ولم يكتب عليه إلا ما عمل. لأنه في ذلك الوقت يتذكر كل ما عمل في الدنيا من أول عمره إلى آخره. كما قال تعالى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [75/13].

وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه إن أنكر شيئاً من عمله شهدت عليه جوارحه. كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [36/65]، وقوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [41/12-23]، وقوله جلَّ وعلا: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [75/14-15]، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة.

تنبيه

لفظة «كفى» تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين:

تستعمل متعدية، وهي تتعدى غالباً إلى مفعولين، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء. كقوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [33/25]، وكقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [39/36]،وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [2/137]، ونحو ذلك من الآيات.

وتستعمل لازمة، ويطرد، جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية. كقَوْله في هذه الآية الكريمة {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [17/14]، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}[4/81]، وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [33/39]، ونحو ذلك.

ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء. وزعم بعض علماء العربية: أن

(3/62)

 

 

جر فاعلها بالباء لازم. والحق أنه يجوز عدم جره بها، ومنه قول الشاعر:

عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وقول الآخر:

ويخبرني عن غائب المرء هديه ... كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا

وعلى قراءة من قرأ {يَلْقَاهُ} ، بضم الياء وتشديد القاف مبنياً للمفعول ـ فالمعنى: أن الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة. فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول.

وقراءة من قرأ {يَخْرُجُ} - بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنياً للفاعل ـ فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله {كِتَاباً} ، حال من ضمير الفاعل. أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتاباً يلقاه منشوراً. وكذلك على قراءة {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، فالمضير النائب عن الفاعل راجع أيضاً إلى الطائر الذي هو العمل. أي يخرج له هو أي طائره بمعنى عمله، في حال كونه كتاباً.

وعلى قراءة «يخرج» بضم الياء وكسر الراء مبنياً للفاعل، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وقوله {كِتَاباً} مفعول به؛ أي: ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتاباً يلقاه منشوراً.

وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة: فالنون في {نُخْرِجُ} نون العظمة لمطابقة قوله {أَلْزَمْنَاهُ} و {كِتَاباً} مفعول به لنخرج كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} . ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جلَّ وعلا، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة ذلك الاهتداء، وثمرته في الدنيا والآخرة. وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جلَّ وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه. لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار.

وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله: {مَّنْ عَمِلَ صَلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}الآية[41/46]، وقوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [30/44]، وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [6/104]، وقوله: {فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن

(3/63)

 

 

ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [10/108]، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد قدمنا طرفاً منها في سورة «النحل». قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى. بل لا تحمل نفس إلا ذنبها. فقوله {وَلاَ تَزِرُ} [17/15]، أي: لا تحمل، من وزريزر إذا حمل. ومنه سمي وزير السلطان، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة. والوزر: الإثم. يقال: وزر يزر وزرا، إذا أثم. والوزر أيضاً: الثقل المثقل، أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة وزر نفس أخرى. أي إثمها، أو حملها الثقيل. بل لا تحمل إلا وزر نفسها.

وهذا المعنى جاء في آيات أخر. كقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [35/18]، وقوله: {َلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} [6/164]، وقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [/134]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قدمنا في سورة «النحل» بإيضاح: أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ…} الآية[29/13]، ولا قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [16/25]؛ لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم، وأوزار إضلالهم غيرهم. لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ـ كما تقدم مستوفى.

تنبيه

يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان:

الأول: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره. إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره؟

السؤال الثاني: إيجاب دية الخطإ على العاقلة. فيقال: ما وجه إلزام العاقلة الدية

(3/64)

 

 

بجناية إنسان آخر؟.

والجواب عن الأول: هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين:

الأول: أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه. كما قال طرفة بن العبد في معلقته:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقى على الجيب يابنة معبد

لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه: فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر. وذلك من فعله لا فعل غيره.

الثاني: أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه. لأن إهماله نهيهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [66/6]، فتعذيبه إذا بسبب تفريطه، وتركه ما أمر الله به من قوله: {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} الآيةوهذا ظاهر كما ترى.

وعن الثاني: بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني. لأن الجاني لم يقصد سوءاً، ولا إثم عليه البتة؛ فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع، وأوجب المواساة فيها على العاقلة. ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه. كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء. واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره: أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان. ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: وأجمع أهل السير والعلم: أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك. حتى جعل عمر الديوان، واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يداً، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.

قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة. حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.

وقد أوضح جلَّ وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ

(3/65)

 

 

وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [4/165]، فصرح في هذه الآية الكريمة: بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار.

وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين. بينها في آخر سورة طه بقوله {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [20/134].

وأشار لها في سورة القصص بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [28/47]، وقوله جلَّ وعلا: {َلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [6/131]، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [5/19]، وكقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [6/155-157]، إلى غير ذلك من الآيات.

ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام، تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة: «بأن لم يدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل. فمن ذلك قوله جلَّ وعلا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ الُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [67/9،8].

ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} ، يعم جميع الأفواج الملقين في النار.

قال أبو حيان في «البحر المحيط» في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: «وكلما» تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. ومن ذلك قوله جلَّ وعلا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا

(3/66)

 

 

بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [39/71]،وقوله في هذه الآية: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، عام لجميع الكفار.

وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم:

صيغة كل أو الجميع ... وقد تلا الذي التي الفروع

ومراده بالبيت: أن لفظة «كل، وجميع، والذي، والتي» وفروعهما كل ذلك من صيغ العموم. فقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}- إلى قوله -: {قَالُوا بلَى } [39/71]، عام في جميع الكفار. وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. فعصوا أمر ربهم كما هو واضح.

ونظيره أيضاً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير} [35/36]، فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [35/37]، عام أيضاً في جميع أهل النار. كما تقدم إيضاحه قريباً.

ونظير ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [40/50،49]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.

وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قالت جماعة من أهل العلم.

وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}[4/18]، وقوله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ َلعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [2/061]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ

(3/67)

 

 

أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [3/91]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [4/48]، وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [22/31]، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ، وقوله: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [7/50]، إلى غير ذلك من الآيات.

وظاهر جميع هذه الآيات العموم. لأنها لم تخصص كافراً دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار.

ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أَنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، أَين أَبي؟. قال: "في النَّار" فلما قفى دعاه فقال :"إنَّ أَبي وأباك في النَّار" اهـ وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضاً: حدثنا يَحْيَى بن أيوب، ومحمد بن عباد ـ واللفظ ليحيى ـ قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد يعني ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: حدثنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النَّبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأَبكى من حوله. فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموت" اهـ إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة.

وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول: هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم. أو معذورون بالفترة؟ وعقده في «مراقي السعود» بقوله:

ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع

وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع. كما نقله عنه صاحب نشر البنود.

وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، من أربعة أوجه:

الأول: أن التعذيب المنفى في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ…} الآية، وأمثالها من

(3/68)

 

 

الآيات: إنما هو التعذيب الدنيوي؛ كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى وأمثالهم. وإذاً فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة.

ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور.

والوجه الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ…} الآية، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل. أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد. لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم، الخالق الرازق، النافع، الضار. ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر. كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [21/65]، وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده. لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر. كقوله {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [29/65]، وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[31/32]، وقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [17/67]، إلى غير ذلك من الآيات. ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم؛ فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله. مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.

الوجه الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم. كإبراهيم وغيره. وأن الحجة قائمة عليهم بذلك. وجزم بهذا النووي في شرح مسلم، ومال إليه العبادي في "الآيات البينات".

الوجه الرابع: ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار. كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره.

وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة ـ فأجابوا عن الوجه الأول، وهو كون التعذيب في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجهين:

الأول: أنه خلاف ظاهر القرآن. لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً، فهو أعم

(3/69)

 

 

من كونه في الدنيا. وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

الوجه الثاني: أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة. كقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى} [67/9،8] وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل. كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية.

وأجابوا عن الوجه الثاني: وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد ـ بنفس الجوابين المذكورين آنفاً. لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف لظاهر القرآن، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأن الله نص على أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح، كما تقدم إيضاحه.

وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي، ومال إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم بأنه قول باطل بلا شك. لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأن مقتضاه أنهم أنذروا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفياً باتاً في آيات كثيرة. كقوله في «يس»: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [36/6]، و«مَا» في قوله: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [36/6]، نافية على التحقيق، لا موصولة، وتدل لذلك الفاء في قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} ، وكقوله في «القصص»: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [28/46]، وكقوله في «سبأ» {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [34/44]، وكقوله في «ألم السجدة»: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ…} الآية[32/3]، إلى غير ذلك من الآيات.

وأجابوا عن الوجه الرابع: بأن تلك الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع، وهو قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]، وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى} [67/8-9]، ونحو ذلك من الآيات.

وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضاً عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقوله:

{وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [4/18]، إلى آخر ما تقدم

(3/70)

 

 

من الآيات ـ بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم بدليل قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [17/15]،

وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم: إن القاطع الذي هو قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين ـ بأن الآية عامة، والحديثين كلاهما خاص في شخص معين. والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص. لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، كما بيناه في غير هذا الموضع.

فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلاً في العموم. كما تقرر في الأصول.

وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام. لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف. وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب. فلو عذب إنساناً واحداً من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها. كما بينه بقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ…} الآية[4/165]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [20/134]، كما تقدم إيضاحه.

وأجاب المخالفون عن هذا: بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها. فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول. بـ «النقض» تخصيص للعلة، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام. أي قصره على بعض أفراده بدليل. والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقول في ذلك صاحب «مراقي السعود» بقوله في مبحث القوادح:

منها وجود الوصف دون الحكم ... سماه بالنقض وعاة العلم

(3/71)

 

 

والأكثرون عندهم لا يقدح ... بل هو تخصيص وذا مصحح

وقد روي عن مالك تخصيص ... إن يك الاستنباط لا التنصيص

وعكس هذا قد رآه البعض ... ومنتقى ذي الاختصار النقض

إن لم تكن منصوصة بظاهر ... وليس فيما استنبطت بضائر

إن جا لفقد الشرط أو لما منع ... والوفق في مثل العرايا قد وقع

فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض: هل هو تخصيص، أو إبطال للعلة، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة.

واختار بعض المحققين من أهل الأصول: أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها. فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعاً.

فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعاً من تأثير العلة في الحكم ـ فلا يقال هذه العلة منقوضة. لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تأثيرها مانع. فيخصص تأثيرها بما لم يمنع منه مانع.

وكذلك من زوج أمته من رجل، وغره فزعم له أنها حرة فولد منها. فإن الولد يكون حراً، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعاً. لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها. لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد.

وكذلك الزنى: فإنه علم للرجم إجماعاً.

فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هي الرجم، ونعني بذلك الشرط الإحصان. فلا يقال إنها علة منقوضة، بل هي علة تخلف شرط تأثيرها. وأمثال هذا كثيرة جداً. هكذا قاله بعض المحققين.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر: أن آية «الحشر» دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقاً، والله تعالى أعلم. ونعني بآية «الحشر» قوله تعالى في بني النضير: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [59/3].

(3/72)

 

 

ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه} [59/4]، وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله.

فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها. والعلم عند الله تعالى.

أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا فهو تخصيص للعلة إجماعاً لا نقض لها. كما أشار له في الأبيات بقوله:

والوفق في مثل العرايا قد وقع

قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها. فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا. لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.

وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:

الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع. فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن؛ ما نصه:

والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار. كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ

(3/73)

 

 

وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [68/42].

وقد ثبت في الصحاح وغيرها: "أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه". وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها: "أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك منه، ويقول الله تعالى: يا بن آدم، ما أعذرك ثم يأذن له في دخول الجنة" وأما قوله: "فكيف يكلفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟" فليس هذا بمانع من صحة الحديث. "فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوس على وجهه في النار" وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم

وأيضاً: فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً. فهذا نظير ذلك.

وأيضاً: فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم. فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم. وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه.

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى أيضاً قبل هذا الكلام بقليل ما نصه:

ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر. فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومن عصى دخل النار داخراً، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة.

وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض.

وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "الاعتقاد" وكذلك غيره

(3/74)

 

 

من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو واضح جداً فيما ذكرنا.

الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف. لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى.

ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل ـ لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب".

قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}. في معنى قوله {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [17/16]، في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:

الأول: وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء ـ أن الأمر في قوله {أَمْرُنَا} هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به {فَفَسَقُواْ} أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي وجب عليها الوعيد {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، أي: أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.

وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة. كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ…} الآية[7/28]، فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ} [17/16]، أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا. وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا. لأن الله لا يأمر بالفحشاء.

ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [34/35،34]، فقوله في هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ…} الآية

(3/75)

 

 

[43/23]، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وبهذا التحقيق تعلم: أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أمرناهم بالفسق ففسقوا. وأن هذا مجاز تنزيلاً لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك، كلام كله ظاهر السقوط والبطلان. وقد أوضح إبطاله أبو حيان في البحر، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه.

وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني. أي أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى: أمرته بالعصيان كما لا يخفى.

القول الثاني في الآية ـ هو أن الأمر في قوله {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له. لأن كلاً ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [54/50]، وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [2/65]، وقوله {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نهارا} [10/24]، وقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [36/82].

القول الثالث في الآية: أن {أَمَرْنَا} بمعنى أكثرنا. أي أكثرنا مترفيهاً ففسقوا.

وقال أبو عبيدة {أَمْرُنَا} بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد.

ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير مال امرىء مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة".

قال ابن كثير: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه "الغريب": المأمورة: كثيرة النسل. والسكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: من التأبير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها. ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجرداً عن الزوائد، متعد بنفسه إلى المفعول. فيتضح كون أمره بمعنى أكثر. وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا: حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج، كقولهم: الغدايا والعشايا، وكحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» لأن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ

(3/76)

 

 

للازدواج مع العشايا، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل. لأن المادة من الوزر بالواو. إلا أن الهمز في قوله: «مأزورات» للازدواج مع «مأجورات». والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم. وعليه فقوله «مأمورة» إتباع لقوله «مأبورة» وإن كان مذكوراً قبله للمناسبة بين اللفظين.

وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى {أَمْرُنَا} [17/16]، قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن «أمرنا» بالتشديد. وهي قراءة على رضي الله عنه. أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.

وقال أبو عثمان النهدي {أمَرْنَا} بتشديد الميم: جعلناهم أمراء مسلطين.

وقاله ابن عزيز: وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضاً، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما «آمرنا» بالمد والتخفيف. أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها. قاله الكسائي.

وقال أبو عبيدة: «آمرته ـ بالمد ـ وأمرته لغتان بمعنى أكثرته.

ومنه الحديث «خير المَال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد. أي أكثرنا. وعن الحسن أيضاً، ويحيى بن يعمر: أمرنا ـ بالقصر وكسر الميم ـ على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد. وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف ـ حكاه المهدوي.

وفي الصحاح: قال أبو الحسن: أمر ماله ـ بالكسر ـ أي كثر. وأمر القوم: أي كثروا. قال الشاعر وهو الأعشى:

طرفون ولادون كل مبارك ... أمرون لا يرثون سهم القعدد

وآمر الله ماله ـ بالمد. الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر. والفعل منه أمر القوم يأمرون أمراً: إذا كثروا.

قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان؛ قال

(3/77)

 

 

لبيد:

كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً يصيروا للهلك والنكد

قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح. لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر. أي كثر. وكلها غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي. والله أعلم.

قال المهدوي: ومن قرأ أمر فهي لغة. ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة. فعدى كما عدى عمر ـ إلى أن قال: وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء. لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل معناه: بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أبي: بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ـ ذكره الماوردي.

وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي: وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اهـ محل الغرض من كلام القرطبي.

وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا. فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه.

تنبيه

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [17/16]، مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [17/16]، يعني: القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟

والجواب من وجهين:

الأول ـ أن غير المترفين تبع لهم. وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم. لأن غيرهم تبع لهم. كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [33/67]، وكقوله {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} الآية [2/166]، وقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [7/38]، وقوله تعالى:

(3/78)

 

 

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [14/21]، وقوله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [40/47]، إلى غير ذلك من الآيات.

الوجه الثاني ـ أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع. كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [8/25]، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل، هذه" ـ وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت له: يا رسول الله، أنهلك وفيناالصالحون؟ قال:"نعم، إذا كثر الخبث" وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في سورة المائدة.

قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أهلك كثيراً من القرون من بعد نوح. لأن لفظة {كَمْ} في قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} [7/17]، خبرية، معناها الإخبار بعدد كثير. وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده. وأكد ذلك بقوله {وَكَفَى بِرَبِّكَ} الآية[7/17].

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات:

الأولى: أن في الآية تهديداً لكفار مكة، وتخويفاً لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها. أي أهلكنا قروناً كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم.

والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة؛ كقوله في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [37/137-138]، وكقوله فيهم أيضاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [15/76،75]، وقوله فيهم أيضاً: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [29/35]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [47/10]، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح، وقوم هود، وقوم

(3/79)

 

 

صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في سورة الشعراء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [26/8]، وقوله في قوم موسى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [79/26]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [11/103]، وقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} [44/37]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم.

الجهة الثانية ـ أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر. فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى. وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [25/38]، وبين في موضع آخر: أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وذلك في قوله في سورة إبراهيم {ألَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [14/9]. وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهما قوله في سورة النساء: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [4/164]، وقوله في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية[40/78].

الجهة الثالثة: أن قوله {مِن بَعْدِ نُوحٍ} [17/17]، يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام. كما قال ابن عباس: كانت بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام؛ نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية.

وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر. كقوله {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية[17/17]، وقوله. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ} الآية[10/19]. لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر. فبعث الله النَّبيين ينهون عن ذلك الكفر، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

(3/80)

 

 

ويدل على هذا قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [4/163]، وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح: إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة.

الجهة الرابعة: أن قوله {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} [17/17]، فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى.

والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً. كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [50/19]، وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [2/235]، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في أول سورة هود. ولفظة «كم» في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به «لأهلكنا» و {مِنْ} في قوله {مّنَ الْقُرُونِ} بيان لقوله {كَمْ} وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما لفظه «من» في قوله {مِن بَعْدِ نُوحٍ} فالظاهر أنها لابتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في «البحر». وزعم الحوفي أن «من» الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [17/19]، أي: عمل لها عملها الذي تنال به، وهو امتثال أمر الله، واجتباب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [17/19]، أي: موحد لله جل وعلا، غير مشرك به ولا كافر به، فإن الله يشكر سعيه، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل.

وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله.

لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، لأنه شرط في ذلك قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [17/19].

وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة. كقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ

(3/81)

 

 

ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [4/124]، وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [16/97]، وقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [40/40]، إلى غير ذلك من الآيات.

ومفهوم هذه الآيات: أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك. لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا.

وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر؛ كقوله في أعمال غير المؤمنين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [25/23]، وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [14/18]، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [24/39]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد بين جل وعلا في مواضع أخر: أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولاحظّ له منه في الآخرة. كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [11/16،15]، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [42/20].

وثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات: من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب ـ واللفظ لزهير ـ قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها الآخرة. وأَمَّا الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها".

حدثنا عاصم بن النضر التيمي، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، حدثنا قتادة

(3/82)

 

 

عن أنس بن مالك: أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة من الدنيا. وأَما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته".

حدثنا محمد بن عبد الله الرزي، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما.

واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا:كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك، كله مقيد بمشيئة الله تعالى. كما نص على ذلك بقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ…} الآية[17/18].

فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث. وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وأشار له في «مراقي السعود» بقوله:

وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب

قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} ، الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلهاً آخر، وأنه لا يقعد مذموماً مخذولاً.

ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم ؛ قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [17/23]؛ لأن معنى قوله {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} الآية[17/23]، أي: إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف. ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل. فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنساناً والمراد بالخطاب غيره. ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز، وهو سهل بن مالك الفزاري:

إياك أعني واسمعي يا جاره

(3/83)

 

 

وسبب هذا المثل: أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائباً. فأنزلته أخته وأكرمته، وكانت جميلة. فأعجبه جمالها، فقال مخاطباً لأخرى غيرها ليسمعها هي:

يا أخت خير البدو والحضارة ... كيف ترين في فتى فزاره

أصبح يهوى حرة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جاره

ففهمت المرأة مراده، وأجابته بقولها:

إني أقول يا فتى فزاره ... لا أبتغي الزوج ولا الدعاره

ولا فراق أهل هذي الحاره ... فارحل إلى أهلك باستحاره

والظاهر أن قولها «باستحارة» أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما ـ أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك، وهي كلامك وجوابي له، ولا تحصل مني على غير ذلك والهاء في «الاستحارة» عوض من العين الساقطة بالإعلال. كما هو معروف في فن الصرف.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ، ونحو ذلك من الآيات؛ متوجه إلى المكلف. ومن أساليب اللغة العربية: إفراد الخطاب مع قصد التعميم. كقول طرفة بن العبد في معلقته:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وقال الفراء، والكسائي، والزمخشري: ومعنى قوله {فَتَقْعُدَ} [17/22]، أي: تصير. وجعل الفراء منه قول الراجز:

لا يقنع الجارية الخضاب ... ولا الوشاحان ولا الجلباب

من دون أن تلتقي الأركاب ... ويقعد الأير له لعاب

أي يصير له لعاب.

وحكى الكسائي: قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها. بمعنى صار. قاله أبو حيان في البحر.

ثم قال أيضاً: والقعود هنا عبارة عن المكث، أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً. كما تقول لمن سأل عن حال شخص: هو قاعد في أسوإ حال. ومعناه ماكث ومقيم. سواء كان قائماً أم جالساً. وقد يراد القعود حقيقة. لأن من شأن المذموم

(3/84)

 

 

المخذول أن يقعد حائراً متفكراً، وعبر بغالب حاله وهو القعود. وقيل: معنى {فَتَقْعُدَ} [17/22]، فتعجز. والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم اهـ محل الغرض من كلام أبي حيان.

والمذموم هنا: هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس. حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر، ولا يقدر على شيء.

والمخذول: هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر. ومنه قوله:

إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ... ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا

قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين.

وجعله بر الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر. كقوله في سورة «النساء»: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [4/36]، وقوله في البقرة: {َوإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [2/83]، وقوله في سورة لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [31/14]، وبين في موضوع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما. كقوله في «لقمان»: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [31/15]، وقوله في «العنكبوت»: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ…} الآية[29/8].

وذكره جل وعلا في هذه الآيات: بر الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته، يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين. وجاءت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة.

وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [17/23]، بينه بقوله تعالى: {إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [17/23-24]؛ لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة «الشعراء» وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة «منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز».

(3/85)

 

 

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَضَى رَبُّكَ} [17/23]، معناه: أمر وألزم، وأوجب ووصى ألا تعبدوا إلا إياه.

وقال الزمخشري: {وَقَضَى رَبُّكَ} [17/23]، أي: أمر أمراً مقطوعاً به. واختار أبو حيان في «البحر المحيط» أن إعراب قوله {إِحْسَاناً} ، أنه مصدر نائب عن فعله. فهو بمعنى الأمر، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف. كقوله:

وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وقال الزمخشري في الكشاف: {وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً} [17/23]، أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً.

قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً}. الضمير في قوله {عَنْهُمُ} [17/26]، راجع إلى المذكورين قبله في قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ…} الآية[17/28]، ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئاً لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} ، أي: رزق حلال. كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} ، أي: ليناً لطيفاً طيباً. كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقاً أنك تعطيهم منه.

وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء.

لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.

وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة «البقرة» في قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً …} الآية[2/263]، ولقد أجاد من قال:

إلا تكن ورق يوماً أجود بها ... للسائلين فإني لين العود

لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالى وإما حسن مردودي

والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عند عدم ما يعطى منه، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه، ولا يعرض عنهم. وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق. وقال القرطبي: قولاً {مَّيْسُورًا} مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر

(3/86)

 

 

كالميمون.

وقد علمت مما قررنا أن قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [17/28]، متعلق بفعل الشرط الذي هو {تُعْرِضَنَّ} ، لا بجزاء الشرط.

وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك: فقل لهم قولاً ميسوراً ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ؛ أي: يسر عليهم والطف بهم. لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في البحر المحيط بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال: لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالداً ـ أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب. وهذا منصوص عليه ـ انتهى.

وعن سعيد بن جبير رحمه الله: أن الضمير في قوله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [17/28]، راجع للكفار. أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور: المداراة باللسان. قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازماً ومتعدياً، وميسور من المتعدي. تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضاً.

قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من قتل مظلوماً فقد جعل الله لوليه سلطاناً، ونهاه عن الإسراف في القتل، ووعده بأنه منصور.

والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور:

الأولى: أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية. كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة: بؤبشسع نعل كليب. فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة:

قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال

قربا مربط النعامة مني ... إن بيع الكرام بالشسع غالي ـ الخ

وقال مهلهل أيضاً:

كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل آل مره

ومعلوم أن قتل جماعة بواحد لم يشتركوا في قتله: إسراف في القتل داخل في النهي المذكور في الآية الكريمة.

(3/87)

 

 

الثانية: أن يقتل بالقتيل واحداً فقط ولكنه غير القاتل. لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضاً.

الثالثة: أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضاً.

وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة ـ فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية: فلا يسرف الظالم الجاني في القتل. تخويفاً له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [ 17/33].

وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بياناً مفصلاً، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان: هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجاناً.

الأول: قوله هنا {فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ} [17/33]، بعد ذكر السلطان المذكور، لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترناً بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.

الموضع الثاني: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}- إلى قوله -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية [2/178-179]، فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.

المسألة الأولى: يفهم من قوله: {مَظْلُومًا} [17/33]، أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" كما تقدم إيضاحه في سورة «المائدة».

وبينا هذا المفهوم في قوله {مَظْلُومًا} يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضاً: {وَلاَ

(3/88)

 

 

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [17/33].

واعلم ـ أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف في ذلك بين العلماء. من ذلك: المحاربون إذا لم يقتلوا أحداً. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا…} الآية[5/33]؛ كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة «المائدة».

ومن ذلك: قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة «هود».

وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله «التارك لدينه المفارق للجماعة» لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى: {مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ…} الآية [2/102]، وقوله: {و َمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ…} الآية [2/102]، وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [2/102].

وأما قتل مانع الزكاة: فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في «التارك لدينه المفارق للجماعة» . وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه: القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.

وأما ما ذكره بعض أهل العلم من: أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.

وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل. لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود

(3/89)

 

 

الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتاً لا مطعن فيه، لقوته. والعلم عند الله تعالى.

المسألة الثانية ـ قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [33/5]، وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا…} الآية [2/286]؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [4/92]، ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا…} الآية[4/92]، وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدراً وجنساً كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه.

المسألة الثالثة: يفهم من إطلاق قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} [17/33] أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك. لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلماً فيجب القصاص.

وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايتين.

وقال النووي في «شرح مسلم»: هو مذهب جماهير العلماء.

وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال: لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفاً بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار.

واحتج الجمهور على أن القاتل عمداً بغير المحدد يقتص منه بأدلة:

الأول: ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك.

الثاني: حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة: أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.

وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله: باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي.

(3/90)

 

 

الثالث: ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي: أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى النَّبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل في قضية النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال:

كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلها وجنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح هو الصولج. قال أبو داود: وقال أبو عبيد: المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوساً، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نَشَدَ الناس قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك "يعني في الجنين" فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.

ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح. فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد

بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما "أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه" روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النَّبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، عن ابن عباس، عن حمل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.

(3/91)

 

 

وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج بن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، عن ابن جريج، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي. وأبو عاصم ثقة ثبت.

رواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في السنن الكبرى في هذا الحديث: وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب العلل، قال: سألت محمداً "يعني البخاري" عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وابن جريج حافظ اهـ.

فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضاً عمود الخباء. قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري:

تعرض ضيطار وخزاعة دوننا ... وما خير ضيطار يقلب مسطحا

يقول: تعرض لنا هؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء. لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطح والضيطار، هو الرجل الضخم الذي لا غناء عنده.

الرابع ـ ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد. كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [2/194]، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [16/126]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [42/40]، وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} الآية[22/60]،وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [42/14-42].

وفي الموطأ ما نصه: وحدثني يحيى عن مالك، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة: أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصاً. فقتله وليه

(3/92)

 

 

بعصاً.

قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر، أو ضربه عمداً فمات من ذلك. فإن هذا هو العمد وفيه القصاص.

قال مالك: فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه اهـ محل الغرض منه.

وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء. منهم الأئمة الثلاثة، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، نقله عنهم ابن قدامة في المغني.

وخالف في ذلك أبو حنيفة، والحسن، والشعبي، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس رحمهم الله فقالوا: لا قصاص في القتل بالمثقل. واحتج لهم بأدلة:

منها: أن القصاص يشترط له العمد، والعمد من أفعال القلوب، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه. فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد، علم أنه عامد قتله. وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل. لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيؤول إلى شبه العمد.

ومنها: ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها. وأن العقل على عصبتها".

وفي رواية: "اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها".

قالوا: فهذا حديث متفق، عليه يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد. لأن روايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد، لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر.

ومنها: ما روي عن النعمان بن بشير، وأبي هريرة، وعلي، وأبي بكرة رضي الله عنهم مرفوعاً: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بحديدة". وفي بعض رواياته " كل شيء

خطأ إلا السيف، ولكل خطإ أرش".

وقد حاول بعض من نصر هذا القول من الحنفية رد حجج مخالفيهم. فزعم أن رض النَّبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين إنما وقع بمجرد دعوى الجارية التي قتلها. وأن ذلك دليل على أنه كان معروفاً بالإفساد في الأرض. ولذلك فعل به صلى الله عليه وسلم ما فعل.

ورد رواية ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس المتقدمة بأنها مخالفة للروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما:" أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة لا بالقصاص".

قال البيهقي في السنن الكبرى بعد أن ذكر صحة إسناد الحديث عن ابن عباس بالقصاص من المرأة التي قتلت الأخرى بمسطح كما تقدم ما نصه: إلا أن لفظ الحديث زيادة لم أجدها في شيء من طرق هذا الحديث، وهي قتل المرأة بالمرأة. وفي حديث عكرمة عن ابن عباس موصولاً، وحديث ابن طاوس عن أبيه مرسلاً، وحديث جابر وأبي هريرة موصولاً ثابتاً: "أنه قضى بديتها على العاقلة". انتهى محل الغرض من كلام البيهقي بلفظه.

وذكر البيهقي أيضاً:

أن عمرو بن دينار روجع في هذا الحديث بأن ابن طاوس رواه عن أبيه على خلاف رواية عمرو، فقال للذي راجعه: "شككتني".

وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الاحتجاجات: بأن رضه رأسه اليهودي قصاص. ففي رواية ثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله حتى اعترف بأنه قتل الجارية. فهو قتل قصاص باعتراف القاتل، وهو نص متفق عليه، صريح في محل النزاع، ولا سيما عند من يقول باستواء دم المسلم والكافر كالذمي؛ كأبي حنيفة رحمه الله.

وأجابوا عن كون العمد من أفعال القلوب، وأنه لا يعلم كونه عامداً إلا إذا ضرب بالآلة المعهودة للقتل: بأن المثقل كالعمود والصخرة الكبيرة من آلات القتل كالسيف. لأن المشدوخ رأسه بعمود أو صخرة كبيرة يموت من ذلك حالاً عادة كما يموت المضروب بالسيف. وذلك يكفي من القرينة على قصد القتل.

وأجابوا عما ثبت من قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة المرأة القاتلة بعمود أو حجر بالدية، من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه معارض بالرواية الصحيحة التي قدمناها عند أبي داود، والنسائي، وابن

(3/94)

 

 

ماجه من حديث حمل بن مالك وهو كصاحب القصة. لأن القاتلة والمقتولة زوجتاه ـ من كونه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بالقصاص لا بالدية.

الثاني: ما ذكره النووي في شرح مسلم وغيره قال: وهذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالباً. فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير اهـ كلام النووي رحمه الله.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الجواب غير وجيه عندي: لأن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح: أنها قتلت بعمود فسطاط، وحمله على الصغير الذي لا يقتل بعيد.

الثالث: هو ما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» من أن مثل هذه المرأة لا تقصد غالباً قتل الأخرى. قال ما نصه:

وأجاب من قال به ـ يعني القصاص في القتل بالمثقل ـ: بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر، بحيث يقتل بعضه غالباً ولا يقتل بعضه غالباً. وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالباً.

وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها وشرط القود العمد، وهذا إنما هو شبه العمد، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. انتهى كلام ابن حجر بلفظه.

قال مقيده عفا الله عنه: والدليل القاطع على أن قتل هذه المرأة لضرتها خطأ في القتل شبه عمد. لقصد الضرب دون القتل بما لا يقتل غالباً، تصريح الروايات المتفق عليها: بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد بإجماع المسلمين.

وأجابوا عن حديث "لا قود إلا بحديدة" بأنه لم يثبت.

قال البيهقي في السنن الكبرى بعد أن ساق طرقه عن النعمان بن بشير، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعلي رضي الله عنهم ما نصه:

وهذا الحديث لم يثبت له إسناد معلى بن هلال الطحان متروك، وسليمان بن أرقم ضعيف، ومبارك بن فضالة لا يحتج به، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري في "باب إذا قتل بحجر أو عصا» ما نصه:

(3/95)

 

 

وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث "لا قود إلا بالسيف" وهو حديث ضعيف أخرجه البزار، وابن عدي من حديث أبي بكرة. وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده: وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة. وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في: أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه.

