سورة الطلاق مشاري

**

 المصحف المرتل ختمة كاليفورنيا

** ///

طلاق سورة الطلاق  إعجازٌ وضعه الله في حرفٍ.حيث وضع الله الباري إعجاز تبديل أحكام الطلاق التي كانت  في سورة البقرة 2هـ  إلي أحْكَمِ  أحكامها  في  سورةِ الطلاقِ 5هـ لينتهي كل متشابهٍ  وظنٍ وخلافٍ واختلافٍ  إلي الأبد وحتي يوم القيامة ..وسورة الطلاق5هـ نزلت بعد سورة البقرة2هـ بحوالي عامين ونصف تقريباً يعني ناسخة لأحكام طلاق سورة البقرة2هـ .

الخميس، 6 أكتوبر 2022

ج3.وج4.الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

 

 ج3.وج4.الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر


ج3.كتاب : الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

وأما زيدُ ابنَ أخينا فلا يكون إلا هكذا، من قبل أنك تقول: هذا زيدٌ ابنُ أخينا، فلا تجعله اسماً واحداً كما تقول هذا زيدٌ أخونا. وزيدٌ في قولك يا زيدُ بنَ عمرو في موضع نصب، كما أن الأم في موضع جرّ في قولك: يا ابنَ أمَّ، ولكنه لفظه كما ذكرت لك، وهو على الأصل.
؟
باب يكرر فيه الاسم في حال الإضافةويكون الأول بمنزلة الآخر وذلك قولك: يا زيدَ زيدَ عمرٍو، ويا زيدَ زيدَ أخينا ويا زيدَ زيدَنا.
زعم الخليل رحمه الله ويونس أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة. وقال جرير:
يا تَيْمَ تيمَ عَديّ لا أبا لكمُ ... لا يُلقيَنّكمُ في سَودةٍ عمرُ
وقال بعض ولدِ جرير: يا زيدَ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ وذلك لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصباً، فلما كرروا الاسمَ توكيداً تركوا الأول على الذي كان يكون عليه لو لم يكرروا.
وقال الخليل رحمه الله: هو مثلُ لا أبالك، قد علم أنه لو لم يجئ بحرف الإضافة قال أباكَ، فتركه على حاله الأولى؛ واللام وها هنا بمنزلة الاسم الثاني في قوله: يا تيمَ تيمَ عديّ، وكذلك قول الشاعر إذا اضطُرّك يا بؤسَ للحَرب إنما يريد: يا بؤسَ الحرب. وكأن الذي يقول: يا تيمَ تيم عَديّ لو قاله مضطَرّاً على هذا الحد في الخبر لقال: هذا تيمُ تيمُ عديّ.
قال: وإن شئت قلت يا تيمُ تيمُ عديّ، كقولك: يا تيمُ أخانا، لأنك تقول هذا تيمٌ تيمُ عدي، كما تقول: هذا تيمٌ أخونا.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: يا طلحةَ أقبلْ، يشبه: يا تسمَ تيمَ عديّ، من قبل أنهم قد علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخرُ الاسم مفتوحاً، فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن يُلحقوا الهاء. وقال النابغة الذبياني:
كليني لهمّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
فصار يا تيمَ تيمَ عدي اسما واحداً، وكان الثاني بمنزلة الهاء في طلحة، تحذف مرة ويجاء بها أخرى. والرفع في طلحة، ويا تيمُ تيمَ عدي القياس.
واعلم أه لا يجوز في غير النداء أن تُذهب التنوين من الاسم الأول، لأنهم جعلوا الأول والآخِر بمنزلة اسم واحد، نحو طلحةَ في النداء، واستخفوا بذلك لكثرة استعمالهم إياه في النداء ولا يُجعل بمنزلة ما جُعل من الغايات كالصوت في غير النداء، لكثرته في كلامهم. ولا يُحذف هاء طلحة في الخبر فيجوز هذا في الاسم مكرّراً، يعني طرح التنوين من تيمٍ تيمِ عدي في الخبر. يقول: لو فُعل هذا بطلحة جاز هذا.
وإنما فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم، ولأن أول الكلام أبداً النداء، إلا أن تدعه استغناء بإقبال المخاطَب عليك، فهو أول كلّ كلام لك به تعطف المكلَّم عليك، فلما كثر وكان الأول في كل موضع، حذفوا منه تخفيفاً؛ لأنهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم، حتى جعلوه بمنزلة الأصوات وما أشبه الأصوات من غير الأسماء المتمكنة، ويحذفون منه، كما فعلوا في لم أُبَلْ. وربما ألحقوا فيه كقولهم: أمّهات.
ومن قال يا زيدُ الحسنُ قال يا طلحةَ الحسنُ، لأنها كفتحة الحاء إذا حذفت الهاء. ألا ترى أن من قال يا زيدُ الكريمُ قال يا سلَمَ الكريمُ.
؟
باب إضافة المنادى الى نفسكاعلم أن ياء الإضافة لا تثبت مع النداء كما لم يثبت التنوين في المفرد لأن ياء الإضافة في الاسم بمنزلة التنوين، لأنها بدل من التنوين، ولأنه لا يكون كلاماً حتى يكون في الاسم، كما أن التنوين إذا لم يكن فيه لا يكون كلاماً، فحُذف وتُرك آخرُ الاسم جراً ليُفصَل بين الإضافة وغيرها، وصار حذفها هنا لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء. ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء ولم يكن لُبسٌ في كلامهم لحذفها وكانت الياء حقيقةً بذلك لما ذكرتُ لك، إذ حذفوا ما هو أقل اعتلالاً في النداء، وذلك قولك: يا مومِ لا بأسَ عليكم، وقال الله جلّ ثناؤه: " يا عبادِ فاتّقونِ " .
وبعض العرب يقول: يا رَبُّ اغفِرْ لي، ويا قومُ لا تفعلوا. وثباتُ الياء فيما زعم يونس في الأسماء.
واعلم أن بقيان الياء لغة في النداء في الوقف والوصل، تقول: يا غلامي أقبل. وكذلك إذا وقفوا.
وكان أبو عمرو يقول: " يا عبادي فاتّقونِ " . وقال الراجز، وهو عبد الله بن عبد الأعلى القرشي:

وكنت إذ كنتَ إلهي وَحْدَكا ... لم يكُ شيء يا إلهي قبلكا
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخفّ، وسنبين ذلك إن شاء الله، وذلك قولك: يا ربّا تجاوز عنّا، ويا غلاما لا تفعل. فإذا وقفت قلت: يا غُلاماه. وإنما ألحقتَ الهاء ليكون أوضح للألف؛ لأنها خفية. وعلى هذا النحو يجوز: يا أباه، ويا أُمّاه.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: يا أبَهْ، ويا أبَتِ لا تفعلْ، ويا أبتاه ويا أمّتاه، فزعم الخليل رحمه الله أن هذه الهاء مثل الهاء في عمةٍ وخالة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب من يقول: يا أمةُ لا تفعلي. ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة وخالة أنك تقول في الوقف: يا أمّه ويا أبَهْ، كما تقول يا خالَهْ. وتقول: يا أمّتاهْ كما تقول يا خالتاهْ. وإنما يُلزمون هذه الهاء في النداء إذا أضفتَ الى نفسك خاصة، كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء، وأرادوا أن لا يخلّوا بالاسم حين اجتمع فيه حذف الياء، وأنهم لا يكادون يقولون يا أباهْ ويا أمّاه، وهي قليلة في كلامهم وصار هذا محتملاً عندهم لما دخل النداء من التغيير والحذف، فأرادوا أن يعوّضوا هذين الحرفين كما قالوا أيْنُقٌ لما حذفوا العين رأساً جعلوا الياء عوضاً، فلما ألحقوا الهاء في أبَهْ وأمّهْ، صيّروها بمنزلة الهاء التي تلزم الاسم في كل موضع، نحو خالة وعمة. واختُصّ النداء بذلك لكثرته في كلامهم كما اختُصّ النداء بيا أيها الرجلُ.
ولا يكون هذا في غير النداء، لأنهم جعلوها تنبيهاً فيها بمنزلة يا. وأكدوا التنبيه ب ها حين جعلوا يا مع ها، فمن ثم لم يجز لهم أن يسكتوا على أي، ولزمه التفسير.
قلت: فلمَ دخلت الهاء في الأب وهو مذكّر.
قال: قد يكون الشيء المذكّر يوصَف بالمؤنث ويكون الشيء المذكّر له الاسم المؤنّث نحو نَفْس، وأنت تعني الرجل به. ويكون الشيء المؤنث يوصَف بالمذكر، وقد يكون الشيء المؤنث له الاسم المذكر. فمن ذلك: هذا رجلٌ ربْعةٌ وغلامٌ يَفَعةٌ. فهذه الصفات.
والأسماء قولهم: نَفْسٌ، وثلاثة أنفس، وقولهم ما رأيت عيناً، يعني عين القوم. فكأن أبَهْ اسم مؤنث يقع للمذكر، لأنهما والدان كما تقع العين للمذكر والمؤنث لأنهما شخصان. فكأنهم إنما قالوا أبوان لأنهم جمعوا بين أبٍ وأبةٍ، إلا أنه لا يكون مستعمَلاً إلا في النداء إذا عنيت المذكّر. واستغنوا بالأم في المؤنث عن أبة، وكان ذلك عندهم في الأصل على هذا، فمن ثم جاءوا عليه بالأبوين؛ وجعلوه في غير النداء أباً بمنزلة الوالد، وكأن مؤنثه أبةٌ كما أن مؤنث الوالد والدة.
ومن ذلك أيضاً قولك للمؤنث: هذه امرأةٌ عَدْلٌ. ومن الأسماء فرَسٌ، هو للمذكّر، فجعلوه لهما، وكذلك عدْل وما أشبه ذلك.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب يقول: يا أمَّ لا تفعلي، جعلوا هذه الهاء بمنزلة هاء طلحة إذ قالوا: يا طلحَ أقبلْ؛ لأنهم رأوها متحركةً بمنزلة هاء طلحة فحذفوها، ولا يجوز ذلك في غير الأم من المضاف.
وإنما جازت هذه الأشياء في الأب والأم لكثرتهما في النداء، كما قالوا: يا صاح في هذا الاسم. وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل، لأنه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل.
؟باب ما تضيف إليه ويكون مضافاً إليك
قبل المضاف إليهوتثبت فيه الياء، لأنه غير منادى، وإنما هو بمنزلة المجرور في غير النداء.
فذلك قولك: يا ابنَ أخي، ويا ابنَ أبي، يصير بمنزلته في الخبر. وكذلك يا غلامَ غلامي. وقال الشاعر أبو زُبيد الطائي:
يا ابنَ أمي ويا شُقَيّقَ نفسي ... أنت خلّيتني لدهرٍ شديدِ
وقالوا: يا ابنَ أمَّ ويا ابن عمَّ، فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد، لأن هذا أكثرُ في كلامهم من يا ابنَ أبي ويا غلامَ غلامي. وقد قالوا أيضاً: يا ابنَ أمِّ ويا ابنَ عمّ، كأنهم جعلوا الأول والآخر اسماً، ثم أضافوا الى الياء، كقولك: يا أحدَ عشرَ أقبلوا. وإن شئت قلت: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم.
وعلى هذا قال أبو النجم: يا ابنةَ عمّا لا تلومي واعجَعي واعلم أن كل شيء ابتدأتُه في هذين البابين أولاً فهو في القياس. وجميع ما وصفناه من هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب.
؟
باب ما يكون النداء فيه مضافاً
الى المنادى بحرف الإضافة

وذلك في الاستغاثة والتعجب، وذلك الحرفُ اللامُ المفتوحة، وذلك قول الشاعر، وهو مهلهل:
يا لَبكرٍ أنشِروا لي كُليباً ... ويا لَبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
فاستغاث بهم ليُنشروا له كُليباً. وهذا منه وعيد وتهدّد. وأما قوله يا لَبكرٍ أين أين الفرار فإنما استغاث بهم لهم، أي لمَ تفرّون؟ استطالةً عليهم ووعيداً.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي:
ألا يا لَقوم لطيف الخيال ... أرّق، من نازح ذي دلال
وقال قيس بن ذريح:
تكنّفني الوُشاةُ فأزعجوني ... فيا لَلناس للواشي المطاعِ
وقالوا يا لله، يا لَلناس، إذا كانت الاستغاثة. فالواحد والجميع فيه سواء. وقال الآخر:
يا لَقوم مَن للعُلى والمساعي ... ويا لَقوم مَن للنّدى والسماحِ
ويا لَعطّافنا ويا لَرياح ... وأبي الحشرجِ الفتى النّفّاحِ
ألا تراهم كيف سوّوا بين الواحد والجميع.
وأما في التعجّب فقوله، وهو فرّار الأسدي: لَخُطّابُ لَيلى يا لَبُرثنَ منكمُ أدلُّ وأمضى من سُليك المقانبِ وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛ كأنهم رأوا أمراً عجباً فقالوا: يا لَبُرثن، أي مثلكم دُعي للعظائم.
وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجباً أو رأوا ماء كثيراً، كأنه يقول: تعالَ يا عجبُ أو تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك.
ومثل ذلك قولهم: يا لَدواهي، أي تعالينَ فإنه لا يُستنكر لكنّ، لأنه من إبّانكنّ وأحيانكن.
وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز.
ولم يلزم في هذا الباب إلا يا للتنبيه؛ لئلا تلتبس هذه اللام بلام التوكيد كقولك: لَعمرو خيرٌ منك. ولا يكون مكان يا سواها من حروف التنبيه نحو أي وهَيا وأيا؛ لأنهم أرادوا أن يميزوا هذا من ذلك الباب الذي ليس فيه معنى استغاثة ولا تعجب.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذه اللام بدلٌ من الزيادة التي تكون في آخر الاسم إذا أضفتَ، نحو قولك: يا عجَباه ويا بَكراه، إذا استغثتَ أو تعجّبت. فصار كلُ واحد منهما يعاقب صاحبَه، كما كانت هاء الجحاجحة معاقبةً ياء الجحاجيح، وكما عاقبت الألف في يمانٍ الياء في يَمَني.
ونحو هذا في كلامهم كثير، وستراه إن شاء الله عز وجلّ.
؟
باب ما تكون اللام فيه مكسورةلأنه مدعوّ له ها هنا وهو غير مدعوّ
وذلك قول بعض العرب: يا لِلعجب ويا لِلماء، وكأنه نبّه بقوله يا غيرَ الماء للماء. وعلى ذلك قال أبو عمرو: يا ويلٌ لك ويا ويحٌ لك كأنه نبّه إنساناً ثم جعل الويل له. وعلى ذلك قول قيس بن ذريح: فيا لَلناس للواشي المُطاع يا لقومي لفرقة الأحبابِ كسروها لأن الاسم الذي بعدها غير منادى، فصار بمنزلته إذا قلت هذا لزيدٍ. فاللام المفتوحة أضافت النداء الى المنادى المخاطَب، واللام المكسورة أضافت المدعوّ الى ما بعده لأنه سببُ المدعو. وذلك أن المدعو إنما دُعي من أجل ما بعده، لأنه مدعوّ له.
ومما يدلّك على أن اللام المكسورة ما بعدها غيرُ مدعوّ قوله:
يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سِمعانَ من جارِ
فيا لغير اللعنة.
وتقول: يا لَزيدٍ ولعمرو وإذا لم تجئ بيا الى جنب اللام كسرتَ ورددتَ الى الأصل.
؟
هذا باب الندبةاعلم أن المندوب مدعوّ ولكنه متفجّع عليه، فإن شئت ألحقتَ في آخر الاسم الألف، لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق في النداء.
واعلم أن المندوب لابد له من أن يكون قبل اسمه يا أو وا، كما لزم يا المستغاثَ به والمتعجَّبَ منه.
واعلم أن الألف التي تلحق المندوب تُبتح كلُّ حركة قبلها مكسورة كانت أو مضمومة لأنها تابعة للألف، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.
فأما ما تلحقه الألف فقولك: وازيداه، إذا لم تُضف الى نفسك، وإن أضفتَ الى نفسك، فهو سواء، لأنك إذا أضفتَ زيداً الى نفسك فالدالُ مكسورة وإذا لم تُضف فالدال مضمومة، ففتحت المكسور كما فتحت المضموم. ومن قال يا غلامي وقرأ يا عبادي قال: وازيدِيا إذا أضاف؛ من قبل أنه إنما جاء بالألف فألحقها الياء وحرّكها في لغة من جزم الياء؛ لأنه لا ينجزم حرفان، وحرّكها بالفتح لأنه لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.

وزعم الخليل أنه يجوز في النّدبة واغلامِيَهْ؛ من قبل أنه قد يجوز أن أقول واغُلاميَ فأبيّن الياء كما أبينها في غير النداء، وهي في غير النداء مبيّنة فيها للغتان: الفتح والوقف. ومن لغة مَن يفتح أن يُلحق الهاء في الوقف حين يبيّن الحركة، كما أُلحقت الهاء بعد الألف في الوقف لأن يكون أوضحَ لها في قولك يا رَبّاه. فإذا بيّنت الياء في النداء كما بينتها في غير النداء جاز فيها ما جاز إذا كانت غيرَ نداء. قال الشاعر، وهو ابن قيس الرُقيّات:
تبكيهم دَهماءُ مُعولةً ... وتقول سلمى وارَزِيّتِيَهْ
وإذا لم تُلحق الألفَ قلت: وازيدُ إذا لم تُضف، ووازيدِ إذا أضفت، وإن شئت قلت: وازيدي. والإلحاق وغير الإلحاق عربي فيما زعم الخليل رحمه الله ويونس.
وإذا أضفت المندوب وأضفتَ الى نفسك المضاف إليه المندوبُ فالياء فيه أبداً بيّنة، وإن شئت ألحقت الألف، وإن شئت لم تُلحق. وذلك قولك: وانقطاع ظهرياهْ، ووا انقطاعَ ظهري. وإنما لزمتْه الياء لأنه غير منادى.
واعلم أنك إذا وصلتَ كلامَك ذهبتْ هذه الهاء في جميع الندبة، كما تذهب في الصلة إذا كانت تبيَّن به الحركة.
وتقول: واغلامَ زيداه، إذا لم تُضف زيداً الى نفسك. وإنما حذفت التنوين لأنه لا ينجزم حرفان. ولم يحرّكوها في هذا الموضع في النداء إذ كانت زيادة غير منفصلة من الاسم، فصارت تعاقب، وكانت أخفَّ عليهم، فهذا في النداء أحرى، لأنه موضع حذف. وإن شئت قلت: واغلامَ زيد، كما قلت وازيدُ.
وزعموا أن هذا البيت يُنشَد على وجهين، وهو قول رؤبة: فهْي تُنادي بأبي وابْنِيما ويروى: بأبا وابناما، فما فضلٌ، وإنما حكى نُدبتَها.
واعلم أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياءَ الإضافة في النداء لم تحذف أبداً ياء الإضافة ولم يُكسر ما قبلها، كراهيةً للكسرة في الياء، ولكنهم يلحقون ياءَ الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان. وإذا ندبت فأنت بالخيار: إن شئت ألحقت الألفَ وإن لم تُلحق جاز كما جاز ذلك في غيره. وذلك قولك: واغلامَيّاهْ وواقاضياهْ، وواغلاميّ وواقاضيّ، يصير مجراه ها هنا كمجراه في غير الندبة، إلا أن لك في الندبة أن تلحق الألف. وكذلك الألف إذا أضفتها إليك مجراها في الندبة كمجراها في الخبر إذا أضفت إليك.
وإذا وافقت ياء الإضافة ألفاً لم تحرَّك الألف، لأنها إن حرِّكت صارت ياء، والياء لا تدخلها كسرةٌ في هذا الموضع. فلما كان تغييرهم إياها يدعوهم الى ياء أخرى وكسرة تركوها على حالها كما تُركت ياء قاضي، إذ لم يخافوا التباساً وكانت أخفّ، وأثبتوا ياء الإضافة ونصبوها لأنه لا ينجزم حرفان. فإذا ندبت فأنت بالخيار إن شئت ألحقت الألف كما ألحقتها في الأول وإن شئت لم تُلحقها، وذلك قولك: وامُثنّاياه وامُثنّاي. فإن لم تُضف الى نفسك قلت: وا مُثنّاه، وتحذف الأول لأنه لا ينجزم حرفان ولم يخافوا التباساً: فذهبتْ كما تذهب في الألف واللام، ولم يكن كالياء لأنه لا يدخلها نصبٌ.
؟باب تكون ألفُ الندبة فيه تابعة لما قبلها
إن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مضموماً فهي واو.
وإنما جعلوها تابعة ليفرقوا بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجميع، وذلك قولك: واظهْرَهُوهْ، إذا أضفت الظهر الى مذكر، وإنما جعلتها واواً لتفرق بين المذكر والمؤنث إذا قلت: واظهرَهاهْ.
وتقول: واظهرهُموه، وإنما جعلت الألف واواً لتفرق بين الاثنين والجميع إذا قلت: واظهرهُماه.
وإنما حذفت الحرف الأول لأنه لا ينجزم حرفان، كما حذفت الألف الأول من قولك وامُثنّاه.
وتقول: واغلامَكِيهْ، إذا أضفت الغلام الى مؤنث. وإنما فعلوا ذلك ليفرقوا بينها وبين المذكر إذا قلت: واغُلامَكاه.
وتقول: واانقطاعَ ظهرهُوه، في قول من قال: مررت بظهرهو قبل. وتقول: وانقطاع ظهرِهيهْ. في قول من قال: مررتُ بظهرهي قبلُ.

وتقول: واأبا عمرياه وإن كنت إنما تندب الأب، وإياه تضيف الى نفسك لا عَمراً، من قبل أن عمراً مجراه هنا كمجراه لو كان لك، لأنه لا يستقيم لك إضافة الأب إليك حتى تجعل عمراً كأنه لك، لأن ياء الإضافة عليه تقع، ولا تحذفها لأن عمراً غير منادى. ألا ترى أنك تقول يا أبا عَمري. ومما يدلّك على أن عمراً ها هنا بمنزلته لو كان لك، أنه لا يجوز أن تقول هذا أبو النّضرِك، ولا هذه ثلاثةُ الأثوابِك، إذا أردت أن تضيف الأب والثلاثة، من قبل أنه لا يسوغ لك ولا تصل الى أن تضيف الأول حتى تجعل الآخِر مضافاً إليك كأنه لك.
؟
هذا باب
ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوبوذلك قولك: وازيدُ الظريفُ والظريفَ. وزعم الخليل رحمه الله أنه منعه من أن يقول الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى، ولو جاز ذا لقلت: وازيدُ أنت الفارسُ البَطَلاهْ؛ لأن هذا غير منادى كما أن ذلك غير نداء.
وليس هذا كقولك: واأميرَ المؤمنيناه، ولا مثل: واعبدَ قيساه؛ من قبل أن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم ومقتضاه، ومن الاسم. ألا ترى أنك لو قلت عبداً أو أميراً، وأنت تريد الإضافة لم يجز لك. ولو قلت هذا زيد كنتَ في الصفة بالخيار، إن شئت وصفتَ وإن شئت لم تصف. ولستَ في المضاف إليه بالخيار، لأنه من تمام الاسم، وإنما هو بدل من التنوين. ويدلك على ذلك أن ألف الندبة إنما تقع على المضاف إليه كما تقع على آخر الاسم المفرد، ولا تقع على المضاف، والموصوف إنما تقع ألفُ الندبة عليه لا على الوصف.
وأما يونس فيلحق الصفة الألف، فيقول: وازيدُ الظريفاه، واجُمجمتيّ الشّاميّتيْناه.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا خطأ.
وتقول: واقهسرُوناه، لأن هذا اسم مفرد. وكذلك رجل سُمّي باثنَيْ عشر تقول: واثنا عشرَاه، لأنه اسم مفرد بمنزله قِنّسرين.
وإذا ندبت رجلاً يسمى ضربوا قلت: واضَربوه. وإن سُمي ضرباً قلت: واضرباه. فهذا بمنزلة واغلامَهاه، جعلت ألف الندبة تابعة لتفرق بين الاثنين والجميع.
ولو سميتَ رجلاً بغلامهم أو غلامهما لم تحرّف واحداً منهما عن حاله قبل أن يكون اسماً، ولتركته على حاله الأول في كل شيء. فكذلك ضربا وضربوا، إنما تحكي الحال الأولى قبل أن يكونا اسمين، وصارت الألف تابعة لهما كما تبعت التثنية والجمع قبل أن يكونا اسمين، نحو غلامهما وغلامهم، لأنهما كما لم يتغيرا في سائر المواضع لم يتغيّرا في الندبة.
؟هذا باب ما لا يجوز أن يُندب
وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويونس أنه قبيح، وأنه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إنما قبح لأنك أبهمت. ألا ترى أنك لو قلت واهذاه، كان قبيحاً، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تفجّع بأعرف الأسماء، وأن تخصّ ولا تُبهم؛ لأن الندبة على البيان، ولو جاز هذا لجاز يا رجلاً ظريفاً، فكنت نادباً نكرة. وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحَش عندهم أن يختلطوا وأن يتفجّعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أن تُبهم.
وكذلك: وامَن في الداراه، في القبح.
وزعم أنه لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه، وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب. ولو قلت هذا لقلت وامن لا يعنين أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنه لا يُعذر على أن يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجّع ويُبهم، كما لا يُعذر على أن يتفجّع على من لا يعنيه أمره.
؟
باب يكون الاسمان فيه بمنزلة اسم واحد
ممطول وآخر الاسمين مضموم الى الأول بالواووذلك قولك: واثلاثةً وثلاثيناه. وإن لم تندب قلت: يا ثلاثةً وثلاثين، كأنك قلت يا ضارباً رجلاً.

وليس هذا بمنزلة قولك يا زيدُ وعمرو، لأنك حين قلت يا زيدُ وعمرو جمعت بين اسمين كلُ واحد منهما مفرد يُتوهّم على حياله، وإذا قلت يا ثلاثةً وثلاثين فلم تُفرد الثلاثة من الثلاثين لتُتوهّم على حيالها، ولا الثلاثين من الثلاثة. ألا ترى أنك تقول يا زيدُ ويا عمرو، ولا تقول يا ثلاثة ويا ثلاثون، لأنك لم ترد أن تجعل كل واحد منهما على حياله، فصار بمنزلة قولك ثلاثة عشر، لأنك لم ترد أن تفصل ثلاثةً من العشرة ليتوهّموها على حيالها. ولزمها النصب كما لزم يا ضارباً رجلاً، حين طال الكلام.
وقال: يا ضارباً رجلاً معرفة كقولك يا ضاربُ، ولكن التنوين إنما يثبت لأنه وسط الاسم، ورجلاً من تمام الاسم، فصار التنوين بمنزلة حرف قبل آخر الاسم. ألا ترى أنك لو سمّيت رجلاً خيراً منك، لقلت يا خيراً منك فألزمته التنوين وهو معرفة، لأن الراء ليست آخر الاسم ولا منتهاه، فصار بمنزلة الذي، إذا قلت هذا الذي فعل. فكما أن خيراً منك لزمه التنوين وهو معرفة، كذلك لزم ضارباً رجلاً، لأن الباء ليست منتهى الاسم، وإنما يُحذب التنوين في النداء من آخر الاسم. فلما لزمت التنوينة وطال الكلام رجع الى أصله. وكذلك ضارب رجل إذا ألقيت التنوين تخفيفاً، لأن الرجل لا يجعل ضارباً نكرة إذا أردت معنى التنوين، كما لا يجعله معرفة في غير النداء إذا أردت معنى التنوين وحذفته، نحو قولك: هذا ضاربُك قاعداً. ألا ترى أن حذف التنوين كثباته لا يغيّر الفاعل إذا كنت تحذفه وأنت تريد معناه.
وأما قولك يا أخا رجل، فلا يكون الأخ ها هنا إلا نكرة، لأنه مضاف الى نكرة، كما أن الموصوف بالنكرة لا يكون إلا نكرة، ولا يكون الرجل ههنا بمنزلته إذا كان منادى، لأنه ثم يدخله التنوين، وجاز لك أن تريد معنى الألف واللام ولا تلفظ بهما وهو هنا غير منادى وهو نكرة، فجُعل ما أضيف إليه بمنزلته.
؟
باب الحروف التي ينبه بها المدعوفأما الاسم غيرُ المندوب فينبَّه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهَيا، وأي، وبالألف. نحو قولك: أحارِ بنَ عمرٍو. إلا أن الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يُرَون أنه لا يُقبل عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة غيروا إذا كان صاحبك قريباً منك، مقبِلاً عليك، توكيداً.
وإن شئت حذفتهن كلهن استغناءً كقولك: حار بنَ كعبٍ، وذلك أنه جعلهم بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه.
ولا يحسن أن تقول: هذا، ولا رجلُ، وأنت تريد: يا هذا، ويا رجلُ ولا يجوز ذلك في المبهم؛ لأن الحرف الذي ينبَّه به لزم المبهم كأنه صار بدلاً من أيُّ حين حذفته، فلم تقل يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك تقول إن شئت: مَن لايزال مُحسناً أفعل كذا وكذا؛ لأنه لا يكون وصفاً لأي.
وقد يجوز حذفُ يا من النكرة في الشعر، وقال العجّاج: جاريَ لا تستنكِري عَذيري يريد يا جاريةُ. وقال في مَثَل: افتَدِ مخنوقُ، وأصبِحْ ليلُ، وأطرِقْ كَرا. وليس هذا بكثير ولا بقويّ.
وأما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنه يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه، وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخ أو غافل والتعجب كذلك. والندبة يلزمها يا ووا؛ لأنهم يحتلطون ويدعون ما قد فات وبعد عنهم. ومع ذلك أن الندبة كأنهم يترنمون فيها، فمن ثم ألزموها المدّ، وألحقوا آخر الاسم المدَّ مبالغةً في الترنّم.
؟
هذا بابما جرى على حرف النداء وصفاً له
وليس بمنادى ينبّهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختصّ من بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. فالاختصاص أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا استفهام على حرف الاستفهام؛ لأنك تسوّي فيه كما تسوي في الاستفهام. فالتسوية أجرتْه على حرف الاستفهام، والاختصاصُ أجرى هذا على حرف النداء.
وذلك قولك: ما أدري أفَعلَ أم لم يفعل. فجرى هذا كقولك أزيدٌ عندك أم عمرو، وأزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ، إذا استفهمتَ؛ لأن علمك قد استوى فيهما كما استوى عليك الأمران في الأول. فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء.

وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعةُ أيها البائع، واللهم اغفِر لنا أيتها العصابة، وأردت أن تختصّ ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختصّ حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول للذي هو مقبلٌ عليه بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيداً. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبّه غيرك. يعني: اللهمّ غفر لنا أيتها العصابة.
؟هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء فيجيء لفظه على موضع النداء نصباً لأن موضع النداء نصب، ولا تجري الأسماء فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يجروها على حروف النداء، ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء.
وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنّا بني مِنقرٍ قومٌ ذوو حسَبٍ ... فينا سَراةُ بني سعدٍ وناديَها
وقال الفرزدق:
ألم ترَ أنّا بني دارِمٍ ... زُرارةُ منا أبو معبدِ
فإنما اختُصّ الاسم هنا ليعرَف بما حُمل على الكلام الأول، وفيه معنى الافتخار. وقال رؤبة: بنا تميماً يُكشف الضّبابْ وقال: نحن العُربَ أقرى الناس لضيف، فإنما أدخلتَ الألف واللام لأنك أجريت الكلام على ما النداء عليه، ولم تُجره مجرى الأسماء في النداء. ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: يا العربَ، وإنما دخل في هذا الباب من حروف النداء أيُّ وحدَها، فجرى مجراه في النداء.
وأما قول لبيد:
نحن بنو أمِّ البنينَ الأربعه ... ونحن خيرُ عامر بنِ صَعصعَهْ
فلا يُنشدونه إلا رفعاً، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يُعرَفوا بأن عدّتهم أربعة، ولكنهم جعل الأربعة وصفاً ثم قال: المُطعمِون الفاعلون، بعدما حلاّهم ليُعرَفوا.
وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك: إنا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: بك اللهَ نرجو الفضلَ، وسُبحانك اللهَ العظيمَ، نصبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم. وزعم أن دخول أيّ في هذا الباب يدل على أنه محمول على ما حُمل عليه النداء، يعني أيتها العصابة فكان هذا عندهم في الأصل أن يقولوا فيه يا، ولكنهم خزلوها وأسقطوها حين أجروه على الأصل.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول: إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول: إني زيداً أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسماً معروفاً؛ لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيداً وتوضيحاً هنا للمضمَر وتذكيراً وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر. ولو جاز هذا لجازت النكرةُ فقلتَ إنا قوماً، فليس هذا من مواضع النكرة والمبهَم، ولكن هذا موضعُ بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيداً لما يعظّمون أمرَه أن يذكروا مبهماً.
وأكثر الأسماء دخولاً في هذا الباب بنو فلان، ومعشَر مُضافةً، وأهل البيت، وآل فلان. ولا يجوز أن تقول إنهم فعلوا أيتها العصابةُ، إنما يجوز هذا للمتكلم والمكلَّم المنادى، كما أن هذا لا يجوز إلا لحاضر.
وسألت الخليل رحمه الله ويونس عن نصب قول الصّلَتان العبدي:
يا شاعراً لا شاعرَ اليومَ مثلَه ... جَريرٌ ولكنْ في كليبٍ تواضعُ
فزعما أنه غير منادى وإنما انتصب على إضمار كأنه قال يا قائل الشعر شاعراً، وفيه معنى حسبُك به شاعراً.
كأنه حيث نادى قال حسبُك به، ولكنه أضمر كما أضمروا في قوله: تالله رجلاً وما أشبهه، مما ستجده في الكتاب إن شاء الله عز وجل.
ومما جاء وفيه معنى التعجّب كقولك: يا لك فارساً، قولُ الأخوص ابن شُريح الكلابي:
تمنّاني ليلقاني لَقيطٌ ... أعامِ لك بنَ صعصعةَ بنِ سعدِ
وإنما دعاهم لهم تعجباً، لأنه قد تبيّن لك أن المنادى يكون فيه معنى أفعِل به، يعني يا لك فارساً.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا البيت مثلُ ذلك؛ للأخطل:

أيامَ جُملِ خليلا لو يخاف لها ... صُرماً لَخولِط منه العقلُ والجسدُ
وقال في قول الشاعر: يا هندُ هندٌ بين خِلبٍ وكَبدْ أنه أراد: أنتِ بين خِلب وكبد، فجعلها نكرة.
وقد يجوز أن تقول بعد النداء مقبِلاً على مَن تحدّثه: هندٌ هذه بين خِلبٍ وكبدٍ، فيكون معرفة.
؟
هذا باب الترخيموالترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، كما حذفوا غير ذلك من كلامهم تخفيفاً، وقد كتبناه فيما مضى، وستراه فيما بقي إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرّ شاعرٌ، وإنما كان ذلك في النداء لكثرته في كلامهم، فحذفوا ذلك كما حذفوا التنوين، وكما حذفوا الياء من قومي ونحوه في النداء.
واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا في وصف؛ لأنهما غيرُ منادَيين، ولا يرخّم مضاف ولا اسمٌ منوّن في النداء؛ من قبل أنه جرى على الأصل وسلِم من الحذف، حيث أُجري مجراه في غير النداء إذا حملتَه على ما ينصب. يقول: إن المحذوف في الترخيم إنما يقع على النداء لا على الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، ومع ذلك إنه إنما ينبغي أن تحذف آخر شيء في الاسم، ولا يُحذف قبل أن تنتهي الي آخره، لأن المضاف إليه من الاسم الأول بمنزلة الوصل من الذي إذا قلت الذي قال، وبمنزلة التنوين في الاسم.
ولا ترخّم مستغاثاً به إذا كان مجروراً، لأنه بمنزلة المضاف إليه. ولا ترخّم المندوب لأن علامته مستعملة، فإذا حذفوا لم يحملوا عليه مع الحذف الترخيم.
وإذا ثنّيت لم ترخّم؛ لأنها كالتنوين.
واعلم أن الحرف الذي يلي ما حذفت ثابتٌ على حركته التي كانت فيه قبل أن تحذف، إن كان فتحاً أو كسراً أو ضماً أو وقفاً؛ لأنك لم ترد أن تجعل ما بقي من الاسم اسماً ثابتاً في النداء وغير النداء، ولكنك حذفت حرف الإعراب تخفيفاً في هذا الموضع وبقي الحرف الذي يلي ما حُذف على حاله، لأنه ليس عندهم حرفَ الإعراب. وذلك قولك يا حارث: يا حار، وفي سلَمة: يا سَلَم، وفي بُرثُن: يا بُرثُ، وفي هرقل: يا هِرَقْ.
؟
باب ما أواخر الأسماء فيه الهاءاعلم أن كل اسم كان مع الهاء ثلاثة أحرف أو أكثر من ذلك، كان اسماً خاصاً غالباً، أو اسماً عاماً لكل واحد من أمة، فإن حذف الهاء منه في النداء أكثر في كلام العرب. فأما ما كان اسماً غالباً فنحو قولك: يا سلَمَ أقبل. وأما الاسم العام العامّ فنحو قول العجّاج: جاريَ لا تستنكري عذيري إذا أردت يا سَلَمةُ، ويا جاريةُ.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف مع الهاء فنحو قولك: يا شا ارْجُني ويا ثُبَ أقبِلي، إذا أردت: شاةً وثُبةً.
واعلم أن ناساً من العرب يثبتون الهاء فيقولون: يا سلمةُ أقبلْ، وبعض من يُثبت يقول: يا سلمةَ أقبل.
واعلم أن العرب الذين يحذفون في الوصل إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا طلحَهْ. وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء، وصارت هذه الهاء لازمة لهما في الوقف كما لزمت الهاء وقف ارمه، ولم يجعلوا المتكلم بالخيار وحذف الهاء عند الوقف وإثباتها، من قبل أنهم جعلوا الحذف لازماً لهاء التأنيث في الوصل، كما لزم حذفُ الهاء من ارمِهْ في الوصل وكأنهم ألزموا هذه الهاء في ارْمِهْ في الوقف ولم يجعلوها بمنزلتها إذا بيّنتَ حركة ما لم يحذف بعده شيء نحو علَيَّهْ وإليّهْ، ولكنها لازمة كراهية أن يجتمع في ارمِه حذف الهاء وترك الحركة، فأرادوا أن تثبت الحركة على كل حال، ليكون ثباتُها عوضاً من الحذف للياء والهاء، فبُيّنت الحركة بالهاء في السكوت ليكون ثباتُها في الاسم على كل حال؛ لئلا يُخلّوا به.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف، وذلك لأنهم يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلاً منها.
وقال الشاعر، ابن الخرع:
كادت فزارةُ تشقي بنا ... فأولى فزارةُ أولى فَزارا
وقال القُطامي: قفي قبل التفرّق يا ضُباعا وقال هُدبةُ: عُوجي علينا واربَعي يا فاطِما

وإنما كان الحذف ألزمَ للهاءات في الوصل، وفيها أكثر منه في سائر الحروف في النداء، من قبل أن الهاء في الوصل في غير النداء تبدّل مكانَها التاء، فلما صارت الهاء في موضع يحذف منه لا يُبدّل منه شيء تخفيفاً، كان ما يُبدّل ويُغيّر أولى بالحذف، وهو له ألزم، وجعلوا تغييره الحذف في موضع الحذف إذ كان متغيراً لا محالة.
وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حَرملْ، يريد يا حَرمَلَهْ، كما قال بعضهم: إرْمْ، يقفون بغير هاء.
واعلم أن هاء التأنيث إذا كانت بعد حرف زائد لو لم تكن بعده حُذف، أو بعد حرفين لو لم تكن بعدهما حُذفا زائدين، لم يحذف، من قبل أن الحروف الزوائد قبل الهاء في الترخيم بمنزلة غير الزوائد من الحروف وذلك قولك في طائفية: يا طائفي أقبلي، وفي مَرجانة: يا مرجانَ أقبلي. وفي رعشنةٍ: يا رَعْشَنَ أقبلي، وفي سِعلاةٍ: يا سِعلا أقبلي. ولو حذفتَ ما قبل الهاء كحذفك إياه وليس بعده هاء لقلت في رجل يسمّى عُثمانةَ يا عُثمَ أقبل، لأن الهاء لو لم تكن ههنا لقلت يا عُثْمَ أقبل؛ فإنما الكلام أن تقول يا عُثمان أقبل. فأجْرِ ترخيمَ هذا بعد الزوائد مجراه إذا كان بعدما هو من نفس الحرف.
ومَن حذف الزوائد مع الهاء فإنه ينبغي له أن يقول في فاظمة: يا فاطِ لا تفعلي، من قبل أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت يا فاطِ كما تقول يا حارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف كما تحذف الزوائد، فإذا ألحقته الزوائد لم تحذفه مع الزوائد. فكذلك الزوائد إذا ألحقتَها مع الزوائد لم تحذفها معها.
؟باب يكون فيه الاسم بعدما يُحذف منه الهاء
بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام لم يكن فيه هاء قط
وذلك قول بعض العرب، وهو عنترة العبسي:
يَدعون عنترُ، والرماحُ كأنها ... أشطانُ بيرٍ في لَبان الأدهمِ
جعلوا الاسم عنترا وجعلوا الراء حرف الإعراب.
وقال الأسود بن يعفُر تصديقاً لهذه اللغة:
ألا هل لهذا الدهر من مُتعلّلِ ... عن الناس، مهما شاء بالناس أن يفعل
ثم قال:
وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلُبَني حقي أمالِ بنَ حنظلِ
وذلك لأن الترخيم يجوز في الشعر في غير النداء، فلما رخّم جعل الاسم بمنزلة اسمٍ ليست فيه هاء. وقال رؤبة:
إما تَرَيني اليومَ أمَّ حمزِ ... قاربتُ بين عَنَقي وجَمزي
وإنما أراد: أمّ حمزة. وأما قول ذي الرمة:
ديارَ ميّةَ إذ مَيٌّ تُساعفُنا ... ولا يرى مثلَها عُجمٌ ولا عربُ
فزعم يونس أنه كان يسميها مرة ميّة ومرة ميّا، ويجعل كل واحد من الاسمين اسماً لها في النداء وفي غيره.
وعلى هذا المثال قال بعض العرب إذا رخّموا: يا طَلحُ ويا عنترُ. وقد يكون قولهم يدعون عنترُ بمنزلة ميَّ؛ لأن ناساً من العرب يسمونه عنتراً في كل موضع. ويكون أن تجعله بمنزلة ميّ بعد ما حذفت منه، وقد يكون ميٌّ أيضاً كذلك، يجعلها بمنزلة ما ليس فيه هاء بعد ما تحذف الهاء.
وأما قول العرب: يا فُلُ أقبلْ، فإنهم لم يجعلوه اسماً حذفوا منه شيئاً يثبت فيه في غير النداء، ولكنهم بنوا الاسمَ على حرفين، وجعلوه بمنزلة دم. والدليل على ذلك أنه ليس أحدٌ يقول يا فُلَ فإن عنوا امرأة قالوا: يا فُلةُ: وهذا الاسم اختُصّ به النداء، وإنما بُني على حرفين لأن النداء موضعُ تخفيف، ولم يجز في غير النداء لأنه جُعل اسماً لا يكون إلا كنايةً لمنادى، نحو يا هَناهْ، ومعناه يا رجلُ. وأما فلان فإنما هو كناية عن اسم سُمي به المحدّث عنه، خاصّ غالب. وقد اضطُرّ الشاعرُ فبناه على حرفين في هذا المعنى. قال أبو النجم: في لجّة أمسِكْ فُلاناً عن فُلِ
؟هذا باب إذا حذفتَ منه الهاء
وجعلت الاسم بمنزلة ما لم تكن فيه الهاء أبدلتَ حرفاً مكان الحرف الذي يلي الهاء وإن لم تجعله بمنزلة اسم ليس فيه الهاء لم يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن تحذف.
وذلك قولك في عَرقوةٍ وقَمَحدوَةٍ وإن جعلت الاسم بمنزلة اسم لم تكن فيه الهاء على حالٍ: يا عَرقي ويا قَمَحْدي؛ من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ آخر كذا. وكذلك إن رخّمتَ رَعومٌ وجعلته بهذه المنزلة، قلت يا رَعي.

وإن رخّمت رجلاً يسمى قَطَوان فجعلته بهذه المنزلة قلت: يا قَطا أقبلْ. فإن رخّمت رجلاً اسمُه طُفاوةُ قلت: يا طُفاءُ أقبلْ، من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ هكذا آخِره يكون حرفَ الإعراب، يعني الواو والياء إذا كانت قبلهما ألف زائدة ساكنة لم يثبتا على حالهما، ولكن تُبدّل الهمزة مكانَهما. فإن لم تجعلهما حروف الإعراب فهي على حالها قبل أن تحذف الهاء، وذلك قولك: يا طُفاوَ أقبلْ، إذا لم ترد أن تجعله بمنزلة اسم ليست فيه الهاء.
واعلم أن ما يُجعل بمنزلة اسم ليست فيه هاء أقلُّ في كلام العرب، وترك الحرف على ما كان عليه قبل أن تُحذف الهاء أكثر؛ من قبل أن حرف الإعراب في سائر الكلام غيره. وهو على ذلك عربي.
وقد حملهم ذلك على أن رخّموه حيثُ جعلوه بمنزلة ما لا هاء فيه. قال العجّاج:
فقد رأى الراءون غيرَ البُطَّلِ ... أنك يا مُعاوِ يا ابنَ الأفضلِ
يريد: يا مُعاوية.
وتقول في حَيْوَةَ: يا حَيوَ أقبل، فإن رفعت الواو تركتها على حالها لأنه حرف أُجري على الأصل وجُعل بمنزلة غزوٍ، ولم يكن التغيير لازماً وفيه الهاء.
واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه الهاء إذا لم يكن اسماً خاصاً غالباً، من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس المؤنّث بالمذكّر. وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيثُ أقبلي. وإنما جاز في الغالب لأنك لا تذكّر مؤنثاً ولا تؤنث مذكراً.
واعلم أن الأسماء التي ليس في أواخرها هاء أن لا يُحذف منها أكثر، لأنهم كرهوا أن يُخِلّوا بها فيحملوا عليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول.
وإن حذفتَ فحسن. وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيراً في الشعر، وأكثروا التسمية بها للرجال. قال مهلهل بن ربيعة:
يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنّا ذَوو السّوراتِ والأحلام
وقال امرؤ القيس:
أحارِ ترى برقاً أُريكَ وميضَهُ ... كلمعِ اليدين في حَبيّ مكلّلِ
وقال الأنصاري: يا مالِ والحقّ عنده فقفوا وقال النابغة الذبياني:
فصالحونا جميعاً إن بدا لكلم ... ولا تقولوا لنا أمثالَها عام
وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه.
وكل اسم خاص رخّمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر. فمن ذلك قول الشاعر:
فقلتم تعال يا يَزي بنَ مُخرِّم ... فقلت لكم إني حليف صُداءِ
وهو يزيد بن مخرّم.
وقال مجنون بني عامر:
ألا يا ليلَ إن خُيّرتِ فينا ... بنفسي فانسري أين الخيارُ
يريد في الأول: يزيد، وفي الثاني ليلى.
وقال أوس بن حجر: تسكّرتِ منّا بعد معرفةٍ لَمي يريدُ: لميسَ.
واعلم أن كل شيء جاز في الاسم الذي في آخره هاء بعد أن حذفت الهاء منه في شعر أو كلام، يجوز فيما لا هاء فيه بعدُ أن تحذف منه. فمن ذلك قول امرئ القيس:
لَنِعمَ الفتى تَعشو الى ضوء ناره ... طريفُ بن مالٍ ليلة الجوع والخصَرْ
جعل ما بقي بعد ما حذف، بمنزلة اسم لم يُحذف منه شيء، كما جعل ما بقي بعد حذف الهاء بمنزلة اسمٍ لم تكن فيه الهاء.
وقال رجل من بني مازن:
عليّ دماء البُدنِ إن لم تفارقي ... أبا حردَبٍ ليلاً وأصحابَ حردَبِ
وقال، وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العِباديين:
أسعدَ بنَ مالٍ ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقُل يصدُقِ
واعلم أن كل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم تكن آخره الهاء. فزعم الخليل رحمه الله أنهم خففوا هذه الأسماء التي ليست أواخرها الهاء ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة على ثلاثة. فإنما أرادوا أن يقرّبوا الاسم من الثلاثة أو يصيّروه إليها، وكان غاية التخفيف عندهم؛ لأنه أخف شيء عندهم في كلامهم ما لم يُنتقص، فكرهوا أن يحذفوه إذ صار قصاراهم أن ينتهوا إليه.

واعلم أنه ليس من اسم لا تكون في آخره هاء يُحذف منه شيء إذا لم يكن اسماً غالباً نحو زيد وعمرو، من قبل أن المعارف الغالبة أكثر في الكلام وهم لها أكثر استعمالاً، وهم لكثرة استعمالهم إياها قد حذفوا منها في غير النداء، نحو قولك: هذا زيد بن عمرو، ولم يقولوا هذا زيد ابنُ أخيك.
ولو حذفت من الأسماء غير الغالبة لقلت في مسلمين: يا مُسلم أقبِلوا، وفي راكب: يا راكِ أقبلْ. إلا أنهم قد قالوا: يا صاح، وهم يريدون يا صاحبُ؛ وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف، فحذفوا كما قالوا: لم أُبَلْ، ولم يكُ، ولا أدرِ.
؟هذا باب ما يُحذف من آخره حرفان
لأنهما زيادة واحدة بمنزلة حرف واحد زائدوذلك قولك في عثمان: يا عُثْمَ أقبلْ، وفي مروان: يا مرْوَ أقبل، وفي أسماء: يا أسمَ أقبلي.
وقال الفرزدق: يا مَروَ إن مطيّتي محبوسةً ترجو الحِباء وربّها لم ييأسِ وقال الراجز: يا نعمَ هل تحلف لا تَدينُها وقال لبيد:
يا أسمَ صبراً على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث مَلقيٌّ ومنتظَرُ
وإنما كان هذان الحرفان بمنزلة زيادة واحدة من قبل أنك لم تُلحق الحرفَ الآخِر أربعة أحرف رابعهن الألف، من قبل أن تزيد النون التي في مروان، والألف التي في فعلاء، ولكن الحرف الآخر الذي قبله زيدا معاً، كما أن ياءَي الإضافة وقعتا معاً. ولم تلحق الآخرةَ بعد ما كانت الأولى لازمة، كما كانت ألف سلمى إنما لحقتْ ثلاثة أحرف ثالثها الميم لازمها، ولكنهما زيادتان لحقتا معاً فحذفتا جميعاً كما لحقنا جميعاً.
وكذلك ترخيم رجل يقال له مسلمون، بحذف الواو والنون جميعاً من قبل أن النون لم تلحق واواً ولا ياء قد كانت لزمت قبل ذلك. ولو كانت قد لزمت حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف ثم لحقتها زائدة لم تكن حرف الإعراب.
وكذلك رجل اسمه مُسلمان: تحذف الألف والنون.
وأما رجل اسمه بَنون فلا يُطرح منه إلا النون، لأنك لا تصيّر اسماً على أقل من ثلاثة أحرف. ومن جعل ما بقي من الاسم بعد الحذف بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم تكن فيه زيادة قطّ قال يا بَني، لأنه ليس في الكلام اسم يتصرّف آخره كآخِر بَنو.
هذا باب يكون فيه الحرف
الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد وقع وما قبله جميعاً
وذلك قولك في منصور: يا مَنصُ أقبلْ، وفي عمارٍ: يا عمّ أقبل، وفي رجل اسمه عنتريسٌ: يا عنتَرِ أقبلْ. وذلك لأنك حذفت الآخر كما حذفت الزائد، وما قبله ساكن بمنزلة الحرف الذي كان قبل النون زائداً فهو زائد كما كان ما قبل النون زائداً، ولم يكن لازماً لما قبله من الحروف ثم لحقه ما بعده، لأن ما بعده ليس من الحروف التي تُزاد. فلما كانت حال هذه الزيادة حالَ تلك الزيادة وحُذفت الزيادة وما قبلها، حُذف هذا الذي من نفس الحرف.
؟
باب تكون الزوائد فيه بمنزلة
ما هو من نفس الحرفوذلك قولك في قَنَوَّرٍ: يا قنوَّ أقبلْ، وفي رجل اسمه هَبَيّخ: يا هَبَيّ أقبل؛ لأن هذه الواو التي في قنوّر والياء التي في هبيّخ، بمنزلة الواو التي في جدول، والياء التي في عِثيَر.
وإنما لحقنا لتُلحقا ما كان على ثلاثة أحرف ببنات الأربعة، وليصير بمنزلة حرف من نفس الحرف؛ كفاء جعفر في هذا الاسم.
ويدلك على أنها بمنزلتها أن الألف التي تجيء لتُلحق الثلاثة بالأربعة منوّنة كما ينوّن ما هو من نفس الحرف، وذلك نحو مِعزى. ومع ذلك أن الزوائد تلحقها كما تلحق ما ليس فيه زيادة، نحو جِلواخٍ وجِريال وقِرواح، كما تقول سِرداح. وتقدّم قبل هذه الزيادة الياء والواو زائدتين كما تقدّم الحرف الذي من نفس الحرف في فَدَوْكس وخَفَيدَد، وهي الواو التي في قنوّر الأولى، والياء التي في هبيّخ الأولى بمنزلة ياء سَميدَع، فصار قنوّر بمنزلة فدوْكَس، وهبيّخ بمنزلة سَميدَع، وجدول بمنزلة جعفر، فأجروا هذه الزوائد بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فكرهوا أن يحذفوها إذ لم يحذفوا ما شبّهوها به وما جعلوها بمنزلته. ولو حذفوا من سميدع حرفين لحذفوا من مهاجر حرفين فقالوا: يا مُها، وهذا لا يكون، لأنه إخلال مُفرط بما هو من نفس الحرف.
؟باب تكون الزوائد فيه أيضاً بمنزلة
ما هو من نفس الحرف

وذلك قولك في رجل اسمه حَولايا أو بَردَرايا: يا بَردراي أقبلْ، ويا حَولاي أقبل؛ من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي قبلها لازمة لها يقعان معاً لكانت الياء ساكنة وما كانت حية، لأن الحرف الذي يجعل وما بعده زيادة واحدة ساكن لا يتحرك، ولو تحرك لصار بمنزلة حرف من نفس الحرف، ولجاء بناء آخرُ. ولكن هذه الألف بمنزلة الهاء التي في درحاية وفي عفارية، لأن الهاء إنما تلحق للتأنيث، والحرف الذي قبلها بائن منها قد لزم ما قبله قبل أن تلحق.
وكذلك الألف التي تجيء للتأنيث إذا جاءت وحدها، لأن حال الحرف الذي قبلها كحال الحرف الذي قبل الهاء، والهاء لا تكون أبداً مع شيء قبلها زائد بمنزلة زيادة واحدة وإن كان ساكناً نحو ألف سِعلاة. ولو كانت بمنزلة زيادة واحدة لم يقولوا سُعَيلِية، ولكانت في التحقير ياء مجزومة كالياء التي تكون بدل ألف سِرحان إذا قلت سُرَيحين، أو بمنزلة عُثمان إذا قلت عُثيمان، ولكنها لحقت حرفاً جيء به ليلحق الثلاثة ببنات الأربعة. وكذلك ألف التأنيث إذا جاءت وحدها، يدلّك على ذلك تحرّك ما قبلها وحياته.
وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف، وما بعدها، بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلتْ وما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية.
ويدلك على أن الألف التي في حَولايا بمنزلة الهاء أنك تقول: حَولائي كما تقول: دِرحائي. ولو كانت وما قبلها بمنزلة زيادة واحدة لم تحذف الألف، كما لا تحذفها إذا قلت: خُنفساوي.
؟باب ما إذا طُرحت منه الزائدتان
اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفاً
وذلك قولك في رجل اسمه قاضون: يا قاضي أقبل، وفي رجل اسمه ناجيّ: يا ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون، وفي رجل اسمه مُصطَفون: يا مصطفى أقبل.
وإنما رددت هذه الحروف لأنك لم تَبن الواحد على حذفها كما بُنيت دمٌ على حذف الياء، ولكنك حذفتهن لأنه لا يسكن حرفان معاً، فلما ذهب في الترخيم ما حذفتهن لمكانه رجعتهن. فحذف الواو والنون ههنا كحذفها في مسلمين؛ لأن حذفها لم يكن إلا لأنه لا يسكن حرفان معاً والياء، والألف يعني في قاضي ومصطفى تثبتان كما ثبتت الميم في مسلمين.
ومثل ذلك: " غيرَ مُحِلّي الصيدِ وأنتم حُرُم " . وهذا قول الخليل رحمه الله. فإذا لم تذكر الصيد قلت مُحلّي.
؟باب يحرَّك فيه الحرف الذي يليه المحذوف
لأنه لا يلتقي ساكنانوهو قولك في رجل اسمه رادٌّ: يا رادِ أقبل. وإنما كانت الكسرة أولى الحركات به لأنه لو لم يُدغم كان مكسوراً، فلما احتجتَ الى تحريكه كان أولى الأشياء به ما كان لازماً له لو لم يُدغم. وأما مفرٌّ فإذا حذفت منه وهو اسم رجل، لم تحرَّك الراء لأن ما قبلها متحرك. وإن حذفت من اسم مُحمارّ أو مُضارّ، قلت: يا مُحمارِ ويا مُضارِ، تجيء بالحركة التي هي له في الأصل، كأنك حذفت من مُحمارر، حيث لم يجز لك أن تُسكِن الراء الأولى. ألا ترى أنك إذا احتجت الى تحريكها والراء الآخرة ثابتة لم تحرّك إلا على الأصل، وذلك قولك لم يَحمارِرْ، فقد احتجت الى تحريكها في الترخيم كما احتجت إليه هنا حين جزمت الراء الآخرة.
وإن سمّيته بمضارّ وأنت تريد المفعول قلت: يا مُضارَ أقبل، كأنك حذفت من مُضارَر.
وأما مُحمرٌّ إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخّمته تركت الراء الأولى مجزومة، لأن ما قبلها متحرك فلا تحتاج الى حركتها. ومن زعم أن الراء الأولى زائدة كزيادة الواو والياء والألف، فهو لا ينبغي له أن يحذفها مع الراء الآخرة، من قبل أن هذا الحرف ليس من حروف الزيادة، وإنما يُزاد في التضعيف، فأشبه عندهم المضاعَف الذي لا زيادة فيه نحو مرتدّ وممتدّ، حين جرى مجراه ولم يجئ زائداً غير مضاعَف، لأنه ليس عندهم من حروف الزيادة، وإنما جاء زائداً في التضعيف، لأنه إذا ضوعِف جرى مجرى المضاعَف الذي ليس فيه زيادة.
ولو جعلت هذا الحرف بمنزلة الياء والألف والواو لثبت في التحقير والجمع الذي يكون ثالثه ألفاً. ألا ترى أنه صار بمنزلة اسم على خمسة أحرف ليس فيه زيادة نحو جردَحْل وما أشبه ذلك.

وأما رجل اسمه إسحارٌّ فإنك إذا حذفت الراء الآخرة لم يكن لك بدٌّ من أن تحرك الراء الساكنة لأنه لا يلتقي حرفان ساكنان. وحركته الفتحة، لأنه يلي الحرف الذي منه الفتحة، وهو الألف. ألا ترى أن المضاعف إذا أُدغم في موضع الجزم حُرّك آخر الحرفين لأنه لا يلتقي ساكنان، وجُعل حركته كحركة أقرب المتحركات منه. وذلك قولك: لم يردُّ ولم يرتدّ ولم يفرّ ولم يعضّ. فإذا كان أقرب من المتحرك إليه الحرف الذي منه الحركة المفتوحة ولا يكون ما قبله إلا مفتوحاً، كان أجدرَ أن تكون حركته مفتوحة، لأنه حيث قرب من الحرف الذي منه الفتحة وإن كان بينهما حرف كان مفتوحاً، فإذا قرب منه هو كان أجدرَ أن تفتحه، وذلك لم يُضارّ.
وكذلك تقول: يا إسحارّ أقبل، فعلت بهذه الراء ما كنت فاعلاً بالراء الآخرة لو ثبت الراءان ولم تكن الآخرة حرف الإعراب، فجرى عليها ما كان جارياً على تلك كما جرى على ميم مُدّ ما كان بعد الدال الساكنة، وامُدُد هو الأصل. إن شئت فتحت اللام إذا أسكنتَ على فتحة انطلق، ولم يلْدَ إذا جزموا اللام. وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع العرب يقولون، وهو قول رجل من أزْد السَّراة:
ألا رُبّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلْدَهُ أبوانِ
جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه. فهذا كأينَ وكيف.
وإنما منع إسحارّا أن يكون بمنزلة مُحمارّ أن أصل محمارّ مُحمارِر، يدلك على ذلك فعله إذا قلت لم يَحمارِر. وأما إسحارٌّ فإنما هو اسم وقع مُدّغماً آخره، وليس لرائه الأولى في كلامهم نصيب في الحركة، ولا تقع إلا ساكنة، كما أن الميم الأولى من الحُمّر، والراء الأولى من شرّاب لا يقعان إلا ساكنين، ليستا عندهم إلا على الإسكان في الكلام وفي الأصل.
وسنبيّن ذلك في باب التصريف إن شاء الله.
؟
باب الترخيم في الأسماءالتي كل اسم منها من شيئين كانا بائنين فضُمّ أحدهما الى صاحبه فجُعلا اسماً واحداً بمنزلة عَنتريس وحَلكوك وذلك مثل حَضرَموت، ومَعدي كَرب، وبُخْتَ نصّر، ومارَسَرجِس، ومثل رجل اسمه خمسة عشر، ومثل عمرَوَيه. فزعم الخليل رحمه الله أنه تحذف الكلمة التي ضُمّت الى الصدر رأساً وقال: أراه بمنزلة الهاء. ألا ترى أني إذا حقّرته لم أغيّر الحرف الذي يليه كما لم أغيّر الذي يلي الهاء في التحقير عن حاله التي كان عليها قبل أن يُحقَّر، وذلك قولك في تَمرة تُميرَة، فحال الراء واحدة. وكذلك التحقير في حضرمَوت تقول حُضَيرَموت، وقال: أُراني إذا أضفت الى الصدر وحذفت الآخر فأقول في مَعدي كَرب: معديّ، وأقول في الإضافة الى أربعة عشر أربعيّ، فحذف الاسم الآخر بمنزلة الهاء، فهو في الموضع الذي يُحذف فيه ما يثبت في الإضافة أجدر أن يحذف إذا أردت أن ترخّم.
وهذا يدل على أن الهاء تُضمّ الى الأسماء كما يُضمّ الاسم الآخر الى الأول. ألا ترى أنها لا تُلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة، كما أن هذه الأسماء الآخرة لم تُضمّ الى الصدر لتُلحق الصدر ببنات الأربعة، ولا لتُلحقه ببنات الخمسة، وذلك لأنها ليست زائدات في الصدور، ولا هي منها، ولكنها موصولة بها وأُجريت مجرى عنتَريس ونحوه، ولا يغيَّر لها بناء كما لا يغيّر لياء الإضافة أو ألف التأنيث أو لغيرهما من الزيادات. وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل ذكره.
كما أن الأسماء الآخرة لم تغيّر بناء الأولى عن حالها قبل أن تُضمّ إليها، لم تغيّر خمسة في خمسة عشر عن حالها. فالهاء وهذه الأسماء الآخرة مضمومة الى الصدور كما يُضمّ المضاف إليه الى المضاف لأنهما كانا بائنين وُصل أحدهما بالآخر، فالآخر بمنزلة المضاف إليه في أنه ليس من الأول ولا فيه، وهما من الإعراب كاسم واحد لم يكن آخره بائناً من أوله.
وإذا رخّمت رجلاً اسمه خمسة عشر قلت: يا خمسةَ أقبل، وفي الوقف تبيّن الهاء - يقول لا تجعلها تاء - لأنها تلك الهاء التي كانت في خمسة قبل أن تُضمّ إليها عشرَ. كما أنك لو سمّيت رجلاً مُسلمين قلت في الوقف: يا مُسلِمَهْ؛ لأن الهاء لو أبدلت منها تاء لتُلحق الثلاثة بالأربعة لم تحرّك الميم.
وأما اثنا عشر فإذا رخّمته حذفت عشر مع الألف، لأن عشر بمنزلة نون مُسلمين، والألف بمنزلة الواو، وأمره في الإضافة والتحقير كأمر مُسلمين. يقول: تُلقي عشر مع الألف كما تُلقي النون مع الواو.

واعلم أن الحكاية لا ترخَّم، لأنك لا تريد أن ترخّم غير منادى، وليس مما يغيّره النداء، وذلك نحو تأبط شراً وبرق نحرُه وما أشبه ذلك. ولو رخّمت هذا لرخمت رجلاً يسمى بقول عنترة:
يا دار عبلةَ بالجِواء تكلّمي
؟باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطراراً قال الراجز: وقد وسطْتُ مالِكا وحنظلا وقال ابن أحمر:
أبو حَنَش يؤرقنا وطلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا
يريد: أثالة.
وقال جرير:
ألا أضحتْ حِبالكمُ رِماما ... وأضحت منك شاسعةً أُماما
يشقّ بها العساقِل مُؤْجَداتٌ ... وكلُّ عرَنْدَس ينفي اللُّغاما
وقال زهير:
خذوا حظّكم يا آل عِكرم واذكروا ... أواصِرَنا والرِّحمُ بالغيب تُذكرُ
وقال آخر، وهو ابن حَبْناء التميمي:
إن ابن حارثَ إن أشتَقْ لرؤيته ... أو أمتدِحه فإن الناس قد علموا
وأما قول الأسود بن يعفر:
أودى ابنُ جُلهُمَ عبّادٌ بصرْمته ... إن ابن جُلهُم أمسى حيّة الوادي
فإنما أراد أمه جُلهم. والعرب يسمون المرأة جُلهم والرجل جُلهُمة.
وأما قوله، وهو رجل من بني يشكر:
لها أشارير من لحم تُتَمّرُه ... من الثّعالي ووزخزٌ من أرانيَها
فزعم أن الشاعر لما اضطرّ الى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة. وقال أيضاً:
ومنهلٍ ليس له حَوازق ... ولِضفادي جَمّه نقانقُ
وإنما أراد ضفادع، فلما اضطرّ الى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفاً لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفاً يوقَف في الجر والرفع. وليس هذا لأنه حذف شيئاً فجعل الياء عوضاً منه؛ لو كان ذلك لعوضت حارثاً الياء حيث حذفت الثاء وجعلت البقية بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام على ثلاثة أحرف، وذلك حين قلت يا حارُ. ولو قلت هذا لقلت يا مَروي إذا أردت أن تجعل ما بقي من مروان بمنزلة ما بقي من حارث حين قلت: يا حارُ.
؟
هذا باب النفي بلاولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها.
وترك التنوين لما تعمل فيه لازم، لأنها جُعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجري مجراه، لأنها لا تعمل إلا في نكرة، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. فلا لا تعمل إلا في نكرة كما أن ربّ لا تعمل إلا في نكرة، وكما أن كم لا تعمل في الخبر والاستفهام إلا في النكرة، لأنك لا تذكر بعد لا إذا كانت عاملة شيئاً بعينه كما لا تذكر ذلك بعد ربّ، وذلك لأن ربّ إنما هي للعدة بمنزلة كم، فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما خولف بأيُّهم حين خالفت الذي، وكما قالوا يا الله حين خالفت ما فيه الألف واللام، وسترى أيضاً نحو ذلك إن شاء الله عزّ وجلّ.
فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها، كما قالوا يا ابن أم، فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هي خمسة وعشرة.
فلا لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب، فيما زعم الخليل رحمه الله في قولك: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
واعلم أن لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدأ. وكذلك: ما من رجل، وما من شيء، والذي يُبنى عليه في زمان أو في مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته. وكذلك لا رجل ولا شيء، إنما تريد لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان.
والدليل على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ، وما من رجل في موضع اسم مبتدأ في لغة بني تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضل منك.
وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل أفضلُ منك، وهل من رجل خيرٌ منك، كأنه قال: ما رجلٌ أفضلُ منك، وهل رجلٌ خيرٌ منك.