واحتجوا أيضاً بالنهي عن المثلة، وهو صحيح ولكنه محمول عند الجمهور على غير المثلة في القصاص جمعاً بين الدليلين، انتهى الغرض من كلام ابن حجر بلفظه.

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في «نيل الأوطار» ما نصه:

وذهبت العترة والكوفيون، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه: إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه، والبزار، والطحاوي، والطبراني والبيهقي، بألفاظ مختلفة منها "لا قود إلا بالسيف". وأخرجه ابن ماجه أيضاً، والبزار، والبيهقي من حديث أبي بكرة. وأخرجه الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي هريرة. وأخرجه الدارقطني من حديث علي. وأخرجه البيهقي، والطبراني من حديث ابن مسعود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً.

وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو متروك. حتى قال أبو حاتم: حديث منكر. وقال عبد الحق وابن الجوزي: طرقه كلها ضعيفة. وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. انتهى محل الغرض من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.

ولا شك في ضعف هذا الحديث عند أهل العلم بالحديث. وقد حاول الشيخ ابن التركماني تقويته في حاشيته على سنن البيهقي، بدعوى تقوية جابر بن يزيد الجعفي، ومبارك بن فضالة. مع أن جابراً ضعيف رافضي، ومبارك يدلس تدليس التسوية.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي: هو القصاص مطلقاً في القتل عمداً بمثقل كان أو بمحدد. لما ذكرنا من الأدلة، ولقوله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ…} الآية[2/179]؛ لأن القاتل بعمود أو صخرة كبيرة إذا علم أنه لا يقتص منه جرأه ذلك على القتل. فتنتفي بذلك الحكمة المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ…} الآية. والعلم عند الله تعالى.

المسألة الرابعة: جمهور العلماء على أن السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلماً يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء: وهي القصاص، والعفو على الدية جبراً على

الجاني، والعفو مجاناً في غير مقابل، وهو أحد قولي الشافعي.

قال النووي في شرح مسلم: وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور.

وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله فقالوا: ليس للولي إلا القصاص، أو العفو مجاناً. فلو عفا على الدية وقال الجاني: لا أرضى إلا القتل، أو العفو مجاناً، ولا أرضى الدية. فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبراً.

واعلم أن الذين قالوا: إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمداً إلى قولين، أحدهما: أنه القود فقط. وعليه فالدية بدل منه. والثاني ـ أنه أحد شيئين: هما القصاص والدية.

وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفواً مطلقاً، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها. فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق. وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق. أما لو عفا على الدية فهي لازمة، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول. والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي، وأحمد رحمهما الله.

واحتج من قال: بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى، وإما أن يقتل" أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لكن لفظ الترمذي: "إما أن تعفو وإما أن يقتل". ومعنى «يفدى» في بعض الروايات، "ويودى" في بعضها: يأخذ الفداء بمعنى الدية. وقوله "يقتل" بالبناء للفاعل: أي يقتل قاتل وليه.

قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية. وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء.

وهذا الدليل قوي دلالة ومتناً كما ترى.

واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [2/178]، قالوا: إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ...} الآية، وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية، وهو دليل قرآني قوي أيضاً.

(3/97)

 

 

واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا. كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة. منها ما قاله الطحاوي: وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فإنه حكم بالقصاص ولم يخير. ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النَّبي صلى الله عليه وسلم. إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما. فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله «فهو بخير النظرين» أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اهـ.

وتعقب ابن حجر في فتح الباري احتجاج الطحاوي هذا بما نصه: وتعقب بأنه قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود. فأعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه. وليس فيما ادعاه من تأخير البيان.

الثاني: ما ذكره الطحاوي أيضاً: من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقائل: رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك: أن القاتل لا يجبر على ذلك. ولا يؤخذ منه كرهاً، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه.

الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور "فهو بخير النظرين.." الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له. وقد تقرر في الأصول: أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [4/23]، لجريه على الغالب، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مراراً.

وإيضاح ذلك في الحديث: أن مفهوم قوله: "فهو بخير النظرين" أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعاً من إعطاء الدية: أنه يجبر على إعطائها. لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما. والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدى بماله من القتل. وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول، وعقده في مراقي السعود، بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني مفهوم المخالفة:

(3/98)

 

 

أو جهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤل أو جري على الذي غلب

ومحل الشاهد قوله: "أو جري على الذي غلب" إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة: أو ولي المقتول هو المخير بين الأمرين، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك، ودلالة الآية المتقدمة عليه، ولأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ…} الآية[4/29]، ويقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [2/195].

ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صوناً لماله للوارث ـ أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب، ويجبره على صون دمه بماله.

وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له: أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك، يجاب عنه بأنه لو قال: أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك. لنص الحديث، والآية المذكورين.

ولو قال له: أعطني كذا غير الدية لم يجبر. لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع، والعلم عند الله تعالى.

المسألة الخامسة: جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات:

الأولى: العمد، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا.

والثانية: شبه العمد، والثالثة: الخطأ.

وممن قال بهذا: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي. ونقله في المغني عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، والشعبي والنخعي، وقتادة، وحماد، وأهل العراق، والثوري، وغيرهم.

وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال: القتل له حالتان فقط. الأولى: العمد والثانية: الخطأ. وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد.

واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطإ. بل

(3/99)

 

 

ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما. كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [4/92]، ثم قال في العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [4/93]، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة، وكقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ…} الآية[33/5]. فلم يجعل فيها بين الخطإ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل.

واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض، والعمد المحض، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين:

الأول: أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر. لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالباً وهو قاصد للضرب معتقداً أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب. ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل. لأنه ما كان يقصد القتل، بل وقع القتل من غير قصده إياه.

والثاني: حديث دل على ذلك، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثاً ثم قال: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " إلى ها هنا حفظته عن مسدد، ثم اتفقا": "ألا أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميَّ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت" ـ ثم قال ـ "ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" ، وحديث مسدد أتم.

حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه.

حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ـ أو فتح مكة ـ على درجة البيت أو الكعبة.

قال أبو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضاً عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.

(3/100)

 

 

رواه أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو مثل حديث خالد ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن يعقوب السَّدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اهـ محل الغرض من سنن أبي داود.

وأخرج النسائي نحوه، وذكر الاختلاف على أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك. وقد تركنا لفظ كلامه لطوله.

وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن أيوب: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل: أربعون منها خلفة في بطونها أولادها".

حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذَّاء عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عند عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه فقال: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا أن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل: منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" . اهـ.

وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها علي بن زيد بن جدعان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول:"حضرت مجلس المزني يوماً وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد. فقال السائل: إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين: عمداً وخطأ. فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ ولم قلتم شبه العمد؟

فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني. فقلت لمناظره: قد روى هذا الخبر غير علي بن زيد. فقال: ومن رواه غير علي؟ قلت: رواه أيوب السختياني وخالد الحذَّاء. قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ فقلت: عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة، وقد رواه عنه محمد بن سيرين مع جلالته. فقال

(3/101)

 

 

للمزني: أنت تناظر أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر؛ لأنه أعلم بالحديث مني، ثم أتكلم أنا" اهـ ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور.

قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد. أن الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن الرواية عن ابن عمر وهم، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان. لأنه ضعيف.

والمعروف في علوم الحديث: أن الحديث إذا جاء صحيحاً من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح. والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن حزيمة للعراقي الذي ناظر المزني، تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة.

قال مقيده عفا الله عنه: إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل: هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ وعرفت حجج الفريقين، فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات: عمد محض، وخطأ محض، وشبه عمد؛ لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين. والحديث إنما أثبت شيئاً سكت عنه القرآن، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله. لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد. كما تقدم إيضاحه في سورة «الأنعام». ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة، خلافاً لمالك كما تقدم.

فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث، فاعلم: أن العمد المحض فيه القصاص. وقد قدمنا حكم العفو فيه. والخطأ شبه العمد. والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة.

واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما. وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية، وفي شبه العمد. وفي الخطإ المحض.

اعلم أن الجمهور على أن الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء. واختلفوا في أسنانها فيهما. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.

(3/102)

 

 

وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والرواية المشهورة عن أحمد، وهو قول الزهري، وربيعة، وسليمان بن يسار، ويروى عن ابن مسعود. كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني.

وذهبت جماعة أخرى إلى أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها.

وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء، ومحمد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة. ورواه جماعة عن الإمام أحمد.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول هو الذي يقتضي الدليل رجحانه. لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه: من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" وبعض طرقه صحيح كما تقدم.

وقال البيهقي في بيان الستين التي لم يتعرض لها هذا الحديث: باب صفة الستين التي مع الأربعين ثم ساق أسانيده عن عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.

وقال ابن قدامة في المغني مستدلاً لهذا القول: ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا فهو لهم" وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب اهـ محل الغرض منه بلفظه، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا.

ثم قال مستدلاً للقول الأول: ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض وهو قول ابن مسعود اهـ منه.

وفي الموطإ عن مالك: أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس

(3/103)

 

 

وعشرون جذعة. وقد قدمنا: أن دية العمد، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور.

وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا. منها ما رواه البيهقي، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة.

ومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضاً: أنها أرباع: ربع بنات لبون، وربع حقاق وربع جذاع» وربع ثنية إلى بازل عامها. هذا حاصل أقوال أهل العلم في دية العمد، وشبه العمد.

وأولى الأقوال وأرجحها: ما دلت عليه السنة، وهو ما قدمنا من كونها ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها.

وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد أن ساق الأقوال المذكورة ما نصه: قد اختلفوا هذا الاختلاف، وقول من يوافق سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبله أولى بالاتباع، وبالله التوفيق.

تنبيه

اعلم أن الدية في العمد المحض إذا عفا أولياء المقتول: إنما هي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة إجماعاً. وأظهر القولين: أنها حالة غير منجمة في سنين. وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل بتنجيمها.

وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلاً. بل الواجب فيه ما انفق عليه الجاني وأولياء المقتول، قليلاً كان أو كثيراً، وهو حال عنده.

أما الدية في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية.

وقال بعض أهل العلم: ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية، وهي على العاقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وبه قال الشعبي والنخعي، والحكم، والثوري، وابن المنذر وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني ـ وهذا القول هو الحق.

(3/104)

 

 

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبه العمد في مال الجاني لا على العاقلة. لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل. وبهذا قال ابن سيرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شبرمة، وقتادة، وأبو ثور، واختارة أبو بكر عبد العزيز اهـ من المغني لابن قدامة. وقد علمت أن الصواب خلافه؛ لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك.

أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلاً. فهو عنده عمد محض كما تقدم.

وأما الدية في الخطأ المحض فهو أخماس في قول أكثر أهل العلم.

واتفق أكثرهم على السن والصنف في أربع منها، واختلفوا في الخامس. أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض. وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول: هو عشرون ابن مخاض ذكراً. وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن المنذر. واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوارد بذلك.

قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، ثنا الحجاج عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكرٌ" . وهو قول عبد الله. انتهى منه بلفظه.

وقال النسائي في سننه: أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي قال: سمعت ابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة، وعشرين حِقَّة.

وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد السلام بن عاصم، ثنا الصبَّاح بن محارب، ثنا حجاج بن أرطاة، ثنا زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن

(3/105)

 

 

مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني خاض ذكوراً" ونحو هذا أخرجه الترمذي أيضاً عن ابن مسعود.

وأخرج الدارقطني عنه نحوه. إلا أن فيه: وعشرون بني لبون بدل بني مخاض.

وقال الحافظ في «بلوغ المرام»: إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة. قال: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفاً، وهو أصح من المرفوع.

وأما القول الثاني في هذا الخامس المختلف فيه ـ فهو أنه عشرون ابن لبون ذكراً، مع عشرين جذعة، وعشرين حقة، وعشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض. وهذا هو مذهب مالك والشافعي. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة. كما نقله عنهم ابن قدامة في «المغني» وقال: هكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي، عن ابن مسعود.

وقال الخطابي: روي أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة" وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.

وقال البيهقي في السنن الكبرى: وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم. منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم، وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأياً، وكانوا يقولون: "العقل في الخطأ خمسة أخماس: فخمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون ذكور، والسن في كل جرح قل أو كثر خمسة أخماس على هذه الصفة " انتهى كلام البيهقي رحمه الله.

قال مقيده عفا الله عنه: جعل بعضهم أقرب القولين دليلاً قول من قال: إن الصنف الخامس من أبناء المخاض الذكور لا من أبناء اللبون. لحديث عبد الله بن

(3/106)

 

 

مسعود المرفوع المصرح بقضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: "والحديث المذكور وإن كان فيه ما فيه أولى من الأخذ بغيره من الرأي".

وسند أبي داود، والنسائي رجاله كلهم صالحون للاحتجاج. إلا الحجاج بن أرطاة فإن فيه كلاماً كثيراً واختلافاً بين العلماء. فمنهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه. وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك تضعيف بعض أهل العلم له.

وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس.

قال مقيده عفا الله عنه: حجاج المذكور من رجال مسلم. وأعل أبو داود والبيهقي وغيرهما الحديث بالوقف على ابن مسعود، قالوا: "رفعه إلى النَّبي صلى الله خطأ" ، وقد أشرنا إلى ذلك قريباً.

أما وجه صلاحية بقية رجال السنن: فالطبقة الأولى من سنده عند أبي داود مسدد وهو ثقة حافظ. وعند النسائي سعيد بن علي بن سعيد بن مسروق الكندي الكوفي وهو صدوق.

والطبقة الثانية عند أبي داود عبد الواحد وهو ابن زياد العبدي مولاهم البصري ثقة، في حديثه عن الأعمش وحده مقال. وعند النسائي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن.

والطبقة الثالثة عندهما حجاج بن أرطاة المذكور.

والطبقة الرابعة عندهما زيد بن جبير وهو ثقة.

والطبقة الخامسة عندهما خشف بن مالك الطائي وثقه النسائي.

والطبقة السادسة عندهما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.

والطبقة الأولى عند ابن ماجه عبد السلام بن عاصم الجعفي الهسنجاني الرازي وهو مقبول.

والطبقة الثانية عنده الصباح بن محارب التيمي الكوفي نزيل الري وهو صدوق، ربما خالف.

والطبقة الثالثة عنده حجاج بن أرطاة إلى آخر السند المذكور.

والحاصل: أن الحديث متكلم فيه من جهتين: الأولى من قبل حجاج بن

(3/107)

 

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم… فذكر مثل حديث موسى؛ وقال: "وعلى أهل الطعام شيئاً لم أحفظه" اهـ. وقال النسائي في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور".

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق. ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها ـ على نحو الزمان ما كان. فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار، إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق.

قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر: على أهل البقر مائتي بقرة. ومن كان عقله في الشاء: ألفي شاة. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فللعصبة وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منه إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها. وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن المثنى، عن معاذ بن هانىء قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار "ح" وأخبرنا أبو داود قال: حدثنا معاذ بن هانىء قال: حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قتل رجل رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً؛ وذكر قوله: {إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [9/74]، في أخذهم الدية واللفظ لأبي داود: أخبرنا محمد بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس:

أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى باثني عشر ألفاً يعني في الدية ـ انتهى كلام النسائي رحمه الله.

وقال أبو داود في سننه أيضاً: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، ثنا زيد بن الحباب، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلاً من بني عدي قتل. فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً. قال أبو داود: رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس.

وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا العباس بن جعفر، ثنا محمد بن سنان، ثنا

(3/109)

 

 

محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: جعل الدية اثني عشر ألفاً قال: وذلك قوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [9/74]، قال: بأخذهم الدية.

وفي الموطأ عن مالك: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.

وعن مالك في الموطأ أيضاً: أنه سمع أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين. قال مالك: والثلاث أحب ما سمعت إلى في ذلك.

قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق، ولا من أهل الذهب الورق، ولا من أهل الورق الذهب.

فروع تتعلق بهذه المسألة.

الأول: جمهور أهل العلم على أن الدية في الخطأ وشبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في كل واحد من السنين الثلاث.

قال ابن قدامة في "المغني": ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين. فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفاً. فاتبعهم على ذلك أهل العلم اهـ.

قال مقيده عفا الله عنه: ومثل هذا يسمى إجماعاً سكوتياً، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول، وأشار إلى ذلك صاحب "مراقي السعود" مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله:

وجعل من سكت مثل من أقر ... فيه خلاف بينهم قد اشتهر

فالاحتجاج بالسكوتي نما ... تفريعه عليه من تقدما

وهو بفقد السخط والضد حرى ... مع مضي مهلة للنظر

وتأجيلها في ثلاث سنين هو قول أكثر أهل العلم.

الفرع الثاني: اختلف العلماء في نفس الجاني. هل يلزمه قسط من دية الخطأ كواحد من العاقلة، أو لا.

(3/110)

 

 

فمذهب أبي حنيفة، ومشهور مذهب مالك: أن الجاني يلزمه قسط من الدية كواحد من العاقلة.

وذهب الإمام أحمد، والشافعي: إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء، لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة. وحجة القول الآخر: أن أصل الجناية عليه وهم معينون له. فيتحمل عن نفسه مثل ما يتحمل رجل من عاقلته.

الفرع الثالث: اختلف العلماء في تعيين العاقلة التي تحمل عن الجاني دية الخطأ.

فمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن العاقلة هم أهل ديوان القاتل إن كان القاتل من أهل ديوان، وأهل الديوان أهل الرايات، وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان لمناصرة بعضهم بعضاً، تؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين.

وإن لم يكن من أهل ديوان فعاقلته قبيلته، وتقسم عليهم في ثلاث سنين. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات.

ومذهب مالك رحمه الله: البداءة بأهل الديوان أيضاً. فتؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين. فإن لم يكن عطاؤهم قائماً فعاقلته عصبته الأقرب فالأقرب. ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئاً من العقل.

وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا، ولا لما يؤخذ منهم حد. ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهم.

ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت مال المسلمين.

والموالي بمنزلة العصبة من القرابة. ويدخل في القرابة الابن والأب.

قال سحنون: إن كانت العاقلة ألفاً فهم قليل، يضم إليهم أقرب القبائل إليهم.

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يؤخذ من واحد من أفراد العصبة من الدية أكثر من درهم وثلث في كل سنة من السنين الثلاث. فالمجموع أربعة دراهم.

ومذهب أحمد والشافعي: أن أهل الديوان لا مدخل لهم في العقل إلا إذا كانوا عصبة. ومذهبهما رحمهما الله: أن العاقلة هي العصبة، إلا أنهم اختلفوا هل يدخل في ذلك الأبناء والآباء؟ فعن أحمد في إحدى الروايتين: أنهم داخلون في العصبة؛ لأنهم أقرب العصبة. وعن أحمد رواية أخرى والشافعي: أنهم لا يدخلون في العاقلة. لظاهر حديث

(3/111)

 

 

أبي هريرة المتفق عليه المتقدم: «أن ميراث المرأة لولدها، والدية على عاقلتها» وظاهره عدم دخول أولادها. فقيس الآباء على الأولاد.

وقال ابن قدامة في «المغني»: واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم.

فقال أحمد. يحملون على قدر ما يطيقون. هذا لا يتقدر شرعاً. وإنما يرجح فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيفرض على كل واحد قدراً يسهل ولا يؤذي، وهذا مذهب مالك. لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف. ولا يثبت بالرأي والتحكم. ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.

وعن أحمد رواية أخرى: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال. لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معبراً بها. ويجب على المتوسط ربع مثقال، لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقطع اليد في الشيء التافه، وما دون ربع دينار لا تقطع فيه. وهذا اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة: أكثر ما يحمل على الواحد أربعة دراهم، وليس لأقله حد اهـ كلام صاحب «المغني».

الفرع الرابع: لا تحمل العاقلة شيئاً من الكفارة المنصوص عليها في قوله {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} [4/92]، بل هي في مال الجاني إجماعاً. وشذ من قال: هي في بيت المال.

والكفارة في قتل الخطأ واجبة إجماعاً بنص الآية الكريمة الصريحة في ذلك.

واختلفوا في العمد، واختلافهم فيه مشهور، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال: لا كفارة في العمد، لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق. لقوله تعالى في القاتل عمداً: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [4/93]؛ فهذا الأمر أعلى وأفخم من أن يكفر بعتق رقبة. والعلم عند الله تعالى.

والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتاً بإقرار الجاني ولم يصدقوه، بل إنما تحملها إن ثبت القتل بينة، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، منهم ابن عباس، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري،

(3/112)

 

 

والأوزاعي، وإسحاق. وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة وغيرهم. والعلم عند الله تعالى.

الفرع الخامس: جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا.

قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل. وهذا قول شاذ، مخالف لإجماع الصحابة كما قاله صاحب المغني.

وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن بلغت الثلث فعلى النصف. قال ابن قدامة في «المغني»: وروي هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب. وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، والزهري وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك.

قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة. وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم.

وقال الحسن: يستويان إلى النصف. وروي عن علي رضي الله عنه: أنها على النصف فيما قل أو أكثر. وروي ذلك عن ابن سيرين. وبه قال الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأبو ثور، والشافعي في ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر. لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما اهـ وهذا القول أقيس.

قال مقيده عفا الله عنه: كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث. فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته. لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث، كدية أربعة أصابع من اليد، فإن فيها أربعين من الإبل، إذ في كل إصبع عشر، والأربعون أكثر من ثلث المائة. وكلام مالك في الموطإ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل، وأن محل استوائهما

(3/113)

 

 

إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة، والإصبع والإصبعين والثلاثة. وهما قولان معروفان لأهل العلم. وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك، ورجحه ابن قدامة في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول مشكل جداً لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل لأنها دون الثلث. وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل. وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل، ودية الأصابع الأربعة في غاية الإشكال كما ترى.

وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، على سعيد بن المسيب، فأجابه بأن هذا هو السنة. ففي موطإ مالك رحمه الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت. بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخي

وظاهر كلام سعيد هذا: أن هذا من سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم. ولو قلنا: إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل، لأن سعيداً لم يدرك زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومراسيل سعيد بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة «الأنعام» مع أن بعض أهل العلم قال: إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة.

وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا حمزة، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها" اهـ وهذا يعضد قول سعيد.

إن هذا هو السنة.

قال مقيده عفا الله عنه: إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين.

إحداهما: أن اسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه. وابن جريج ليس بشامي، بل هو حجازي مكي.

(3/114)

 

 

الثانية: أن ابن جريج عنعنه عن عمرو بن شعيب، وابن جريج رحمه الله مدلس، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث. ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله: من أن محمد بن إسماعيل يعني البخاري قال. إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، كما نقله عنه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» في ترجمة ابن جريج المذكور.

وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح. وإن نقله عنه ابن حجر في بلوغ المرام وسكت عليه. والله أعلم. وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون. وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى. اللهم إلا أن يقال: إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعداً أنه في الزائد فقط. فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط. وهذا معقول وظاهر، والحديث محتمل له، والله أعلم.

ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل: ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نُسَي، عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دية المرأة على النصف من دية الرجل" ثم قال البيهقي رحمه الله: وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. ومعلوم أن عبادة بن نُسَي ثقة فاضل. فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره. وأخرج البيهقي أيضاً عن علي مرفوعاً "دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل" وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضاً من وجه آخر عنه وعن عمر ـ قاله الشوكاني رحمه الله.

الفرع السادس: اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلاً: أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم؛ كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل.

وقال أبو داود أيضاً في سننه: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية المعاهد نصف دية الحر" قال أبو داود: ورواه أسامة بن زيد الليثي،

(3/115)

 

 

وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب مثله اهـ.

وقال النسائي في سننه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى… ـ وذكر كلمة معناها ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين ـ وهم اليهود والنصارى" أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عقل الكافر نصف عقل المؤمن".

وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى. وأخرج نحوه الإمام أحمد، والترمذي، عن عمرو عن أبيه عن جده.

قال الشوكاني في نيل الأوطار. وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود. وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال: دية أهل الذمة كدية المسلمين. كأبي حنيفة ومن وافقه. ومن قال: إنها قدر ثلث دية المسلم. كالشافعي ومن وافقه. والعلم عند الله تعالى.

واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها. وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في «السنن الكبرى» وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج، وهي ليس فيها شيء صحيح.

أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [4/92]، فيقال فيه: هذه دلالة اقتران، وهي غير معتبرة عند الجمهور. وغاية ما في الباب: أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم. وهذا لا إشكال فيه.

أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية؛ لأنها مسألة أخرى.

الأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى، ويؤيدها: أن في الكتاب الذي كتبه النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل" فمفهوم

(3/116)

 

 

قوله: «المؤمنة» أن النفس الكافرة ليست كذلك. على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والمقرر في أصوله: أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه. ولا يقول بحمل المطلق على المقيد. فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر. والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمداً فتكون ديتة كدية المسلم، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم، لا نعلم له مستنداً من كتاب ولا سنة. والعلم عند الله تعالى.

وأما دية المجوسي: فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم. فهو ثمانمائة درهم. ونساؤهم على النصف من ذلك.

وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. منهم عمر وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وإسحاق.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي.

وقال النخعي، والشعبي: ديته كدية المسلم. وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.

والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث "سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب" لا يتجه. لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط. بدليل أن نساءهم لا تحل، وذبائحهم لا تؤكل اهـ.

وقال ابن قدامة في المغني: إن قول من ذكرنا من الصحابة: إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعاً سكوتياً. وقد قدمنا قول من قال: إنه حجة.

وقال بعض أهل العلم: دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي. وهو مذهب مالك. وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقاً. والعلم عند الله تعالى.

الفرع السابع: اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية، وبم تغلظ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء: وهي القتل في الحرم، وكون المقتول محرماً بحج أو عمرة، أو في الأشهر الحرم. فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها.

(3/117)

 

 

فمن قتل محرماً فعليه دية وثلث. ومن قتل محرماً في الحرم فدية وثلثان. ومن قتل محرماً في الحرم في الشهر الحرام فديتان.

وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وروي نحوه عن عمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم. نقله عنهم البيهقي وغيره.

وممن روى عنه هذا القول: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد. وقتادة، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني.

وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: تغلظ الدية بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان.

وصفة التغليظ عند الشافعي: هي أن تجعل دية العمد في الخطأ. ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلاً شبه عمد. كما فعل المدلجي بأبيه. والجد والأم عنده كالأب.

وتغليظها عنده: هو تثليثها بكونها ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها، لا يبالي من أي الأسنان كانت. ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئاً.

وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقاً من دية ولا غيرها، سواء كان القتل عمداً أو خطأ.

وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها. فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة. والإطلاق أظهر من هذا التفصيل، والله أعلم. وقصة المدلجي: هي ما رواه مالك في الموطإ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: أن رجلاً من بني مدلج يقال له «قتادة» حذف ابنه بالسيف. فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له. فقال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وقال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنذا. قال: خذها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لقاتل شيء".

الفرع الثامن: اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته. كسائر ما خلفه من تركته.

(3/118)

 

 

من الأدلة الدالة على ذلك، ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قال: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. ورواه مالك في الموطإ من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم أشيم خطأ. وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه. روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري. كما ذكره الزرقاني في شرح الموطإ.

ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل.

وهذا الحديث قواه ابن عبد البر، وأعله النسائي. قاله الشوكاني. وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه.

ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال:" أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية. فقال: "أعطه دية أبيه" فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: "نعم" وكانت ديته مائة من الإبل .

وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا: قال قيس بن حفص: أنا الفضيل بن سليمان النميري قال: أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال: حدثني قرة بن دعموص قال:"أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي-" إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا- وسكت عليه البخاري رحمه الله. ورجال إسناده صالحون للاحتجاج. إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله.

وذكر له البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة، وذكراً أنه سمع قرة بن دعموص، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.

وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله، وهو الظاهر. سواء كان القتل عمداً أو خطأ. ولا يخلو ذلك من خلاف.

وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور، وعنه رواية أخرى: أن

(3/119)

 

 

الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه، وكان هذا هو رأي عمر، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم إياه: أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها.

وقال أبو ثور: هي ميراث، ولكنها لا تقضي منها ديونه. ولا تنفذ منها وصاياه. وعن أحمد رواية بذلك.

قال ابن قدامة في «المغني»: وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته. فللموصى له بالثلث ثلث الدية؛ في إحدى الروايتين.

والأخرى: ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.

ومبنى هذا: على أن الدية ملك للميت، أو على ملك الورثة ابتداء. وفيه روايتان: إحداهما أنها تحدث على ملك الميت. لأنها بدل نفسه، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحاً وليس له إسقاط حق الورثة، ولأنها مال موروث فاشبهت سائر أمواله. والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء. لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، ويخرج عن أن يكون أهلاً لذلك، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء. ولا أعلم خلافاً في أن الميت يجهز منها اهـ محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله.

قال مقيده عفا الله عنه: أظهر القولين عندي: أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه. لتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته. والميراث لا يطلق شرعاً إلا على ما كان مملوكاً للميت، والله تعالى أعلم.

المسألة السادسة: اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33].

فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية: الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبائر. فإن عفا من له ذلك منهم صح عفوه وسقط به القصاص، وتعينت الدية لمن لم يعف.

وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى.

(3/120)

 

 

وقال ابن قدامة في المغني: هذا قول أكثر أهل العلم. منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي. وقال الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو. أي فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له السلطان في الآية.

ثم قال ابن قدامة: والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة. وهو وجه لأصحاب الشافعي.

قال مقيده عفا الله عنه: مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل: فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور، والجد والإخوة في ذلك سواء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره والاستيفاء للعاصب كالولاء، إلا الجد والإخوة فسيان اهـ.

وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو، وكذلك النساء غير الوارثات: كالعمات، وبنات الإخوة، وبنات العم.

أما النساء الوارثات: كالبنات. والأخوات، والأمهات فلهن القصاص. وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة.

وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب.

فمفهوم قوله: "إن ورثن" أن غير الوارثات لا حق لهن، وهو كذلك.

ومفهوم قوله: "ولم يساوهن عاصب"، أنهن إن ساواهن عاصب: كبنين، وبنات، وإخوة وأخوات، فلا كلام للإناث مع الذكور. وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن: كبنات، وإخوة. فثالث الأقوال هو مذهب المدونة: أن لكل منها القصاص ولا يصح العفو عنه إلا باجتماع الجميع. أعني ولو عفا بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم. يعني ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة: أن الولي في هذه الآية هم الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً. ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى. لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلاً منهما يوالي

(3/121)

 

 

الآخر. كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [9/71]، وقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ…} الآية [8/75].

والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية ـ الحديث الوارد بذلك، قال أبو داود في سننه: باب عفو النساء عن الدم حدثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد عن الأزواعي: أنه سمع حصنا، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة".

قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء. وبلغني عن أبي عبيدة في قوله "ينحجزوا" يكفوا عن القود.

وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الوليد بن الأوزاعي قال: حدثني حصين قال: حدثني أبو سلمة "ح" وأنبأنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني حصين: أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" اهـ.

وهذا الإسناد مقارب. لأن رجاله صالحون للاحتجاج، إلا حصناً المذكور فيه ففيه كلام.

فطبقته الأولى عند أبي داود: هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد وهو ثقة. وعند النسائي حسين بن حريث، وإسحاق بن إبراهيم. وحسين بن حريث الخزاعي مولاه أبو عمار المروزي ثقة.

والطبقة الثانية عندهما: هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة.

والطبقة الثالثة عندهما: هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمر الأوزاعي، وهو الإمام الفقيه المشهور، ثقة جليل.

والطبقة الرابعة عندهما: هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي، قال فيه ابن حجر في التقريب: مقبول. وقال فيه في «تهذيب التهذيب»: قال الدارقطني شيخ يعتبر به، له عند أبي داود والنسائي حديث

(3/122)

 

 

واحد: "على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" ،قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان لا يعرفه حاله "ا هـ" وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مانع من قبوله. لأن من اطلع على أنه ثقة حفظ ما لم يحفظه مدعي أنه مجهول لا يعرف حاله. وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا: لا نعلم أحداً روى عنه غير الأوزاعي.

والطبقة الخامسة عندهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ثقة مشهور.

والطبقة السادسة عندهما: عائشة رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فقد رأيت أن ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات. وأن بقية طبقات السند كلها صالح للاحتجاج. والعلم عند الله تعالى.

تنبيه

إذا كان بعض أولياء الدم صغيراً، أو مجنوناً، أو غائباً. فهل للبالغ الحاضر العاقل: القصاص قبل قدوم الغائب، وبلوغ الصغير، وإفاقة المجنون؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب، وبلوغ الصغير..! الخ.

فإن عفا الغائب بعد قدومه، أو الصغير بعد بلوغه مثلاً سقط القصاص ووجبت الدية. في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم.

فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد من انتظار بلوغ الصغير، وقدوم الغائب، وإفاقة المجنون.

وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه. وبه قال حماد، ومالك، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة اهـ محل الغرض من كلام صاحب المغني.

وذكر صاحب المغني أيضاً: أنه لا يعلم خلافاً في وجوب انتظار قدوم الغائب. ومنه استبداد الحاضر دونه.

قال مقيده عفا الله عنه: إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال. وإن كانت بعيدة ففيه

(3/123)

 

 

خلاف معروف عند المالكية. وظاهر المدونة الانتظار ولو بعدت غيبته.