واعلم أنك لا تفصل بين لا وبين للنفي، كما لا تفصل بين من وبين ما تعمل فيه، وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: لا فيها رجلَ، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه هل من فيها رجل. ومع ذلك أنهم جعلوا لا وما بعدها بمنزلة خمسة عشر، فقُبح أن يفعلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة وعشر بشيء من الكلام؛ لأنها مشبهة بها.
؟
باب المنفي المضاف بلام الإضافةاعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلامَ لك كما يقع من المضاف الى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثلَ زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامَيْ لك، ولا مُسلمَيْ لك.
وزعم الخليل رحمه الله أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة.
وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك، في معنى لا أبالك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطاً كسقوطه في لا مثل زيد فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحداً، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تَيْم تَيْم عَديّ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحةَ في النداء، لم يغيّروا آخر طلحةَ عما كان عليه قبل أن تلحق، وذلك قولهم: كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطُر، للنابغة: يا بؤسَ للجهل ضرّارا لأقوامِ حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤسَ الجهل.
وإنما فُعل هذا في المنفي تخفيفاً، كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذ قالوا يا طلحةَ أقبلْ فكأنهم لم يذكروا الهاء، وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة لا تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، كما لا تغيّر الهاء الاسمَ عن حاله قبل أن تلحق، فالنفيُ في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثم جاء فيه مثل ما جاء في النداء.
وإنما ذهبت النون في لا مُسلمَيْ لك على هذا المثال، جعلوه بمنزلة ما لو حُذفت بعده اللام كان مضافاً الى اسم وكان في معناه إذا ثبتت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك؛ فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا لا مُسلمَيْك فعلى هذا الوجه حذفوا النون في لا مُسلمَي لك، وذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلم بلا مسلمَيْكَ. قال مسكين الدارميّ:
وقد مات شماخٌ ومات مزَرِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ يمتَّعُ
ويُروى: مخلّدُ.
وتقول: لا يَدَينِ بها لك، ولا يدينِ اليوم لك، إثبات النون أحسن، وهو الوجه. وذلك أنك إذا قلت: لا يَدَيْ لك ولا أبالك، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء؛ نحو لا مِثل زيد؛ فكما قبح أن تقول لا مثل بها زيد فتفصل، قبح أن تقول لا يَدَي بها لك، ولكن تقول: لا يَدَين بها لك، ولا أبَ يوم الجمعة لك، كأنك قلت: لا يدين بها ولا أبَ يوم الجمعة، ثم جعلت لك خبراً، فراراً من القبح.
وكذلك إن لم تجعل لك خبراً ولم تفصل بينهما، وجئت بلك بعد أن تضمر مكاناً وزماناً كإضمارك إذا قلت: لا رجلَ. ولا بأس، وإن أظهرت فحسن. ثم تقول لك لتبيّن المنفيّ عنه، وربما تركتَها استغناءً بعلم المخاطب، وقد تذكرها توكيداً وإن عُلم من تعني. فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قُبح أن تفصل بين لك وبين المنفي الذي قبله؛ لأن المنفي الذي قبله إذا جعلته كأنه اسمٌ لم تفصل بينه وبين المضاف إليه بشيء، قبح فيه ما قُبح في الاسم المضاف الى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئاً؛ لأن اللام كأنها ههنا لم تُذكر.
ولو قلت هذا لقلت لا أخا هذينِ اليومين لك. وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
كأن أصواتَ من إيغالهنّ بنا ... أواخرِ المَيس أصواتُ الفراريجِ
وإنما اختير الوجهُ الذي تثبَت فيه النون في هذا الباب كما اختير في كم إذا قلت كم بها رجلاً مصاباً، وأنت تُخبر، لغة من ينصب بها، لئلا يفصَل بين الجار والمجرور: ومن قال: كم بها رجل مصاب فلم يُبالِ القبح قال: لا يَدَيْ بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك، ولا أخا فاعلم لك.

والجرّ في كم بها رجلٍ مصابٍ، وترك النون في لا يَديْ بها لك، قول يونس، واحتج بأن الكلام لا يستغني إذا قلت كم بها رجلٍ. والذي يستغني به الكلام وما لا يستغني به قبحهما واحدٌ إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجارّ والمجرور. ألا ترى أن قبح كم بها رجلٍ مصاب، كقبح رُبّ فيها رجل، فلو حسن بالذي لا يستغني به الكلام لحسُن بالذي يستغني به، كما أن كل مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: إن بها زيداً مصابٌ، وإن فيها زيداً قائمٌ، وكان بها زيد مصاباً، وكان فيها زيدٌ مصاباً. وإنما يفرَق بين الذي يحسُن عليه السكوت وبين الذي لا يحسن عليه في موضع غير هذا.
وإثبات النون قول الخليل رحمه الله.
وتقول: لا غلامَينِ ولا جريتَيْ لك، إذا جعلت الآخِر مضافاً ولم تجعله خبراً له، وصار الأول مضمَراً له خبرٌ، كأنك قلت: لا غلامين في مِلكك ولا جاريتيْ لك، كأنك قلت: ولا جاريتَيك في التمثيل، ولكنهم لا يتكلمون.
فإنما اختُصّت لا في الأب بهذا كما اختُصّ لدُن مع غُدوةَ بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعمل في كلامهم، نحو قولهم: ملامحُ ومذاكيرُ، لا يستعملون لا مَلمَحةً ولا مِذكاراً؛ وكما جاء عذيرك على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو ضَرباً وضرْبَك، ولا يُتكلم به إلا معرفةً مضافة. وسترى نحو هذا إن شاء الله. ومنه ما قد مضى.
وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جريتين لك، إذا جعلت لك خبراً لهما، وهو قول أبي عمرو. وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبراً، لأنه لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأن المضاف يحتاج الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عديّ في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمارُ مكان، ولكنه تُرك استخفافاً واستغناء. قال الشاعر، وهو نهارُ بن تَوسِعة اليشكُريّ فيما جعله خبراً:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وإذا ترك التنوين فليس الاسم مع لا بمنزلة خمسة عشر، لأنه لو أراد ذلك لجعل لك خبراً وأظهر النون، أو أضمر خبراً ثم جاء بعدها بلك توكيداً، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء، لأنه موضع حذف وتخفيف، كما أن النداء كذلك.
وتقول أيضاً إن شئت: لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين، كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء بلك بعد ما بنى على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يَدَين بها لك، حين صيّره كأنه جاء بلك فيه بعد ما قال لا يَدين بها في الدنيا.
واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يك لك فإنما يُذهب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر، كما أُذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين فيها، ولا أبَ فيها؛ وأثبتوا النون لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جُعلا اسماً واحداً، ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء على حدّ التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف.
وإنما صارت الأسماء حين وَلِيَت لك بمنزلة المضاف لأنهم كأنهم ألحقوا اللام بعد اسمٍ كان مضافاً، كما أنك حين قلت: يا تيمَ تيمَ عَديّ فإنما ألحقتَ الاسم اسماً كان مضافاً، ولم يغيّر الثاني المعنى كما أن اللام لم تغيّر معنى لا أباكَ. وإذا قلت: لا أبَ فيها، فليست في من الحروف التي إذا لحقتْ بعد مضاف لم تغيّر المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن اللام لا تغيّر معنى المضاف الى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنّى به لا يغيّر المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثمّ صارت اللام بمنزلة الاسم يثنّى به.
وتقول: لا غلامَ وجارية فيها، لأن لا إنما تُجعل وما تعمل فيه اسماً واحداً إذا كانت الى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسةً من عشر، كذلك لم يستقم هذا لأنه مشبّه به، فإذا فارقه جرى على الأصل. قال الشاعر:
لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا

وتقول: لا رجلَ ولا امرأةً يا فتى إذا كنت لا بمنزلتها في ليس حين تقول: ليس لك لا رجلٌ ولا امرأة فيها. وقال رجل من بني سُليم، وهو أنس بن العبّاس:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلةً ... اتّسع الخَرقُ على الراقع
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةَ فيها، فتُعيد لا الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فتكون حالُ الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى، أثبتّ النون، لأن لكَ خبرٌ عنهما، والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد، لأن النون أقوى من التنوين، فلم يُجروا عليها ما أجرَوا على التنوين في هذا الباب؛ لأنه مفارِق للنون، ولأنها تثبت فيما لا يَثبت فيه.
واعلم أن كل شيء حسن لك أن تُعمل فيه تُبّ حسُن لك أن تعمِل فيه لا.
وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب: ولاسيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثلَ زيدٍ، وما لَغوٌ. وقال: ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ، وكقوله: " مثلاً ما بَعوضةٌ " ؛ فسيٌّ في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثمّ عملتْ فيه لا كما تعمل رُبّ في مثل، وذلك قولك: ربّ مثلِ زيدٍ. وقال أبو محجن الثقفي:
يا رُبّ مثلِكِ في النساء غريرةٍ ... بيضاءَ قد متّعْتُها بطَلاقِ
هذا باب
ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفيةوذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهى الاسم، فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يُحذف في النفي والنداء منتهى الاسم. وهو قولك: لا خيراً منه لك، ولا حسَناً وجهُه لك، ولا ضارباً زيداً لك؛ لأن ما بعد حسنٍ وضاربٍ وخيرٍ صار من تمام الاسم فقبح عندهم أن يحذفوا قبل أن ينتهوا الى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفي في أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهماً لك.
وقال الخليل رحمه الله: كذلك لا آمِراً بالمعروف لك، إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلتَه متصلاً به، كأنك قلت: لا آمِراً معروفاً لك. وإن قلت لا آمِرَ بمعروف، فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيتَ على الأول كلاماً، كقولك: لا آمِرَ في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمِر يوم الجمعة فيها؛ فيصير المبني على الأول مؤخَّراً، ويكون المُلغى مقدّماً. وكذلك لا راغباً الى الله لك، ولا مُغيراً على الأعداء لك، إذا جعلت الآخِر متصلاً بالأول كاتصال منك بأفعل. وإن جعلته منفصلاً من الأول كانفصال لك من سَقياً لك لم تنوّن، لأن يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت: لا آمراً يومَ الجمعة إذا نفيتَ الآمرينَ يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: لا آمرَ يومَ الجمعة فأنت تنفي الآمرين كلهم ثم أعلمت في أي حين. وإذا قلت لا ضارباً يوم الجمعة فإنما تنفي ضاربي يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره، وتجعل يوم الجمعة فيه منتهى الاسم. وإنما نوّنت لأنه صار منتهى الاسم اليوم، كما صار ما ذكرتُ منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخِره نحو واو مضروب وألف مُضارب، فنونت كما نونتَ في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه.
فنوِّنْ في هذا ما نوّنتَه في النداء مما ذكرت لك إلا النكرة فإن النكرة، في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء. ولا تعمل لا إلا في النكرة، تُجعل معها بمنزلة خمسة عشر، فالنكرة ههنا بمنزلة المعرفة هناك، إلا ما ذكرت لك.
؟
هذا باب وصف المنفياعلم أنك إذا وصفت المنفي فإن شئت نونت صفةَ المنفي وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا غلام ظريفاً لك، ولا غلامَ ظريفَ لك.
فأما الذين نوّنوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفي.
وأما الذين قالوا: لا غلامَ ظريفَ لك، فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
فإذا قلت: لا غلامَ ظريفاً لك، فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منوّناً؛ من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.
ومثل ذلك: لا غلامَ فيها ظريفاً، إذا جعلتَ فيها صفةً أو غير صفة.
وإن كررتَ الاسمَ فصار وصفاً فأنت فيه بالخيار، إن شئت نوّنتَ وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا ماءَ ماءَ بارداً، ولا ماءَ ماءَ بارداً. ولا يكون بارداً إلا منوّناً، لأنه وصفٌ ثانٍ.

؟
باب لا يكون الوصف فيه إلا منوناً
وذلك قولك: لا رجلَ اليوم ظريفاً ولا رجلَ فيها عاقلاً، إذا جعلت فيها خبراً أو لغواً، ولا رجلَ فيك راغباً، من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسمٍ واحد وقد فصلتَ بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر وخمسة في خمسة عشر.
ومما لا يكون الوصفُ فيه إلا منوناً قوله: لا ماء سماءٍ لك بارداً، ولا مثلَه عاقلاً، من قبل أن المضاف لا يُجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر، وإنما يذبه التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثمّ صار وصفُه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافاً لم يكن إلا منوناً كما يكون في غير باب النفي؛ وذلك قولك: لا ضارباً زيداً لك، ولا حسناً وجهَ الأخ فيها. فإذا كففتَ التنوين وأضفت كا بمنزلته في غير هذا الباب كما كان كذلك غيرَ مضاف، فلما صار التنوين إنما يُكَفّ للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: لا ماءَ ولا لبنَ، ثم وصفت اللبن، فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإذا جعلت الصفة للماء لم يكن الوصفُ إلا منوّناً؛ لأنه لا يُفصَل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمَراً أو مظهَراً، لأنهما قد صارا اسماً واحداً بمنزلة زيد، ويحتاجان الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تَيمُ تيمُ عديّ لم يستقم إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمار مكان.
؟باب لا تسقط فيه النون وإن وَلِيَتْ لك
وذلك قولك: لا غلامين ظريفين ولا مسلمين صالحين لك، من قبل أن الظريفين والصالحين نعتٌ للمنفي ومن اسمه، وليس واحدٌ من الاسمين ولِيَ لا ثم ولِيتَه لك، ولكنه وصف وموصوف، فليس للموصوف سبيل الى الإضافة. ولم يجئ ذلك في الوصف لأنه ليس بالمنفي، وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفي فلم يجز ذلك إلا في المنفي، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه، من الحذف والاستخفاف. وقد بُيّن ذلك.
؟
باب ما جرى على موضع المنفيلا على الحرف الذي عمل في المنفي فمن ذلك قول ذي الرّمة:
بها العِينُ والآرامُ لا عِدَّ عندَها ... ولا كَرَعٌ إلا المَغاراتُ والرَّبْلُ
وقال رجل من بني مَذحِج:
هذا لعَمرُكم الصَّغارُ بعينه ... لا أمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضاً قول العرب: لا مالَ له قليلٌ ولا كثير، رفعوه على الموضع.
ومثل ذلك أيضاً قول العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. وإن شئت حملتَ الكلام على لا فنصبت.
وتقول: لا مثلَه رجلٌ إذا حملته على الموضع، كما قال بعضُ العرب: لا حولَ ولا قوة إلا بالله. وإن شئت حملته على لا فنوّنته ونصبته. وإن شئت قلت: لا مثلَه رجلاً، على قوله: لي مثلُه غلاماً. وقال ذو الرمة:
هي الدار إذ مَيٌّ لاهْلِكِ جيرةٌ ... لياليَ لا أمثالَهنّ لياليا
وقال الخليل رحمه الله: يدلك على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ مرفوع، قولك: لا رجلَ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضل منك. ومثل ذلك: بحَسبك قول السّوْء، كأنك قلت: حسبك قولُ السّوْء.
وقال الخليل رحمه الله: كأنك قلت: رجلٌ أفضل منك، حين مثّله.
وأما قول جرير:
يا صاحبَيّ دنا الرّواحُ فسِيرا ... لا كالعشيةِ زائراً ومَزورا
فلا يكون إلا نصباً؛ من قبل أن العشية ليست بالزائر، وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائراً، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، فكاليوم كقولك في اليوم، لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب، كما قال: تالله رجلاً، وسبحان الله رجلاً، وإنما أراد: تالله ما رأيت رجلاً، ولكنه يترك الإظهار استغناءً، لأن المخاطَب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمَر فيه هذا الفعل، لكثرة استعمالهم إياه.
وتقول: لا كالعشية عشيةٌ، ولا كزيد رجلٌ؛ لأن الآخِر هو الأول، ولأن زيداً رجل، وصار لا كزيد كأنك قلت: لا أحدَ كزيد، ثم قلت رجلٌ، كما تقول: لا مال له قليلٌ ولا كثير، على الموضع. قال الشاعر، امرؤ القيس:
ويْلِمِّها في هواء الجوّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ

كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرتُ لك. وإن شئت نصبته على نصبه: فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفَدا كأنه قال: لا أحدَ كزيد رجلاً، وحمل الرجل على زيد، كما حمل المرفد على ذلك. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه لا مال له قليلاً ولا كثيراً.
ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولُهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.
؟باب ما لا تُغيّر فيه لا الأسماء عن حالها
التي كانت عليها قبل أن تدخل لاولا يجوز ذلك إلا أن تُعيد لا الثانية؛ من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية، إذا ادّعيتَ أن أحدهما عنده. ولا يحسن إلا أن تُعيد لا، كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.
وإذا قال لا غلامَ، فإنما هي جوابٌ لقوله: هل من غلام، وعملتْ لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء، كما عملتْ مِن في الغلام وإن كان في موضع ابتداء.
فمما لا يتغير عن حاله قبل أن تدخل عليه لا قولُ الله عز وجلّ ذكره: " لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون " . وقال الشاعر، الراعي:
وما صرَمْتُكِ حتى قلتِ مُعلنةً ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ
وقد جُعلت، وليس ذلك بالأكثر، بمنزلة ليس.
وإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا، في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك:
مَن صدّ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
واعلم أن المعارف لا تجري مجرى النكرة في هذا الباب، لأن لا لا تعمل في معرفة أبداً. فأما قول الشاعر: لا هيثَمَ الليلةَ للمَطيّ فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهيثمَين. ومثل ذلك: لا بضرةَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدي:
أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيبٍ ... نكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلادِ
وتقول: قضية ولا أبا حسن، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليّا رضي الله عنه فقال: لأنه لا يجوز لك أن تعمِل لا في معرفة، وإنما تعملها في النكرة فإذا جعلت أبا حسنٍ نكرة حسن لك أن تعمِل لا، وعلم المخاطَب أنه قد دخل في هؤلاء المنكورين عليٌّ، وأنه قد غُيِّب عنها.
فإن قلت: إنه لم يُردْ أن ينفي كل من اسمُه علي؟ فإنما أراد أن ينفي منكورين كلهم في قضيته مثلُ عليّ كأنه قال: لا أمثالَ عليّ لهذه القضية، ودلّ هذا الكلام على أنه ليس لها عليّ، وأنه قد غيّب عنها.
وإن جعلته نكرةً ورفعته كما رفعت لا بَراحُ، فجائز. ومثله قول الشاعر، مُزاحم العُقَيلي:
فرَطْنَ فلا ردّ لما بُتّ وانقضى ... ولكن بغوضٌ أن يقالَ عديمُ
وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة، ولا تثنى لا. قال الشاعر:
بكتْ جزعاً واسترجعت ثم آذنتْ ... ركائبها أن لا إلينا رجوعُها
واعلم أنك إذا فصلت بين لا وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد لا الثانية، لأنه جُعل جواب: أذا عندك أم ذا؟ ولم تُجعل لا في هذا الموضع بمنزلة ليس، وذلك لأنهم جعلوها، إذا رفعتْ، مثلها إذا نصبتْ؛ لا تفصل لأنها ليست بفعل.
فمما فُصل بينه وبين لا بحشوٍ قوله جل ثناؤه: " لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون " . ولا يجوز لا فيها أحد إلا ضعيفاً، ولا يحسن لا فيك خيرٌ؛ فإن تكلّمت به لم يكن إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل إذا فُصل بينها وبين الاسم، رافعةً ولا ناصبة، لما ذكرت لك.
وتقول: لا أحد أفضل منك، إذا جعلته خبراً، وكذلك: لا أحدَ خيرٌ منك: قال الشاعر:
وردّ جازرُهم حَرفاً مُصَرّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مصبوحُ
لما صار خبراً جرى على الموضع؛ لأنه ليس بوصف ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحدَ فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويُجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمَل عليها. ولم تُجعل لا التي كليس مع ما بعدها كاسم واحد، لئلا يكون الرافع كالناصب. وليس أيضاً كل شيء يخالف بلفظه يجري مجرى ما كان في معناه.
؟
باب لا تجوز فيه المعرفة إلاأن تُحمَل على الموضع لأنه لا يجوز للا أن تعمل في معرفة، كما لا يجوز ذلك لربّ

فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العبّاسُ. فإن قلت: أحملُه على لا؟ فإنه ينبغي لك أن تقول: ربّ غلامٍ لك والعباس، وكذلك لا غلام لك وأخوه.
فأما من قال: كلَّ شاة وسخلتِها بدرهم فإنه ينبغي له أن يقول: لا رجلَ لك وأخاه، لأنه كأنه قال: لا رجلَ لك وأخاً له.
؟
باب ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله
التي كان عليها قبل أن تلحقوذلك لأنها لحقت ما قد عمل فيه غيرُها، كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيّرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية لا، كما لا تثنّي لا في الأفعال التي هي بدل منها.
وذلك قولك: لا مرحَباً ولا أهلاً، ولا كرامةً، ولا مسرّةً، ولا شللاً، ولا سقياً ولا رَعياً، ولا هنيئاً ولا مريئاً، صارت لا مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه لا، لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق لا.
ومثل ذلك: لا سلامٌ عليك، لم تغيّر الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق.
وقال جرير:
ونُبّئتُ جوّاباً وسَكناً يسبّني ... وعمرو بن عفرا لا سلامٌ على عمرِو
فلم يلزمك في ذا تثنية لا، كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه، وذلك لا سلّم الله عليه. فدخلتْ في ذا الباب لتنفي ما كان دُعاء كما دخلت على الفعل الذي هو بدلٌ من لفظه.
ومثلُ لا سلامٌ على عمرو: لا بك السّوْء؛ لأن معناه لا ساءك الله.
ومما جرى مجرى الدعاء مما هو تطلُّقٌ عند طلب الحاجة وبشاشة، نحو كرامةً ومسرّةً ونُعمةَ عين. فدخلتْ على هذا كما دخلتْ على قوله: ولا أُكرمُك ولا أسُرّك، ولا أُنعمُك عيناً. ولو قبح دخولها هنا لقبح في الاسم، كما قبح في لا ضَرباً، لأنه لا يجوز: لا اضربْ، في الأمر.
وقد دخلت في موضع غير هذا فلم تغيّره عن حاله قبل أن تدخله، وذلك قولهم: لا سَواء، وإنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعتْ عليه سواء. ألا ترى أنك لا تقول هذان لا سواءٌ، فجاز هذا كما جاز: لا ها اللهِ ذا، حين عاقبتْ ولم يجز ذكر الواو.
وقالوا: لا نَوْلك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقِباً لقوله: لا ينبغي أن تفعل كذا وكذا، وصار بدلاً منه، فدخل فيه ما دخل في ينبغي، كما دخل في لا سلامٌ ما دخل في سلّم.
واعلم أن لا قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء، وذلك نحو قولك: أخذتَه بلا ذَنب، وأخذته بلا شيء، وغضبتَ من لا شيء، وذهبتَ بلا عتاد؛ والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد، وأخذتَه بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل غيراً شيئاً أخذه به يعتدّ به عليه.
ومثل ذاك قولك للرجل: أجئتَنا بغير شيء، أي رائقاً.
وتقول إذا قلّلتَ الشيءَ أو صغّرتَ أمره: ما كان إلا كلا شيء، وإنك ولا شيئاً سواءٌ. ومن هذا النحو قول الشاعر، وهو أبو الطّفيل:
تركتَني حين لا مالٍ أعيشُ به ... وحين جُنّ زمانُ الناس أو كَلِبا
والرفع عربي على قوله: حين لا مُستَصْرَخُ و: لا بَراحُ والنصبُ أجودُ وأكثر من الرفع؛ لأنك إذا قلت لا غلامَ فهي أكثر من الرافعة التي بمنزلة ليس. قال الشاعر، وهو العجّاج: حنّت قَلوصي حين لا حينَ مَحَنّْ وأما قول جرير:
ما بالُ جهلِك بعد الحِلم والدين ... وقد علاكَ مَشيبٌ حين لا حينِ
فإنما هو حينَ حينٍ، ولا بمنزلة ما إذا أُلغيتْ.
واعلم أنه قبيح أن تقول: مررتُ برجل لا فارسٍ، حتى تقول: لا فارسٍ ولا شجاع. ومثلُ ذلك: هذا زيدٌ لا فارساً، لا يحسن حتى تقول: لا فارساً ولا شجاعاً. وذلك أنه جوابٌ لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجلٍ شجاع مررتَ أم بفارسٍ؟ وكقوله: أفارسٌ زيدٌ أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجلٌ من بني سَلول:
وأنتَ امرؤٌ منا خُلقتَ لغيرنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبراً للأسماء، نحو: زيدٌ لا فارسٌ ولا شجاع.
واعلم أن لا في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله، البيت لحسّان بن ثابت:
ألا طِعانَ ولا فُرسانَ عاديةً ... إلا تَجشّؤُكم عند التنانيرِ
وقال في مثل: أفلا قُماصَ بالعَير.
ومن قال: لا غلام ولا جارية، قال: ألا غلامٌ وألا جارية.

واعلم أن لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملتْ فيما بعدها فنصبته، ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر، وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر. فمن ذلك: ألا غلامَ لي وألا ماءَ بارداً. ومن قال: لا ماءَ باردَ قال: ألا ماء باردَ.
ومن ذلك: ألا أبا لي، وألا غلامَيْ لي.
وتقول: ألا غلامين أو جاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك.
وتقول: ألا ماءَ ولبناً كما قلت: لا غلامَ وجاريةً لك، تُجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرتُ لك.
وسألت الخليل رحمه الله عن قوله:
ألا رجلاً جزاه الله خيراً ... يدلّ على محصلةٍ تبيتُ
فزعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلاّ خيراً من ذلك، كأنه قال: ألا تُروني رجلاً جزاه الله خيراً.
وأما يونس فزعم أنه نوّن مضطراً، وزعم أن قوله: لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً على الاضطرار. وأما غيره فوجّهه على ما ذكرتُ لك. والذي قال مذهب.
ولا يكون الرفع في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: أذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع معنى ليس.
وتقول: ألا ماء وعسلاً بارداً حلواً، لا يكون في الصفة إلا التنوين، لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلتَ البرد للماء، والحلاوةَ للعسل.
ومن قال: لا غلامَ أفضلُ منك، لم يقل في ألا غلامَ أفضلَ منك إلا بالنصيب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنياً عن الخبر كاستغناء اللهمّ غلاماً، ومعناه اللهم هب لي غلاماً.
؟
هذا باب الاستثناءفحرفُ الاستثناء إلا. وما جاء من الأسماء فيه معنى إلا فغيرٌ، وسوًى. وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون، وليس، وعدا، وخلا. وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشى وخلا في بعض اللغات.
وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله عز وجل الأولَ فالأول.
؟
باب ما يكون استثناء بإلااعلم أن إلا يكون الاسم بعدها على وجهين: فأحدُ الوجهين أن لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن لا حين قلت: لا مرحباً ولا سلامٌ، لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى.
والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجاً مما دخل فيه ما قبله، عاملاً فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهماً.
فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه، وذلك قوله: ما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً، وما مررتُ إلا بزيدٍ، تُجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيدٌ، وما لقيتُ زيداً، وما مررتُ بزيد، ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفي ما سواها، فصارت هذه الأسماء مُستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلا؛ لأنها بعد إلا محمولة على ما يجرّ ويرفع وينصب، كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلا، ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلا الفعلَ بغيرها.
؟باب ما يكون المستثنى فيه بدلاً مما
نفى عنه ما أُدخل فيه وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، وما رأيتُ أحداً إلا زيداً، جعلت المستثنى بدلاً من الأول، فكأنك قلت: ما مررتُ إلا بزيدٍ، وما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً. كما أنك إذا قلت: مررت برجلٍ زيدٍ، فكأنك قلت: مررتُ بزيدٍ. فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلاً من الذي قبله، لأنك تُدخله فيما أخرجتَ منه الأول.
ومن ذلك قولك: ما أتاني القومُ إلا عمرو، وما فيها القومُ إلا زيدُ، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررتُ بالقوم إلا أخيك. فالقوم ههنا بمنزلة أحد.
ومن قال: ما أتاني القومُ إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القومُ إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول: " ما فعلوه إلا قليلاً منهم " .

وحدّثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجهُ ما أتاني القومُ إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أتاني أحدٌ، ولكن المستثنى في هذا الموضع مبدَلٌ من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: " ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُم " ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذاك إلا زيد، لأنه ذكر واحداً.
ومن ذلك أيضاً: ما فيهم أحدٌ اتخذتُ عنده يداً إلا زيدٌ، وما فيهم خيرٌ إلا زيدٌ، إذا كان زيد هو الخير.
وتقول: ما مررتُ بأحد يقول ذاك إلا عبدِ الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. هذا وجه الكلام. وإن حملتَه على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيد ورفعت فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن شئت رفعت فعربيّ. قال الشاعر، وهو عديّ بن زيد:
في ليلةٍ لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبُها
وكذلك ما أظن أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن رفعتَ فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، وإن شئت رفعت.
وإنما اختير النصبُ هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدَل منه، وأن لا يكون بدلاً إلا من منفيّ، فالمبدَل منه منصوب منفي ومضمَره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلاً منه لأنه هو المنفي، وهذا وصف أو خبر وقد تكلموا بالآخر، لأن معناه النفي إذا كان وصفاً لمنفي، كما قالوا: قد عرفت زيدٌ أبو مَن هو، لما ذكرتُ لك، لأن معناه معنى المستفهَم عنه.
وقد يجوز: ما أظن أحداً فيها إلا زيدٌ، ولا أحدَ منهم اتخذتُ عنده يداً إا زيدٍ، على قوله: إلا كواكبُها.
وتقول: ما ضربتُ أحداً يقول ذاك إلا زيداً، لا يكون في ذا إلا النصب، وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلِك، ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد، ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيداً. والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدٌ، ولكنك قلت رأيتُ أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل رحمه الله: ألا ترى أنك تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقوله إلا عمرو. فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضعَ فعل كضربتُ وقتلت، ولكنه فعلٌ بمنزلة ليس يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك.
وتقول: أقلّ رجلٍ يقول ذاك إلا زيدٌ، لأنه صار في معنى ما أحدٌ فيها إلا زيد.
وتقول: قلّ رجلٌ يقول ذاك إلا زيدٌ، فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في قلّ، ولكن قلّ رجلٌ في موضع أقلُّ رجل، ومعناه كمعناه. وأقلّ رجلٍ مبتدأ مبنيّ عليه، والمستثنى بدل منه؛ لأنك تُدخله في شيء تُخرج منه مَن سواه.
وكذلك أقلّ من يقول ذلك، وقلّ من يقول ذاك، إذا جعلتَ مَن بمنزلة رجلٍ. حدّثنا بذلك يونس عن العرب، يجعلونه نكرة، كما قال:
ربّ ما تكره النفوسُ مِن الأ ... مر له فَرجةٌ كحلِّ العِقالِ
فجعل ما نكرة.
؟باب ما حُمل على موضع العامل
في الاسم والاسملا على ما عمل في الاسم، ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب.
وذلك قولك: ما أتاني من أحدٍ إلا زيدٌ، وما رأيت من أحدٍ إلا زيداً.
وإنما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنه خلفٌ أن تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلاً منه كأنه قال: ما أتاني أحد إلا فلان؛ لأن معنى ما أتاني أحد وما أتاني من أحدٍ واحدٌ، ولكن مِن دخلت هنا توكيداً، كما تدخل الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام، وفي: ما أنت بفاعل، ولستَ بفاعلٍ.
ومثل ذلك: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، من قبل أن بشيء في موضع رفع في لغة بني تميم، فلما قبُح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع، وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، استوت اللغتان، فصارت ما على أقيس الوجهين؛ لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به فكأنك قلت: ما أنت إلا شيء لا يُعبَأ به.