وقال بعض علماء المالكية منهم سحنون: لا ينتظر بعيد الغيبة. وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك، الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى بقوله: "وانتظر غائب لم تبعد غيبته. لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه" .

وقال ابن قدامة في «المغني» ما نصه: والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً أربعة أمور: أحدها: أنه لو كان منفرداً لاستحقه. ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح. والثاني: أنه لو بلغ لاستحق. ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده. كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه. والثالث: أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق، ولو لم يكن مستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي. والرابع: أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته، ولو لم يكن حقاً لم يرثه كسائر ما لم يستحقه.

واحتج من قال: إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين:

أحدهما: أن القصاص حق من حقوق القاصر، إلا أنه لما كان عاجزاً عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه فإن النظر فيها لغيره، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه. وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه. وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني. لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه: هو مستحق لكنه قاصر في الحال، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه. ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد.

الأمر الثاني: أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصاً بقتله علياً رضي الله عنه، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار، ولم ينتظر بقتله بلوغهم، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم. وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ. ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجباً لانتظره.

وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين: أحدهما: أن ابن ملجم كافر. لأنه مستحل دم علي، ومن استحل دم مثل علي رضي الله عنه فهو كافر. وإذا كان كافراً فلا حجة في قتله. الثاني: أنه ساع في الأرض بالفساد، فهو محارب، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال ولو عفا أولياء الدم.كما قدمناه في سورة «المائدة» وإذن فلا

(3/124)

 

 

داعي للانتظار.

قال: البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: قال بعض أصحابنا: إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه. لأنه قتله حداً لكفره لا قصاصاً.

وقال ابن قدامة في «المغني»: فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره؛ لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه، معتقداً كفره، متقرباً بذلك إلى الله تعالى. وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، وقتله متحتم، وهو إلى الإمام. والحسن هو الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة. ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم. وإن قدر أنه قتله قصاصاً فقد اتفقنا على خلافه. فكيف يحتج به بعضنا على بعض. انتهى كلام صاحب المغني.

وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه: قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي. فإنه كان صغيراً يوم قتل أبوه. قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصاً. والله أعلم اهـ.

واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أشقى الأولين"؟ قلت: عاقر الناقة. قال: "صدقت. فمن أشقى الآخرين"؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: "الذي يضربك على هذا ـ وأشار بيده على يافوخه ـ فيخضب هذه من هذه ـ يعني لحيته ـ من دم رأسه" قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وابن عبد البر في «الاستيعاب» وغيرهما.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي عليه أهل التاريخ والأخبار ـ والله تعالى أعلم ـ أن قتل ابن ملجم كان قصاصاً لقتله علياً رضي الله عنه. لا لكفر ولا حرابة. وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج. ولما سئل عنهم قال: من الكفر فروا. فقد ذكر المؤرخون أن علياً رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وأنه إن مات قتلوه به قصاصاً، وإن حي فهو ولي دمه. كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم.

وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين. ولا شك أن ابن ملجم

(3/125)

 

 

متأول ـ قبحه الله ـ ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب علياً رضي الله عنه قال: الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابك ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين: أبي موسى، وعمرو بن العاص، كفر بالله لأن الحكم لله وحده؛ لقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} [6/57و12/40].

ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر. ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [96/1]، إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه. ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعاً شديداً. فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف أن أمكث فواقاً لا أذكر الله "ا هـ" ذكره ابن كثير وغيره.

ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم ـ قبحه الله ـ في قتله أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه:

يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أو في البرية عند الله ميزانا

وجزى الله خيراً الشاعر الذي يقول في الرد عليه:

قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت ويلك للإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم ... وأول الناس إسلاماً وإيمانا

وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سن الرسول لنا شرعاً وتبيانا

صهر النَّبي ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نوراً وبرهانا

وكان منه على رغم الحسود له ... مكان هارون من موسى بن عمرانا

ذكرت قاتله والدمع منحدر ... فقلت:سبحان رب العرش سبحانا

إني لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

أشقى مراد إذا عدت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا

كعاقر الناقة الأولى التي جلبت ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا

قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ... قبل المنية أزمانا فأزمانا

فلا عفا الله عنه ما تحمله ... ولا سقى قبر عمران بن حطانا

لقوله في شقي ظل مجترما ... ونال ما ناله ظلماً وعدوانا

(3/126)

 

 

«يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا»

بل ضربة من غوى أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا

كأنه لم يرد قصداً بضربته ... إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا

وبما ذكرنا ـ تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصِّغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير.

وحجة من قال أيضاً بكفره قوية. للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين، مقروناً بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} ، وذلك يدل على كفره. والعلم عند الله تعالى.

المسألة السابعة ـاعلم أن هذا القتل ظلماً، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً…} الآية[17/33]، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء: اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه.

أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما: فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه.

وأما الثالث المختلف فيه: فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله.

أما الإقرار بالقتل: فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به. قال البخاري في صحيحه: باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك:"أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي. فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة. وقد قال همام: "بحجرين".

وقد قال البخاري أيضاً: باب سؤال القاتل حتى يقر ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه: "فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة". وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل. وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد.

ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عبيد الله بن معاذ

(3/127)

 

 

العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب: أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال: "إني لقاعدٌ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته" ؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال نعم قتلته. قال: "كيف قتلته؟" قال كنت: أنا وهو نختبط من شجرة. فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك"؟ قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: "فترى قومك يشترونك" قال: أنا أهون على قومي من ذاك فرمى إليه بنسعته وقال: دونك صاحبك..»" الحديث. وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار.

ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه. وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقربه على نفسه في سورة «القيامة».

وأما البينة الشاهدة بالقتل عمداً عدواناً ـ فقد دل الدليل أيضاً على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها. قال أبو داود في سننه: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر. فانطلق أولياؤه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم"؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهود وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا. فوداه النَّبي صلى الله عليه وسلم من عنده" اهـ».

فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "لكم شاهدان على قتل صاحبكم". فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل.

وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري. ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح. إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق رمي بشيء من التدليس.

وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن محيصةَ الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" قال: يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً

(3/128)

 

 

على أبوابهم. قال: "فتحلف خمسين قسامة قال: يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنستحلف منهم خمسين قسامةً" فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اهـ.

فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" ، دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين. وأقل درجات هذا الحديث الحسن. وقال فيه ابن حجر في الفتح: هذا السند صحيح حسن.

ومن الأدلة الدالة على ذلك: إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمداً عدواناً.

وقد قدمنا قول من قال من العلماء: إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين.

وأكثر أهل الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعياً. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد:

ولا يفيد القطع ما يوافق الـ ... إجماع والبعض بقطع ينطق

وبعضهم يفيد حيث عولا ... عليه وانفه إذا ما قد خلا

مع دواعي رده من مبطل ... كما يدل لخلافة علي

وقوله:

وانفه إذا ما قد خلا.. الخ؛ مسألة أخرى غير التي نحن بصددها. وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض.

وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث: فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها. وخالف في ذلك بعضهم.

فممن قال بوجوب القود بالقسامة: مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه.

وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأزواعي، وإسحاق، وداود.

وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان. وقال أبو الزناد: قلنا

(3/129)

 

 

بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان.

وقال ابن حجر "في فتح الباري": "إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة وروي بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلاً عن ألف".

وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود: الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم. وعن معاوية: القتل بها أيضاً.

وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية. وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية. وإليه بنحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.

وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلاً بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام. قاله البخاري في صحيحه.

فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة:

أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطباً لأولياء المقتول: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته.." الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره "فيدفع برمته" معناه: أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم. وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة.

ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريباً. وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه: صحيح حسن. فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه: "أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته" صريح أيضاً في القود بالقسامة. وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته: أي ليأخذوا منه الدية، بعيد جداً كما ترى.

(3/130)

 

 

ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول: "تحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم.." الحديث. قالوا: فعلى أن الرواية "قاتلكم" فهي صريح في القود بالقسامة. وعلى أنها «صاحبكم» فهي محتملة لذلك احتمالاً قوياً. وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر "صاحبكم" لاحتمل أن يكون المراد به المقتول، وأن المعنى: تستحقون ديته. والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول. لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملاً، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه.

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يميناً ثم تسلمه".

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: معنى "دم صاحبكم" قتل القاتل.

وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد «بدم صاحبكم» الدية، وهو احتمال قوي أيضاً. لأن العرب تطلق الدم على الدية. ومنه قوله:

أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا الوليد "ح" وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا الوليد عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لِيَّة البحرة قال القائل والمقتول منهم. وهذا لفظ محمود ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية اهـ وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله: "عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" كما ترى. وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا وقال: هذا منقطع، ثم قال: وروى أبو داود أيضاً في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عن حماد عن قتادة، وعامر الأحول عن أبي المغيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة الطائف وهو أيضاً منقطع. وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، أن رجلاً من الأنصار قتل وهو سكران

(3/131)

 

 

رجلاً ضربه بشويق، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا. فحلفوا خمسين يميناً وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه: أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكرنا له حقاً أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا.

وقال البيهقي في سننه أيضاً: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره: أن رجلاً من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة.. فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك. فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب، فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما. فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه. فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق، وروينا فيه عن الزهري وربيعة.

ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير: أنهما أقادا بالقسامة.

ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك وقال: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس. فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة ـ انتهى كلام البيهقي رحمه الله.

هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة.

وأما حجج من قال: لا يجب بها إلا الدية؛ فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره:

أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب".

قال النووي في شرح مسلم: معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم ـ أي: يدفعوا إليكم ديته ـ وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا. فينتقض عهدهم، ويصيرون حرباً لنا.

وفيه دليل لمن يقول: الواجب بالقسامة الدية دون القصاص اهـ كلام النووي،

(3/132)

 

 

رحمه الله.

ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفتسحقون الدية بأيمان خمسين منكم" قالوا: هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص.

ومن أدلتهم أيضاً ما ذكره الحافظ في فتح الباري قال: وتمسك من قال: لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يميناً، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران وداعة أن يقاس ما بين القريتين. فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلاً حتى يوافوه في مكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية. فقال: «حقنتم بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم رجل مسلم».

قال الشافعي: إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث غير مقبول. انتهى. وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد: أن قتيلاً وجد بين حيين فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب ولكن سنده ضعيف.

وقال عبد الرزاق في مصنفه: عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: "أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال لا. قلت: فكيف تجترؤون عليها؟ فسكت" ... الحديث.

وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في القسامة: توجب العقل ولا تسقط الدم". انتهى كلام ابن حجر رحمه الله.

وأما حجة من قال: إن القسامة لا يلزم بها حكم ـ فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه، ولم يعلموا أحق هو أم باطل، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب.

قال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة، حدثني أبو

(3/133)

 

 

قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوماً للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قال: نقول القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجلٍ بحمص أنه سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال لا. قلت: فو الله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل أو رجل زنى بعد إحصان. أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام.. إلى آخر حديثه.

ومراد أبي قلابة واضح، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه!

هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة، وهذه حججهم.

قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي دليلاً: القود بالقسامة؛ لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم" وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى. ولم يثبت ما يعارض هذا. والقسامة أصل وردت به السنة، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع. كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفاً. لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه. شرع لحياة الناس وردع المعتدين، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك.

تنبيه

اعلم: أن رواية سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة" وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة قال: "يحلفون" يعني اليهود المدعى عليهم، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلاً ـ لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة. لأن سعيد بن عبيد وهم فيها، فأسقط من السياق تبدئة المدعين باليمين. لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين. ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار فذكر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولاً على أولياء المقتول، فلما أبوأ عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم. فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة

(3/134)

 

 

من ثقة حافظ فوجب قبولها. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد "في باب القسامة"، وذكر رواية يحيى بن سعيد "في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين... الخ" وفيها: "تحلفون وتستحقون قاتلكم" أو صاحبكم الحديث. والخطاب في قوله "تحلفون وتستحقون، لأولياء المقتول".

وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد ـ ابن حجر في الفتح وغير واحد. لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها. كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول.

وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا…} الآية[2/73]، وقد أسند حديث سهل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين: يحيى بن سعيد، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل. فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد.

وقال مالك رحمه الله "في الموطإ" بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون اهـ محل الغرض منه.

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة. فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين:

الأول: أن يقول المقتول: دمي عند فلان. وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك، أو لا بد من اثنين؟ خلاف عندهم.

والثاني: أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين.

قال مالك في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعته ممن أَرْضَى في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ـ أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أن يقول المقتول دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم. فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين

(3/135)

 

 

الوجهين. اهـ محل الغرض منه، هكذا قال في الموطإ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله.

واعلم أن كثيراً من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول قتلني فلان.

قالوا: هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة.

واحتج مالك رحمه الله بأمرين:

الأول: أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت: الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء. وقد دلت على ذلك آيات قرآنية. كقوله {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [63/10]، وقوله: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [4/18]، وقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [40/84]، إلى غير ذلك من الآيات.

فهذا معهود من طبع الإنسان، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له.

الأمر الثاني: أن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله قتلني فلان، أو دمي عند فلان، في رواية ابن وهب وابن القاسم.

ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء معجزة لنبي الله موسى، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبراً جزماً لا يدخله احتمال ـ فافترقا.

ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول، فلما صار حياً كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد.

قال: وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه. فلعله أمرهم بالقسامة معه اهـ كلام ابن العربي. وهو غير ظاهر عندي. لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [2/72]، فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي والله تعالى أعلم. والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم. وروى أشهب عن مالك: أنه

(3/136)

 

 

يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب: أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم: أن شهادة المرأتين لوث؛ دون شهادة المرأة الواحدة.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافاً كثيراً. ومشهور مذهب مالك: أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم.

وممن أوجب القسامة بقوله دمي عند فلان: الليث بن سعد وروي عن عبد الملك بن مروان.

والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول دمي عند فلان، منهم من يقول: يشترط في ذلك أن يكون به جراح. ومنهم من أطلق.

والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية: أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب.

واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك.

الأولى: أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أياماً ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة. وبه قال الليث أيضاً.

وقال الشافعي: يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب. وهو مروي أيضاً عن أبي حنيفة.

الثانية: أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلاً، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك. وبه قال الشافعي. ويلحق بهذا أن تفترق جماعة من قتيل. وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين: أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين.

أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما. والجمهور على أن القسامة عليهما معاً مطلقاً. قاله ابن حجر في الفتح.

وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون رجلاً من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً. ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة.

وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة: الثوري والأوزاعي.

(3/137)

 

 

وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية: أن يوجد بالقتل أثر. وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة، بل يكون هدراً لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة. وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة. كقصة اليهود مع الأنصاري.

وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته. كالواحد أو جماعة غير عدول. وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلاً ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل.

وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين. والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين: أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري.

واما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان.

الأولى: أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك. ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ـ نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ. واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي. قاله في المغني.

والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله: أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه.

أحدها: العداوة المذكورة.

والثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثاً في حق كل واحد منهم. فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ـ ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي.

والثالث: أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره.

الرابع: أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما، فاللوث على الأخرى.

(3/138)

 

 

ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضاً فاللوث على طائفة القتيل. وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه. وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعاً، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور.

الخامس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء. فعن أحمد هو لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي. وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر.

فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ـ فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: ديته في بيت المال. وهذا قول إسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيداً روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة. فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله؟ فقال علي: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال. انتهى من المغني.

وقد قال ابن حجر في الفتح "في باب إذا مات في الزحام أو قتل" في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه: وحجته يعني إعطاء ديته من بيت المال ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد حذيفة قتل يوم أحد بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات مع إرساله. وقد تقدم له شاهد مرسل أيضاً في باب العفو عن الخطأ وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور: أن رجلاً زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال.

وفي المسألة مذاهب أخرى "منها" قول الحسن البصري: أن ديته تجب على جميع من حضر، وهو أخص من الذي قبله. وتوجيهه: أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم. "ومنها" قول الشافعي ومن تبعه: أنه يقال لوليه ادَّعِ على من شئت واحلف. فإن حلفت استحققت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة. وتوجيهه: أن الدم لا يجب إلا بالطلب.

"ومنها" قول مالك: "دمه هدر". وتوجيهه: أنه إذا لم يعلم قائله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب "في باب العفو عن الخطأ" ـ انتهى

(3/139)

 

 

كلام ابن حجر رحمه الله.

والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطباً للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ: "غفر الله لكم" استدل به من قال: إن ديته وجبت على من حضر. لأن معنى قوله "غفر الله لكم" عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به. انتهى محل الغرض منه. فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله.

قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول: أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي:

بغالب الظن يدور المعتبر ... فاعتبر الإسلام من غبر ، الخ

فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول: لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة. وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة. وقال الشافعي: يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكراً كان أو أنثى، عمداً كان أو خطأ.

واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلاً منكم. قالوا: ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم.

واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم "تحلفون خمسين يميناً فتستحقون دم صاحبكم" فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص. ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئاً؛ فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية.

وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم. فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" ما نصه: هذا مما يجب تأويله. لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة. وتأويله عند أصحابنا: أن معناه يؤخذ منكم خمسون يميناً والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من

(3/140)

 

 

الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً، سواء كان القتل عمداً أو خطأ؛ هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر. ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يميناً. ولا تحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر. انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله.

ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره.

الفرع الثاني: قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه. فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم. وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم. فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" أي يبرؤون منكم بذلك. وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني.

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية. وذكر نحوه أبو الخطاب. رواية عن أحمد. وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا. ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم.

الفرع الثالث: إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم ـ فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [33/21].

الفرع الرابع: إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم: لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يميناً، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم.

قال مالك في الموطإ: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد.

وقال بعض علماء الحنابلة: تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية. لأن المدعى عليهم متساوون. وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا. فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا. وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو مذهب

(3/141)

 

 

مالك أيضاً. إلا أن المالكية يقولون: إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة. ولا أعلم لهذا دليلاً. وأظهر الأقوال عندي: أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر. لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى. قال في المغني: وهذا القول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.

الفرع الخامس: اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة. فلو كان للمقتول ابن واحد مثلاً استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها. وأظهر الأقوال دليلاً هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة: "يحلف خمسون منكم.." الحديث. وهما ابنا عم المقتول، ولا يرثان فيه لوجود أخيه. وقد قال لهم "يحلف خمسون منكم" وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلاً وارثون. لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسباً.

وأجاب المخالفون: بأن الخطاب للمجموع مراداً به بعضهم، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده. فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يميناً. وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث.

فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معيناً لا وارثاً. فإن كان وارثاً يصح عفوه عن الدم سقط القود بنكوله، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا. هذا مذهب مالك رحمه الله.

وأما القسامة في الخطإ عند مالك رحمه الله: فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم. فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يميناً كلها واستحق نصيبه من الدية.

وأما الشافعي رحمه الله فقال: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يميناً سواء قلوا أم كثروا. فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يميناً وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين. فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يميناً واستحق حتى لو كان من يرث بالفرص والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق.

وقد قدمنا: أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله: أن القسامة إنما تستحق بها

(3/142)

 

 

الدية لا القصاص.

وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان:

الأولى: أنه يحلف خمسون رجلاً من العصبة خمسين يميناً، كل رجل يحلف يميناً واحدة. فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون. وهذا قول لمالك أيضاً، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح.

والرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم. فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق. إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد. فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة. وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي حامد.

وأما الإمام أبو حنيفة، رحمه الله: فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلاً من أهل المحلة التي وجد بها القتيل. فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلاً.

تنبيه

قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة. فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار فإن تساووا جبر الكسر عليهم. كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين. فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يميناً وهو ست عشرة وثلثان، فيتمم الكسر على كل واحد منهم. فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يميناً.

فإن قيل: يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يميناً. لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يميناً.

فالجواب: أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز. فعلم استواؤهم في جبر الكسر. فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستوِ في قدر كسرها الحالفون، كأن كان على أحدهم نصفها، وعلى آخر ثلثها، وعلى آخر سدسها، حلفها من عليه نصفها تغليباً للأكثر، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس. وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم. وقال غيرهم: تجبر على الجميع، والله تعالى أعلم.

(3/143)

 

 

وقال بعض أهل العلم: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يميناً، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه. واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يميناً كلها. قال: وما يحلفه منفرداً يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.

قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد فيما يظهر. لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى. والعلم عند الله تعالى.

الفرع السادس: لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد. وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها، منهم مالك وأحمد والزهري، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم.

وهذا القول هو الصواب، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره:

"يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته.." الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد. وقيل: يستحق بالقسامة قتل الجماعة. لأنها بينة موجبة للقود، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة. وممن قال بهذا أبو ثور: قاله ابن قدامة في المغني.

وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا؟ فقال بعض أهل العلم: تسمع على غير معين، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلاً بقصة الأنصاري المقتول بخبير. لأن أولياءه ادعو على يهود خيبر. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين، قالوا: ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيها "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" فبين أن المدعي عليه لا بد أن يعين.

وقال بعض من اشترط كونها على معين: لا بد أن تكون على واحد، وهو قول أحمد ومالك.

وقال بعض من يشترط كونها على معين: يجوز الحلف على جماعة معينين، وقد قدمنا اختلافهم: هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد، وهو ظاهر الحديث، وهو الحق إن شاء الله.

وقال أشهب صاحب مالك: لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحداً للقتل،

(3/144)

 

 

ويسجن الباقون عاماً، ويضربون مائة.

قال ابن حجر في الفتح: وهو قول لم يسبق إليه، والعلم عند الله تعالى.

الفرع السابع: اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت، ودعوى القتل أيضاً على البت. فإن قيل: كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم؟

فالجواب: أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك. وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف.

الفرع الثامن: إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان، وكانت بينهم على حسب مواريثهم، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم. لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه.

ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جداً، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع.

غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة

وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه ـ أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلماً، والله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [17/33]، وكان الأمر كما قال ابن عباس.

وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه. وهو استنباط غريب عجيب. ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم ـ وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم. وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر؛ كقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}

(3/145)

 

 

[2/169]، وقوله :{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [7/33]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [49/12]، وقوله: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [53/28] وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [4/157]، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جداً. وفي الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث".

تنبيه

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا: لأنه اتباع غير العلم.

قال مقيده عفا الله عنه: لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه، وكفر متبعه. كقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [ 2/170]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [5/104]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [31/21]، وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [21/24]، وقوله: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ} [14/10]، إلى غير ذلك من الآيات.

أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات ـ على منع الاجتهاد في الشرع مطلقاً، وتضليل القائل به، ومنع التقليد من أصله، فهو من وضع القرآن في غير موضعه، وتفسيره بغير معناه، كما هو كثير في

(3/146)

 

 

الظاهرية، لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين. كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة صلى الله عليه وسلم. فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به ـ لا وجه لمنعه، وكان جارياً بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره أحد من المسلمين. وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى «في سورة الأنبياء، والحشر» مسألة الاجتهاد في الشرع، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به قياساً كان الإلحاق أو غيره. ونبين أدلة ذلك، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك.

وسنذكر هنا طرفاً قليلاً من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم.

اعلم أولاً: أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر، وهو نوع من القياس الجلي، ويسميه الشافعي رحمه الله «القياس في معنى الأصل» وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما. أعني الفرق المؤثر في الحكم.

ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [17/23]، فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه.

وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [99/8،7]، فإنه لا شك أيضاً في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة والإناثة بمثقال الجبل المسكوت عنه.

وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ} [65/2]، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتاً عنها.

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء، مع أن ذلك مسكوت عنه.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [4/10]، لا شك في أنه

(3/147)

 

 

يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه. لأن الجميع إتلاف له بغير حق.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق" يدل على أن من أعتق شركاً له في أمة فحكمه كذلك. لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر. كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين.

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلاً وصب البول من القارورة في الماء الراكد. إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها، وأمثال هذا كثيرة جداً، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر. ولا شك أن في ذلك كله استدلالاً بمنطوق به على مسكوت عنه. وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول «بتحقيق المناط» لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، ومسائلة التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر، وسنذكر أمثلة منها. فمن ذلك قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [5/95]، فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه. وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلاً من أصله. والإنفاق على الزوجات واجب، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم. وقيم المتلفات واجبة على من أتلف، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد. والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن. لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله. ولا يحكم إلا بقول العدل، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة. وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع: ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن

(3/148)

 

 

يحيى التميمي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

وحدثني إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله، وزاد في عقب الحديث: قال يزيد: فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: أخبرنا مروان يعني ابن محمد الدمشقي، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعاً. انتهى.

فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئاً في اجتهاده. وهذا يقطع دعوى الظاهرية: منع الاجتهاد من أصله، وتضليل فاعله والقائل به قطعاً باتاً كما ترى.

وقال النووي في شرح هذا الحديث: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم. فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره: إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم. فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم. ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا. لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. وقد جاء في الحديث في السنن: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، واثنان في النار. قاض عرف الحق فقضى به في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار» انتهى الغرض من كلام النووي.

فإن قيل: الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد.

فالجواب: أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه، وذلك ممنوع.

(3/149)

 

 

وقال البخاري في صحيحه: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وقال عبد العزيز بن المطلب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مثله اهـ. فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية. ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى. لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: "فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه: "وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه".

وقال ابن قدامة في روضة الناظر بعد أن ساق هذا الحديث: قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص، والحارث والرجال مجهولون. قاله الترمذي. قلنا: قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ رضي الله عنه. انتهى.

ومراد ابن قدامه ظاهر؛ لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه. وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله: هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد لأنها ليست في المسند ولا في

(3/150)

 

 

السنن، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقة ابن حبان، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولاً ليس فيهم مجروح ولا منهم، وسيأتي استقضاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء. ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا. وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، قاله في التقريب. وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديماً وحديثاً بالقبول. وسيأتي إن شاء الله «في سورة الأنبياء»، و«سورة الحشر» ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم.

ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها"؟ قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك" وفي رواية لهما عنه قال:جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: "لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها؟ قالت: نعم. قال : "فدين الله أحق أن يقضى" انتهى.

واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطراباً، لأنها وقائع متعددة: سألته امرأة فأفتاها، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة، كما نبه عليه غير واحد.

وهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم. لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي،

بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه. وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى.

ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضاً: ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل من بني فزارة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود !فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك إبل"؟ قال: نعم. قال: "فما ألوانها"؟ قال: حمر. قال: "فهل يكون فيها من أورق"؟ قال: إن فيها لورقاً. قال: "فأني أتاها ذلك" ؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" اهـ.

فهذا نص صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره. وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه، ليس موجباً للعان.

(3/151)

 

 

فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد. كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجداداً ورقاً نزعت ألوانها إلى الورقة. وبهذا اقتنع السائل.

ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره: ما رواه أبو داود، والإمام أحمد، والنسائي، عن عمر رضي الله عنه قال: هششت يوماً فقبلت وأنا صائم. فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً! قبلت وأنا صائم!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم"؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال صلى الله عليه وسلم "فمه" اهـ.

فإن قيل: هذا الحديث قال فيه النسائي: منكر.

قلنا: صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. قاله الشوكاني في نيل الأوطار.

قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح. قال: أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث "ح" وثنا عيسى بن حماد، أخبرنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت... إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفاً. ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد. أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ. وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة، ثقة. وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور. وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة. وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة. وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى. فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة. لأن المضمضة مقدمة الشرب، والقبلة مقدمة الجماع. فالجامع بينهما أن كلاً منهما مقدمة المفطر، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها.

فهذه الأدلة التي ذكرنا فيه الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له. لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، والله يقول: {لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [33/21]، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له.

(3/152)

 

 

فإن قيل: إنما فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أوحى إليه ذلك.

قلنا: فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته، فكلها تثبت بها الحجة، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى.

مسألة

قال ابن خويز منداد من علماء المالكية: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة. لأنه لما قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [17/36]، دل على جواز ما لنا به علم. فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به. وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص. لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علماً اتساعاً. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: "ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض" وفي حديث يونس بن يزيد: وكان مجزز قائفاً اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره.

قال مقيده عفا الله عنه: من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة. فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها. واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جداً بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة.

قالوا: فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النَّبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به. فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها، والحكم بأن الولد ابن زنى، ولم يفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك كما يأتي إيضاحه "في سورة النور" إن شاء الله تعالى.

وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم.

وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي :"إن بعض هذه الأقدام من بعض" ، حتى برقت أسارير وجهه من السرور.

(3/153)

 

 

قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل، لأن تقديره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه، وهو واضح كما ترى.

واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا فمنهم من قال لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر. ومنهم من قال: يقبل ذلك في الجميع.

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء لأن سرور النَّبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول، وهو قول الجمهور وهو الحق، خلافاً للإمام مالك رحمه الله قائلاً: إن صورة السبب ظنية الدخول، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:

واجزم بإدخال ذوات السبب ... وارو عن الإمام ظناً تصب

تنبيهان

الأول: لا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشاً لرجل آخر. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشاً لزمعة. فقال صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب. فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها "احتجبي عنه" مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط. وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم.

التنبيه الثاني: قال بعض علماء العربية: أصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه الحديث الذي روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا" أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس. وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه. وقوله "لا نقفوا أمنا" ، أي: لا نقذف أمنا ونسبها، ومنه قول الكميت:

فلا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفوا الحواصن إن قفينا

وقول النابغة الجعدي:

(3/154)

 

 

ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا

والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب: الاتباع كما هو معلوم من اللغة. ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال: إن أصله القذف والبيت.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [17/36]، فيه وجهان من التفسير:

الأول: أن معنى الآية: أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه!؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه!؟

ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [16/93]، وقوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92-93]، ونحو ذلك من الآيات.

والوجه الثاني: أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها، فتشهد عليه جوارحه بما فعل.

قال القرطبي في تفسيره: وهذا المعنى أبلغ في الحجة. فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي كما قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [36/65]، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [41/20].

قال مقيده عفا الله عنه: والقول الأول أظهر عندي، وهو قول الجمهور.

وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر. لأن قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [17/36]، يفيد تعليل النهي في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [17/36]، بالسؤال عن الجوارح المذكورة، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه: أن {إن} المكسورة من حروف التعليل. وإيضاحه: أن المعنى انته عما لا يحل لك لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشركه، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا تستعمل نعمه في معصيته.

ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً

(3/155)

 

 

وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [16/78]، ونحوها من الآيات. والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: {أُولَئِكَ} راجعة إلى {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} وهو دليل على الإشارة «بأولئك» لغير العقلاء وهو الصحيح. ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي:

يا ما أميلح غزلانا شدن لنا

... من هؤلياء كن الضال والسمر

وقول جرير:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام

خلافاً لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه، وأن الرواية فيه «بعد أولئك الأقوام» والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}.

نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله :{مَرَحًا} [17/37]، مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة: ومصد منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع

وقرىء «مرحاً» بكسر الراء على أنه الوصف من مرح "بالكسر" يمرح "بالفتح" أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين.

وقد أوضح حل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله عن لقمان مقرراً له {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [31/19،18]، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الآية[25/63]، إلى غير ذلك من الآيات.

وأصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبختراً مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.

وأظهر القولين عندي في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاٌّرْضَ} [17/37]، أن معناه لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [17/37]، أي: أنت أيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن

(3/156)

 

 

تؤثر فيها فنخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدرك ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحاً. القول الثاني: أن معنى {لَن تَخْرِقَ الاٌّرْضَ} [17/37]، لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج:

وقاتم الأعماق خاوى المخترق ... مشتبه الأعلام لماع الخفق

لأن مراده بالمخترق: مكان الاختراق. أي المشي والمرور فيه. وأجود الأعاريب في قوله {طُولاً} أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافاً لمن أعربه حالاً ومن أعربه مفعولاً من أجله. وقد أجاد من قال:

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فيكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أمنع

واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِى الاٌّرْضِ مَرَحًا} [17/37]، على منع الرقص وتعاطيه. لأن فاعله ممن يمشي مرحاً.

قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}.

الهمزة في قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [17/40]، للانكار ومعنى الآية. أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون،

لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البنات وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذاً ولداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهما ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.

وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. فقد جعلوا له الأولاد ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناث وهم لا يرضونها لأنفسهم.

وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [53/21-22]، وقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ، وقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [39/4]، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا ذلك بإيضاح في «سورة النحل». وقوله في هذه الآية الكريمة {إِنَّكُمْ

(3/157)

 

 

لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [17/40]، بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ أمر عظيم جداً. وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [19/88-95]، فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ} [17/40]، قد بينا حكمها بإيضاح في «سورة النحل» أيضاً.

قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} . قرأ جمهور القراء «كما تقولون» بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم «كما يقولون» بياء الغيبة. وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير، كلاهما حق ويشهد له قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق، وكلاهما يشهد له قرآن فنذكر الجميع لأنه كله حق.