وتقول: لستَ بشيء إلا شيئاً لا يُعبَأ به، كأنك قلت: لستَ إلا شيئاً لا يُعبَأ به، والباء ههنا بمنزلتها فيما قال الشاعر:
يا ابْنَيْ لُبَينَي لستُما بيدٍ ... إلا يداً ليست لها عضُدُ
ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدأ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ، من قبل أنه خلفٌ أن تحمل المعرفة على مِن في ذا الموضع، كما تقول لا أحدَ فيها لا زيدٌ ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تُحمل على لا؛ وذلك أن هذا الكلام جواب لقوله: هل مِن أحد، أو هل أتاك من أحد؟ وتقول: لا أحدَ رأيته إلا زيد، إذا بنيتَ رأيته على الأول، كأنك قلت: لا أحدَ مرئي. وإن جعلت رأيته صفةً فكذلك، كأنك قلت لا أحدَ مرئياً.
وتقول: ما فيها إلا زيدٌ، وما علمتُ أن فيها إلا زيداً. فإن قلبتَه فجعلتَه يلي أن وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يَجز؛ لأنهما ليسا بفعل فيُحتمل قلبُهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلا ذاهباً، ولكنه لما طال الكلام قويَ واحتُمل ذلك، كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتزداد حُسناً. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.
وتقول: إن أحداً لا يقول ذاك، وهو ضعيف خبيث، لأن أحداً لا يستعمل في الواجب، وإنما نفيتَ بعد أن أوجبتَ، ولكنه قد احتُمل حيث كان معناه النفي، كما جاز في كلامهم: قد عرفتُ زيدٌ أبو مَن هو، حيث كان معناه أبو مَن زيدٌ. فمن أجاز هذا قال: إن أحداً لا يقول هذا إلا زيداً، كما أنه يقول على الجواز: رأيتُ أحداً لا يقول ذاك إلا زيداً، يصير هذا بمنزلة ما أعلمُ أن أحداً يقول ذاك، كما صار هذا بمنزلة ما رأيتُ حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت إلا زيدٌ، فحملته على يقول، كما جاز: يحكي علينا إلا كواكبُها وليس هذا في القوة كقولك: لا أحدَ فيها إلا زيدٌ، وأقلُّ رجلٍ رأيتُه إلا عمرو؛ لأن هذا الموضع إنما ابتُدئ مع معنى النفي، وهذا موضعُ إيجاب، وإنما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر، فجاز الاستثناء أن يكون بدلاً من الابتداء، حين وقع منفياً. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولاً لو لم يقل أقلُّ رجلٍ ولا رجلَ، لأن الاستثناء لابد له ها هنا من النفي. وجاز أن يُحمل على إن هاهنا، حيث صارت أحد كأنها منفية.
؟باب النصب فيما يكون مستثنى مبدَلاً
حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعاً أن بعض العرب الموثوقَ بعربيته يقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً، وما أتاني أحدٌ إلا زيداً. وعلى هذا: ما رأيت أحداً إلا زيداً، فينصب زيداً على غير رأيت؛ وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول. والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى: ولكن زيداً، ولا أعني زيداً. وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً.
ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفُلان والله مالاً إلا أنه شقيّ؛ فأنه لا يكون أبداً على إن لفلان، وهو في موضع نصبٍ وجاء على معنى: ولكنه شقيّ.
؟هذا بابٌ يختار فيه النصب
لأن الآخِر ليس من النوع الأول وهو لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: ما فيها أحد إلا حماراً، جاءوا به على معنى ولكن حماراً، وكرهوا أن يُبدلوا الآخِر من الأول، فيصيرَ كأنه من نوعه، فحُمل على معنى ولكن، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.
وأما بنو تميم فيقولون: لا أحدَ فيها إلا حمارٌ، أرادوا ليس فيها إلا حمار، ولكنه ذكر أحداً توكيداً لأن يُعلم أن ليس فيها آدميّ، ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمارٌ. وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
فإن تُمسِ في قبرٍ برَهوَةَ ثاوياً ... أنيسُك أصداءُ القبور تصيحُ
فجعلهم أنيسَه. ومثل ذلك قوله: ما لي عتابٌ إلا السيف، جعله عتابه. كما أنك تقول: ما أنت إلا سيراً، إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت بنو تميم قولَ النابغة الذبياني:
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّندِ ... أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... عيّتْ جواباً وما بالرّبع من أحدِ

إلا أُواريُّ لأياً ما أبيّنها ... والنّؤيُ كالحوض بالمظلومة الجلَدِ
وأهل الحجاز ينصبون.
ومثل ذلك قوله:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلا اليَعافيرُ وإلا العيسُ
جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسّرته في الحمار أول مرة.
وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدلٌ.
ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف، هو بمنزلة التكلف. وإنما يجيء هذا على معنى ولكنْ. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ ذكره: " ما لهم به من عِلمٍ إلا اتّباعَ الظنّ " ، ومثله: " وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريحَ لهم ولا هُم يُنقَذون. إلا رحمةً منا " . ومثل ذلك قول النابغة:
حلفتُ يميناً غيرَ ذي مَثنَوِيةٍ ... ولا عِلمَ إلا حُسنَ ظنٍّ بصاحبِ
وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون اتّباع الظن علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلّف سلطانه. وهم يُنشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعاً:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا.
وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتّباع الظن علمَهم. وإن شئت كانت على ما فسّرتُ لك في الحمار إذا لم تجعله أنيسَ ذلك المكان. وقال الحارث بن عُبار:
والحربُ لا يبقى لجا ... حمِها التّخيلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبّارُ في الن ... جَدَات والفرسُ الوَقاحُ
وقال:
لم يغذُها الرِّسلُ ولا أيسارُها ... إلا طريُّ اللحمِ واستجزارُها
وقال:
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا النّبلُ إلا المشرَفيّ المصَمّمُ
وهذا يقوي: ما أتاني زيدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه إخوانُكم إلا إخوانُه؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.
؟
باب ما لا يكون إلا على معنى ولكنفمن ذلك قوله تعالى: " لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم " أي ولكن من رحم. وقوله عز وجلّ: " فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لمّا آمنوا " أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل: " فلولا كانَ من القرون من قبلِكم أولوا بقيةٍ ينهونَ عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم " ، أي ولكن قليلاً مما أنجينا منهم. وقوله عز وجلّ: " أُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربُّنا الله " ، أي ولكنهم يقولون: ربُنا الله.
وهذا الضربُ في القرآن كثير.
ومن ذلك من الكلام: لا تكوننّ من فلان في شيء إلا سلاماً بسلام.
ومثل ذلك أيضاً من الكلام فيما حدّثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ. فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضّرر. كما أنك إذا قلت: ما أحسنَ ما كلّم زيداً، فهو ما أحسنَ كلامَ زيداً. ولولا ما لم يجز الفعل بعدُ إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسنَ بغير ما، كأنه قال: ولكنه ضرّ، وقال: ولكنه نقص. هذا معناه.
ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِراعِ الكتائب
أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدي:
فتى كمُلت خيراتُه غير أنه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق:
وما سجنوني غيرَ أني ابنُ غالبٍ ... وأني من الأثرَيْنَ غير الزّعانفِ
كأنه قال: ولكني ابنُ غالب. ومثل ذلك في الشعر كثيرٌ. ومثل ذلك قوله، وهو قول بعض بني مازن يقال له عنزُ بن دجاجة:
من كان أشركَ في تفرّق فالجٍ ... فلَبُونه جرِبَت معاً وأغدّتِ
إلا كناشرةَ الذي ضيّعتُم ... كالغُصن في غُلوائه المنبّتِ
كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال:
لولا ابنُ حارثة الأميرُ لقد ... أغضيْتَ من شتمي على رغمِ
إلا كمُعرضٍ المحسّرِ بَكرَه ... عَمداً يسبّبُني على الظُلْم
؟باب ما تكون فيه أنّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء

وذلك قولهم ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا، فأنّ في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولُهم كذا وكذا.
ومثل ذلك قولهم: ما منعني إلا أن يغضب عليّ فلانٌ.
والحجةُ على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطاب حدّثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم، مَن يُنشد هذا البيت رفعاً للكناني:
لم يمنع الشربَ منها غيرُ أنْ نطقَتْ ... حمامة في غصونٍ ذات أوقالِ
وزعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل رحمه الله: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة:
على حين عاتَبتُ المشيبَ على الصّبا ... وقلتُ ألمّا أصْحُ والشيبُ وازعُ
كأنه جعل حين وعاتبتُ اسماً واحداً.
؟
باب لا يكون المستثنى فيه إلا نصباً
لأنه مخرَجٌ مما أدخلت فيه غيره، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت: له عشرون درهماً. وهذا قول الخليل رحمه الله، وذلك قولك: أتاني القومُ إلا أباك، ومررتُ بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك وانتصب الأب إذ لم يكن داخلاً فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العاملُ فيه ما قبله من الكلام؛ كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمولٍ على ما حُملت عليه وعمل فيها.
وإنما منع الأبَ أن يكون بدلاً من القوم أنك لو قلت أتاني إلا أبوك كان مُحالاً. وإنما جاز ما أتاني القومُ إلا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول: ما أتاني إلا أبوك فالمبدَل إنما يجيء أبداً كأنه لم يُذكَر قبله شيء لأنك تُخلي له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: ما أتاني القومُ إلا أبوك فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك.
وتقول: ما فيهم أحدٌ إلا وقد قال ذلك إلا زيداً، كأنه قال: قد قالوا ذلك إلا زيداً.
؟
باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً
بمنزلة مثلٍ وغيرٍ
وذلك قولك: لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبنا.
والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكْنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلتَ. ونظر ذلك قوله عزّ وجلّ: " لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدَتا " .
ونظير ذلك من الشعر قوله، وهو ذو الرمة:
أنيخَت فألقتْ بلدةً فوق بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
كأنه قال: قليلٍ بها الأصوات غيرُ بغامها، إذا كانت غيرُ غيرَ استثناء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضّرَر " ، وقوله عزّ وجلّ ذكره: " صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوبِ عليهم " . ومثل ذلك في الشعر للبيد بن ربيعة:
وإذا أُقرضتَ قرضاً فاجرِه ... إنما يجزي الفتى غيرُ الجملْ
وقال أيضاً:
لو كان غيري سُليمى اليومَ غيّرَهُ ... وقعُ الحوادث إلا الصارمُ الذّكرُ
كأنه قال: لو كان غيري غيرُ الصارم الذكر، لغيّره وقع الحوادث، إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيّره شيء.
وإذا قال: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت إلا زيد بدلاً، وإن شئت جعلته صفةً. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدٌ وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل، وإنما يجوز ذلك صفة.
ونظير ذلك من كلام العرب أجمعون، لا يجري في الكلام إلا على اسم، ولا يعمل فيه ناصبٌ ولا رافعٌ ولا جارّ.
وقال عمرو بن معدي كرب:
وكلُ أخٍ مُارقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ
كأنه قال: وكلُ أخ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، إذا وصفتَ به كُلاً، كما قال الشمّاخ:
وكلُ خليلٍ غيرُ هاضم نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعازرُ
ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون، لأنك لا تضمِر الاسم الذي هذا من تمامه، لأن أنْ يكون اسماً.
؟هذا باب ما يقدَّم فيه المستثنى
وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحدٌ، وما لي إلا أباك صديقٌ.

وزعم الخليل رحمه الله أنهم إنما حملهم على نصب هذا أن المستثني إنما وجهه عندهم أن يكون بدلاً ولا يكون مبدَلاً منه؛ لأن الاستثناء إنما حدّه أن تَدارَكَه بعد ما تنفي فتُبدِله، فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخّرتَ المستثني، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفةً في قولهم: فيها قائماً رجلٌ، حملوه على وجه قد يجوز لو أخّرتَ الصفة، وكان هذا الوجهُ أمثلَ عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه. قال كعب بن مالك:
الناسُ ألبٌ علينا فيك، ليس لنا ... إلا السيوفَ وأطرافَ القنا وزَرُ
سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم، كراهية أن يجعلوا ما حدُّ المستثني أن يكون بدلاً منه بدلاً من المستثنى.
ومثل ذلك: ما لي إلا أباك صديقٌ.
فإن قلت: ما أتاني أحدٌ إلا أبوك خيرٌ من زيد، وما مررتُ بأحدٍ إلا عمرو خيرٍ من زيد وما مررتُ بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيدٍ، كان الرفع والجرّ جائزين، وحسُن البدل لأنك قد شغلت الرافعَ والجارّ، ثم أبدلتَه من المرفوع والمجرور، ثم وصفتَ بعد ذلك.
وكذلك: مَن لي إلا أبوك صديقاً؛ لأنك أخليت مَن للأب ولم تُفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ.
وقد قال بعضهم: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً خيرٍ منه، وكذلك مَن لي إلا زيداً صديقاً، وما لي أحدٌ إلا زيداً صديقٌ؛ كرهوا أن يقدّموا وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصباً، كما كرهوا أن يقدَّم قبل الاسم إلا نصباً.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحداً بدلاً كما قالوا: ما مررتُ بمثله أحد، فجعلوه بدلاً. وإن شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقاً، كأنك قلت: لي أبوك صديقاً، كما قلت: مَن لي إلا أبوك صديقاً حين جعلتَه مثلَ: ما مررتُ بأحدٍ إلا أبيك خيراً منه. ومثله قول الشاعر، وهو الكَلحَبة الثعلبي:
أمرتُكمُ أمري بمنقطَع اللِّوى ... ولا أمرَ للمَعصيّ إلا مضيَّعا
كأنه قال: للمعضيّ أمرٌ مضيّعا، كما جاز فيها رجلٌ قائماً. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضاً على قوله: لا أحدَ فيها إلا زيداً.
؟
هذا باب
ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخياروذلك قولك: ما لي إلا زيداً صديقٌ وعمراً وعمرٌو، ومَن لي إلا أباك صديقٌ وزيداً وزيدٌ.
أما النصب فعلى الكلام الأول، وأما الرفع فكأنه قال: وعمرو لي، لأن هذا المعنى لا ينقضُ ما تريد في النصب. وهذا قول يونسَ والخليل رحمهما الله.
هذا باب تثنية المستثنىوذلك قولك: ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمراً. ولا يجوز الرفعُ في عمرو، من قبل أن المستثنى لا يكون بدلاً من المستثنى. وذلك أنك لا تريد أن تُخرج الأول من شيء تُدخل فيه الآخِر.
وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيداً إلا عمرٌو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيد منتصباً من حيث انتصب عمرو، فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبتَ الآخِر ورفعت الأول.
وتقول: ما أتاني إلا عمراً إلا بِشراً أحدٌ، كأنك قلت: ما أتاني إلا عمراً أحدٌ إلا بِشرٌ، فجعلتَ بشراً بدلاً من أحد ثم قدّمت بشراً فصار كقولك: ما لي إلا بشراً أحدٌ؛ لأنك إذا قلت: ما لي إلا عمراً أحدٌ إلا بشرٌ، فكأنك قلت: ما لي أحدٌ إلا بشرٌ.
والدليل على ذلك قول الشاعر، وهو الكُميتُ:
فما لي إلا اللهُ لا رَبَّ غيرَه ... وما لي إلا اللهَ غيرَك ناصرُ
فغيرَك بمنزلة إلا زيداً.
وأما قوله، وهو حارثة بن بدر الغُدانيّ:
يا كعبُ صبراً على ما كان من حدثٍ ... يا كعبُ لم يبقَ منا غيرُ أجلادِ
إلا بقيّاتُ أنفاسٍ تُحشرِجُها ... كراحلٍ رائحٍ أو باكرٍ غادي
فإن غير ههنا بمنزلة مثل، كأنك قلت: لم يبقَ منها مثلُ أجلادٍ إلا بقياتُ أنفاس.
وعلى ذا أنشدَ بعض الناس هذا البيت رفعاً للفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دار الخليفة إلا دارُ مروانِ
جعلوا غير صفة بمنزلة مثل، ومَن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدَهما، وهو قول ابن أبي إسحاق.
وأما إلا زيدٌ فإنه لا يكون بمنزلة مثل إلا صفة.

ولو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جيداً، إذا كان أبو عبد الله زيداً ولم يكن غيره، لأن هذا يكرَّر توكيداً، كقولك: رأيت زيداً زيداً.
وقد يجوز أن يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أن تقول: رأيتُ زيداً عمراً، لأه إنما أراد عمراً فنسي فتدارك.
ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أن تبيّن وتُوضحَ قوله:
ما لك من شيخِك إلا عملُه ... إلا رسيمُه وإلا رَمَلُهْ
؟
هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلاوذلك قولك: ما مررتُ بأحد إلا زيدٌ خيرٌ منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيدٌ خيرٌ منهم، إلا أنك أدخلت إلا لتجعل زيداً خيراً من جميع من مررتَ به.
ولو قال: مررتُ بناس زيدٌ خيرٌ منهم، لجاز أن يكون قد مرّ بناس آخرين هم خيرٌ من زيد، فإنما قال: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه ليخبر أنه لم يمرّ بأحدٍ يفضل زيداً.
ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. فأنْ أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا، وهو مبنيّ على حِلّ، وحِلّ مبتدأ، كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
وأما قولهم: والله لا أفعلُ إلا أن تفعل، فأنْ تفعل في موضع نصب، والمعنى حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل. والأول مبتدأ ومبني عليه.
؟
هذا باب غيراعلم أن غيراً أبداً سوى المضاف إليه، ولكنه يكون فيه معنى إلا فيُجرى مُجرى الاسم الذي بعد إلا، وهو الاسم الذي يكون داخلاً فيما يخرج منه غيره وخارجاً مما يدخل فيه غيره.
فأما دخوله فيما يخرج منه غيرُه فأتاني القومُ غيرَ زيد، فغيرهم الذين جاءوا ولكن فيه معنى إلا، فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا.
وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غيرُ زيدٍ. وقد يكون بمنزلة مثل ليس فيه معنى إلا.
وكلُ موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بغيْر، وجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا، لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا. ولو جاز أن تقول: أتاني القومُ زيداً، تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصباً.
ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يُبتدأ بعد إلا؛ وذلك أنهم لم يجعلوا فيه معنى إلا مبتدأ، وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويُجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال: أتاني غيرُ عمرٍو كان قد أخبر أنه لم يأته وإن كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه، فقد يُستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني غيرُ زيد، يريد بها منزلة مثل لكان مُجزِئاً من الاستثناء، كأنه قال: ما أتاني الذي هو غيرُ زيد، فهذا يُجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيدٌ.
باب ما أُجري على موضع غير
لا على ما بعد غير .زعم الخليل رحمه الله ويونس جميعاً أنه يجوز: ما أتاني غيرُ زيد وعمرو. فالوجه الجرّ. وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيدٌ وفي معناه، فحملوه على الموضع كما قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا فلما كان في موضع إلا زيدٌ وكان معناه كمعناه، حملوه على الموضع.
والدليل على ذلك أنك إذا قلت غيرُ زيد فكأنك قد قلت إلا زيد. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني غيرُ زيد وإلا عمرٌو، فلا يقبحُ الكلام، كأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
؟باب يُحذف المستثنى فيه استخفافاً
وذلك قولك: ليس غيرُ، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطَب وما يعني.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيتُه في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحدٌ مات. ومثل ذلك قوله تعالى جده: " وإن مِن أهلِ الكتاب إلا لَيُؤمننّ به قبلَ موته " . ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
كأنك من جِمال بني أُقَيشٍ ... يقعقَعُ خلفَ رجليْه بشّنِّ
أي كأنك جملٌ من جمال بني أقيش.
ومثل ذلك أيضاً قوله:
لو قلتَ ما في قومها لم تيثَمِ ... يَفضُلُها في حَسبٍ وميسَمِ
يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا هذا كما قالوا: لو أن زيداً هنا، وإنما يريدون: لكان كذا وكذا. وقولهم: ليس أحدٌ أي ليس هنا أحدٌ. فكل ذلك حُذف تخفيفاً، واستغناء بعلم المخاطَب بما يعني.
ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مُقبل:

وما الدهرُ إلا تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكدحُ
إنما يريد منهما تارة أموت وأخرى.
ومثل قولهم ليس غير: هذا الذي أمسِ، يريد الذي فعل أمس.
وقوله، وهو العجّاج: بعد اللَّتيّا واللّتيا والتي فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام الاسم.
؟
باب لا يكون وليس وما أشبههمافإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإن فيهما إضماراً، على هذا وقع فيهما معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهي في حسبك إلا أن يكون مبتدأ.
وذلك قولك: ما أتاني القومُ ليس زيداً، وأتوني لا يكون زيداً، وما أتاني أحدٌ لا يكون زيداً، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطَب عنده قد وقع في خلَده أن بعض الآتين زيدٌ، حتى كأنه قال: بعضُهم زيدٌ، فكأنه قال: ليس بعضهم زيداً. وترك إظهار بعضٍ استغناء، كما ترك الإظهار في لاتَ حينَ.
فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما.
وقد يكون صفة، وهو قول الخليل رحمه الله. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ ليس زيداً، وما أتاني رجل لا يكون بشراً إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك: ما أتاني أحدٌ لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول في موضع قائلٌ ذاك.
ويدلّك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةٌ لا تكون فلاة، وما أتتني امرأة ليست فلانة. فلو لم يجعلوه صفةً لم يؤنّثوه لأن الذي لا يجيء صفة فيه إضمار مذكَّر. ألا تراهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس فلانة، يريد: ليس بعضُهن فلانة، والبعض مذكّر.
وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا يكون، وهو إضمارٌ قصته فيهما قصته في لا يكون وليس. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، وأتاني القومُ عدا عمراً، كأنك قلت: جاوز بعضُهم زيداً. إلا أن خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثّل لك به، وإن كان لا يُستعمل في هذا الموضع.
وتقول: أتاني القومُ ما عدا زيداً، وأتَوني ما خلا زيداً. فما هنا اسمٌ، وخلا وعدا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز بعضُهم زيداً. وما هم فيها عدا زيداً، كأنه قال: ما هم فيها ما جوز بعضُهم زيداً، وكأنه قال: إذا مثّلتَ ما خلا وما عدا فجعلتَه اسماً غير موصول قلت: أتوني مجاوزتَهم زيداً، مثّلتَه بمصدر ما هو في معناه، كما فعلتَه فيما مضى. إلا أن جاوز لا يقع في الاستثناء.
وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيدٌ فالرفع جيدٌ بالغ، وهو كثير في كلام العرب، لأن يكونُ صلةٌ لأنْ وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في موضع اسم مستثنى كأنك قلت: يأتونك إلا أن يأتيك زيد.
والدليل على أن يكون ليس فيها هنا معنى الاستثناء: أن ليس وعدا وخلا، لا يقعن ههنا.
ومثلُ الرفع قولُ الله عزّ وجلّ: " إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم " . وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر.
وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرفٌ يجر ما بعده كما تجرّ حتى ما بعدها، وفيه معنى الاستثناء. وبعضُ العرب يقول: ما أتاني القومُ خلا عبدِ الله، فيجعل خلا بمنزلة حاشا. فإذا قلت ما خلا فليس فيه إلا النصب، لأن ما اسمٌ ولا تكون صلتُها إلا الفعل ها هنا، وهي ما التي في قولك: أفعلف ما فعلتَ. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيداً، لم يكن كلاماً.
وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل رحمه الله أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء.
؟باب مجرى علاماتِ المضمرين
وما يجوز فيهن كلهن وسنبين ذلك إن شاء الله.؟
باب علامات المضمرين المرفوعيناعلم أن المضمَر المرفوع، إذا حدّث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدّث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدّث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ.
ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلْتُ، لا يجوز أن تقول فعل أنا، لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا. ولا يقع نحنُ في موضع نا التي في فعَلْنا، لا تقول فعلَ نحن.
وأما المضمَر المخاطَب فعلامته إن كان واحداً: أنت، وإن خاطبتَ اثنين فعلامتُهما: أنتُما، وإن خاطبتَ جميعاً فعلامتُهم: أنتم.

واعلم أنه لا يقع أنتَ في موضع التاء التي في فعَلْتَ، ولا أنتما في موضع تُما التي في فعلتُما. ألا ترى أنك لا تقول فعل أنتُما. ولا يقع أنتم في موضع تُمْ التي في فعلتُم، لو قلت فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنت في موضع التاء في فعلْتَ، ولا يقع أنتُنّ في موضع تنَّ التي في فعلتُنّ، لو قلت فعلَ أنتُنّ لم يجز.
وأما المضمَر المحدَّث عنه فعلامتُه: هو، وإن كان مؤنّثاً فعلامته: هي، وإن حدّثتَ عن اثنين فعلامتُهما: هُما. وإن حدّثتَ عن جميع فعلامتهم: هُم، وإن كان الجميع جميع المؤنّث فعلامته: هُنّ. ولا يقع هو في موضع المضمَر الذي في فعل، لو قلت فعل هو لم يجز إلا أن يكون صفةً. ولا يجوز أن يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في فعلتْ، لأن ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أن يكون صفةً، كما لم يجز ذلك في المذكّر؛ فالمؤنّث يجري مجرى المذكّر.
فأنا وأن ونحن، وأنتما وأنتم وأنتنّ، وهو وهي وهُما وهُم وهنّ لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ولا في موضع المضمَر الذي لا علامةَ له، لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك.
؟
باب استعمالهم علامة الإضمار
الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعهفمن ذلك قولهم: كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء ههنا، ولا على الإضمار الذي في فعلَ. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هنا على التاء والميم التي في فعلتُم كما لا تقدر في الأول على التاء في فعلتَ. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم، لأنك لا تقدر على التاء والميم التي في فعلتُم ها هنا. وفيها هم قياماً، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في الفعل.
ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنا وأنتم ذاهبين، ومثل ذلك أهو هو. وقال الله عزّ وجلّ: " كأنه هو وأوتينا العلم " ؛ فوقع هو ها هنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعلَ. وقال الشاعر:
فكأنها هي بعد غِبّ كلالِها ... أو أسفعُ الخدّيْن شاةُ إرانِ
وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدي كرب:
قد علمَتْ سلمى وجاراتُها ... ما قطّر الفارس إلا أنا
وكذلك هاأناذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها هما ذانك، وها هم أولئك، وها أنت ذا، وها أنتما ذان، وها أنتم أولاء، وها أنتنّ أولاء، وها هنّ أولئك.
وإنما استُعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامةً في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعلَ.
وزعم الخليل رحمه الله أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا أنا هذا وهذا أنا، فقدّموا ها وصارت أنا بينهما.
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوقَ بهم يقولون: أنا هذا، وهذا أنا.
ومثل ما قال الخليل رحمه الله في هذا قول الشاعر:
ونحن اقتسمنا المالَ نصفين بيننا ... فقلتُ: لهم هذا لها ها وذاليا
كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصيّر الواو بين ها وذا.
وزعم أن مثل ذلك: إي ها الله ذا، إنما هو هذا.
وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدّمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدلّك على هذا قوله عزّ وجل: " ها أنتم هؤلاء " فلو كانت ها ها هنا هي التي تكون أولاً إذا قلت هؤلاء، لم تُعَد ها ها هنا بعد أنتم.
وحدّثنا يونس أيضاً تصديقاً لقول أبي الخطاب، أن العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرِد بقوله هذا أنت، أن يعرّفه نفسَه، كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضرُ عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال تعالى: " ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسَكم " .
؟
باب علامة المضمرين المنصوبين

اعلم أن علامة المضمرين المنصوبين إيّا ما لم تقدَر على الكاف التي في رأيتك، وكُما التي في رأيتُكما، وكُم التي في رأيتكم، وكُنّ التي في رأيتكنّ، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهُما التي في رأيتهما، وهُم التي في رأيتهم، وهنّ التي في رأيتهن، وني التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا.
فإن قدرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم تُوقع إيّا ذلك الموضع لأنهم استغنوا بها عن إيّا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.
؟باب استعمالهم إيّا
إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنافمن ذلك قولهم: إياك رأيتُ وإياك أعني، فإنما استعلمت إياك ها هنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عزّ وجلّ: " وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضَلال مُبين " من قبل أنك لا تقدر على كُم ههنا. وتقول: إني وإياك منطلقان، لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى جدّه: " ضلّ من تدعون إلا إياه " .
فلو قدرتَ على الهاء التي في رأيته لم تقل إياه. وقال الشاعر:
مُبَرّأٌ من عيوب الناس كلِّهمِ ... فالله يرعى أبا حربٍ وإيّانا
لأنه لا يقدر على نا التي في رأيتَنا. وقال الآخر:
لعمرك ما خشيت على عديّ ... سيوفَ بني مقيِّدة الحمارِ
ولكني خشيتُ على عديّ سيوفَ القوم أو إياك حارِ
ويُروى: رماح القوم؛ لأنه لم يقدر على الكاف.
وتقول: إن إياك رأيتُ، كما تقول إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت إن أفضلهم لقيتُ فأفضلَهم منتصب بلقيت.
فإن قلت: إن أفضلهم لقيت، فنصبت أفضلهم بإنّ فهو قبيح حتى تقول لقيتُه، وقد بُيّن وجه ذلك، وقد بيناه في باب إن وأخواتها، واستُعملت إياك لقبح الكاف والهاء ها هنا.
وتقول: عجبتُ من ضربي إياك. فإن قلت: لِمَ وقد تقع الكاف ها هنا وأخواتها، تقول عجبتُ من ضربيكَ ومن ضربيه ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلّم بهذا، وليس بالكثير.
ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيّا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال عجبت من ضربكَني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبُح هذا عندهم ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع صارت إيّا عندهم في هذا الموضع لذلك بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.
ومثل ذلك: كان إيّاه، لأن كانَه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف ها هنا، لا تقول كانني وليسني، ولا كانَك. فصارت إيّا ههنا بمنزلتا في ضربي إياك.
وتقول: أتوني ليس إياك ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء ها هنا، فصارت إيّا بدلاً من الكاف والهاء في هذا الموضع.
قال الشاعر:
ليت هذا الليلَ شهرٌ ... لا نرى فيه عَريبا
ليس إيّاي وإيّا ... كَ ولا نخشى رقيبا
وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني وكذلك كانني.
وتقول: عجبتُ من ضَرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيداً مفعولاً، وجعلت المضمَر الذي علامته الكاف فاعلاً فجاز أنت ههنا للفاعل كما جاز إيّا للمفعول، لأن إيا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوّي دخولَ أنت ههنا.
وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنت أنت، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كأنك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف.
وإن شئت قلت: قد وليتَ عملاً فكنتَ أنت إياك، وقد جرّبتُك فوجدتُك أنت إياك، جعلتَ أنت صفة وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا قلت: فوجدتُك أنت الظريف. والمعنى أنك أردت أن تقول وجدتُك كما كنتُ أعرف. وهذا كله قول الخليل رحمه الله، سمعناه منه.
وتقول: أنت أنت، تكرّرها، كما تقول للرجل أنت وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كرّرتها توكيداً، وإن شئت جعلت كنتَ صفةً، لأنك قد تقول: قد جُرّبت فكنت، ثم تسكت.
؟
باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل

وذلك إن ولعلّ وليتَ وأخواتها، ورُويد ورُويدك وعليكَ وهلمّ وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن ها هنا كحالهن في الفعل، لا تقوى أن تقول: عليك إياه ولا رُويدَ إيّاه؛ لأنك قد تقدر على الهاء، تقول عليكَه ورُويدَه. ولا تقول: عليك إياي، لأنك قد تقدر على ني.
وحدثنا يونس أنه سمع من العرب من يقول عليكَني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل ني ولا نا في ذا الموضع استغناءً بعليك بي وعليك بنا عن ني ونا، وإياي وإيانا.
ولو قلت عليك: إياه كان ها هنا جائزاً في عليك وأخواتها، لأنه ليس بفعل وإن شبِّه به. ولم تقو العلامات ها هنا كما قويت في الفعل، فهي مضارعة في ذلك الأسماء.
واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إياه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوي إيّا، وهو الكاف التي في رأيتك فيها، والهاء التي في رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا لم تكلموا بأياك، استغنوا بهذا عن إياك وإياه. ولو جاز هذا لجاز ضربَ زيدٌ إياك وإنّ فيها إياك، ولكنهم لما وجدوا إنك فيها وضربَه زيدٌ، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: إن فيها إياك، وضرب زيدٌ إياك استغنوا به عن إيّا.
وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك، فإنه لا يدخل على هذا؛ من قبل أنه لو أخّر إلا كان الكلام محالاً. ولو أسقط إلا كان الكلام منقلب المعنى وصار الكلام على معنى آخر.
؟باب ما يجوز في الشعر من إيّا
ولا يجوز في الكلام فمن ذلك قول حُميد الأرقط:
إليك حتّى بلغتْ إيّاكا وقال الآخر، لبعض اللصوص:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
؟
باب علامة إضمار المجروراعلم أن أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور، من قبل أن أنت اسم مرفوع، ولا يكون المرفوع مجروراً. ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بزيد وأنت، لم يجز. ولو قلت: ما مررتُ بأحد إلا أنت لم يجز. ولا يجوز إيّا أن تكون علامةً لمضمر مجرور، من قبل أن إيّا علامةٌ للمنصوب، فلا يكون المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع مواقعَهن إيّا، إلا أن تضيف الى نفسك نحو قولك: بي ولي وعندي.
وتقول: مررتُ بزيد وبك، وما مررتُ بأحد إلا بك، أعدتَ مع المضمَر الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجارّ مع المضمَر. ولم توقِع إيّا ولا أنت ولا أخواتها ههنا من قبل أن المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور.
؟باب إضمار المفعولَين
اللذين تعدّى إليهما فعلُ الفاعل
اعلم أن المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أُضمَر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيّا موقعها، وقد تكون علامتُه إذا أُضمَر إيّا.
فأما علامة الثاني التي لا تقع إيا موقعها فقولك: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكَني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: قد أعطاهوني، فهو قبيح لا تكلّمُ به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
وإنما قبُح عند العرب كراهيةَ أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن تقول أعطاك إيّاي، وأعطاه إياي، فهذا كلام العرب. وجعلوا إيّا تقع هذا الموقع إذ قبُح هذا عندهم كما قالوا: إياك رأيتُ، وإياي رأيت، إذ لم يجز لهم ني رأيتَ ولا كَ رأيتُ.
فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطَباً وغائباً، فبدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامةُ التي لا تقع موقعها إيّا، وذلك قوله: أعطيتُكَه وقد أعطاكَه، وقال عزّ وجلّ: " فعُمّيَتْ عليكم أنُلزمُكموها وأنتم لها كارهون " . فهذا هكذا إذا بدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب.
وإنما كان المخاطَب أولى بأن يُبدأ به من قبل أن المخاطَب أقرب الى المتكلم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه قبل المخاطَب، كان المخاطَب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يُبدأ به من الغائب.
فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوكَ، فهو في القبح وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطَب إذا بُدئ بهما قبل المتكلم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت قد أعطاه إياك.

وأما قول النحويين: قد أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم تكلّم به العرب، ووضعوا الكلام في غير موضعه، وكان قياس هذا لو تُكلّم به كان هيّناً.
ويدخل على مَن قال هذا أن يقول الرجل إذا منحته نفسه: قد منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبُح إذا وضعت ني في غير موضعها، فإذا ذكرتَ مفعولين كلاهما غائب فقلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز، وهو عربي. ولا عليك بأيّهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب.
وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه. على أنه قد قال الشاعر:
وقد جعلتْ نفسي تطيبُ لضَغمةٍ ... لضغمِهِماها يقرعُ العَظمَ نابُها
ولم تستحكم العلامات ها هنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضَربي إيّاك، ولا في كان إياه، ولا في ليس إياه.
وتقول: حسبتُك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتُنيه وحسبتُكَه قليل في كلامهم؛ وذلك لأن حسبتُ بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال.
ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ. والمنصوبان بعد حسبتُ بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبتُ وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقيناً أو شكّاً أو عِلماً، وليس بفعل أحدثته منك الى غيرك كضربتُ وأعطيتُ، إنما يجعلان الأمر في علمك يقيناً أو شكّاً فيما مضى.
ولا يجوز أن تقول ضربتُني ولا ضربتُ إيّاي، لا يجوز واحدٌ منهما لأنهم قد استغنوا عن ذلك بضربتُ نفسي وإيّاي ضربتُ.
؟باب لا تجوز فيه علامة المضمَر
المخاطَب ولا علامة المضمَر المتكلم، ولا علامة المضمَر المحدَّث عنه الغائب
وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطَب: اضرِبْكَ، ولا اقتُلْكَ ولا ضربْتَك، لما كان المخاطب فاعلاً وجعلت مفعوله نفسه قبُح ذلك، لأنهم استغنوا بقولهم اقتُل نفسك وأهلكتَ نفسك، عن الكاف ها هنا وعن إياك.
وكذلك المتكلم، لا يجوز له أن يقول أهلكتُني ولا أُهلكُني لأنه جعل نفسه مفعوله فقبُح؛ وذلك لأنهم استغنوا بقولهم أنفعُ نفسي عن ني، وعن إياي.
وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول ضربه إذا كان فاعلاً وكان مفعوله نفسه؛ لأنهم استغنوا عن الهاء وعن إياه بقولهم ظلم نفسه وأهلك نفسه، ولكنه قد يجوز ما قبح ها هنا في حسبتُ وظننت وخلتُ، وأُرى وزعمتُ، ورأيت إذا لم تعنِ رؤية العين، ووجدتُ إذا لم ترد وجدان الضالة، وجميع حروف الشك، وذلك قولك: حسبتُني وأراني ووجدتُني فعلت كذا وكذا، ورأيتُني لا يستقيم لي هذا. وكذلك ما أشبه هذه الأفعال، تكون حال علامات المضمَرين المنصوبين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.
ومما يثبت علامة المضمَرين المنصوبين ها هنا أنه لا يحسن إدخال النفس ها هنا. لو قلت يظن نفسه فاعلةً وأظن نفسي فاعلةً على حد يظنه وأظنني ليُجزئَ هذا من ذا لم يُجزئ كما أجزأ أهلكتَ نفسك عن أهلكتَك، فاستُغنى به عنه.
وإنما اقترفتْ حسبتُ وأخواتها والأفعال الأُخَر لأن حسبت وأخواتها إنما أدخلوها على مبتدأ ومبني عليه لتجعل الحديث شكاً أو علماً. ألا ترى أنك لا تقتصر على المنصوب الأول كما لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخَر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ، فلما صارت حسبتُ وأخواتُها بتلك المنزلة جُعلتْ بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إنني ولعلّني ولكنني وليتني، لأن إن وأخواتها لا يُقتصر فيها على الاسم الذي يقع بعدها لأنها إنما دخلت على مبتدأ ومبني على مبتدأ.
وإذا أردت برأيتُ رؤية العين لم يجز رأيتُني؛ لأنها حينئذ بمنزلة ضربْتُ. وإذا أردتَ التي بمنزلة علمتُ صارت بمنزلة إن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى. وكذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلمٍ أو شك، ولم يُردْ فعلاً سلف منه الى إنسان يبتدئه.
؟
باب علامة إضمار المنصوب
المتكلم والمجرور المتكلماعلم أن علامة إضمار المنصوب المتكلم ني، وعلامة إضمار المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرتَ نفسك وأنت منصوب: ضربني وقتلني، وإنني ولعلني.
وتقول إذا أضمرت نفسك مجروراً: غلامي، وعندي ومعي.

فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة في كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف، فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف، حذفوا التي تلي الياء.
فإن قلت: لعلي ليس فيها نون. فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أن النون قد تُدغَم مع اللام حتى تبدَل مكانها لام، وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه.
وسألته رحمه الله عن الضاربي فقال: هذا اسم، ويدخله الجرّ، وإنما قالوا في الفعل: ضربني ويضربني، كراهية أن يدخلوا الكسرة في هذه الباء كما تدخل الأسماء، فمنعوا هذا أن يدخله كما مُنع الجر.
فإن قلت: قد تقول اضرِب الرجل فتكسرُ، فإنك لم تكسرها كسراً يكون للأسماء، إنما يكون هذا لالتقاء الساكنين. قد قال الشعراء: ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا الضاربي والمضمَر منصوب. قال الشاعر زيد الخليل:
كمُنية جابرٍ إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقدُ جلَّ مالي
وسألته رحمه الله عن قولهم عني وقدْني، وقطْني ومني ولدُنّي، فقلت: ما بالهم جعلوا علامة إضمار المجرور ها هنا كعلامة إضمار المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحرّكاً مكسوراً، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في قطْ ولا النون التي في مِن، فلم يكن لهم بدّ من أن يجيئوا بحرف لياء الإضافة متحرك إذ لم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات؛ لأنها لا تئكَر أبداً إلا وقبلها حرف متحرك مكسور. وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم؛ فجاءوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا أن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار.
وإنما حملهم على أن لا يحركوا الطاء والنونات كراهيةُ أن تشبه الأسماء نحو يدٍ وهَنٍ. وأما ما تحرّك آخره فنحو مع ولدُ كتحريك أواخر هذه الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثمّ لم يجعلوها بمنزلتها. فمن ذلك قولك معي، ولدي في لَدُ.
وقد جاء في الشعر: قطِي وقَدي. فأما الكلام فلابدّ فيه من النون، وقد اضطرّ الشاعر فقال قدِي، شبّهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد. قال الشاعر:
قدْني من نصر الخُبيبَين قدِي ... ليس الإمامُ بالشحيح المُلحدِ
لما اضطرّ شبهه بحسبي وهَني؛ لأن ما بعد هنٍ وحسب مجرور كما أن ما بعد قد مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال ليتي حيث اضطرّ فشبّهه بالاسم نحو الضاربي؛ لأن ما بعدهما في الإظهار سواء، فلما اضطرّ جُعل ما بعدهما في الإضمار سواءً.
وسألناه رحمه الله عن إلى ولدى وعلى فقلنا: هذه الحروف ساكنة، ولا ترى النون دخلتْ عليها. فقال: من قبل أن الألف في لدى والياء في على اللذين قبلهما حرف مفتوح لا تحرّكُ في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون التحريك لازماً لياء الإضافة، فلما علموا أن هذه المواضع ليس لياء الإضافة عليها سبيلٌ بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المُعجم لم يجيئوا بالنون، إذ علموا أن الياء في ذا الموضع والألف ليستا من الحروف التي تحرّك لياء الإضافة.
ولو أضفت الى الياء الكاف التي تجرّ بها لقلت: ما أنت كِي، والفتح خطأ وهي متحركة كما أن أواخر الأسماء متحركة، وهي تجرّ كما أن الأسماء تجرّ، ولكن العرب قلما تكلموا بذا.
وأما قطْ وعن ولدُن فإنهن تباعدنَ من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك على الفعل نحو خُذْ وزِنْ، فضارعت الفعل وما لا يُجَرّ أبداً، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحرّكوه.
؟
هذا بابما يكون مضمَراً فيه الاسم متحولاً عن حاله
إذا أُظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاي، إذا أضمرت الاسم فيه جُرّ، وإذا أظهرت رُفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت، كما قال سبحانه: " لولا أنتم لكنّا مؤمنين " ؛ ولكنهم جعلوه مضمَراً مجروراً.
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامةَ مضمَر مرفوع. قال الشاعر، يزيد بن الحكَم:
وكم موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هوى ... بأجرامه من قُلةِ النّيقِ مُنهَوي

وهذا قول الخليل رحمه الله ويونس.
وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة: يا أبتا علّك أو عساكا والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتُك ني. قال عمران بن حطآن:
ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تُنازعني لعلّي أو عساني
فلو كانت الكاف مجرورة لقال عساي، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعلّ في هذا الموضع.
فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان للدُنْ حالٌ مع غُدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تُعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها، فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن تقول وافق الرفعُ الجرَّ في لولاي، كما وافق النصبُ الجرّ حين قلت: معك وضربَك؛ لأنك إذا أضفت الى نفسك اختلفا، وكان الجر مفارِقاً للنصب في غير الأسماء. ولا تقل: وافق الرفعُ النصبَ في عساني كما وافق النصبُ الجرّ في ضرْبَك ومعك، لأنهما مختلفان إذا أضفت الى نفسك كما ذكرتُ لك.
وزعم ناس أن الياء في لولاي وعساني في موضع رفع، جعلوا لولاي موافقةً للجرّ، وني موافقةً للنصب، كما اتفق الجرّ والنصب في الهاء والكاف. وهذا وجه رديء لما ذكرت لك، ولأنك لا ينبغي لك أن تكسر الباب وهو مطّرد وأنت تجد له نظائر. وقد يوجَّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجَد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بُيّن بعض ذلك وستراه فيما تستقبل إن شاء الله.
؟باب ما تردّه علامةُ الإضمار الى أصله
فمن ذلك قولك: لعبد الله مالٌ، ثم تقول لك مالٌ وله مال، فتفتح اللام، وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالْتبستْ بلام الابتداء إذا قال إن هذا لعليّ ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا لم يخافوا أن تلتبس بها، لأن هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجرّ. ألا تراهم قالوا: يا لَبكرٍ، حين نادوا؛ لأنهم قد علموا أن تلك اللام لا تدخل ها هنا.
وقد شبّهوا به قولهم: أعطيتُكموه، في قول من قال: أعطيتُكم ذلك فيجزم، ردّه بالإضمار الى أصله، كما ردّه بالألف واللام، حين قال: أعطيتُكم اليوم، فشبّهوا هذا بلكَ وله وإن كان ليس مثله، لأن من كلامهم أن يشبهوا الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله. وقد بيّنّا ذلك فيما مضى، وستراه فيما بقي.
وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْهُ وأعطيتُكُمْها، كما يقول في المظهر. والأول أكثر وأعرف.
باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمَر
فيما عمل وما يقبح أن يشرك المظهر المضمَر فيما عمل فيه.
أما ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك قولك: رأيتك وزيداً، وإنك وزيداً منطلقان.
وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو المضمر في الفعل المرفوع وذلك قولك: فعلت وعبدُ الله، وأفعل وعبدُ الله.
وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يُبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمَراً يغيّر الفعل عن حاله إذا بعد منه.
وإنما حسنتْ شِركتُه المنصوب لأنه لا يغيَّر الفعل فيه عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وصار منفصلاً عندهم بمنزلة المظهر، إذ كان الفعل لا يتغيّر عن حاله قبل أن يضمَر فيه.
وأما فعلتُ فإنهم قد غيّروه عن حاله في الإظهار، أُسكنتْ فيه اللام فكرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً يُبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيتُ.
فإن نعتّه حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيدٌ، وقال الله عزّ وجلّ: " اذهبْ أنت وربُّك " و: " اسكُنْ أنت وزوجُك الجنة " . وذلك أنك لما وصفتَه حسن الكلام حيث طوّله وأكّده كما قال: قد علمتُ أن لا تقول ذاك، فإن أخرجتَ لا قبُح الرفع.
فأنت وأخواتها تقوّي المضمَر وتصير عوضاً من السكون والتغيير ومِن ترك العلامة في مثل ضربَ. وقال الله عزّ وجلّ: " لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرّمنا " ، حسُن لمكان لا. وقد يجوز في الشعر، قال الشاعر:
قلتُ إذ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهادى ... كنعاجِ الملا تعسّفْنَ رملا

واعلم أنه قبيح أن تصف المضمَر في الفعل بنفسك وما أشبهه؛ وذلك أنه قبيح أن تقول فعلتَ نفسُك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسُك. وإن قلت فعلتم أجمعون حسن؛ لأن هذا يعمّ به. وإذا قلت نفسُك فإنما تريد أن تؤكد الفاعل، ولما كانت تفسُك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يُجرّ ويُنصب ويُرفع، شبهوها بما يشرك المضمَر، وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس الجبل مُقابلي، ونحو ذلك.
وأما الأجمعون فلا يكون في الكلام إلا صفة.
وكلُّهم قد تكون بمنزلة أجمعين لأن معناها معنى أجمعين، فهي تجري مجراها.
وأما علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغيّر ما عمل فيها عن حاله إذا أُظهر فيه الاسم فإنه يشركها المظهر؛ لأنه يشبه المظهر، وذلك قولك: أنت وعبدُ الله ذاهبان، والكريم أنت وعبدُ الله.
واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبدُ الله، وذهبتُ وعبدُ الله، وذهبت وأنا، لأن أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجيء في الشعر. قال الراعي:
فلما لحقنا والجيادُ عشيةً ... دعَوا يا لَكَلبٍ واعتزَيْنا لعامرِ
ومما يقبح أن يشركه المظهر علامةُ المضمَر المجرور، وذلك قولك: مررتُ بك وزيدٍ، وهذا أبوك وعمرٍو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً داخلاً فيما قبله؛ لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعتْ أنها لا يُتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها، وأنها بدلٌ من اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعفتْ عندهم كرهوا أن يُتبعوها الاسمَ، ولم يجز أيضاً أن يُتبعوها إياه وإن وصفوا؛ لا يحسن لك أن تقول مررت بك أنت وزيدٍ كما جاز فيما أضمرتَ في الفعل نحو قمتَ أنت وزيد، لأن ذلك وإن كان قد أُنزل منزلة آخر الفعل، فليس من الفعل ولا من تمامه، وهما حرفان يستغني كلُ واحدٍ منهما بصاحبه كالمبتدأ والمبني عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم، وحال الاسم إذا أضيف إليه مثلُ حاله منفرداً، لا يستغنى به، ولكنهم يقولون: مررتُ بكُم أجمعين، لأن أجمعين لا يكون إلا وصفاً.
ويقولون: مررتُ بهم كلهم؛ لأن أحد وجهَيها مثلُ أجمعين.
وتقول أيضاً: مررتُ بك نفسك، لما أجزْتَ فيها ما يجوز في فعلتُم مما يكون معطوفاً على الأسماء احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغيّر علامة الإضمار ها هنا ما عمل فيها، فضارعتْ ها هنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها.
وأما في الإشراك فلا يجوز، لأنه لا يحسن الإشراكُ في فعلتَ وفعلتُم إلا بأنت وأنتم. وهذا قول الخليل رحمه الله وتفصيله عن العرب.
وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور، إذا اضطرّ الشاعر.
وجاز قمتَ أنت وزيدٌ، ولم يجز مررتُ بك أنت وزيدٍ؛ لأن الفعل يستغني بالفاعل، والمضاف لا يستغني بالمضاف إليه، لأنه بمنزلة التنوين. وقد يجوز في الشعر. قال:
آبَكَ أيّهْ بي أو مُصدَّرِ ... من حُمُر الجلّة جأبٍ حَشْوَرِ
وقال الآخر:
فاليومَ قرّبتَ تهجونا وتشتمِنا ... فاذهبْ فما بك والأيامِ من عجبِ
؟
هذا بابما لا يجوز فيه الإضمارُ من حروف الجر
وذلك الكاف في أنت كزيد، وحتى، ومُذ.
وذلك لأنهم استغنوا بقولهم مثلي وشِبهي عنه فأسقطوه.
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم: رأيتُهم حتى ذاك، وبقولهم: دعْهُ حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعهُ حتى ذاك، وبالإضمار في الى إذا قال دعهُ إليه؛ لأن المعنى واحد، كما استغنوا بمثلي ومثله عن كي وكَهُ.
واستغنوا عن الإضمار في مُذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأن ذاك اسمٌ مبهَم، وإنما يذكر حين يُظن أنه قد عرفت ما يعني. إلا أن الشعراء إذا اضطُروا أضمروا في الكاف، فيجرُونها على القياس. قال العجّاج: وأمَّ أوعالٍ كَها أو أقرَبا وقال العجّاج:
فلا ترى بعلاً ولا حلائلاً ... كَهُ ولا كهُنّ إلا حاظِلا
شبّهوه بقوله له ولهنّ.
ولو اضطرّ شاعر فأضاف الكاف الى نفسه قال: ما أنت كِي. وكَي خطأ؛ من قبل أنه ليس في العربية حرفٌ يُفتح قبل ياء الإضافة.
؟
باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحنوهو وهي وهم وهن وأنتنّ وهما وأنتما وأنتم وصفاً
اعلم أن هذه الحروف كلها تكون وصفاً للمجرور والمرفوع والمنصوب للمضمرين، وذلك قولك: مررتُ بك أنت، ورأيتُك أنت، وانطلقْتَ أنت.

وليس وصفاً بمنزلة الطويل إذا قلت مررتُ بزيدٍ الطويل، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت مررتُ به نفسه وأتاني هو نفسه، ورأيتُه هو نفسَه. وإنما تريد بهنّ ما تريد بالنفس إذا قلت: مررتُ به هو هو، ومررت به نفسِه ولست تريد أن تحلّيه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار ذا عندهم صفةً لأن حاله كحال الموصوف كما أن حال الطويل وأخيك في الصفة بمنزلة الموصوف في الإجراء، لأنه يلحقها ما يلحق الموصوفَ من الإعراب.
واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفاً للمظهر، كراهيةَ أن يصفوا المظهر بالمضمَر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسُه معطوفاً على النكرة في قولهم: مررتُ برجلٍ نفسِه ومررتُ بقوم أجمعين.
فإن أردت أن تجعل مضمَراً بدلاً من مضمَر قلت: رأيتُك إياك، ورأيتُه إيّاه. فإن أردت أن تبدل من المرفوع قلت: فعلتَ أنت، وفعل هو. فأنت وهو وأخواتهما نظائر إياه في النصب.
واعلم أن هذا المضمَر يجوز أن يكون بدلاً من المظهر، وليس بمنزلته في أن يكون وصفاً له؛ لأن الوصف تابع للاسم مثلُ قولك: رأيت عبدَ الله أبا زيد. فأما البدل فمنفرد كأنك قلت: زيداً رأيت أو رأيت زيداً ثم قلت إياه رأيت. وكذلك أنت وهو وأخواتُهما في الرفع.
واعلم أنه قبيح أن تقول مررتُ به وبزيدٍ هما، كما قبُح أن تصف المظهر والمضمَر بما لا يكون إلا وصفاً للمظهر. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررتُ بزيدٍ وبه الظريفين. وإن أراد البدل قال: مررتُ به وبزيدٍ بهما؛ لابد من الباء الثانية في البدل.
؟
هذا باب من البدل أيضاً
وذلك قولك: رأيتُه إيّاه نفسَه، وضربتُه إيّاه قائماً.
وليس هذا بمنزلة قولك: أظنه هو خيراً منك، من قبل أن هذا موضع فصل، والمضمَر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنك تقول رأيت زيداً هو خيراً منك، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزلَ إليك من ربّك هو الحقّ " . وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء. فأما ضربتُ وقتلتُ ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبني على المبتدأ، وإنما تذكر قائماً بعد ما يستغني الكلام ويكتفي، وينتصب على أنه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إيّاه يوم الجمعة. فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل، وإنما ذكرتهما توكيداً، كقوله جلّ ذكره: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ؛ إلا أن إياه بدلٌ والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجلَ زيداً نفسه، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما كان الفصل في أظن ونحوها لأنه موضع يلزم فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدّاً. وإنما فصل لأنك إذا قلت كان زيدٌ الظريف، فقد يجوز أن تريد بالظريف نعتاً لزيد، فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر. وإنما فصل لما لابد له منه، ونفسه يجزئ من إيّا، كما تُجزئ منه الصفة؛ لأنك جئت بها توكيداً وتوضيحاً، فصارت كالصفة.
ويدلك على بُعده أنك لا تقول أنت إياك خيرٌ منه. فإن قلت أظنه خيراً منه، جاز أن تقول إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام، فصار كقولك: ضربتُه إياه.
وكان الخليل يقول: هي عربية: إنك إياك خيرٌ منه. فإذا قلت إنك فيها إياك، فهو مثل أظنه خيراً منه، يجوز أن تقول: إياك.
ونظير إيّا في الرفع أنت وأخواتُها.
واعلم أنها في الفعل أقوى منها في إن وأخواتها. ويدلك على أن الفصل كالصفة، أنه لا يستقيم أظنه هو إياه خيراً منك إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، لأن أحدهما يُجزئ من الآخر؛ لأن الفصل هو كالصفة، والصفة كالفصل.
وكذلك أظنه إياه هو خيراً منه؛ لأن الفصل يجزئ من التوكيد، والتوكيد منه.
؟
باب ما يكون فيه هو وأنت
وأنا ونحن وأخواتهن فصلاً

اعلم أنهن لا يكنّ فصلاً إلا في الفعل، ولا يكنّ كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه الى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، إعلاماً بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدلّ المحدَّث أن ما بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا تفسير الخليل رحمه الله.
وإذا صارت هذه الحروف فصلاً وهذا موضع فصلها في كلام العرب، فأجرِه كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبتُ وخلْتُ وظننت ورأيت إذا لم ترد رؤية العين؛ ووجدتُ إذا لم ترد وجدانَ الضالة، وأُرى، وجعلتُ إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ولكن تجعلها بمنزلة صيّرته خيراً منك، وكان وليس وأصبح وأمسى.
ويدلك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب، لقبُح أن تقول أصبح العاقلَ وأمسى الظريفَ، كما يقبح ذلك في جاء وركب ونحوهما. فمما يدلّك على أنهما بمنزلة ظننتُ أنه يُذكر بعد الاسم فيهما ما يُذكر في الابتداء.
واعلم أن ما كان فصلاً لا يغيّر ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن يُذكر، وذلك قولك: حسبتُ زيداً هو خيراً منك، وكان عبد الله هو الظريف، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " .
وقد زعم ناسٌ أن هو ها هنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من الدنيا عربي يجعلها ها هنا صفة للمظهر. ولو كان ذلك كذلك لجاز مررتُ بعبد الله هو نفسه، فهو ها هنا مستكرهة لا يتكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين. فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون. ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليه اللام؛ لأنك لا تُدخلها في ذا الموضع على الصفة فتقول: إن كان زيد للظريف عاقلاً. ولا يكون هو ولا نحن ها هنا صفةً وفيهما اللام.
ومن ذلك قوله عز وجلّ: " ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " ، كأنه قال: ولا يحسبنّ الذين يبخلون البُخل هو خيراً لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنه البخل، لذكره يبخلون.
ومثل ذلك قول العرب: " من كذب كان شراً له " ، يريد كان الكذب شراً له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب، لقوله كذب في أول حديثه؛ فصار هو وأخواتُها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغواً، في أنها لا تغيّر ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكَر.
واعلم أنها تكون في إن وأخوتها فصلاً وفي الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع، لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.
واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلاً حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيداً وعمراً نحو خير منك ومثلك، وأفضل منك وشرّ منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة أو ما ضارعها، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. لو قلت: كان زيد هو منطلقاً، كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرتُ لك من المعرفة أو ما ضارعها من النكرة مما لا يدخله الألف واللام.
وأما قوله عزّ وجلّ: " إن ترني أنا أقلَّ منك مالاً وولداً " فقد تكون أنا فصلاً وصفة، وكذلك " وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظمَ أجراً " .
وقد جعل ناسٌ كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسمٍ مبتدأ وما بعده مبني عليه، فكأنك تقول: أظنّ زيداً أبوه خيرٌ منه، ووجدتُ عمراً أخوه خيرٌ منه. فمن ذلك أنه بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خيرٌ منك. وحدثنا عيسى أن ناساً كثيراً يقرؤونها: " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون " . وقال الشاعر، قيس بن ذريح:
تُبَكّي على لُبنى وأنت تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ
وكان أبو عمرو يقول: إن كان لهو العاقل.
وأما قولهم: " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه " ، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.

فأحد وجهي الرفع أن يكون المولود مضمَراً في يكون، والأبوان مبتدآن، وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه. ومن ذلك قول الشاعر، رجل من بني عبس:
إذا ما المرء كان أبوه عبس ... فحسبُك ما تريد الى الكلام
وقال آخر:
متى ما يُفِد كسباً يكنْ كلُ كسبه ... له مطعمٌ من صدرِ يوم ومأكلُ
والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هُما مبتدأ وما بعده خبراً له.
والنصب على أن تجعل هُما فصلا.
وإذا قلت: كان زيد أنت خيرٌ منه، وكنت أنا يومئذ خيرٌ منك فليس إلا الرفع؛ لأنك إنما تفصل بالذي تعني به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان خبره، ولا يكون الفصل ما تعني به غيره. ألا ترى أنك لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغيّر المعنى، وإذا أخرجت هو من قولك كان زيد هو خيراً منك لم يفسد المعنى.
وأما إذا كان ما بعد الفصل هو الأول قلت: هذا عبد الله هو خيرٌ منك، وضربتُ عبدَ الله هو قائمٌ، وما شأن عبد الله هو خيرٌ منك، فلا تكون هو وأخواتها فصلاً فيها وفي أشباهها ها هنا؛ لأن ما بعد الاسم ها هنا ليس بمنزلة ما يُبنى على المبتدأ، وإنما ينتصب على أنه حالٌ كما انتصب قائم في قولك: انظُر إليه قائماً. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد هو القائم، ولا ما شأنُك أنت الظريفُ. أوَلا ترى أن هذا بمنزلة راكبٍ في قولك مرّ زيدٌ راكباً.
فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلاً؛ لأن ما بعد الاسماء هنا لا يفسد تركُه الكلام، فيكون دليلاً على أنه فيما تكلمه به، وإنما يكون هو فصلاً في هذه الحال.
؟
باب لا تكون هو وأخواتها فيه فصلاولكن يكنّ بمنزلة اسم مبتدأ.
وذلك قولك: ما أظن أحداً هو خير منك، وما أجعلُ رجلاً هو أكرم منك، وما إخالُ رجلاً هو أكرمُ منك. لم يجعلوه فصلاً وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفاً ولا بدلاً لنكرة، وكما أن كلهم وأجمعين لا يكرَّران على نكرة، فاستقبحوا أن يجعلوها فصلاً في النكرة كما جعلوها في المعرفة لأنها معرفة، فلم تصر فصلاً إلا لمعرفة كما لم تكن وصفاً ولا بدلاً إلا لمعرفة.
وأما أهل المدينة فينزلون هو ها هنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع. فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحناً، وقال: احتبى ابنُ مروان في ذِه في اللحن. يقول: لحنَ، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: " هؤلاء بناتي هنّ أطهرَ لكم " ، فنصب.
وكان الخليل يقول: والله إنه لعظيمٌ جعلهم هو فصلاً في المعرفة وتصييرهم إياها بمنزلة ما إذا كانت ما لغواً، لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغواً كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس. وإنما قياسُها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما. ومما يقوّي ترك ذلك في النكرة أنه لا يستقيم أن تقول: رجلٌ خيرٌ منك. ويقول: لا يستقيم أظن رجلاً خيراً منك، فإن قلت: لا أظن رجلاً خيراً منك فجيد بالغ. ولا تقول: أظن رجلاً خيراً منك، حتى تنفي وتجعله بمنزلة أحد، فلما خالفَ المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء، لم يجرِ في النفي مجراه لأنه قبيح في الابتداء وفيما أجري مجراه من الواجب، فهذا مما يقوّي ترك الفصل.
؟
هذا باب أيّ
اعلم أن أيّاً مضافاً وغير مضاف بمنزلة مَن. ألا ترى أنك تقول: أيٌ أفضل، وأيُ القوم أفضلُ. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى مَن، كما أن زيداً وزيدَ مَناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحُسن والقبح كحال المفرد. قال الله عز وجل: " أيّاً ما تدعو فله الأسماء الحُسنى " ؛ فحسُن كحسنه مضافاً.
وتقول: أيها تشاء لك، فتشاء صلةٌ لأيها حتى كمل اسماً، ثم بنيتَ لك على أيها، كأنك قلت: الذي تشاء لك. وإن أضمرت الفاء جاز وجزمت تشأ، ونصبت أيها. وإن أدخلتَ الفاء قلت: أيها تشأ فلك؛ لأنك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلاً، وصار بمنزلته في الاستفهام إذا قلت أيها تشاء؟ وكذلك مَن تجري مجرى أيٍ في الذي ذكرنا وتقع موقعه.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن قولهم: اضربْ أيُّهم أفضل؟ فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضلُ، لأن أياً في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي، كما أن مَن في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي.

وحدّثنا هارون أن ناساً، وهم الكوفيون يقرؤونها: " ثم لننزِعنّ من كل شيعةٍ أيَّهم أشدُّ على الرحمن عُتيّا " ، وهي لغة جيدة، نصبوها كما جرّوها حين قالوا: امرُرْ على أيهم أفضلُ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضربِ الذي أفضلُ، لأنك تُنزل أياً ومَن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.
وزعم الخليل أن أيُّهم إنما وقع في اضربْ أيّهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيّهم أفضلُ، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهدُ إنك لَرسولُ الله.
واضربْ معلّقةٌ. وأرى قولهم: اضربْ أيهم أفضلُ على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسةَ عشرَ، وبمنزلة الفتحة في الآنَ حين قالوا من الآنَ الى غدٍ، ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئاً لم تجئ أخواته عليه إلا قليلاً، واستُعمل استعمالاً لم تُستعمله أخواته إلا ضعيفاً. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضربْ، واضربْ مَن أفضلُ، حتى يدخلَ هو. ولا يقول: هاتِ ما أحسنُ حتى يقول ما هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارِقة له لا تستعمل كما يُستعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استُعملت عليه أخواته إلا قليلاً. كما أن قولك: يا اللهُ حين خالف سائرَ ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفَه، وكما أن ليس لمّا خالفت سائر الفعل ولم تصرّف تصرّف الفعل تُركت على هذه الحال.
وجاز إسقاط هو في أيهم كما كان: لا عليك، تخفيفاً، ولم يجزْ في أخواته إلا قليلاً ضعيفاً.
وأما الذين نصبوا فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة قولنا اضربِ الذين أفضلُ، إذا أثرنا أن نتكلم به. وهذا لا يرفعه أحد.
ومن قال: امرُرْ على أيّهم أفضل قال: امرُرْ بأيهم أفضل؛ وهما سواء. فإذا جاء أيهم مجيئاً يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر رجع الى الأصل والى القياس، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل والى القياس.
وتفسير الخليل رحمه الله ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو ساغ هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضربِ الفاسقُ الخبيثُ تريد الذي يقال له الفاسقُ الخبيثُ.
وأما قول يونس فلا يشبه أشهد إنك لمنطلق. وسترى بيان ذلك في باب إن وأن إن شاء الله.
ومن قولهما: اضربْ أيٌ أفضلُ. وأما غيرهما فيقول: اضربْ أياً أفضلُ. ويقيس ذا على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلّم في ذلك المضاف الى قول العرب ذلك، يعني أيهم، وأجروا أياً على القياس.
ولو قالت العرب اضربْ أيٌ أفضلُ لقلته، ولم يكن بدٌ من متابعتهم. ولا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس، كما أنك لا تقيس على أمس أمسك، ولا على أيقول، ولا سائر أمثلة القول، ولا على الآن أنَك. وأشبه هذا كثير.
ولو جعلوا أياً في الانفراد بمنزلته مضافاً لكانوا خُلقاء إن كان بمنزلة الذي معرفةً أن لا ينوّن؛ لأن كل اسم ليس يتمكن لا يدخله التنوين في المعرفة ويدخله في النكرة. وسترى بيان ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف إن شاء الله.
وسألته رحمه الله عن أيّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله؟ فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب مني ومنك، إنما يريد منا. وكقولك: هو بيني وبينك، تريد هو بيننا. فإنما أراد أيُّنا كان شراً، إلا أنهما لم يشتركا في أي ولكنه أخلصَه لكل واحدٍ منهما. وقال الشاعر، العباس ابن مرداس:
فأيي ما وأيّك كان شراً ... فسيقَ الى المُقامةِ لا يراها
وقال خداشُ بن زهير:
ولقد علمتُ إذا الرجالُ تناهزوا ... أيي وأيّكمُ أعزُّ وأمنعُ
وقال خداش أيضاً:
فأيي وأيُّ ابنِ الحُصين وعثعثٍ ... غداةَ التقينا كان عندك أعذرا
؟باب مجرى أي مضافاً على القياس
وذلك قولك: اضربْ أيَّهم هو أفضل، واضرب أيَّهم كان أفضل، واضرب أيهم أبوه زيد. جرى ذا على القياس لأن الذي يحسن ها هنا.
ولو قلت: آضربْ أيهم عاقلٌ رفعت، لأن الذي عاقل قبيحة. فإذا أدخلتَ هو نصبتَ لأن الذي هو عاقل حسن. ألا ترى أنك لو قلت: هذا الذي هو عاقل، كان حسناً.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع عربياً يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وهذه قليلة، ومن تكلم بهذا فقياسه اضربْ أيّهم قائل لك شيئاً.

قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: لا. فقلت: فما بالُ المسألة الأولى؟ فقال: لأنه إذا طال الكلام فهو أمثلُ قليلاً، وكأن طولَه عوض من ترك هو. وقلّ من يتكلم بذلك.
؟باب أي مضافاً الى ما لا يكمل
اسماً إلا بصلة
فمن ذلك قولك: اضربْ أيُّ مَن رأيتَ أفضلُ. فمَن كمل اسماً برأيتَ فصار بمنزلة القوم، فكأنك قلت: أيُّ القوم أفضل، وأيهم أفضلُ، وكذلك أيُ الذين رأيت في الدار أفضلُ. وتقول: أي الذين رأيتَ في الدار أفضل؟ لأن رأيت من صلة الذين، وفيها متصلة برأيت، لأنك ذكرت موضع الرؤية، فكأنك قلت أيضاً: أي القوم أفضل وأيهم أفضل؛ لأن فيها لم تغيّر الكلام عن حاله. كما أنك إذا قلت: أيُ مَن رأيتَ قومَه أفضل؟ كان بمنزلة قولك: أيُ مَن رأيتَ أفضلُ. فالصلة معملةً وغيرَ معملةٍ في القوم سواءٌ.
وتقول: أيَّ من في الدار رأيت أفضلَ، وذاك لأنك جعلت في الدار صلة فتمّ المضاف إليه أيٌ اسماً، ثم ذكرتَ رأيت، فكأنك قلت: أي القوم رأيت أفضل، ولم تجعل في الدار ها هنا موضعاً للرؤية.
وتقول: أيُّ مَن في الدار رأيتَ أفضل، كأنك قلت: أيُ من رأيتَ في الدار أفضلُ. ولو قلت أيُ من في الدار رأيتَه زيدٌ، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعاً للرؤية لجاز. ولو قلت: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، قدّمتَ أو أخّرتَ سواء.
وتقول في شيء منه آخر: أيُ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرمه. فهذا إن جعلته استفهاماً فإعرابه الرفع، وهو كلام صحيح، من قبل أن يأتنا نعطِه صلةٌ لمَن فكمل اسماً. ألا ترى أنك تقول مَن إن يأتنا نعطِه بنو فلان، كأنك قلت: القومُ بنو فلان، ثم أضفتَ أياً إليه، فكأنك قلت: أيُ القوم نُكرمه وأيّهم نُكرمه؟ فإن لم تدخل الهاء في نُكرم نصبتَ، كأنك قلت: أيهم نُكرم.
فإن جعلتَ الكلام خبراً فهو محال؛ لأنه لا يحسن أن تقول في الخبر: أيّهم نُكرمه.
ولكنك إن قلت أيَّ مَن إن يأتنا نعطِه نُكرم تُهين، كان في الخبر كلاماً، لأن أيّهم بمنزلة الذي في الخبر، فصار نكرم صلةً، وأعملت تُهين، كأنك قلت: الذي نُكرمُ تُهين.
وتقول: أيَّ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرم تُهن، كأنك قلت: أيَّهم نُكرِم تُهن.
وتقول: أيُ مَن يأتينا يريد صلتنا فنحدّثه، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه.
فأما الوجه الذي يستحيل فهو أن يكون يريد في موضع مُريدٍ إذا كان حالاً فيه وقع الإتيان، لأنه معلّق بيأتينا، كما كان فيها معلّقاً برأيت في: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، فكأنك قلت: أيُهم فنحدثه. فهذا لا يجوز في خبر ولا استفهام.
وأما الوجه الذي يجوز فيه فأن يكون يريدُ مبنياً على ما قبله، ويكون يأتينا الصلة. فإن أردت ذلك كان كلاماً، كأنك قلت: أيّهم يريد صلتَنا فنحدّثه وفنحدّثه إن أردت الخبر.
وأما أيَّ مَن يأتينا فنحدّثه فهو محال. لأن أيَّهم فنحدثه محال. فإن أخرجت الفاء فقتل: أيَّ من يأتيني نُحدّثُه، فهو كلام في الاستفهام، محالٌ في الإخبار.
وتقول: أيَّ مَن إن لم يأته مَن إن يأتِنا نُعطه تأتِ يكرمْك. وذلك أن مَن الثانية صلتها إن يأتنا نعطه، فصار بمنزلة زيد، فكأنك قلت: أيّ مَن إن يأته زيدٌ يُعطه تأتِ يكرمْك، فصار إن يأته زيدٌ يعطِه صلة لمن الأولى، فكأنك قلت: أيهم تأتِ يُكرمْك.
فجميع ما جاز وحسن في أيهم ها هنا جاز في: أي مَن إن يأته من إن يأتنا نعطه يُعطِه، لأنه بمنزلة أيهم.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: أيهنّ فلانة وأيتهنّ فلانة فقال: إذا قلت أيّ فهو بمنزلة كل لأن كلاً مذكّر يقع للمذكر والمؤنث وهو أيضاً بمنزلة بعض، فإذا قلت أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل رحمه الله يقول: كلَّتهن منطلقة.
؟باب أي إذا كنتَ مستفهماً بها عن نكرة
وذلك أن رجلاً لو قال: رأيت رجلاً قلت: أياً؟ فإن قال: رأيت رجلين قلت: أيّيْن؟ وإن قال: رأيت رجالاً قلت: أيِّين؟ فإن ألحقتَ يا فتى في هذا الموضع فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى.
وإذا قال رأيت امرأة قلت: أيةً يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ امرأتين قلت: أيَّتَين يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ نسوةً قلت: أيّاتٍ يا فتى؟ فإن تكلم بجميع ما ذكرنا مجروراً جررتَ أياً، وإن تكلم به مرفوعاً رفعتَ أياً، لأنك إنما تسألهم على ما وضع عليه المتكلم كلامه.

قلت: فإن قال: رأيت عبدَ الله أو مررت بعبد الله؟ قال: فإن الكلام أن لا تقول أياً، ولكن تقول: مَن عبدُ الله؟ وأيٌ عبدُ الله؟ لا يكون إذا جئت بأي إلا الرفع، كما أنه لا يجوز إذا قال: رأيت عبدَ الله أن تقول مَنَا؟ وكذلك لا يجوز إذا قال رأيت عبدَ الله أن تقول أيّا؟ ولا تجوز الحكاية فيما بعد أي كما جاز فيما بعد مَن وذلك أنه إذا قال رأيت عبدَ الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإذا قال: مررتُ بعبد الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإنما جازت الحكاية بعد مَن في قولك مَن عبد الله، لأن أياً واقعة على كل شيء، وهي للآدميين. ومَن أيضاً مُسكّنةٌ في غير بابها، فكذلك يجوز أن تجعل ما بعد مَن في غير بابه.
؟باب مَن إذا كنت مستفهماً عن نكرة
اعلم أنك تثنّي مَن إذا قلت رأيت رجلين كما تثنّي أياً، وذلك قولك: رأيت رجلين، فتقول: مَنَيْن كما تقول أيّين. وأتاني رجلان فتقول: مَنان، وأتاني رجال فتقول: مَنون. وإذا قال: رأيت رجالاً قلت: مَنين، كما تقول أيِّين. وإن قلت رأيت امرأة قلت: مَنَهْ؟ كما تقول أيةً. فإن وصل قال مَن يا فتى، للواحد والاثنين والجميع. وإن قال رأيت امرأتين قلت مَنَتيْن كما قلت أيّتَين، إلا أن النون مجزومة. فإن قال: رأيت نساءَ قلت: مَناتْ كما قلت أيّاتٍ، إلا أن الواحد يخالف أياً في موضع الجرّ والرفع، وذلك قولك: أتاني رجلٌ فتقول مَنُو، وتقول مررت برجل فتقول مَني. وسنبين وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله.
فأيّ في موضع الجر والرفع إذا وقفتَ بمنزلة زيد وعمرو؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق مَن في الصلة وهو يلحق أياً فصارت بمنزلة زيد وعمرو وأما مَن فلا ينوّن في الصلة، فجاء في الوقف مخالفاً.
وزعم الخليل أن مَنَهْ ومَنَتَيْن ومَنَيْن ومَناتْ ومَنِين كل هذا في الصلة مُسكن النون، وذلك أنك تقول إذا رأيت رجالاً أو نساءً أو امرأة أو امرأتين، أو رجلاً أو رجلين: مَني يا فتى.
وزعم الخليل رحمه الله أن الدليل على ذلك أنك تقول مَنو في الوقف، ثم تقول مَن ي فتى، فيصير بمنزلة قولك مَن قال ذاك؟ فتقول: مَن يا فتى إذا عنيت جميعاً، كأنك تقول مَن قال ذاك، إذا عنيت جماعةً. وإما فارق باب مَن باب أيّ أن أياً في الصلة يثبت فيه التنوين، تقول: أيٌ ذا وأيةٌ ذهْ.
وزعم أن من العرب، وقد سمعناه من بعضهم، من يقول: أيّونَ هؤلاء، وأيان هذان. فأيٌ قد تُجمع في الصلة وتضاف وتثنّى وتنوّن، ومَن لا يثنّى ويُجمع في الاستفهام ولا يضاف، وأيٌ منوّن على كل حال في الاستفهام وغيره، فهو أقوى.
وحدّثنا يونس أن ناساً يقولون أبداً: مَنَا ومَنِي ومَنو، عنيت واحداً أو اثنين أو جميعاً في الوقف. فمن قال هذا قال أياً وأيٍ وأيٌ إذا عنى واحداً أو جميعاً أو اثنين. فإن وصل نوّن أياً. وإنما فعلوا ذلك بمَن لأنهم يقولون: مَن قال ذاك؟ فيعنون ما شاءوا من العدد. وكذلك أيٌ، تقول أيٌ يقول ذاك؟ فتعني بها جميعاً وإن شاء عنى اثنين.
وأما يونس فإنه كان يقيس مَنَهْ على أية، فيقول: مَنَةٌ ومنةً ومنةٍ، إذا قال يا فتى. وكذلك ينبغي له أن يقول إذا أثر أن لا يغيّرها في الصلة.
وهذا بعيد، وإنما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لم يُسمع بعدُ:
أتَوا ناري فقلت مَنونَ أنتم ... فقالوا الجِنُّ قلت عِموا ظلاما
وزعم يونس أنه سمع أعرابياً يقول: ضرب مَنٌ مَناً؟ وهذا بعيد لا تكلّم به العرب ولا يستعمله منهم ناس كثير. وكان يونس إذا ذكرها يقول لا يقبل هذا كلُ أحد. فإنما يجوز مَنونَ يا فتى على ذا.
وينبغي لهذا أن لا يقول مَنو في الوقف، ولكن يجعله كأي. وإذا قال رأيت امرأةً ورجلاً، فبدأت في المسألة بالمؤنّث قلت: مَن ومَنا؛ لأنك تقول مَن يا فتى في الصلة في المؤنث. وإن بدأت بالمذكّر قلت مَن ومَنَهْ؟ وإنما جُمعت أيٌ في الاستفهام ولم تُجمع في غيره لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام، وهي فيه أكثر في كلامهم، وإنما تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج الى صلة في الجزاء وفي الاستفهام. وقد تشبّه مَن بها في هذه المواضع لأنها تجري مجراها فيها. ولم تقوَ قوةَ في أيٍ لما ذكرت لك، ولما يدخلها من التنوين والإضافة.
؟باب ما لا تحسن فيه مَن
كما تحسُن فيما قبله

وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل: رأيت عبدَ الله، فتقول مَنَا، لأنه إذا ذكر عبد الله فإنما يذكر رجلاً تعرفه بعينه، أو رجلاً أنت عنده ممن يعرفه بعينه فإنما تسأله على أنك ممن يعرفه بعينه، إلا أنك لا تدري الطويلُ هو أم القصير أم ابنُ زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يُجرى هذا مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك رأيته ورأيت الرجل، لا يحسن لك أن تقول فيهما إلا مَن هو ومنِ الرجل.
وقد سمعنا من العرب من يقال له ذهبنا معهم فيقول: مع مَنِينْ؟ وقد رأيته، فيقول: مَنا أو رأيت مَنا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه، وأن الأمر ليس على ما وضعه عليه المحدِّث، فهو ينبغي له أن يسأل في ذا الموضع كما سأل حين قال رأيت رجلاً.
؟
باب اختلاف العرب في الاسمالمعروف الغالب إذا استفهمت عنه بمَن
اعلم أن أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيداً: مَن زيداً؟ وإذا قال مررتُ بزيد قالوا: مَن زيد؟ وإذا قال: هذا عبد الله قالوا: من عبد الله؟ وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال. وهو أقيسُ القولين.
فأما أهل الحجاز فإنهم حملوا قولهم على أهم حكوا ما تكلم به المسئول، كما قال بعض العرب: دعنا من تَمْرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعتُ عربياً مرة يقول لرجل سأله فقال: أليس قُرشياً؟ فقال: ليس بقرشياً، حكايةً لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون علَماً غالباً على ذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنه الأكثر في كلامهم، وهو العلَم الأول الذي به يتعارفون. وإنما يُحتاج الى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنما حكى مبادرة للمسئول، أو توكيداً عليه أنه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلم به. والكُنية بمنزلة الاسم.
وإذا قال: رأيت أخا خالد لم يجز مَن أخا خالد إلا على قول من قال: دعنا مِن تمرتان، وليس بقرشياً. والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب.
وقال يونس: إذا قال رجلٌ: رأيت زيداً وعمراً، أو زيداً وأخاه، أو زيداً أخا عمرو، فالرفع يردّه الى القياس والأصل إذا جاوز الواحد، كما تُردّ ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل. وأما ناسٌ فإنهم قاسوه فقالوا: تقول مَن أخو زيد وعمرو، ومن عمراً وأخا زيدٍ، تُتبع الكلام بعضه بعضاً. وهذا حسن.
فإذا قالوا مَن عمراً ومن أخو زيد، رفعوا أخاً زيد، لأنه قد انقطع من الأول بمن الثاني الذي مع الأخ، فكأنك قلت مَن أخو زيد؟ كما أنك تقول تبّاً له وويلاً؛ وتباً له وويلٌ له.
وسألت يونس عن: رأيت زيدَ بنَ عمرو فقال: أقول مَن زيدَ ابن عمرو؛ لأنه بمنزلة اسم واحد. وهكذا ينبغي، إذا كنت تقول يا زيدَ ابن عمرو، وهذا زيدُ بن عمرو، فتسقط التنوين. فأما مَن زيدٌ الطويل فالرفع على كل حال؛ لأن أصل هذا جرى للواحد لتعرّفه له بالصفة، فلما جاوز ذلك ردّه الى الأعرف. ومَن نوّن زيداً جعل ابن صفةً منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال رأيت زيداً قال: أيٌ زيدٌ، فليس فيه إلا الرفع، يُجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في مَن لأنهم لمَن أكثر استعمالاً وهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في مَن فقلت: فمَن أو وَمَنْ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع.
؟باب مَن إذا أردت أن يضاف لك
مَن تسأل عنه
وذلك قولك: رأيت زيداً، فتقول: المَنيَّ. فإذا قال رأيت زيداً وعمراً قلت: المَنيَّيْن. فإذا ذكر ثلاثة قلت: المَنيِّينْ، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسئول إن كان مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، كأنك قلت: القُرشيَّ أم الثّقَفيّ. فإن قال القرشيّ نصب، وإن شاء رفع على هو، كما قال صالحٌ في: كيف كنتَ؟ فإن كان المسئول عنه من غير الإنس فالجواب الهَنُ والهنَةُ، والفلانُ والفلانة؛ لأن ذلك كناية عن غير الآدميين.
؟باب إجرائهم صلةَ مَن وخبره
إذا عنيت اثنين صلة اللذين، وإذا عنيت جميعاً كصلة الذين
فمن ذلك قوله عز وجل: " ومنهم من يستعمون إليك " . ومن ذلك قول العرب فيما حدثنا يونس: مَن كانت أمَّك وأيُّهنّ كانت أمَّك، ألحق تاء التأنيث لما عنى مؤنثاً كما قال: يستعمون إليك حين عنى جميعاً.

وزعم الخليل رحمه الله أن بعضهم قرأ: " ومَن تقنُتْ منكنّ لله ورسوله " ، فجُعلت كصلة التي حين عنيتَ مؤنثاً. فإذا ألحقت التاء في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع. قال الشاعر حين عنى الإثنين، وهو الفرزدق:
تعال فإنْ عاهدتَني لا لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبان
؟
باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذيوليس يكون كالذي إلا مع ما ومَن في الاستفهام، فيكون ذا بمنزلة الذي ويكون ما حرف الاستفهام، وإجرائهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد.
أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولك: ماذا رأيت؟ فيقول: متاعٌ حسنٌ. وقال الشاعر، لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنَحْبٌ فيُقضى أم ضَلال وباطلُ
وأما إجراؤهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك: ماذا رأيت؟ فتقول: خيراً؛ كأنك قلت: ما رأيت؟ ومثل ذلك قولهم: ماذا ترى؟ فنقول: خيراً. وقال جلّ ثناؤه: " ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً " . فلو كان ذا لغواً لما قالت العرب: عمّاذا تسأل؟ ولقالوا: عمّ ذا تسأل، كأنهم قالوا: عمّ تسأل، ولكنهم جعلوا ما وذا اسماً واحداً، كما جعلوا ما وإن حرفاً واحداً حين قالوا: إنما.
ومثل ذلك كأنما وحيثما في الجزاء.
ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع البتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أجاب أن يقول: خيرٌ. وقال الشاعر، وسمعنا بعض العرب يقول:
دعي ماذا عملتِ سأتّقيهِ ... ولكنْ بالمغيّب نبّئيني
فالذي لا يجوز في هذا الموضع، وما لا يحسن أن تُلغيها.
وقد يجوز أن يقول الرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، إذا جعلت ما وذا اسماً واحداً كأنه قال: ما رأيت خيرٌ، ولم يُجبه على رأيت.
ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ فيقول: صالحٌ، وفي مَن رأيت فيقول: زيدٌ، كأنه قال: أنا صالح ومن رأيت زيدٌ. والنصب في هذا الوجه، لأنه الجواب، على كلام المخاطَب، وهو أقرب الى أن تأخذ به. وقال عزّ وجلّ: " ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطيرُ الأولين " . وقد يجوز أن تقول إذا قلت من الذي رأيتَ: زيداً؛ لأن ها هنا معنى فعل فيجوز النصب ها هنا كما جاز الرفعُ في الأول.
؟
باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهامإذا أنكرتَ أن تُثبت رأيَه على ما ذكر أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر.
فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموماً فهو واو، وإن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مفتوحاً فهي ألف، وإن كان ساكناً تحرّك، لئلا يسكن حرفان، فيتحرك كا يتحرك في الألف واللام والساكن مكسوراً، ثم تكون الزيادة تابعةً له.
فمما تحرّك من السواكن كما وصفتُ لك وتبعته الزيادةُ قول الرجل: ضربت زيداً، فتقول منكِراً لقوله: أزيدَنيه. وصارت هذه الزيادة علَماً لهذا المعنى، كعلَم الندبة، وتحركت النون لأنها ساكنة، ولا يسكن حرفان.
فإن ذكر الاسم مجروراً جررته، أو منصوباً نصبته، أو مرفوعاً رفعته، وذلك قولك إذا قال: رأيت زيداً: أزيدَنيه؟ وإذا قال مررتُ بزيد: أزيدِنيه؟ وإذا قال هذا زيدٌ: أزيدُنيه؟، لأنك إنما تسأل عما وضع كلامه عليه.
وقد يقول لك الرجل: أتعرف زيداً؟ فتقول: أزيدَنيه. إما منكِراً لرأيه أن يكون على ذلك، وإما على خلاف المعرفة.
وسمعنا رجلاً من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنِيه؟ منكِراً لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج.
ويقول: قد قدم زيد، فتقول: أزيدُنيه؟ غيرَ رادّ عليه متعجباً أو منكراً عليه أن يكون رأيهُ على غير أن يقدم؛ أو أنكرتَ أن يكون قدِم فقلت: أزيدُنيه؟ فإن قلت مجيباً لرجل قال: قد لقيتُ زيداً وعمراً قلت: أزيداً وعمرَنيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنك تقول إذا ضربتُ عمراً: أضربتَ عمرَاهْ؟ وإن قال: ضربتُ زيداً الطويل قلت: أزيداً الطويلاه؟ تجعلها في منتهى الكلام.

وإن قلت: أزيداً يا فتى، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع حرف اللين في قولك: مَنا ومَني ومَنو، حين قلت يا فتى، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو في مَن حين قلت مَن يا فتى، ولم تقل مَنين ولا مَنَهْ ولا مَني، أذهبتَ هذا في الوصل، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو من مسألتك يمنع هذا كله، وهو قولك مَن ومَنَهْ إذا قال رأيت رجلاً وامرأةً. فمَنَهْ قد منعتْ مَن من حروف اللين، فكذلك هو ها هنا يمنع كما يمنع ما كان في كلام المسئول العلامة من الأول. ولا تدخل في يا فتى العلامة لأنه ليس من حديث المسئول فصار هذا بمنزلة الطويل حين منع العلامة زيداً كما منع مَن ما ذكرتُ لك؛ وهو كلام العرب.
ومما تُتبعه هذه الزيادة من المتحرّكات، كما وصفتُ لك قوله: رأيت عُثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررت بعثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررتُ بحذام فتقول: أحَذاميهُ، وهذا عمر فتقول: أعُمرُوهْ، فصارت تابعة كما كانت الزيادة التي في واغُلامهوهْ تابعة.
واعلم أن من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إنْ فيقول: أعُمَرُ إنِيه، وأزيدُ إنيه، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلمَ بياناً وإيضاحاً، كما قالوا: ما إنْ، فأكدوا بإن. وكذلك أوضحوا بها ها هنا، لأن في العلم الهاء، والهاء خفية، والياء كذلك، فإذا جاء الهمزة والنون جاء حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما.
ومما زادوا به الهاء بياناً قولهم: اضرِبه.
وقالوا في الياء في الوقف: سعدِجْ يريدون سعدي.
فإنما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحها بنحو من هذا الذي ذكرتُ لك.
وإن شئت تركتَ العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة الندبة.
وقد يقول الرجل: إني قد ذهبت، فتقول: أذهبتُوه؟ ويقول: أنا خارج، فتقول: أنا إنِيه، تُلحق الزيادة ما لفظ به، وتحكيه مبادرةً له وتبييناً أنه يُنكر عليه ما تكلم به، كما فُعل ذلك في: مَن عبدَ الله؟ وإن شاء لم يتكلم بما لفظ به، وألحق العلامة ما يصحّح المعنى، كما قال حين قال: أتخرج الى البادية: أنا إنِيه.
وإن كنت متثبتاً مسترشداً إذا قال ضربت زيداً، فإنك لا تُلحق الزيادة. وإذا قال ضربتُه فقلت: أقلتَ ضربتُه؟ لم تلحق الزيادة أيضاً؛ لأنك إنما أوقعت حرف الاستفهام على قلت، ولم يكن من كلام المسئول، وإنما جاء على الاسترشاد، لا على الإنكار.
الجزء الثالثبسم الله الرّحمن الرّحيم
باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماءاعلم أنّ هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء، كما أنّ حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال، وهي: أن، وذلك قولك: أريد أن تفعل. وكي، وذلك جئتك لكي تفعل. ولن.
فأمّا الخليل فزعم أنّها لا أن، ولكنّهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمّه يريدون وى لأمّه، وكما قالوا يومئذ، وجعلت بمنزلة حرف واحد، كما جعلوا هلاّ بمنزلة حرف واحد، فإنّما هي هل ولا.
وأمّا غيره فزعم أنّه ليس في لن زيادة وليست من كلمتين ولكنّها بمنزلة شئ على حرفين ليست فيه زيادة، وأنّها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم، في أنه ليس واحد من الحرفين زائداً. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أمّا زيداً فلن أضرب لأنّ هذا اسم والفعل صلة فكأنّه قال: أمّا زيداً فلا الضرب له.
باب الحروف التي تضمر فيها أنوذلك اللام التي في قولك: جئتك لتفعل. وحتّى، وذلك قولك: حتى تفعل ذاك فإنما انتصب هذا بأن، وأن ههنا مضمرة؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالاً، لأنّ اللام وحتّى إنّما يعملان في الأسماء فيجرّان، وليستا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال. فإذا أضمرت أن حسن الكلام لأنّ أن وتفعل بمنزلة اسم واحد، كما أن الّذي وصلته بمنزلة اسم واحد؛ فإذا قلت: هو الذي فعل فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل فكأنك قلت: أخشى فعلك. أفلا ترى أنّ أن تفعل بمنزلة الفعل، فلّما أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما، لأنهما لا يعملان إّلا في الأسماء ولا يضافان إّلا إليهما، وأن وتفعل بمنزلة الفعل.
وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتّى، وذلك أنّهم يقولون: كيمه في الاستفهام، فيعملونها في الأسماء كما قالوا حتى مه. وحتّى متى، ولمه.

فمن قال كيمه فإنّه يضمر أن بعدها، وأمّا من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فإنّها عنده بمنزلة أن، وتدخل عليها اللام كما تدخل على أن. ومن قال كيمه جعلها بمنزلة اللام.
واعلم أنّ لا تظهر بعد حتّى وكي، كما لا يظهر بعد أمّا الفعل في قولك: أمّا أنت منطلقاً انطلقت، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أنّ هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل، وأنّهما ليسا مما يعمل في الفعل، وأنّ الفعل لا يحسن بعدهما إلاّ أن يحمل على أن، فأن ههنا بمنزلة الفعل في أمّا، وما كان بمنزلة أمّا مما لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلاً من اللفظ بأن.
وأمّا اللام في قولك: جئتك لتفعل، فبمنزلة إن في قولك: إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ؛ إن شئت أظهرت الفعل ههنا، وإن شئت خزلته وأضمرته. وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته، وإن شئت أضمرته.
واعلم أنّ اللام قد تجئ في موضع لا يجوز فيه الإظهار وذلك: ما كان ليفعل، فصارت أن ههنا بمنزلة الفعل في قولك: إيّاك وزيداً، وكأنك إذا مثّلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل. فهذا بمنزلته، ودخل فيه معنى نفى كان سيفعل. فإذا قلت هذا قلت: ما كان ليفعل، كما كان لن يفعل نفياً لسيفعل. وصارت بدلاً من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلاً من واو القسم في قولك: آلله لتفعلنّ. فلم تذكر إّلا أحد الحرفين إذ كان نفياً لما معه حرف، لم يعمل فيه شئ ليضارعه فكأنّه قد ذكر أن. كما أنّه إذا قال: سقياً له فكأنه قال: سقاه الله.
باب ما يعمل في الأفعال فيجزمهاوذلك: لم، ولمّا، واللام التي في الأمر، وذلك قولك: ليفعل، ولا في النهي، وذلك قولك لا تفعل؛ فإنّما هما بمنزلة لم.
واعلم أنّ هذه اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي، وذلك قولك: لا يقطع الله يمنيك، وليجزك الله خيراً.
واعلم أنّ هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة، كأنهم شبّهوها بأن إذا أعملوها مضمرة. وقال الشاعر:
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من شئ تبالا
وإنّما أراد: لتفد. وقال متمّم بن نويرة:
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى
أراد: ليبك. وقال أحيحة بن الجلاح:
فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته ويجهد كلّ جهد
واعلم أنّ حروف الجزم لا تجزم إّلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال المضارعة للأسماء، كما أنّ الجرّ لا يكون إّلا في الأسماء.
والجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيب، وليس للفعل في الجرّ نصيب، فمن ثمّ لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجارّ. وقد أضمره الشاعر، شبهّه بإضمارهم ربّ وواو القسم في كلام بعضهم.
باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال
المضارعة للأسماءاعلم أنّها إذا كانت في موضع اسم مبتدإ أو موضع اسم بني على مبتدإ أو في موضع اسم مرفوع غير مبتدإ ولا مبنيّ على مبتدإ، أو في موضع اسم مجرور أو منصوب، فإنّها مرتفعة، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع، وهي سبب دخول الرفع فيها.
وعلّته: أنّ ما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حدّ عمله في الأسماء كما أنّ ما يعمل في الأفعال فينصبها أو يجزمها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في موضع الأسماء ترفعها كما يرفع الاسم كينونته مبتدأ.
فأمّا ما كان في موضع المبتدإ فقولك: يقول زيد ذاك.
وأمّا ما كان في موضع المبنيّ على المبتدإ فقولك: زيد يقول ذاك.
وأمّا ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبنيّ عليه فقولك: مررت برجل يقول ذاك، وهذا يوم آتيك، وهذا زيد يقول ذاك، وهذا رجل يقول ذاك، وحسبته ينطلق. فهكذا هذا وما أشبهه.
ومن ذلك أيضاً: هلاّ يقول زيد ذاك، فيقول في موضع ابتداء وهلاّ لا تعمل في اسم ولا فعل، فكأنّك قلت: يقول زيد ذاك. إلاّ أنّ من الحروف ما لا يدخل إلاّ على الأفعال التي في موضع الأسماء المبتدأة وتكون الأفعال أولى من الأسماء حتّى لا يكون بعدها مذكور يليها إلاّ الأفعال. وسنبّين ذلك إن شاء الله، وقد بيّن فيما مضى.

ومن ذلك أيضاً ائتني بعد ما تفرغ، فما وتفرغ بمنزلة الفراغ، وتفرغ صلة، وهي مبتدأة، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي تفرغ، فتفرغ في موضع مبتدإ لأنّ الذي لا يعمل في شئ، والأسماء بعده مبتدأة.
ومن زعم أنّ الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضع ينتصب فيه الاسم، ويجرّها إذا كانت في موضع ينجرّ فيه الاسم؛ ولكنّها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم.
ومن ذلك أيضاً: كدت أفعل ذاك وكدت تفرغ، فكدت فعلت وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها وأفعل ههنا بمنزلة في كنت، إلاّ أنّ الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها.
ومثل ذلك: عسى يفعل ذاك، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم، كأنّك قلت: كدت فاعلاً، ثم وضعت أفعل في موضع فاعل. ونظير هذا في العربيّة كثير، وستراه إن شاء الله تعالى. ألا ترى أنّك تقول: بلغني أنّ زيداً جاء، فأنّ زيداً جاء كلّه اسم. وتقول: لو أنّ زيداً جاء لكان كذا وكذا، فمعناه: لو مجيء زيد، ولا يقال لو مجيء زيد.
وتقول في التعجّب: ما أحسن زيداً، ولا يكون الاسم في موضع، فتقول: ما محسن زيداً. ومنه: قد جعل يقول ذاك، كأنّك قلت: صار يقول ذاك، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنّهم إنّما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أنّ معناها ومعنى غيرها معنى ما تدخله أن نحو قولهم: خليق أن يقول ذاك وقارب أن لا يفعل. ألا ترى أنّهم يقولون: عسى أن يفعل. ويضطر الشاعر فيقول: كدت أن، فلّما كان المعنى فيهنّ ذلك تركوا الأسماء لئلاّ يكون ما هذا معناه كغيره، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت، لأنّه فعل مثله.
وكدت أن أفعل لا يجوز إلاّ في شعر، لأنّه مثل كان في قولك: كان فاعلاً ويكون فاعلاً. وكأنّ معنى جعل يقول وأخذ يقول، قد آثر أن يقول ونحوه. ثمن ثمّ منع الأسماء، لأنّ معناها معنى ما يستعمل بأن فتركوا الفعل حين خزلوا أن، ولم يستعملوا الاسم لئلاّ ينقضوا هذا المعنى.
؟
هذا باب إذناعلم أنّ إذن إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل رأى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك: إذن أجيئك، و إذن آتيك.
ومن ذلك أيضاً قولك: إذن والله أجيئك. والقسم ههنا بمنزلته في أرى إذا قلت: أرى والله زيداً فاعلاً.
ولا تفصل بين شئ مما ينصب الفعل وبين الفعل سوى إذن، لأنّ إذن أشبهت أرى، فهي في الأفعال بمنزلة أرى في الأسماء وهي تلغى وتقدّم وتؤخّر، فلمّا تصرّفت هذا التصرّف اجتروا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين.
ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهية أن يشبّهوها بما يعمل في الأسماء، نحو ضربت وقتلت؛ لأنّها لا تصرّف تصرّف الأفعال نحو ضربت وقتلت، ولا تكون إلاّ في أوّل الكلام لاؤمة لموضعها لا تفارقه، فكرهوا الفصل لذلك، لأنّه حرف جامد.
واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنّك فيها بالخيار: إن شئت أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدة منهما بين اسمين؛ وذلك قولك: زيداً حسبت أخاك، وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت زيد حسبت أخوك.
فأما الاستعمال فقولك: فإذن آتيك وإذن أكرمك.
وبلغنا أنّ هذا الحرف في بعض المصاحف: " وإذن لا يلبثوا خلفك إلاّ قليلاً " . وسمعنا بعض العرب قرأها فقال: " وإذن لا يلبثوا " .
وأمّا الإلغاء فقولك: فإذن لا أجيئك. وقال تعالى: " فإذن لا يؤتون الناس نقيراً " .
واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفعل وبين شئ الفعل معتمد عليه فإنّها ملغاة لا تنصب البّتة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيد ذاهباً، وكما لا تعمل في قولك: إنّي أرى ذاهب. فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب. فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي ههنا بمنزلة أرى حيت لا تكون إلاّ ملغاة.
ومن ذلك أيضاً قولك: إن تأتني إذن آتك، لأنّ الفعل ههنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضّبّيّ:
اردد حمارك لا تنزع سويّته ... إذن يردّ وقيد العير مكروب
من قبل أنّ هذا منقطع من الكلام الأوّل وليس معتمداً على ما قبله، لأنّ ما قبله مستغن.
ومن ذلك أيضاً: والله إذن لا أفعل، من قبل أنّ أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغو.