الأول من الوجهين المذكورين: أن معنى الآية الكريمة: لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ـ أي الآلهة المزعومة ـ أي لطلبوا إلى ذي العرش ـ أي إلى الله سبيلاً ـ أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذاً يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!

وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [23/92،91]،وقوله: {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [21/22]، وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي علي الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.

الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة: أن المعنى {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} ،

(3/158)

 

 

أي: طريقاً ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ…} الآية[17/57]. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.

ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت وجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير:

الأول ـ أن المعنى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً} ؛ أي: حائلاً وساتراً يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول: فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة؛ كقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [41/5]، وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ…} الآية[2/7]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ…} الآية[18/57]. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية: قتادة والزجاج وغيرهما.

الوجه الثاني في الآية: أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية. أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه. وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [111/1]، أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:

مذمما أبينا... ودينه قلينا ... وأمره عصينا

ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه:" لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك؟ فقال: "إنها لن تراني" وقرأ قرآناً اعتصم به". كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً

(3/159)

 

 

مَسْتُوراً} [17/45]، فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني!؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ورب هذا البيت ما هجاك. فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى.

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله "يعنون شيطاناً" وأعمى الله عز وجل أيصارهم فلم يروني اهـ وقال القرطبي: إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.

وقوله في هذه الآية الكريمة: {حِجَابًا مَّسْتُورًا} ، قال بعض العلماء: هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل. أي حجاباً ساتراً، وقد يقع عكسه كقوله تعالى: {مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} [86/6] أي مدفوق {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [69/21]، أي: مرضية. فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية. والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق «مجازاً عقلياً» ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية ؛قولهم: ميمون ومشؤوم، بمعنى يا من وشائم. وقال بعض أهل العلم: قوله {مَّسْتُورًا} ، على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه. أو مستوراً به القارىء فلا يراه غيره. واختار هذا أبو حيان في البحر. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، "جمع كنان" وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن. أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن. أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه. وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمماً وثقلاً لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.

وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم،

(3/160)

 

 

فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، وقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [4/155]، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [6/110]، وقوله: {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} الآية[2/10]، وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [9/125]، إلى غير ذلك من الآيات.

تنبيه

في هذه الآية الكريمة ـ الرد الواضح على القدرية في قولهم: إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل بمشيئة العبد. سبحان الله وتعالى علواً كبيراً عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته؟ {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ} ، {وَلَوْ شِئْنَا لاّتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [32/13]، {ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [6/35]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال «لا إله لا الله» ولى الكافرون على أدبارهم نفوراً، بغضاً منهم لكلمة التوحيد، ومحبة للإشراك به جل وعلا.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، مبيناً أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار، كقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [39/45]، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [40/12]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [37/36،35]، وقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ…} الآية[42/13]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [22/72]، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [40/26].

(3/161)

 

 

وقوله في هذه الآية: {نُفُوراً} [17/46]، جمع نافر. فهو حال. أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك. والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود، وراكع وركوع.

وقال بعض العلماء: «نفوراً» مصدر، وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله {وَلَّوْاْ} لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم. أي إزالة المكروه عنهم، ولا تحويلاً أي تحويله من إنسان إلى آخر، أو تحويل المرض إلى الصحة، والفقر إلى الغنى، والقحط إلى الجدب ونحو ذلك. ثم بين فيها أيضاً أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته، ويبتغون الوسيلة إليه، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم.

قال ابن مسعود: نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة أو غيرهم، كانوا يعبدون رجالاً من الجن، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ…} الآية[17/57]، وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيراً والمسيح وأمه. وعنه أيضاً، وعن ابن مسعود، وابن زيد، والحسن: أنها نزلت في عبدة الملائكة. وعن ابن عباس: أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه.

وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا ـ بينه أيضاً في مواضع أخر، كقوله «في سبإ» {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [34/22-23]، وقوله «في الزمر»: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ

(3/162)

 

 

رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [39/38]، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا «في سورة المائدة» أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة «وفي آية المائدة»: هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي لب إلى الله واسل

وقد قدمنا «في المائدة» أن التحقيق أن قول عنترة:

إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

من هذا المعنى، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل، كقوله:

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل

وأصح الأعاريب في قوله:

{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [17/57]،أنه بدل من واو الفاعل في قوله {يَبْتَغُونَ} ، وقد أوضحنا هذا «في سورة المائدة» بما أغنى عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} ، قال بعض أهل العلم: في هذه الآية الكريمة حذف الصفة، أي وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها. وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى. كقوله {و َمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [28/59]، وقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [6/131]، أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم. وقوله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [11/117]، وقوله {وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [65/9،8]، إلى غير ذلك من الآيات. وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [18/79]، أي كل سفينة صالحة. بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها، لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة. ومن حذف النعت قوله تعالى: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [2/71]، أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر:

(3/163)

 

 

ورب أسيلة الخدين بكر ... مهفهفة لها فرع وجيد

أي فرع فاحم وجيد طويل، وقول عبيد بن الأبرص:

من قوله قول ومن فعله ... فعل ومن نائله نائل

أي قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزيل، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:

وما من المنعوت والنعت عقل ... يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقال بعض أهل العلم: الآية عامة. فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب. ولا شك أن كل نفس ذائفة الموت. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. ومنه قول جرير: من شاء بايعته مالي وخلعته ما تكمل التيم في ديوانها سطرا

وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: من أن مكة تخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فهلاكها ضروب. ثم ذكر بلداً بلداً ـ لا يكاد يعول عليه. لأنه لا أساس له من الصحة، وكذلك ما يروى عن وهب بن منبه: أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة. فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم. وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشراب من الفرات، وخراب البصرة من قبيل الغرق، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان،

وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع اهـ كل ذلك لا يعول عليه. لأنه من قبيل الإسرائيليات. قوله تعالى: {وَ ءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} الآية. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحاً لا لبس فيه فظلموا بها. ولم يبين ظلمهم بها ها هنا، ولكنه أوضحه في مواضع أخر،

(3/164)

 

 

كقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ…} الآية [7/77]، وقوله {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [ 91/14]، وقوله {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [54/29]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [17/60]، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس. أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم.

قال بعض أهل العلم: ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [54/45]، وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [3/12]، وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [5/67]، وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني. أما آية القمر وهي قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [54/45]، فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}. التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس، لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقاً، قالوا: كيف يصلي ببيت المقدس، ويخترق السبع الطباق، ويرى ما رأى في ليلة واحدة، ويصبح في محله بمكة؟ هذا محال فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به، واعتقادهم أنه لا يمكن، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [37/64]، قالوا: ظهر كذبه. لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار؟ فصار ذلك فتنة. وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ…} الآية[37/62-64]، وهو واضح كما ترى. وأشار في مواضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم، وهو قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [53/12-18]، وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة. وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم

(3/165)

 

 

أن قول من قال: إن الرؤيا التي أراه بالله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية لا يعول عليه. إذا لا أساس له من الصحة. والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة. وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار، وأصل النار بعيد من رحمة الله. واللعن: الإبعاد عن رحمة الله، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن، أو للعن الذين يطعمونها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}. قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [17/61]، يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر. فصرح بهما معاً «في البقرة» في قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [2/34]، وصرح بإبائه «في الحجر» بقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [15/31]، وباستكباره «في ص» بقوله {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [38/74]، وبين سبب استكباره بقوله {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [12،18/76]، كما تقدم إيضاحه «في البقرة» وقوله: {طِينًا} حال؛ أي: لمن خلقته في حال كونه طيناً. وتجويز الزمخشري كونه حالاً من نفس الموصول غير ظاهر عندي. وقيل: منصوب بنزع الخافض. أي من طين. وقيل: تمييز، وهو أضعفها. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن إبليس اللعين قال له {أَرَءَيْتَكَ} [17/62]، أي: أخبرني: هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم. أي لم كرمته علي وأنا خير منه والكاف في {أَرَءَيْتَكَ} حرف خطاب، وهذا مفعول به لأرأيت.

والمعنى: أخبرني. وقيل: إن الكاف مفعول به، و«هذا» مبتدأ، وهو قول ضعيف. وقوله {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [17/62]، قال ابن عباس: لأستولين عليهم، وقاله الفراء. وقال مجاهد: لأحتوينهم. وقال ابن زيد: لأضلنهم. قال القرطبي: والمعنى متقارب. أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية ـ أن المراد بقوله {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} ، أي: لأقودنهم إلى ما أشاء. من قول العرب: احتنكت الفرس: إذا جعلت الرسن

(3/166)

 

 

في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب: حنكت الفرس أحنكه - من باب ضرب ونصر- واحتنكته: إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب: احتنك الجراد الأرض: أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقاً والاستئصال. كقول الراجز:

أشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهداً إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واجتلفت

وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} ، بينه أيضاً في مواضع أخر من كتابه. كقوله {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [7/17،16]، وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [38/82]، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه «في سورة النساء» وغيرها.

وقوله في هذه الآية {إَلاَّ قَلِيلاً} [17/62]، بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر. كقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [38/83،82]، وقوله: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الاٌّرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [15/39-40]، كما تقدم إيضاحه.

وقول إبليس في هذه الآية. {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ…} الآية[17/62]، قاله ظناً منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [34/20].

قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: {قَالَ اذْهَبْ} [17/63]، هذا أمر إهانة. أي اجهد جهدك، فقد أنظرناك {فَمَن تَبِعَكَ} ، أي: أطاعك من ذرية آدم {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} [17/63]، أي: وافراً؛ عن مجاهد وغيره. وقال الزمخشري وأبو حيان: {اذْهَبْ} ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته. وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} [17/63].

(3/167)

 

 

وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضاً في مواضع أخر. كقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [38/84-85]، وقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} ،إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {جَزَاء} مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله. على حد قول ابن مالك في الخلاصة:

بمثله أو فعل أو وصف نصب ... وكونه أصلاً لهذين انتخب

والذي يظهر لي: أن قول من قال إن «مرفوراً» بمعنى وافر لا داعي له. بل «موفوراً» اسم مفعول على بابه. من قولهم: وفر الشيء يفره، فالفاعل وافر، والمفعول موفور. ومنه قول زهير:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

وعليه: فالمعنى جزاء مكملاً متمماً. وتستعمل هذه المادة لازمة أيضاً تقول: وفر ماله فهو وافر. أي كثير. وقوله «موفوراً» نعت للمصدر قبله كما هو واضح، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذا أمر قدري. كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [19/83]، أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، وتسوقهم إليها سوقاً انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله {وَاسْتَفْزِزْ} ، وقوله {وَأَجْلِبْ} ، وقوله {وَشَارِكْهُمْ} ، إنما هي للتهديد، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة. كقوله {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} [41/40]، وبهذا جزم أبو حيان في البحر، وهو واضح كما ترى. وقوله {وَاسْتَفْزِزْ} ، أي: استخف من استطعت أن تستفزه منهم. فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. والاستفزاز: الاستخفاف. ورجل فز: أي خفيف. ومنه قيل لولد البقرة: فز. لخفة حركته. ومنه قول زهير:

(3/168)

 

 

كما استغاث بسيىء فز غيطلة ... خاف العيون ولم ينظر به الحشك

«والسيىء» في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز: اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة. والحشك أصله السكون. لأنه مصدر حشكت الدرة: إذا امتلأت، وإنما حركه زهير للوزن. والغيطلة هنا: بقرة الوحش ذات اللبن. وقوله {بِصَوْتِكَ} [17/64]، قال مجاهد: هو اللهو والغناء والمزامير. أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير. وقال ابن عباس: صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية. لأن ذلك إنما وقع طاعة له. وقيل {بِصَوْتِكَ} ، أي: وسوستك. وقوله {وَأَجْلِبْ} ، أصل الإجلاب: السوق بجلبة من السائق. والجلبة: الأصوات. تقول العرب: أجلب على فرسه، وجلب عليه: إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق. والخيل تطلق على نفس الأفراس، وعلى الفوارس الراكبين عليها، وهو المراد في الآية. والرجل: جمع راجل، كما قدمنا أن التحقيق جمع الفاعل وصفا على فعل بفتح فسكون وأوضحنا أمثلته بكثرة، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون: إذ ليست فعل "بفتح فسكون" عندهم من صيغ الجموع. فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل، وصاحب وصحب، وراكب وركب، وشارب وشرب ـ إنه اسم جمع لا جمع. وهو خلاف التحقيق.

وقرأ حفص عن عاصم {ورجلك} [17/64]، بكسر الجيم لغة في الرجل جمع راجل.

وقال الزمخشري: هذه القراءة على أن فعلاً بمعنى فاعل، نحو تعب وتاعب ومعناه وجمعك الرجل اهـ أي الماشيين على أرجلهم. {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [17/64]، أما مشاركته لهم في الأموال: فعلى أصناف: منها: ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له. كالبحائر والسوائب ونحو ذلك، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعاً كالربا والغصب وأنواع الخيانات؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له.

أما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً:

منها: قتلهم بعض أولادهم طاعة له.

(3/169)

 

 

ومنها: أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة.

ومنها: تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيداً لغير الله طاعة له. ومن ذلك أولاد الزنى. لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك.

فإذا عرفت هذا:فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنه هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد، كقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [6/140]، فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته. وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً. وكقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا...} الآية[6/136]،وكقوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [6/138]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن الآحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر، ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم" ، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان" انتهى.

فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم في الحديث الأول، وضرها لهم لو تركوا التسمية في الحديث الثاني ـ كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم. وقوله «فاجتالتهم» أصله افتعل من الجولان: أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال. يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب: واجتال الشيء: إذا ذهب به وساقه. والعلم عند الله تعالى. والأمر في قوله {وَعِدْهُمْ} ؛

(3/170)

 

 

كالأمر في قوله {وَاسْتَفْزِزْ} ، وقوله {وَأَجْلِبْ} . وقد قدمنا أنه للتهديد.

وقوله {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [17/64]، بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل. كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة.

وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [4/120]، وقوله: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [57/14]، وقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [14/22]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [17/65]، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم. فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف. وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضاً آيات أخر. كقوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [15/40]، وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [16/99-100]، وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [15/42]، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.

قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَنُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر. أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ـ ضل عنهم. أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا,

(3/171)

 

 

فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده. لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا، فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [17/67].

وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [10/63-64]، وقوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [6/63-64]، وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [29/65]، وقوله :{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [31/32]،وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [39/8]، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه «في سورة الأنعام» وغيرها.

ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله. مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة. كما قال هنا منكراً عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [17/67] وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة {مْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [17/69]، أي: بسبب كفركم. فالباء سببية، وما مصدرية. والقاصف: ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها. ومنه قول أبي تمام:

إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم

يعني: إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد رتماً كان أو غيره.

(3/172)

 

 

وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء ـ أوضحه في مواضع أخر. كقوله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ…} الآية[34/9]، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ…} الآية[6/65]، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [67/16-17]، وقوله: «في قوم لوط»: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}[54/34]، وقوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [51/33]، إلى غير ذلك من الآيات. والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل: إنها السحابة أو الريح، وكلا القولين صحيح. لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصباً وحصبة. وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصباً أيضاً. ومنه قول الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور

وقول لبيد:

جرت عليها أن خوت من أهلها ... أذيالها كل عصوف حصبه

وقوله في هذه الآية {ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [17/69]، فعيل بمعنى فاعل. أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم. كقوله {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَاوَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [91/15،14]، أي: لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك. وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعاً. ومنه قول الشماخ يصف عقاباً:

تلوذ ثعالب الشرفين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع

أي كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه.

ومنه قول الآخر:

غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ... ضوامن غرم لدهن تبيع

أي خصمهن مطالب بدين، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ…} الآية[2/178]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع" وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره «تبيعا» أي نصيراً، وقول مجاهد نصيراً ثائراً.

(3/173)

 

 

تنبيه

لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان. فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجؤوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح. في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع: أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره.

ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى «في سورة النمل»: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ…} الآية[27/59-62]. فتراه جل وعلا في هذه الآية الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد. كخلقه السموات والأرض، وإنزاله الماء من السماء، وإنباته به الشجر، وجعله الأرض قراراً، وجعله خلالها أنهاراً، وجعله لها رواسي، وجعله بين البحرين حاجزاً، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد. سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات: كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل. فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة. فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يفنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفاً رحيماً. فخرجوا من البحر، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه اهـ.

(3/174)

 

 

والظاهر أن الضمير في قوله {بِهِ تَبِيعًا} [17/69] راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} [17/69]، أي: لا تجدون تبيعاً يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق.

وقال صاحب روح المعاني. وضمير «به» قيل للإرسال، وقيل للإغراق، وقيل لهما باعتبار ما وقع. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، قال بعض أهل العلم: من تكريمه لبين آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. فإن الإنسان يمشي قائماً منتصباً على رجليه، ويأكل بيديه. وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.

ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [40/64]، وفي الآية كلام غير هذا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} اللآية. أي في البر على الأنعام، وفي البحر على السفن.

والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً. كقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [23/22]، وقوله: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [43/12]، وقد قدمنا في مستوفى بإيضاح «في سورة النحل».

قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}. قال بعض العلماء: المراد {بإمامهم} هنا كتاب أعمالهم.

ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [36/12]، وقوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [45/28]، وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ…} الآية [18/49]، وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [17/13] واختار هذا القول ابن كثير. لدلالة آية «يس» المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن. وعن قتادة ومجاهد: أن المراد {بإمامهم} نبيهم.

(3/175)

 

 

ويدل لهذا القول قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [10/74]، وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [4/41]، وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} الآية[16/89]، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} الآية [39/69].

قال بعض السلف: وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النَّبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعض أهل العلم: {بِإِمَامِهِمْ} أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. وممن قال به: ابن زيد، واختاره ابن جرير.

وقال بعض أهل العلم: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [17/71]، أي: ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} الآية [28/41]، وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.

فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا: {فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [17/71]، من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.

وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمون فتيلاً.

وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [69/19] ـ إلى قوله ـ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [69/25]، وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.

وقول من قال: إن المراد {بإمامهم} ، كمحمد بن كعب «أمهاتهم» أي يقال: يا فلان بن فلانة ـ قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً: «يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» . قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة: عمى القلب لا عمى العين. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَإِنَّهَا

(3/176)

 

 

لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [22/46]؛ لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس. فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [80/1-4]،

إذا بصر القلب المروءة والتقى ... فإن عمى العينين ليس يضير

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره؛ كما روي عنه من وجوه ـ كما ذكره ابن عبد البر وغيره:

إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [17/72]، قال بعض أهل العلم: ليست الصيغة صيغة تفضيل، بل المعنى فهو في الآخرة أعمى كذلك لا يهتدى إلى نفع. وبهذا جزم الزمخشري.

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة «أعمى» الثانية صيغة تفضيل. أي هو أشد عمى في الآخرة.

ويدل عليه قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع. والمقرر في علم العربية: أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل الوصف منه على أفعل الذي أنثاه فعلاء. كما أشار له في الخلاصة بقوله:

وغير ذي وصف يضاهي أشهلا

والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغاً من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط: أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخلاصة بقوله:

وبالندور احكم لغير ما ذكر ... ولا تقس على الذي منه أثر

ومن أمثلة ذلك قوله:

ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر ... وفي المخازي لكم أشباح أشياخ

أما الملوك فأنت اليوم الأمهم ... لؤماً وأبيضهم سربال طباخ

وقال بعض العلماء: إن قوله في هذا البيت «وأبيضهم سربال طباخ» ليس صيغة

(3/177)

 

 

تفضيل.بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم.

قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} ، روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش، قالوا له صلى الله عليه وسلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا وعن ابن عباس في رواية عطاء: أنها نزلت في وفد ثقيف، أتوا النَّبي فسألوه شططاً قالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، وحرم وادينا كما حرمت مكة، إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها. وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.

ومعنى الآية الكريمة: أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك. ومعنى يفتنونك: يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك.

قال بعض أهل العلم: قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر. وقيل: معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم.

وبين في مواضع آخر: أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه. بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [10/15]، وقوله في هذه الآية {وَإِن كَادُواْ} [17/73]، هي المخففة من الثقيلة، وهي هنا مهملة. واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية كما قال في الخلاصة:

وخففت إن فقل العمل ... وتلزم اللام إذا ما تهمل

والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخاً كما في هذه الآية، قال في الخلاصة.

والفعل إن لم يك ناسخاً فلا ... تلفيه غالباً بإن ذي موصلاً

كما هو معروف في النحو. قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمته له من الركون إلى الكفار. وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة

(3/178)

 

 

وضعف الممات. أي مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة. وبهذا جزم القرطبي في تفسيره. وقال بعضهم: المراد بضعف عذاب الممات: العذاب المضاعف في القبر والمراد بضعف الحياة: العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث. وبهذا جزم الزمخشري وغيره. والآية تشمل الجميع، وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف بينه في غير هذا الموضع. كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ…} الآية [69/44-46].

وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند مخالفة أعظم بينه في موضع آخر. كقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية [33/30].

ولقد أجاد من قال:

وكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر

تنبيه

هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلاً عن نفس الركون. لأن {وَلَوْلاَ} حرف امتناع لوجود. فمقاربة الركون منعتها {وَلَوْلاَ} الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم. فصح يقيناً انتفاء مقاربة الركون فضلاً عن الركون نفسه. وهذه الآية تبين ما قبلها، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة. لأن قوله {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا} [17/74]، أي: قاربت تركن إليهم هو عين الممنوع بـ {وَلَوْلاَ} الامتناعية كما ترى. ومعنى {تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} : تميل إليهم.

قوله تعالى:

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية. قد بينا «في سورة النساء»: أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة. لأن قوله {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [17/78]، أي: لزوالها على التحقيق، فيتناول وقت الظهر والعصر. بدليل الغاية في قوله {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي ظلامه، وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء. وقوله {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ، أي: صلاة الصبح، كما تقدم إيضاحه وأشرنا للآيات المشيرة لأوقات الصلوات. كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [11/114]، وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [30/17]، وأقمنا بيان ذلك

(3/179)

 

 

من السنة في الكلام على قوله: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [4/103]، فراجعه هناك إن شئت. والعلم عند الله تعالى.

وقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، الحق في لغة العرب: الثابت الذي ليس بزائل ولا مضحمل. والباطل: هو الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في هذه الآية: هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام. والمراد بالباطل فيها: الشرك بالله، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام.

وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الإسلام جاء ثابتاً راسخاً، وأن الشرك بالله زهق. أي ذهب واضمحل وزال. تقول العرب: زهقت نفسه: إذا خرجت وزالت من جسده.

ثم بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقاً، أي مضمحلاً غير ثابت في كل وقت. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. وذكر أن الحق بزيل الباطل ويذهبه. كقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [34/49،48]، وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...} الآية [21/18].

وقال صاحب الدُّر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري ومسلم، والترمذي والنسائي، وابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[17/81]{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [34/49].

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها، وقال: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا} [17/81].

وأخرج الطبراني في الصغير، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً. فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص. فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا} [17/81]،

(3/180)

 

 

حتى مر عليها كلها.

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم.

ويدخل المعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله.

قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه، ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقراً أو قطعاً فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة. إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه. وقد هم النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة وهذا أصل في العقوبة في المال. مع قوله صلى الله عليه وسلم في الناقة التي لعنتها صاحبتها "دعوها فإنها ملعونة" فأزال ملكها عنها تأديباً لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً شيب بماء على صاحبه اهـ الغرض من كلام القرطبي رحمه الله تعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم: "والله لينزلن عيسى بن مريم حكماً عدلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير" الحديث ـ من قبيل ما ذكرنا دلالة الآية عليه والعلم عند الله تعالى: قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} . قد قدمنا في أول «سورة البقرة» الآيات المبينة لهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة. كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [9/124]، وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [41/44]، كما تقدم إيضاحه. وقوله في هذه الآية {مَا هُوَ شِفَاءٌ} [17/82]، يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه. كالشك والنفاق وغير ذلك. وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليها به. كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهي صحيحة مشهورة. وقرأ أبو عمرو {وَنُنَزِّلُ} ، بإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. والعلم عند الله تعالى.

(3/181)

 

 

قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزق، أعرض عن ذكر الله وطاعته، ونأى بجانبه: أي تباعد عن طاعة ربه. فلم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه.

وقال الزمخشري: أعرض عن ذكر الله كأنه مستغن عنه، مستبد بنفسه. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [17/83]، تأكيد للإعراض. لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه، ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين. واليؤوس: شديد اليأس، أي القنوط من رحمة الله.

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله «في سورة هود» {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [11/9-10]، وقوله في «آخر فصلت»: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [41/43-51]، وقوله: «في سورة الروم» {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [30/33]، وقوله فيها أيضاً: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [30/36]، وقوله «في سورة يونس»: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [10/12]، وقوله «في سورة الزمر»: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [39/8]، وقوله فيها أيضاً: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [39/49]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله «في سورة هود»: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [11/11]، كما تقدم

(3/182)

 

 

إيضاحه. وقرأ ابن ذكوان «وناء» كجاء، وهو بمعنى نآى. كقولهم: راء في رأى. قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلاً بالنسبة إلا علمه جل وعلا. لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جداً.

ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [18/109]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [31/27].

قوله تعالى: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم كبير.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [4/113]، وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [48/1-3]، وقوله :{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [94/1-4]، إلى غير ذلك من الآيات.

وبين تعالى في موضع آخر: أن فضله كبير على جميع المؤمنين، وهو قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [33/47]، وبين المراد بالفضل الكبير في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [42/22].

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ، بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق. فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يؤمنوا له ـ أي: لن يصدقوه ـ حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، وهو يفعول من نبع: أي ماء غزير؛ ومنه قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى

(3/183)

 

 

الْأَرْضِ} [39/21]، {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} [17/91]، أي: بستان من نخيل وعنب. فيفجر خلالها، أي وسطها أنهاراً من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفاً: أي قطعاً كما زعم. أي في قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ...} الآية[34/9]. أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلاً: أي معاينة. قاله قتادة وابن جريج» كقوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى} [25/21].

وقال بعض العلماء: قبيلاً: أي كفيلاً. من تقبله بكذا: إذا كفله به. والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد. وقال الزمخشري قبيلاً بما تقول، شاهداً بصحته. وكون القبيل في هذه الآية بمعنى الكفيل مروي عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: {قبيلا} شهيداً. وقال مجاهد: هو جمع قبيلة. أي تأتي بأصناف الملائكة. وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة، أو يكون له بيت من زخرف: أي من ذهب: ومنه قوله «في الزخرف»: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} ، إلى قوله {وَزُخْرُفاً} [43/33-35]، أي: ذهباً. أو يرقى في السماء: أي يصعد فيه، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه: أي من أجل صعوده، حتى ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه. وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر. وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا. لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن. كقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [6/7]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [6/111]، وقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [15/14]، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [6/109]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [10/96-97]، والآيات بمثل هذا كثيرة.

وقوله في هذه الآية {كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [17/93]، أي: كتاباً من الله إلى كل رجل منا.

ويوضح هذا قوله تعالى «في المدثر»: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً

(3/184)

 

 

مُّنَشَّرَةً} [الآية 52]، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ...} الآية[6/124]، وقوله في هذه الآية الكريمة: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [17/93]، أي: تنزيهاً لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به، ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم. فهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلى ربي.

وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [18/110]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ...} الآية[41/6]، وكقوله تعالى عن جميع الرسل: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [14/11]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقرأ {تَفْجُرَ} [17/90]، الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم. والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة. واتفق الجميع على هذا في الثانية. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {كِسَفًا} ، بفتح السين والباقون بإسكانها. وقرأ أبو عمرو {تُنَزِّلَ} بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وشد الزاي.

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} . هذا المانع المذكور هنا عادي. لأنه جرت عادة جميع الأمم باستغرابهم بعث الله رسلاً من البشر. كقوله: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا...} الآية [14/10]، وقوله: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} الآية [23/47]، وقوله: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [54/24]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [64/6]، وقوله: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [23/34]، إلى غير ذلك من الآيات.

والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي: أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا «في سورة الكهف» وهو قوله :{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [18/55]، فهذا المانع المذكور «في الكهف» مانع حقيقي؛ لأن من أراد الله به سنة الأولين: من الإهلاك، أو أن يأتيه

(3/185)

 

 

العذاب قبلاً ـ فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد. لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا. بخلاف المانع «في آية بني إسرائيل» هذه، فهو مانع عادي يصح تخلفه. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب».

قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} ، بين جل وعلا في هذه الآية: أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم. فلو كان مرسلاً رسولاً إلى الملائكة لنزل عليهم ملكاً مثلهم. أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشراً مثلهم.

وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [6/8-9]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [21/7]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [25/20] كما تقدم إيضاحه.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من خلق السموات والأرض مع عظمها قادر على بعث الإنسان بلا شك. لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك.

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ...} الآية [40/57]، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر. وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [36/81]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [46/33]، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [79/27-33]،

قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} ، بين تعالى في هذه الآية: أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته ـ أي خزائن الأرزاق والنعم ـ لبخلوا بالرزق على غيرهم، ولأمسكوا عن الإعطاء. خوفاً من الإنفاق لشدة بخلهم.

(3/186)

 

 

وبين أن الإنسان قتور: أي بخيل مضيق. من قولهم: قتر على عياله، أي ضيق عليهم.

وبين هذا المعنى في مواضع أخر.

كقوله تعالى: {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [4/53]، وقوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [70/19/22]، إلى غير ذلك من الآيات.

والمقرر في علم العربية أن {لو} لا تدخل إلى على الأفعال. فيقدر لها في الآية فعل محذوف، والضمير المرفوع بعد {لو} أصله فاعل الفعل المحذوف. فلما حذف الفعل فصل الضمير. والأصل قل لو تملكون، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميراً منفصلاً: هو أنتم. هكذا قاله غير واحد، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {َلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. قال بعض أهل العلم: هذه الآيات التسع، هي: العصا، واليد، والسنون. والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات.

وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر. كقوله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [7/107-108]، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ...} الآية[7/130]، وقوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [26/63]، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [7/133]، إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا. وجعل بعضهم الجبل بدل «السنين» وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [7/171]، ونحوها من الآيات.

قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِر} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر: أي حججاً واضحة. وذلك يدل على أن قول فرعون {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [20/49]، وقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [26/23]، كل ذلك منه تجاهل عارف.

(3/187)

 

 

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبيناً سبب جحوده لما علمه «في سورة النمل» بقوله: {َأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [27/12-14].

قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل هذا القرآن بالحق: أي متلبساً به متضمناً له. فكل ما فيه حق. فأخباره صدق، وأحكامه عدل. كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [6/115]، وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه. كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ...} الآية[4/166]، وقوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [17/105]، يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله.

لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل. كما أشار إلى هذا بقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ...} الآية [26/193-194]، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ...} الآية [81/19/21]، وقوله: في هذه الآية: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} [81/19]، أي: لتبليغه عن ربه. بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به.

قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} ، قرأ هذا الحرف عامة القرآء «فَرَقْنَاهُ» بالتخفيف: أي بيناه وأوضحناه، وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ بعض الصحابة {فَرَقْنَاهُ} ، بالتشديد: أي أنزلناه مفرقاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ...} الآية [44/4].

وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث، أي مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك. وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [73/4]، ويدل لذلك أيضاً قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [25/32]، وقوله تعالى: {وَقُرْآنا} [17/106]، منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده. على حد قوله في الخلاصة:

(3/188)

 

 

فالسابق انصبه بفعل أضمرا ... حتما موافق لما قد أظهرا

قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ} ، أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة: أن يدعوه بما شاؤوا من أسمائه، إن شاؤوا قالوا: يا الله، وإن شاؤوا قالوا: يا رحمن، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا.

وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [7/108]، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [59/22-23].

وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع: أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ...} الآية [25/60].

وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله: {الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [55/1-4]، ولذا قال بعض العلماء: إن قوله {الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} جواب لقولهم: {قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ...} الآية [25/60]، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح «في سورة الفرقان». قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما قدمنا ـ أن يقولوا: «الحمد لله» أي كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله، ثابت له، مبيناً أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً.

فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة. كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [112/1]، إلى آخر السورة، وقوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [72/3]، وقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [6/101]، وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا

(3/189)

 

 

لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً...} الآية[19/88-92]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وبين في مواضع أخر: أنه لا شريك له في ملكه، أي ولا في عبادته. كقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} [34/22]، وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [40/16]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [67/1]، وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ...} الآية[3/26]، والآيات بمثل ذلك كثيرة. ومعنى قوله في هذه الآية {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ} [17/111]، يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعزبه؛ لأنه هو العزيز القهار، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [12/21]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [2/209] والعزيز: الغالب. وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [6/18]، والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقوله {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [17/111]، أي: عظمه تعظيماً شديداً. ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه: كقوله تعالى:

{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [2/185]، ونحوها من الآيات، والعلم عند الله تعالى.

وروى ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة عن قتادة أنه قال:

ذكر لنا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا...} الآية [17/111]، وقال ابن كثير: قلت وقد جاء في حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز. وفي بعض الآثار: أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم. ثم ذكر حديثاً عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه: أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر، ثم قال: إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة. والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا آخر الجزء الثالث من هذا الكتاب المبارك، ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى، وأوله سورة الكهف ، وبالله التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لقد أبطل الله كل طلاق سبق علي تنزيل طلاق سورة الطلاق 5هـ

  المقدمة الأولي /التفصيل القريب و الصواب في التفصيل الاتي 1= نزلت أحكام الطلاق في ثلاث سور قرانية أساسية تُشرِّع قواعده علي المُدرَّج ال...