وليس الكلام ههنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوّله، لأنّ اليمين ههنا الغالبة. ألا ترى أنّك تقول إذا كانت إذن مبتدأة: إذن والله لا أفعل، لأنّ الكلام على إذن ووالله لا يعمل شيئاً.
ولو قلت: والله إذن أفعل تريد أن تخبر أنّك فاعل لم يجز، كما لم يجز والله أذهب إذن إذا أخبرت أنك فاعل. فقبح هذا يدلّك على أنّ الكلام معتمد على اليمين. وقال كثيّرة عزّة:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، إذا جعلت الكلام على أوّله ولم تقطعه، وعطفته على الأوّل. وإن جعلته مستقبلاً نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغى. وهذا قول يونس، وهو حسن، لأنّك إذا قطعته من الأوّل فهو بمنزلة قولك: فإذن أفعل، إذا كنت مجيباً رجلاً.
وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك، لا يكون إلاّ هذا؛ من قبل أنّ إذن الآن بمنزلة إنّما وهل، كأنك قلت: إنّما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن ههنا بمنزلة كي وأن لم يحسن، من قبل أنّه لا يجوز لك أن تقول: كي زيد يقول ذاك، ولا أن زيد يقول ذاك. فلمّا قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنّما وأشباههما.
وزعم عيسى بن عمر أنّ ناساً من العرب يقولون: إذن أفعل ذاك، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدنّ ذا. ولم يكن ليروي إلاّ ما سمع، جعلوها بمنزلة هل وبل.
وتقول إذا حدّثت بالحديث: إذن أظنّه فاعلاً، وإذن إخالك كاذباً، وذلك لأنك تخبر أنّك تلك الساعة في حال ظنّ وخيلة، فخرجت من باب أن وكي، لأنّ الفعل بعدهما غير واقع وليس في حال حديثك فعل ثابت. ولمّا لم يجز ذا في أخواتها التي تشبّه بها جعلت بمنزلة إنّما.
ولو قلت: إذن أظنّك، تريد أن تخبره أنّ ظنّك سيقع لنصبت، وكذلك إذن يضربك، إذا أخبرت أنّه في حال ضرب لم ينقطع.
وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال: أن مضمرة بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن فكانت بمنزلة اللام وحتّى لأضمرتها إذا قلت عبد الله إذن يأتيك؛ فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك لأن المعنى واحد، ولم يغيّر فيه المعنى الذي كان في قوله: إذن يأتيك عبد الله، كما يتغيّر المعنى في حتّى في الرفع والنصب. فهذا مارووا. وأمّا ما سمعت منه فالأوّل.
هذا باب حتّى
اعلم أنّ تنصب على وجهين: فأحدهما: أن تجعل الدخول غاية لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتّى أدخلها، كأنك قلت: سرت إلى أن أدخلها، فالناصب للفعل ههنا هو الجارّ للاسم إذا كان غاية. فالفعل إذا كان غاية نصب، والاسم إذا كان غاية جرّ. وهذا قول الخليل.
وأمّا الوجه الآخر فأن يكون السّير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلّمته حتّى يأمر لي بشيء.
واعلم أنّ حتّى يرفع الفعل بعدها على وجهين: تقول: سرت حتّى أدخلها، تعني أنّه كان دخول متّصل بالسير كاتّصاله به بالفاء إذا قلت: سرت فأدخلها، فأدخلها ههنا على قولك: هو يدخل وهو يضرب، إذا كنت تخبر أنّه في عمله، وأنّ عمله لم ينقطع. فإذا قال حتّى أدخلها فكأنه يقول: سرت فإذا أنا في حال دخول، فالدخول متّصل بالسير كاتّصاله بالفاء. فحتّى صارت ههنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الإبتداء، لأنّها لم تجئ على معنى إلى أن، ولا معنى كي، فخرجت من حروف النّصب كما خرجت إذن منها في قولك: إذن أظنّك.
وأمّا الوجه الآخر: فإنه يكون السّير قد كان وما أشبهه، ويكون الدخول وما أشبهه الآن، فمن ذلك: لقد سرت حتّى أدخلها ما أمنع، أي حتّى أنّي الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل: لقد رأى منّي عاماً أوّل شيئاً حتّى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء، ولقد مرض حتّى لا يرجونه. والرفع ههنا في الوجهين جميعاً كالرفع في الاسم. قال الفرزدق:
فيا عجباً حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
فحتّى ههنا بمنزلة إذا، وإنما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء.
ومثل ذلك: شربت حتى يجئ البعير يجرّ بطنه، أي حتّى إنّ البعير ليجئ يجرّ بطنه.
ويدلّك على حتّى أنها حرف من حروف الابتداء أنّك تقول: حتّى إنّه ليفعل ذاك كما تقول: فإذا إنّه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسّان ابن ثابت:
يغشون حتّى لا تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل

ومثل ذلك: مرض حتّى يمرّ به الطائر فيرحمه، وسرت حتّى يعلم الله أنّي كالّ. والفعل ههنا منقطع من الأوّل، وهو في الوجه الأوّل الذي ارتفع فيه متّصل كاتّصاله به بالفاء، كأنه قال سير فدخول، كما قال علقمة ابن عبدة:
ترادي على دمن الحياض فإن تعف ... فإنّ المندّى رحلة فركوب
لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضى، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضى، ولكنّ الآخر متّصل بالأوّل، ولم يقع واحد دون الآخر.
وإذا قلت: لقد ضرب أمس حتّى لا يستطيع أن يتحرّك اليوم، فليس كقولك: سرت فأدخلها، إذا لم ترد أن تجعل الدخول الساعة، لأنّ السير والدخول جميعاً وقعاً فيما مضى. وكذلك مرض حتّى لا يرجونه، أي حتّى إنّه الآن لا يرجونه؛ فهذا ليس متّصلاً بالأوّل واقعاً معه فيما مضى.
وليس قولنا كاتّصال الفاء يعني أنّ معناه معنى الفاء، ولكنك أردت أن تخبر أنه متّصل بالأوّل، وأنهما وقعا فيما مضى.
وليس بين حتّى في الاتّصال وبينه في الانفصال فرق في أنه بمنزلة حرف الابتداء، وأنّ المعنى واحد إلاّ أنّ أحد الموضعين الدخول فيه متّصل بالسّير وقد مضى السير والدخول، والآخر منفصل وهو الآن في حال الدخول، وإنّما اتّصاله في أنّه كان فيما مضى، وإلاّ فإنه ليس بفارق موضعه الآخر في شئ إذا رفعت.
باب الرفع فيما اتّصل بالأوّل
كاتّصاله بالفاء وما انتصب لأنّه غاية
تقول: سرت حتّى أدخلها، وقد سرت حتّى أدخلها سواء، وكذلك إنّي سرت حتّى أدخلها، فيما زعم الخليل.
فإن جعلت الدخول في كلّ ذا غاية نصبت وتقول: رأيت عبد الله سار حتّى يدخلها، وأرى زيداً سار حتى يدخلها ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم غير متيقن فإنه يدخل عليه سار زيد حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري ويدخل عليه عبد الله سار حتّى يدخلها أرى.
فإن قال: فإني لم أعمل أرى، فهو يزعم أنه ينصب بأرى الفعل.
وإن جعلت الدخول غاية نصبت في ذا كلّه.
وتقول: كنت سرت حتّى أدخلها، إذا لم تجعل الدخول غاية. وليس بين كنت سرت وبين سرت مرّة في الزمان الأوّل حتّى أدخلها شئ، وإنّما ذا قول كان النحويّون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف. يقولون: إذا لم يجز القلب نصبنا فيدخل عليهم قد سرت حتى أدخلها أن ينصبوا وليس في الدنيا عربيّ يرفع سرت حتّى أدخلها إلاّ وهو يرفع إذا قال: قد سرت.
وتقول: إنّما سرت حتّى أدخلها، وحتّى أدخلها، إن جعلت الدخول غاية. وكذلك ما سرت إلاّ قليلاً حتّى أدخلها، إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، لأنّ معنى هذا معنى سرت قليلاً حتّى أدخلها، فإن جعلت الدخول غاية نصبت.
ومما يكون فيه الرفع شئ ينصبه بعض الناس لقبح القلب، وذلك: ربّما سرت حتّى أدخلها، وطالما سرت حتّى أدخلها، وكثر ما سرت حتّى أدخلها ونحو هذا. فإن احتجّوا بأنه غير سير واحد فكيف يقولون إذا قلت: سرت غير مرّة حتّى أدخلها.
وسألنا من يرفع في قوله: سرت حتّى أدخلها، فرفع في ربّما ولكنّهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في قد.
وتقول: ما أحسن ما سرت حتّى أدخلها وقلّما سرت حتّى أدخلها، إذا أردت أن تخبر أنّك سرت قليلاً وعنيت سيراً واحداً، وإن شئت نصبت على الغاية.
وتقول: قلّما سرت حتّى أدخلها، إذا عنيت سيراً واحداً، أو عنيت غير سير، لأنّك قد تنفي الكثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير.
وتقول: قلّما سرت حتّى أدخلها إذا عنيت غير سير، وكذلك أقلّ ما سرت حتّى أدخلها، من قبل أنّ قلّما نفي لقوله كثر ما، كما أنّ ما سرت نفي لقوله سرت. ألا ترى أنّه قبيح أن تقول: قلّما سرت فأدخلها كما يقبح في ما سرت، إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل.
وتقول: قلّما سرت فأدخلها، فتنصب بالفاء ههنا كما تنصب في ما، ولا يكون كثر ما سرت فأدخلها لأنّه واجب، ويحسن أن تقول: كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول: إنما سرت حتّى أدخلها إذا كنت محتقراً لسيرك الذي أدّى إلى الدخول، ويقبح إنّما سرت حتّى أدخلها، لأنه ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السّير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقر السير، لأنّك لا تجعله سيراً يؤدّي الدخول وأنت تستصغره، وهذا قول الخليل.
وتقول: كان سيري أمس حتّى أدخلها ليس إلاّ، لأنّك لو قلت: كان سيري أمس فإذا أنا أدخلها لم يجز، لأنك لم تجعل لكان خبراً.

وتقول: كان سيري أمس سيراً متعباً حتّى أدخلها، لأنك تقول: ههنا فأدخلها وفإذا أنا أدخلها، لأنك جئت لكان بخبر، وهو قولك: سيراً متعباً.
واعلم أنّ ما بعد حتّى لا يشرك الفعل الذي قبل حتى في موضعه كشركة الفعل الآخر الأوّل إذا قلت: لم أجئ فأقل، ولو كان ذلك لاستحال كان سيري أمس شديداً حتّى أدخل، ولكنها تجئ كما تجئ ما بعد إذا وبعد حروف الابتداء.
وكذلك هي أيضاً بعد الفاء إذا قلت: ما أحسن ما سرت فأدخلها؛ لأنّها منفصلة يعني الفاء؛ فإنما عنينا بقولنا الآخر متّصل بالأوّل أنّهما وقعا فيما مضى، كما أنه إذا قال:
فإنّ المندّى رحلة فركوب
فإنّما يعني أنّهما وقعا في الماضي من الأزمنة، وأنّ الآخر كان مع فراغه من الأوّل.
فإن قلت: كان سيري أمس حتّى أدخلها، تجعل أمس مستقرّاً، جاز الرفع لأنه استغنى، فصار كسرت، لو قلت فأدخلها حسن، ولا يحسن كان سيري فأدخل، إلاّ أن تجئ بخبر لكان.
وقد تقع نفعل في موضع فعلنا في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله، لرجل من بني سلول مولّد:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
واعلم أنّ أسير بمنزلة سرت إذا أردت بأسير معنى سرت.
واعلم أنّ الفعل إذا كان غير واجب لم يكن إلاّ النصب، من قبل أنّه إذا لم يكن واجباً رجعت حتّى إلى أن وكي، ولم تصر من حروف الابتداء كما لم تصر إذن في الجواب من حروف الابتداء إذا قلت: إذن أظنّك، وأظن غير واقع في حال حديثك.
وتقول: أيّهم سار حتّى يدخلها، لأنّك قد زعمت أنه كان سير ودخول، وإنّما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنّك لو قلت: أين الذي سار حتّى يدخلها وقد دخلها لكان حسناً، ولجاز هذا الذي يكون لما قد وقع، لأنّ الفعل ثمّ واقع، وليس بمنزلة قلّما سرت إذا كان نافياً لكثرما، ألا ترى أنّه لو كان قال: قلّما سرت فأدخلها، أو حتّى أدخلها، وهو يريد أن يجعلها واجبة خارجة من معنى قلّما، لم يستقم إلاّ أن تقول: قلّما سرت فدخلت وحتّى دخلت، كما تقول: ما سرت حتّى دخلت. فإنّما ترفع بحتّي في الواجب، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلاً من الأوّل كان مع الأوّل فيما مضى أو الآن. وتقول: أسرت حتّى تدخلها نصب، لأنك لن تثبت سيراً تزعم أنه قد كان معه دخول.
باب ما يكون العمل فيه من اثنينوذلك قولك: سرت حتّى يدخلها زيداً، إذا كان دخول زيد لم يؤدّه سيرك ولم يكن سببه، فيصير هذا كقولك: سرت حتّى تطلع الشمس؛ لأنّ سيرك لا يكون سبباً لطلوع الشمس ولا يؤدّيه، ولكنّك لو قلت: سرت حتّى يدخلها ثقلي، وسرت حتّى يدخلها بدني، لرفعت لأنّك جعلت دخول ثقلك يؤدّيه سيرك، وبدنك لم يكن دخوله إلاّ بسيرك.
وبلغنا أن مجاهداً قرأ هذه الآية: " وزلزلوا حتّى يقول الرّسول " ؛ وهي قراءة أهل الحجاز.
وتقول: سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها، وسرت حتّى أدخلها ويدخلها زيد إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك وهو الذي أدّاه، ولا تجد بدّاً من أن تجعله ههنا في تلك الحال، لأنّ رفع الأوّل لا يكون إلاّ وسبب دخوله سيره.
وإذا كانت هذه حال الأوّل لم يكن بدّ للآخر من أن يتبعه، لأنك تعطفه على دخولك في حتّى. وذلك أنه يجوز أن تقول: سرت حتّى يدخلها زيد، إذا كان سيرك يؤدّي دخوله كما تقول: سرت حتّى يدخلها ثقلي. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيد، لأنك لو قلت: سرت حتّى أدخلها وحتّى تطلع الشمس كان جيداً، وصارت إعادتك حتّى كإعادتك له في تباً له وويل له، ومن عمراً ومن أخو زيد. وقد يجوز أن تقول: سرت حتّى يدخلها زيد إذا كان أدّاه سيرك. ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز: " وزلزلوا حتّى يقول الرّسول " .
واعلم أنّه لا يجوز سرت حتّى أدخلها وتطلع الشمس يقول: إذا رفعت طلوع الشمس لم يجز، وإن نصبت وقد رفعت فهو محال حتّى تنصب فعلك من قبل العطف، فهذا محال أن ترفع، ولم يكن الرفع لأنّ طلوع الشمس لا يكون أن يؤدّيه سيرك فترفع تطلع وقد حلت بينه وبين الناصبة.
ويحسن أن تقول: سرت حتّى تطلع الشمس وحتى أدخلها، كما يجوز أن تقول: سرت إلى يوم الجمعة، وحتى أدخلها. وقال امرؤ القيس:
سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم ... وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان
فهذه الآخرة هي التي ترفع.
وتقول: سرت وسار حتّى ندخلها، كأنك قلت: سرنا حتّى ندخلها.

وتقول: سرت حتّى أسمع الأذان، هذا وجهه وحدّة النصب، لأن سيرك ليس يؤدّي سمعك الأذان، إنّما يؤدّيه الصّبح، ولكنك تقول: سرت حتّى أكلّ لأنّ الكلال يؤدّيه سيرك.
وتقول: سرت حتّى أصبح، لأنّ الإصباح لا يؤدّيه سيرك إنّما هي غاية طلوع الشمس.
هذا باب الفاءاعلم أن ما انتصب في باب الفاء ينتصب على إضمار أن، وما لم ينتصب فإنّه يشرك الفعل الأوّل فيما دخل فيه، أو يكون في موضع مبتدإ أو مبنيّ على مبتدإ أو موضع اسم مما سوى ذلك. وسأبين ذلك إن شاء الله.
تقول: لا تأتيني فتحدّثني، لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل فتقول: لا تأتيني ولا تحدّثني، ولكنّك لمّا حوّلت المعنى عن ذلك تحوّل إلى الاسم، كأنك قلت: ليس يكون منك إتيان فحديث، فلّما أردت ذلك استحال أن تضمّ الفعل إلى الاسم، فأضمروا أن، لأنّ أن مع الفعل بمنزلة الاسم، فلّما نووا أن يكون الأوّل بمنزلة قولهم: لم يكن إتيان، استحالوا أن يضمّوا الفعل إليه، فلّما أضمروا أن حسن؛ لأنّه مع الفعل بمنزلة الاسم.
وأن لا تظهر ههنا، لأنه يقع فيها معان لا تكون في التمثيل، كما لا يقع معنى الاستثناء في لا يكون ونحوها، إلاّ أن تضمر. ولولا أنّك إذا قلت لم آتك صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، لم يجز فأحدّثك، كانك قلت في التمثيل فحديث. وهذا تمثيل ولا يتكلّم به بعد لم آتك، لا تقول: لم آتك فحديث. فكذلك لا تقع هذه المعاني في الفاء إلاّ بإضمار أن، ولا يجوز إظهار أن، كما لا يجوز إظهار المضمر في لا يكون ونحوها.
فإذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، ولم يجز أن تقول فحديث، لأنّ هذا لو كان جائزاً لأظهرت أن.
ونظير جعلهم لم آتك ولا آتيك وما أشبهه بمنزلة الاسم في النية، حتّى كأنهم قالوا: لم يك إتيان، إنشاد بعض العرب قول الفرزدق:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلاّ ببين غرابها
ومثله قول الفرزدق أيضاً:
وما زرت سلمى أن تكون حبيبة ... إلىّ ولا دين بها أنا طالبه
جرّه لأنه صار كأنه قال: لأن.
ومثله قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائياً
لّما كان الأوّل تستعمل فيه الباء ولا تغيّر المعنى، وكانت مما يلزم الأوّل نووها في الحرف الآخر، حتّى كأنّهم قد تكلّموا بها في الأوّل.
وكذلك صار لم آتك بمنزلة لفظهم بلم يكن إتيان، لأنّ المعنى واحد.
واعلم أنّ ما ينتصب في باب الفاء قد ينتصب على غير معنى واحد، وكلّ ذلك على إضمار أن، إلاّ أنّ المعاني مختلفة، كما أنّ يعلم الله يرتفع كما يرتفع يذهب زيد، وعلم الله ينتصب كما ينتصب ذهب زيد، وفيهما معنى اليمين.
فالنصب ههنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيان فأن تحدّث والمعنى على غير ذلك، كما أنّ معنى علم الله لأفعلنّ غير معنى رزق الله. فأن تحدّث في اللفظ مرفوعة بيكن؛ لأنّ المعنى: بم يكن إتيان فيكون حديث.
وتقول: ما نأتيني فتحدّثني، فالنصب على وجهين من المعاني: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدّثني، أي لو أتيتني لحدّثتني.
وأما الآخر: فما تأتيني أبداً إلاّ لم تحدّثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك.
وإن شئت أشركت بين الأوّل والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأوّل فتقول: ما تأتيني فتحدّثني كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدّثني.
فمثل النصب قوله عزّ وجلّ: " لا يقضي عليهم فيموتوا " . ومثل الرفع قوله عزّ وجلّ: " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون " .
وإن شئت رفعت على وجه آخر، كأنك قلت: فأنت تحدّثنا. ومثل ذلك قول بعض الحارثيين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين ... فترجّي ونكثر التأميلا
كأنه قال: فنحن نرجّى. فهذا في موضع مبنيّ على المبتدإ.
وتقول: ما أتيتنا فتحدّثنا، فالنصب فيه كالنّصب في الأوّل، وإن شئت رفعت على: فأنت تحدّثنا الساعة، وارفع فيه يجوز على ما.
وإنّما اختير النصب لأنّ الوجه ههنا وحدّ الكلام أن تقول: ما أتيتنا فحدّثتنا، فلّما صرفوه عن هذا الحدّ ضعف أن يضمّوا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضّموه إلى الاسم في قولهم: ما أنت منّا فتنصرنا ونحوه.
وأمّا الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدّثنا ههنا في موضع حدّثتنا.

وتقول: ما تأتينا فتكلّم إلاّ بالجميل. فالمعنى أنّك لم تأتنا إلاّ تكلّمت بجميل، ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن، وتمثيله كتمثيل الأوّل وإن شئت رفعت على الشّركة كأنه قال: وما تكلّم إلاّ الجميل.
ومثل النصب قول الفرزدق:
وما قام منّا قائم في نديّنا ... فينطق إلاّ بالتي هي أعرف
وتقول: لا تأتينا فتحدّثنا إلاّ ازددنا فيك رغبة، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدّثني إذا أردت معنى: ما تأتيني محدّثاً، وإنّما أراد معنى: ما أتيتني محدّثاً إلاّ ازددت فيك رغبة. ومثل ذلك قول اللّعين:
وما حلّ سعديّ غريباً ببلدة ... فينسب إلاّ الزّبرقان له أب
وتقول: لا يسعني شئ فيعجز عنك، أي لا يسعني شئ فيكون عاجزاً عنك ولا يسعني شئ إلاّ لم يعجز عنك. هذا معنى هذا الكلام. فإن حملته على الأوّل قبح المعنى؛ لأنّك لا تريد أن تقول: إنّ الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك، فهذا لا ينويه أحد.
وتقول: ما أنت منّا فتحدّثنا، لا يكون الفعل محمولاً على ما؛ لأنّ الذي قبل الفعل ليس من الأفعال فلم يشاكله، قال الفرزدق:
ما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في اللّها والغلاصم
وإن شئت رفعت على قوله:
فنرجّي ونكثر التأميلا
وتقول: ألا ماء فأشر به، وليته عندنا فيحدّثنا. وقال أميّة بن أبي الصّلت:
ألا رسول لنا منّا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
لا يكون في هذا إلاّ النصب، لأنّ الفعل لم تضمّه إلى فعل.
وتقول: ألا تقع الماء فتسبح، إذا جعت الآخر على الأوّل، كأنك قلت: ألا تسبح. وإن شئت نصبته على ما انتصب عليه ما قبله، كأنك قلت: ألا يكون وقوع فأن تسبح. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به.
والمعنى في النصب أنه يقول: إذا وقعت سبحت.
وتقول: ألم تأتنا فتحدّثنا، إذا لم يكن على الأوّل. وإن كان على الأوّل جزمت. ومثل النصب قوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... على فرتاج، والطّلل القديم
وإن شئت جزمت على أوّل الكلام.
وتقول: لا تمددها فتشقّها، إذا لم تحمل الآخر على الأوّل. وقال عزّ وجلّ: " لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب " .وتقول: لا تمددها فتشققها، إذا أشركت بين الآخر والأوّل كما أشركت بين الفعلين في لم.
وتقول: ائتني فأحدّثك. وقال أبو النجم:
ياناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فنستريحا
ولا سبيل ههنا إلى الجزم؛ من قبل أنّ هذه الأفعال التي يدخلها الرفع والنصب والجزم، وهي الأفعال المضارعة، لا تكون في موضع افعل أبداً، لأنّها إنما تنتصب وتنجزم بما قبلها، وافعل مبنيّة على الوقف.
فإن أردت أن تجعل هذه الأفعال أمراً أدخلت اللام، وذلك قولك: ائته فليحدّثك، وفيحدّثك إذا أردت المجازاة. ولو جاز الجزم في: ائتني فأحدّثك ونحوها لقلت: تحدّثني تريد به الأمر.
وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدّثنا، إذا جعلته جواباً ولم تجعل الحديث وقع إلاّ بالإتيان؛ وإن أردت فحدّثتنا رفعت.
وتقول: كأنّك لم تأتنا فتحدّثنا؛ وإن حملته على الأوّل جزمت. وقال رجل من بني دارم:
كأنّك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقى بالفناء إهابها
وتقول: ودّلو تأتيه فتحدّثه. والرفع جيّد على معنى التّمني. ومثله قوله عزّ وجلّ: " ودّوا لو تدهن فيدهنون " . وزعم هارون أنّها في بعض المصاحف: " ودّوا لو تدهن فيدهنوا " .
وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعاً، ومعناه: أن لو شتمني لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلاّ الرفع؛ لأنّ هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعل.
واعلم أنّك إن شئت قلت: ائتني فأحدّثك، ترفع. وزعم الخليل: أنّك لم ترد أن تجعل الإتيان سبباً لحديث، ولكنّك كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدّثك البتة، جئت أو لم تجئ. قال النابغة الذبياني:
ولا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسميّ جود ووابل
فينبت حوذاناً وعوفاً منوّراً ... سأتبعه من خير ما قال قائل

وذلك أنه لم يرد أن يجعل النبات جواباً لقوله: ولا زال، ولا أن يكون متعلّقاً به، ولكنه دعا ثم أخبر بقصّة السحاب، كأنّه قال: فذاك ينبت حوذاناً. ولو نصب هذا البيت قال الخليل لجاز، ولكنّا قبلناه رفعاً:
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
لم يجعل الأوّل سبباً للآخر، ولكنّه جعله ينطق على كلّ حال، كأنه قال: فهو مما ينطق كما قال: ائتني فأحدّثك، فجعل نفسه ممن يحدّثه على كلّ حال.
وزعم يونس: أنه سمع هذا البيت بألم. وإنّما كتبت ذا لئّلا يقول إنسان: فلعلّ الشاعر قال ألا. وسألت الخليل عن قول الأعشي:
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضّى لبانات ويسأم سائم
فرفعه وقال: لا أعرف فيه غيره؛ لأنّ أوّل الكلام خبر وهو واجب، كأنه قال: ففي حول تقضّى لبانات ويسأم سائم. هذا معناه.
واعلم أن الفاء لا تضمر فيها أن في الواجب، ولا يكون في هذا الباب إلاّ الرفع، وسنبيّن لم ذلك. وذلك قوله: إنّه عندنا فيحدّثنا، وسوف آتيه فأحدّثه ليس إلا، إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأوّل، وإن شئت كان منقطعاً؛ لأنّك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلاّ الرفع. وقال عزّ وجلّ: " فلا تكفر فيتعلّمون " فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلّمون، ليجعلا كفره سبباً لتعليم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلّمون.
ومثله: " كن فيكون " ، كأنّه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون.
وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الاضطرار من حيث انتصب في غير الواجب، وذلك لأنّك تجعل أن العاملة. فمّما نصب في الشعر اضطراراً قوله:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وقال الأعشى، وأنشدناه يونس:
ثمّت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا
وهو ضعيف في الكلام. وقال طرفة:
لنا هضبة لا يدخل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
وكان أبو عمرو يقول: لا تأتنا فنشتمك.
وسمعت يونس يقول: ما أتيتني فأحدّثك فيما أستقبل، فقلت له: ما تريد به؟ فقال: أريد أن أقول ما أتيتني فأنا أحدّثك وأكرمك فيما أستقبل.
وقال: هذا مثل ائتني فأحدّثك، إذا أراد ائتني فأنا صاحب هذا.
وسألته عن: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة " ، فقال: هذا واجب، وهو تنبيه، كأنّك قلت: أتسمع أن الله أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وإنّما خالف الواجب النفي لأنك تنقض النفي إذا نصبت وتغيّر المعنى، يعني أنك تنفي الحديث وتوجب الإتيان، تقول: ما أتيتني قطّ فتحدّثني إلاّ بالشرّ، فقد نقضت نفي الإتيان وزعمت أنّه قد كان.
وتقول: ما تأتيني فتحدّثني، إذا أردت معنى فكيف تحدّثني، فأنت لا تنفي الحديث، ولكنّك زعمت أنّ منه الحديث، وإنّما يحول بينك وبينه ترك الإتيان.
وتقول: ائتني فأحدّثك، فليس هذا من الأمر الأوّل في شئ.
وإذا قلت: قد كان عندنا فسوف يأتينا فيحدّثنا، لم تزده على أن جئت بواجب كالأوّل، فلم يحتاجوا إلى أن، لما ذكرت لك، ولأنّ تلك المعاني لا تقع هاهنا، ولو كانت الفاء والواو وأو ينصبن لأدخلت عليهن الفاء والواو للعطف، ولكنها كحتّى في الإضمار والبدل، فشبّهت بها لمّا كان النصب فيها الوجه؛ لأنهم جعلوا الموضع الذي يستعملون فيه إضمار أن بعد الفاء كما جعلوه في حتّى، إنما يضمر إذا أراد معنى الغاية، وكاللام في ما كان ليفعل.
هذا باب الواواعلم أنّ الواو ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، وأنها قد تشرك بين الأوّل والآخر كما تشرك الفاء، وأنّها يستقبح فيها أن تشرك بين الأوّل والآخر كما استقبح ذلك في الفاء، وأنّها يجئ ما بعدها مرتفعاً منقطعاً من الأوّل كما جاء ما بعد الفاء.
واعلم أنّ الواو وإن جرت هذا المجرى فإنّ معناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى الأخطل قال:
لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فلو دخلت الفاء ههنا لأفسدت المعنى، وإنّما أراد لا يجتمعنّ النهي والإتيان، فصار تأتي على إضمار أن.
ومما يدّلك أيضاً على أنّ الفاء ليست كالواو قولك: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد فعمرو، تريد أن تعلم بالفاء أنّ الآخر مرّ به بعد الأوّل.

وتقول: لا تأكل السّمك وتشرب اللبن، فلو أدخلت الفاء ههنا فسد المعنى. وإن شئت جزمت على النهي في غير هذا الموضع. قال جرير:
ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإنك إن تفعل تسفّه وتجهل
ومنعك أن ينجزم في الأوّل لأنّه إنما أراد أن يقول له: لا تجمع بين اللبن والسمك، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدة ويشرب اللبن على حدة، فإذا جزم فكأنّه نهاه أن يأكل السمك على كلّ حال أو يشرب اللبن على كلّ حال.
ومثل النصب في هذا الباب قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودّة والإخاء
كأنّه قال: ألم أك هكذا ويكون بيني وبينكم. وقال دريد بن الصّمّة:
قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وتقول: لا يسعني شئ ويعجز عنك، فانتصاب الفعل هاهنا من الوجه الذي انتصب به في الفاء، إلاّ أنّ الواو لا يكون موضعها في الكلام موضع الفاء.
وتقول: ائتني وآتيك، إذا أردت ليكن إتيان منك وأن آتيك، تعني إتيان منك وإتيان منّي. وإن أردت الأمر أدخلت اللام كما فعلت ذلك في الفاء حيث قلت: ائتني فلأحدّثك، فتقول ائتني ولآتك.
ومن النصب في هذا الباب قوله عزّ وجلّ: " ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين " ، وقد قرأها بعضهم: " ويعلم الصّابرين " .
وقال تعالى: " ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون " ، إن شئت جعلت وتكتموا على النهي، وإن شئت جعلته على الواو.
وقال تعالى: " ياليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين " . فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأوّل. والآخر على قولك: دعني ولا أعود، أي فإنّي ممن لا يعود، فإنّما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتّة ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك وأن لا يعود. وأمّا عبد الله بن أبي إسحاق فكان ينصب هذه الآية.
وتقول: زرني وأزورك، أي أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه، ولم ترد أن تقول لتجتمع منك الزيارة وأن أزورك، تعني لتجتمع منك الزيارة فزيارة منّي، ولكنّه أراد أن يقول زيارتك واجبة على كلّ حال، فلتكن منك زيارة. وقال الأعشى:
فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان
ومن النصب أيضاً قوله:
للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
لمّا لم يستقم أن تحمل وتقرّ وهو فعل على لبس وهو اسم، لمّا ضممته إلى الاسم، وجعلت أحبّ لهما ولم ترد قطعة، لم يكن بدّ من إضمار أن. وسترى مثله مبيّناً.
وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب، وهو لكعب الغنويّ:
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول
والرفع أيضاً جائز حسن، كما قال قيس بن زهير بن جذيمة:
فلا يدعني قومي صريحاً لحرّة ... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
ويغضب معطوف على الشيء، ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في صلة الذي.
هذا باب أواعلم أن ما انتصب بعد أو فإنّه ينتصب على إضمار أن كما انتصب في الفاء والواو على إضمارها، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في الفاء والواو، والتمثيل هاهنا مثله ثمّ. تقول إذا قال لألزمنّك أو تعطيني، كأنه يقول: ليكوننّ اللزوم أو أن تعطيني.
واعلم أنّ معنى ما انتصب بعد أو على إلاّ أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل تقول: لألزمنّك أو تقضيني، ولأضربنّك أو تسبقني؛ فالمعنى لألزمنّك إلاّ أن تقتضيني ولأضربنّك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
والقوافي منصوبة، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلاّ أن نموت فنعذرا، وإلاّ أن تعطيني، كما كان تمثيل الفاء على ما ذكرت لك، وفيه المعاني التي فصّلت لك.
ولو رفعت لكان عربيّاً جائزاً على وجهين: على أن تشرك بين الأوّل والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأوّل، يعني أو نحن ممن يموت.
وقال جلّ وعزّ: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " ، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على: أو هم يسلمون.
وقال ذو الرمّة:

حراجيج لا تنفكّ إلاّ مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلداً قفراً
فإن شئت كان على لا تنفكّ نرمي بها، أو على الابتداء.
وتقول: الزمه أو يتقّيك بحقّك، واضربه أو يستقيم. وقال زياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
معناه إلاّ أن، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء؛ لأنّه لا سبيل إلى الإشراك.
وتقول: هو قاتلي أو أفتدي منه؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال: أو أنا أفتدي، وقال طرفة بن العبد:
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشّكر والتّسآل أو أنا مفتدي
وسألت الخليل عن قوله عزّ وجلّ: " وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " ، فزعم أنّ النصب محمول على أن سوى هذه التي قبلها. ولو كانت هذه الكلمة على أن هذه لم يكن للكلام وجه، ولكنه لمّا قال: " إلاّ وحياً أو من وراء حجاب " كان في معنى إلاّ أن يوحي، وكان أو يرسل فعلاً لا يجري على ألاّ، فأجرى على أن هذه، كأنه قال: إلاّ أن يوحي أو يرسل؛ لأنه لو قال: إلاّ وحياً وإلاّ أن يرسل كان حسناً، وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال، فحملوه على أن، إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلاّ يرسل، فكأنه قال: إلاّ وحياً أو أن يرسل.
وقال الحصين بن حمام المرّي:
ولولا رجال من رزام أعزّة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما
يضمر أن، وذاك لأنّه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر أن، كأنّه قال: لولا ذاك، أو لولا أن أسوءك.
وبلغنا أنّ أهل المدينة يرفعون هذه الآية: " وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " فكأنه والله أعلم قال الله عزّ وجلّ: لا يكلّم الله البشر إلاّ وحياً أو يرسل رسولاً، أي في هذه الحال وهذا كلامه إيّاهم، كما تقول العرب: تحيتّك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل. وقال الشاعر، وهو عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع
وسألت الخليل عن قول الأعشي:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا، لمّا كان موضعها لو قال فيه أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابق شيئاً. وأمّا يونس فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: أو أنتم نازلون. وعلى هذا الوجه فسّر الرفع في الآية، كأنه قال: أو هو يرسل رسولاً، كما قال طرفة:
أو أنا مفتدي
وقول يونس أسهل، وأمّا الخليل فجعله بمنزلة قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائياً
والإشراك على هذا التوهّم بعيد كبعد ولا سابق شيئاً. ألا ترى أنّه لو كان هذا كهذا لكان في الفاء والواو. وإنّما توهّم هذا فيما خالف معناه التمثيل. يعني مثل هو يأتينا ويحدّثنا. يقول: يدخل عليك نصب هذا على توهّم أنّك تكلّمت بالاسم قبله، يعني مثل قولك: لا تأته فيشتمك؛ فتمثيله على لا يكن منك إتيان فشتيمة، والمعنى على غير ذلك.
باب اشتراك الفعل في أنوانقطاع الآخر من الأوّل الذي عمل فيه أن
فالحروف التي تشرك: الواو، والفاء، وثمّ، وأو. وذلك قولك: أريد أن تأتيني ثم تحدّثني، وأريد أن تفعل ذاك وتحسن، وأريد أن تأتينا فتبايعنا، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت: أريد أن تأتيني ثم تحدّثني جاز، كأنك قلت: أريد إتيانك ثم تحدّثني.
ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال. وقال عزّ وجلّ: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عباداً لي من دون الله " ، ثم قال سبحانه: " ولا يأمركم " ، فجاءت منقطعة من الأوّل، لأنّه أراد: ولا يأمركم الله. وقد نصبها بعضهم على قوله: وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا.
وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني، لم يرد الشّتيمة، ولكنّه قال: كلّما أردت إتيانك شتمتني. هذا معنى كلامه، فمن ثمّ نقطع من أن. قال رؤبة:
يريد أن يعربه فيعجمه
أي فإذا هو يعجمه.

وقال الله عزّ وجلّ: " لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام " ، أي ونحن نقرّ في الأرحام؛ لأنّه ذكر الحديث للبيان ولم يذكره للإقرار. وقال عزّ وجلّ: " أن تضلّ إحداهما الأخرى فتذكر إحدهما الأخرى " ، فانتصب لأنّه أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى ومن أجل أن تذكّر.
فإن قال إنسان: كيف جاز أن تقول: أن تضلّ ولم يعدّ هذا للضلال وللالتباس؟ فإنما ذكر أن تضلّ لأنه سبب الأذكار، كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه، وهو لا يطلب بإعداد ذلك ميلان الحائط، ولكنّه أخبر بعلّة الدّعم وبسببه.
وقرأ أهل الكوفة: " فتذكّر " رفعاً.
وسألت الخليل عن قول الشاعر، لبعض الحجازييّن:
فما هو إلاّ أن أراها فجاءة ... فأبهت حتّى ما أكاد أجيب
فقال: أنت في أبهت بالخيار، إن شئت حملتها على أن، وإن شئت لم تحملها عليه فرفعت، كأنّك قلت: ما هو إلاّ الرأي فأبهت.
وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعاً من أن:
يعالج عاقراً أعيت عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا
كأنه قال: يعالج فإذا هو ينتجها. وإن شئت على الابتداء.
وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد، وإن شئت رفعت، كأنّك قلت لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد.
وتقول: ما عدا أن رآني فيثب، كأنّه قال ما عدا ذلك فيثب، لأنه ليس على أوّل الكلام. فإن أردت أن تحمل الكلام على أن فإنّ أحسنه ووجهه أن تقول: ما عدا أن رآني فوثب، فضعف يثب هاهنا كضعف ما أتيتني فتحدّثني، إذا حملت الكلام على ما.
ونقول: ما عدوت أن فعلت، وهذا هو الكلام، ولا أعدوا أن أفعل، وما آلو أن أفعل، يعني لقد جهدت أن أفعل.
وتقول: ما عدوت أن آتيك، أي ما عدوت أن يكون هذا من رأي فيما أستقبل. ويجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلاّ في مجازاة، نحو: إن فعلت فعلت.
وتقول: والله ما أعدو أن جالستك، أي أن كنت فعلت ذلك، أي ما أجاوز مجالستك فيما مضى. ولو أراد ما أعدو أن جالستك غداً كان محالاً ونقضاً، كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا.
وإنّما ذكرت هذا لتصرّف وجوهه ومعانيه، وأن لا تستحيل منه مستقيماً، فإنّه كلام يستعمله الناس.
ومما جاء منقطعاً قول الشاعر، وهو عبد الرحمن بن أمّ الحكم:
على الحكم المأتيّ يوماً إذا قضى ... قضيّته أن لا يجوز ويقصد
كأنّه قال: عليه غير الجور، ولكنّه يقصد أو هو قاصد، فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن، كما تقول: عليه أن لا يجور، وينبغي له كذا وكذا، فالابتداء في هذا أسبق وأعرف؛ لأنّها بمنزلة قولك، كأنّه قال: ونولك. فمن ثمّ لا يكادون يحملونها على أن.
هذا باب الجزاءفما يجازى به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيهم. وما يجازى به من الظروف: أيّ حين، ومتى، وأين، وأنّى، وحيثما. ومن غيرهما: إن، وإذ ما.
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتّى يضمّ إلى كلّ واحد منهما ما فتصير إذ مع ما بمنزلة إنّما وكأنّما، وليست ما فيهما بلغو، ولكنّ كلّ واحد منهما مع ما بمنزلة حرف واحد.
فممّا كان من الجزاء بإذما قول العبّاس بن مرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاًّ عليك إذا اطمأنّ المجلس
وقال الآخر، قالوا: هو لعبد الله بن همّام السّلوليّ:
إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أصعّد سيراً في البلاد وأفرع
فإنّي من قوم سواكم وإنّما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع
سمعناهما ممن يرويهما عن العرب. والمعنى إمّا.
وممّا جاء من الجزاء بأنّي قول لبيد:
فأصبحت أنّي تأتها تلتبس بها ... كلا مر كبيها تحت رجلك شاجر
وفي أين قوله، وهو ابن همّام السّلوليّ:
أين تضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتّلاقي
وإنّما منع حيث أن يجازى بها أنّك تقول: حيث تكون أكون، فتكون وصل لها، كأنّك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون.

ويبيّن هذا أنّها في الخبر بمنزلة إنّما وكأنّما وإذا، أنّه يبتدأ بعدها الأسماء، أنك تقول: حيث عبد الله قائم زيد، وأكون حيث زيد قائم. فحيث كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر، ولا يكون هذا من حروف الجزاء. فإذا ضممت إليها ما صارت بمنزلة إن وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجئ بما، وصارت بمنزلة إمّا.
وأمّا قول النحويّين: يجازى بكلّ شئ يستفهم به، فلا يستقيم، من قبل أنك تجازى بإن وبحيثما وإذ ما ولا يستقيم بهن الاستفهام، ولكنّ القول فيه كالقول في الاستفهام. ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلة. فالوجه أن تقول: الفعل ليس في الجزاء بصلة لما قبله كما أنّه في حروف الاستفهام ليس صلة لما قبله، وإذا قلت: حيثما تكن أكن، فليس بصلة لما قبله، كما أنّك إذا قلت أين تكون وأنت تستفهم فليس الفعل بصلة لما قبله، فهذا في الجزاء ليس بصلة لما قبله، كما أنّ ذلك في الاستفهام ليس بوصل لما قبله. وتقول: من يضربك في الاستفهام، وفي الجزاء: من يضربك أضربه، فالفعل فيهما غير صلة.
وسألت الخليل عن مهما فقال: هي ما أدخلت معها ما لغواً، بمنزلتها مع متى إذا قلت متى ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع إن إذا قلت إن ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع أين كما قال سبحانه وتعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت " وبمنزلتها مع أيّ إذا قلت: " أيّاما تدعوا فله الأسماء الحسنى " ، ولكنهم استقبحوا أن يكرّروا لفظاً واحداً فيقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد يجوز أن يكون مه كإذ ضمّ إليها ما.
وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنع أصنع.فقال: هي مستكرهة وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأنّ معناها على أيّ حال تكن أكن.
وسألته عن إذا، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في إذا بمنزلته في إذ، إذا قلت: أتذكر إذ تقول، فإذا فيما تستقبل بمنزلة إذ فيما مضى. ويبيّن هذا أنّ إذا تجئ وقتاً معلوماً؛ ألا ترى أنّك لو قلت: آتيك إذا احمرّ البسر كان حسناً، ولو قلت: آتيك إن احمرّ البسر، كان قبيحاً. فإن أبداً مبهمة، وكذلك حروف الجزاء. وإذا توصل بالفعل، فالفعل في إذا بمنزلته في حين كأنك قلت: الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. وقال ذو الرمّة:
تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب.
وقال الآخر، ويقال وضعه النحويّون:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثّريد
وقد جازوا بها في الشّعر مضطرّين، شبهوها بإن، حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بدّلها من جواب.
وقال قيس بن الخطيم الأنصاريّ:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وقال الفرزدق:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... ناراً إذا خمدت نيرانهم تقد
وقال بعض السّلوليّين:
إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينك يسجم
فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكنّ الجيّد قول كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطاً مذعوراً
واعلم أنّ حروف الجزاء تجزم الأفعال وينجزم الجواب بما قبله.
وزعم الخليل أنّك إذا قلت: إن تأتني آتك، فآتك انجزمت بإن تأتني، كما تنجزم إذا كانت جواباً للأمر حين قلت: ائتني آتك.
وزعم الخليل أن إن هي أمّ حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل أنّي أرى حروف الجزاء قد يتصرّفن فيكنّ استفهاما ومنها ما يفارقه ما فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حال واحدة أبداً لا تفارق المجازاة.
واعلم أنّه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء فأمّا الجواب بالفعل فنحو قولك: إن تأتني آتك، وإن تضرب أضرب، ونحو ذلك.
وأمّا الجواب بالفاء فقولك: إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثمّ. ألا ترى أنّ الرجل يقول افعل كذا وكذا فتقول: فإذن يكون كذا وكذا. ويقول: لم أغث أمس، فتقول: فقد أتاك الغوث اليوم. ولو أدخلت الواو وثمّ في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز.

وسألت الخليل عن قوله جلّ وعزّ: " وإن تصبهم سيئة بما قدّمت أيديهم إذا هم يقنطون " فقال: هذا كلام معلّق بالكلام الأوّل كما كانت الفاء معلقة بالكلام الأول وهذا ها هنا في موضع قنطلوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. قال: ونظير ذلك قوله: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " بمنزلة أم صمتّم. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنّها لا تجئ مبتدأة كما أنّ الفاء لا تجئ مبتدأة.
وزعم الخليل أنّ إدخال الفاء على إذا قبيح، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسناً لكان الكلام بغير الفاء قبيحاً؛ فهذا قد استغنى عن الفاء كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هاهنا جواباً كما صارت الفاء جواباً.
وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريم، فقال: لا يكون هذا إلاّ أن يضطرّ شاعر، من قبل أنّ أنا كريم يكون كلا ما مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلاّ معلّقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقد قاله الشاعر مضطراً، يشبهه بما يتكلّم به من الفعل. قال حسّان بن ثابت:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشرّ بالشرّ عند الله مثلان
وقال الأسديّ:
بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم
وزعم أنّه لا يحسن في الكلام إن تأتني لأفعلنّ، من قبل أنّ لأفعلنّ تجئ مبتدأة. ألا ترى أنّ الرجل يقول لأفعلنّ كذا وكذا. فلو قلت: إن أتيتني لأكرمنّك، وإن لم تأتني لأغمّنّك، جاز لأنّه في معنى لئن أتيتني لأكرمنّك ولئن لم تأتني لأغمّنّك، ولا بدّ من هذه اللام مضمرة أو مظهرة لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنّك.
فإن قلت: لئن تفعل لأفعلنّ قبح، لأنّ لأفعلنّ على أوّل الكلام، وقبح في الكلام أن تعمل إن أو شئ من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله. ألا ترى أنّك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول آتيك إن تأتني، إلاّ في شعر، لأنك أخّرت إن وما عملت فيه ولم تجعل لإن جوابا ينجزم بما قبله.
فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى أنه قال عزّ وجلّ: " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين " وقال عزّ وجلّ: " وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " لمّا كانت إن العاملة لم يحسن إلاّ أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت.
وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني. قال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
ولا يحسن إن تأتني آتيك، من قبل أنّ إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجليّ:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
أي أنّك تصرع إن يصرع أخوك. ومثل ذلك قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب
أي والمرء ذئب إن يلق الرّشا. قال الأصمعيّ: هو قديم، أنشدينه أبو عمرو. وقال ذو الرمّة:
وأنّي متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر
أي ناظر متى أشرف. فجاز هذا في الشعر، وشبّهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً؛ لأنّ المعنى واحد، كما شبّه الله يشكرها وظالم بإذا هم يقنطون، جعله بمنزلة يظلم ويشكرها الله، كما كان هذا بمنزلة قنطوا، وكما قالوا في اضطرار: إن تأتني أنا صاحبك، يريد معنى الفاء، فشبّهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.
وقد يقال: إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك، لأنّ هذا في موضع الفعل المجزوم، وكأنه قال: إن تفعل أفعل.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها " ، فكان فعل. وقال الفرزدق:
دسّت رسولاً بأنّ القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال الأسود بن يعفر:
ألا هل لهذا الدّهر من متعلّل ... عن النّاس مهما شاء بالناس يفعل
وقال: إن تأتني فأكرمك، أي فأنا أكرمك، فلا بدّ من رفع فأكرمك إذا سكتّ عليه، لأنّه جواب، وإنّما ارتفع لأنه مبنيّ على مبتدإ.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ " ومن عاد فينتقم الله منه " ومثله: " ومن كفر فأمتعه قليلاً " ومثله: " فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً " .
باب الأسماء التي يجازي بهاوتكون بمنزلة الّذي
وتلك الأسماء: من، وما،وأيّهم. فإذا جعلتها بمنزلة الّذي، قلت: ما تقول أقول، فيصير تقول صلة لما حتّى تكمل اسماً، فكأنّك قلت: الذي تقول أقول. وكذلك: من يأتني آتيه وأيّها تشاء أعطيك. وقال الفرزدق:
ومن يميل أمال السّيف ذروته ... حيث التقى من حفا في رأسه الشّعر
وتقول: آتي من يأتيني، وأقول ما تقول، وأعطيك أيّها تشاء. هذا وجه الكلام وأحسنه، وذلك أنه قبيح أن تؤخّر حرف الجزاء إذا جزم ما بعده فلّما قبح ذلك حملوه على الذّي، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول: آتيك إن تأتني. فإذا قلت: آتي من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلة وإن شئت كانت بمنزلتها في إن.
وقد يجوز في الشعر: آتي من يأتني، وقال الهذليّ:
فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها ... مطبّعة من يأتها لا يضيرها
هكذا أنشدناه يونس، كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، كما كان: وإنّي متى أشرف ناظر، على القلب، ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن. وإن قلت: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن، وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنّى تأتها، لم يجز إلاّ في الشعر، وكان جزماً. وإنما كان من قبل أنّهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجاً إلى الصلة حتّى يكمل اسماً. ألا ترى أنه لا تقول مهما تصنع قبيح، ولا في الكتاب مهما تقول، إذا أراد أن يجعل القول وصلاً. فهذه الحروف بمنزلة إن لا يكون الفعل صلة لها. فعلى هذا فأجر ذا الباب.
باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بهابمنزلة الّذي
وذلك قولك: إنّ من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه.
وإنّما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنّك أعملت كان وإنّ، ولم يسغ لك أن تدع كان وأشباهه معلّقة لا تعملها في شئ فلّما أعملتهنّ ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه. ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى، تريد إنّ إن وإنّ متى، كان محالاً. فهذا دليل على أنّ الجزاء لا ينبغي له أن يكون هاهنا بمن وما وأيّ. فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.
فمن ذلك قولك: إنّه من يأتنا نأته، وقال جلّ وعزّ: " إنّه من يأت ربّه مجرماً فإنّ له جهنّم لا يموت فيها ولا يحيا " ، وكنت من يأتني آته. وتقول: كان من يأته يعطه، وليس من يأته يحببه، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس، لأنّه حينئذ بمنزلة لست وكنت. فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفنا.
وقد جاء في الشعر إنّ من يأتني آته. قال الأعشى:
إنّ من لام في بني بنت حسّا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب
وقال أميّة بن أبي الصّلت:
ولكنّ من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدّته ينزل به وهو أعزل
فزعم الخليل أنّه إنما جازى حيث أضمر الهاء، وأراد إنّه ولكنّه، كما قال الراعي:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة ... وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا
أراد: فلو أنّه حقّ اليوم. ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.
وتقول: قد علمت أن من يأتني آته، من قبل أنّ أنّ هاهنا فيها إضمار الهاء، ولا تجئ مخفّفة هاهنا إلاّ على ذلك، كما قال، وهو عديّ بن زيد:
أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص
ولا يجوز أن تنوي في كان وأشباه كان علامة إضمار المخاطب ولا تذكرها. لو قلت: ليس من يأتك تعطه، تريد لست، لم يجز. ولو جاز ذلك لقلت كان من يأتك تعطه، تريد به كنت. وقال الشاعر، الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
فهذا يريد معنى الهاء.
ولا تخفّف أن إلاّ عليه، كما قال: قد علمت أن لا يقول ذاك، أي أنّه لا يقول. وقال عزّ وجلّ: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً " . وليس هذا بقويّ في الكلام كقوّة أن لا يقول، لأنّ لا عوض من ذهاب العلامة. ألا ترى أنّهم لا يكادون يتكلّمون به بغد الهاء، فيقولون: قد علمت أن عبد الله منطلق.
باب يذهب فيه الجزاء من الأسماءكما ذهب في إنّ وكان وأشباههما.

غير أنّ إنّ وكان عوامل فيما بعدهنّ، والحروف في هذا الباب لا يحدثن فيما بعدهنّ من الأسماء شيئاً كما أحدثت إنّ وكان وأشباههما، لأنّها من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبنيّ عليه فلا تغيّر الكلام عن حاله، وسأبيّن لك كيف ذهب الجزاء فيهن إن شاء الله.
فمن ذلك قولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وما من يأتينا نأتيه، وأمّا من يأتينا فنحن نأتيه.
وإنّما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه. ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، كما لم يجز أن تقول: إنّ إن تأتنا نأتك، فلمّا ضارع هذا الباب باب إنّ وكان كرهوا الجزاء فيه.
وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف، فتقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته. فإنما أجازوه لأن إذ وهذه الحروف لا تغيّر ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجئ بها، فقالوا: ندخلها على من يأتنا نأته ولا تغيّر الكلام، كأنّا قلنا من يأتنا نأته، كما أنّا إذا قلنا إذ عبد الله منطلق فكأنّا قلنا: عبد الله منطلق؛ لأنّ إذ لم تحدث شيئاً لم يكن قبل أن تذكرها. وقال لبيد:
على حين من تلبث عليه ذنوبه ... يرث شربه إذ في المقام تدابر
ولو اضطرّ شاعر فقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، جاز له كما جاز في من.
وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين إذ ومن، كما فصل الاسم في كان بين كان ومن. وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأنّ الإضمار يحسن هاهنا. ألا ترى أنك تقول: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررت به فإذا أيّما رجل. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: فإذا هو من يأته يعطه. فإذا لم تضمر وجعلت إذا هي لمن، فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم.
وتقول: لا من يأتك تعطه، ولا من يعطك تأته، من قبل أنّ لا ليست كإذ وأشباهها، وذلك لأنّها لغو بمنزلة ما في قوله عزّ وجلّ: " فبما رحمة من الله لنت لهم " ، فما بعده كشيء ليس قبله لا. ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيّره عن حاله، تقول: مررت برجل لا قائم ولا قاعد. وتدخل على النصب فلا تغيّره عن حاله، تقول: لا مرحباً ولا أهلاً، فلا تغيّر الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن تنفيه، ولا تنفيه مغيّراً عن حاله، يعني في الإعراب التي كان عليها، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه لا، وإذ وأشباهها لا يقعن هذه المواقع ولا يكون الكلام بعدهن إلاّ مبتدأ. وقال ابن مقبل:
وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من يأتها يتدسّم
ووقوع إن بعد لا يقوّي الجزاء فيما بعد لا. وذلك قول الرجل: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا؛ ولا لغو في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: خفت أن لا تقول ذاك وتجري مجرى خفت أن تقول.
وتقول: إن لا يقل أقل، فلا لغو، وإذ وأشباهها ليست هكذا، إنّما يصرفن الكلام أبداً إلى الابتداء.
وتقول: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنّك قد تضمرها هنا كما تضمر في إذا. ألا ترى أنك تقول: ما رأيتك عاقلاً ولكن أحمق. وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا. قال طرفة:
ولست بحلاّل التلاّع مخافةً ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
كأنه قال: أنا. ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من والّذي. وسمعناهم ينشدون قول العجير السّلوليّ:
وما ذاك أن كان ابن عميّ ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضرّ أنفع
والقوافي مرفوعة كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء، وما لغو، ولم يجد سبيلاً إلى أن يكون بمنزلة من فتوصل، ولكنها كمهما.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: " وأمّا إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين " فإنّما هو كقولك: أمّا غداً فلك ذاك. وحسنت إن كان لأنه لم يجزم بها، كما حسنت في قوله: أنت ظالم إن فعلت.
باب إذا ألزمت فيه الأسماء التي تجازى بهاحروف الجرّ لم تغيّرها عن الجزاء
وذلك قولك: على أيّ دابّة أحمل أركبه، وبمن تؤخذ أو خذ به.
هذا قول يونس والخليل جميعاً.
فحروف الجرّ لم تغيّرها عن حال الجزاء، كما لم تغيّرها عن حال الاستفهام. ألا ترى أنّك تقول: بمن تمرّ، وعلى أيّها أركب؟ فلو غيّرتها عن الجزاء غيّرتها عن الاستفهام. وقال ابن همّام السّلوليّ:

لّما تمكّن دنياهم أطاعهم ... في أيّ نحو يميلوا دينه يمل
وذاك لأنّ الفعل إنّما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها، فالفعل مع الباء بمنزلة فعل ليس قبله حرف جرّ ولا بعده، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة؛ لأنّ الفعل يصل بالجرّ إلى الاسم كما يصل غيره ناصباً أو رافعاً. فالجرّ هاهنا نظير النصب والرفع في غيره.
فإن قلت: بمن تمرّ به أمرّ، وعلى أيّهم تنزل عليه أنزل، وبما تأتيني به آتيك، رفعت لأنّ الفعل إنّما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية والباء الأولى للفعل الآخر، فتغيّر عن حال الجزاء كما تغيّر عن حال الاستفهام، فصارت بمنزلة الّذي؛ لأنّك أدخلت الباء للفعل حين أوصلت الفعل الذي يلي الاسم بالباء الثانية إلى الهاء، فصارت الأولى ككان وإنّ - يقول: لا يجازى بما بعدها - وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإنّ فيما بعدهما.
وقد يجوز أن تقول: بمن تمرر أمره، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه؛ وليس بحدّ الكلام، وفيه ضعف. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو بعض الأعراب:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوماً على من يتكل
يريد: يتكل عليه، ولكنه حذف. وهذا قول الخليل.
وتقول: غلام من تضرب أضربه؛ لأنَّ ما يضاف إلى من بمنزلة من. ألا ترى أنك تقول: أبوأيهم رأيته، كما تقول: أيهم رأيته. وتقول: بغلام من تؤخذ أو خذ به، كأنك قلت: بمن تؤخذ أؤخذ به.
وحسن الاستفهام ها هنا يقوِّي الجزاء، تقول: غلام من تضرب، وبغلام من مررت. ألا ترى أنّ كينونة الفعل غير وصل ثابتة.
وتقول: بمن تمرر أمرر به، وبمن تؤخذ أوخذ به. فحدُّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر لأنه فعل لا يصل إلا بحرف الإضافة. يدلّك على ذلك أنك لو قلت: من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول عليه، إلا في شعر.
فإن قلت: بمن تمرر أمرر أو بمن تؤخذ أوخذ، فهو أمثل وليس بحد الكلام. وإنما كان في هذا أمثل لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول، فعلم أنّ الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.

باب الجزاء إذا أدخلت فيه ألف الاستفهاموذلك قولك: أإن تأتني آتك. ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء، ومتى مثلها؛ فمن ثمًّ أدخل عليه الألف، تقول: أمتى تشتمني أشتمك وأمن يفعل ذاك أزره؛ وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عملَ بعضه في بعض فلم يغيَّره، وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك، لا تغيَّر الكلام عن حاله، وليست كإذ وهل وأشباههما. ألا ترى أنها تدخل على المجرور والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيّره عن لفظ المستفهم. ألا ترى أنه يقول : مررت بزيدٍ فتقول: أزيد إن شئت قلت أزيدنيه، وكذلك تقول في النصب والرفع؛ وإن شئت أدخلتها على كلام المخبر ولم تحذف منه شيئاً، وذلك إذا قال: مررت بزيدٍ قلت: أمررت بزيد. ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها.
ولو قلت: هل مررت بزيدٍ كنت مستأنفاً. ألا ترى أنَّ الألف لغو. فإن قيل: فإن الألف لا بدَّ لها من أن تكون معتمدة على شيء فإنَّ هذا الكلام معتمد لها، كما تكون صلةً للذي إذا قلت: الذي إن تأته يأتك زيد. فهذا كلُّه وصلٌ.
فإن قال: الذي إن تأته يأتيك زيدٌ، وأجعل يأيتكَ صلةَ الَّذي لم يجد بدَّاً من أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؛ لأنَّ أنا لا يكون كلاماً حتى يبنى عليه وأمَّا يونس فيقول: أإن تأتني آتيك. وهذا قبيح يكره في الجزاء وإن كان في الاستفهام. وقال عزَّ وجلَّ: " أفإن متَّ فهم الخالدون. " ولو كان ليس موضعَ جزاء قبح فيه إن، كما يقبح أن، تقول: أتذكر إذ إن تأتني آتيك. فلو قلت: إن أتيتني آتيك على القلب كان حسناً.
؟باب الجزاء إذا كان القسم في أوَّله
وذلك قولك: والَّله إن أتيتني لا أفعل، لا يكون إلا معتمدةً عليه اليمين. ألا ترى أنَّك لو قلت: والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت والَّله من يأتني آته كان محالاً، واليمين لا تكون لغواً كلا والألف؛ لأن اليمين لآخر الكلام وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين وإذا قلت آإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلقٌ، فلو أدخلت اليمن غيَّرت الكلام.

وتقول: أنا والَّله إن تأتني لا آتك؛ لأن هذا الكلام مبني على أنا ألا ترى أنه حسن أن تقول: أتا والله إن تأتني آتك فالقسم ها هنا لغوٌ.فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه. ألا ترى أنك تقول: لئن أتيتني لا أفعل ذاك، لأنها لام قسمٍ. ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا أفعل؛ لأنَّ الآخر لا يكون جزماً.
وتقول: والَّله إن أتيتني آتيك، وهو معنى لا آتيك، وهو معنى لا آتيك. فإن أردت أن الإتيان يكون فهو غير جائز، وإن نفيت الإتيان وأردت معنى لا آتيك فهو مستقيم. وأمَّا قول الفرزدق:
وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي ... بها أن يضلَّ الناس يهدى ضلالها
فلا يكون الآخر إلا رفعاً، لأنَّ أن لا يجازى بها وإنما هي مع الفعل اسم فكأنه قال: لأن يضلَّ الناس يهدى. وهكذا أنشده الفرزدق.
باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهمافأمَّا ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتني تسألني أعطك، وإن تأتني تمش أمش معك. وذلك لأنك أردت أن تقول إن تأتني سائلاً يكن ذلك، وإن تأتني ماشياً فعلت. وقال زهير:
ومن لا يزل يستحمل النَّاس نفسه ... ولا يغنها يوماً من الدهر يسأم
إنما أراد: من لا يزل مستحملاً يكن من أمره ذاك. ولو رفع يغنها جاز وكان حسناً، كأنَّه قال: من لا يزل لا يغنى نفسه.
ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نارٍ عندها خير موقد
وسألت الخليل عن قوله:
متى تأتنا بلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
قال: تلمم بدل من الفعل الأول. ونظيره في الأسماء: مررت برجلٍ عبد الَّله، فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسَّر الاسم الأوَّل بالاسم الآخر.
ومثل ذلك أيضاً قوله، أنشدنيهما الأصمعيّ عن أبي عمرو لبعض بني أسد:
إن يبخلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجَّلين كأنهم لم يفعلو
فقوله يغدوا: بدل من لا يحفلوا،وغدوهم مرجَّلين يفسِّر أنَّهم لم يحفلوا.
وسألته: هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك؟ فقال : هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول، لأنَّ الأوّل الفعل الآخر تفسير له، وهو هو، والسُّوال لا يكون الإتيان، ولكنَّه يجوز على الغلط والنَّسيان ثم يتدارك كلامه.
ونظير ذلك في الأسماء: مررت برجلٍ حمارٍ، كأنه نسي ثم تدارك كلامه.
وسألته عن قوله جلَّ وعزَّ: " ومن يفعل ذلك يلق أثاماً. يضاعف له العذاب يوم القيامة " فقال: هذا كالأوّل؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيٌّ الآثام.
ومثل ذلك من الكلام: إن تأتنا بحسن إليك نعطك ونحميك، تفسر الإحسان بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلاً من الأول.
فإن قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك، كان غير جائز؛ لأنَّ القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا وأمَّا ما ينجزم بين المجزومين فقولك: إن تأتني ثمَّ تسألني أعطك، وإن تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتنيي وتسألني أعطك. وذلك لأنَّ هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول. وكذلك أو وما أشبههنَّ.
ولا يجوز في ذا الفعل الرفع. وإنَّما كان الرفع في قوله متى تأته تعشو، لأنَّه في موضع عاش، كأنه قال: متى تأته عاشياً. ولو قلت متى تأته وعاشياً كان محالاً. فإنَّما أمرهن أن يشركن بين الأوّل والآخر.
وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثني أحدثك، وإن تأتني وتحدثني أحدِّثك، فقال: هذا يجوز، والجزم الوجه.
ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد إن يكن إتيان فحديث أحدِّثك ،فلمَّا قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أن، لأن الفعل معها اسم.
وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد من الحديث، فلمّا كان ذلك كان أن يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى؛ وكرهوا أن يتخطَّوا به من بابه إلى آخر إذا كان يريد شيئاً واحداً.
وسألته عن قول ابن زهير:
ومن لا يقدِّم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى الأرض يزلق
فقال: النصب في هذا جيِّد، لأنه أرادها هنا من المعنى ما أراد في قوله: لا تأتينا إلا لم تحدِّثنا، فكأنه قال: من لا يقدَّم إلا لم يثبت زلق.

ولا يكون أبداً إذا قلت: إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر الا رفعا، وإنَّما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أنّ هذا منقطع من الأوّل؛ شريك له وإذا قلت إن يكن إتيان فحديثٌ أحدثك، فالحديث متصل بالأول؛ ألا ترى أنَّك إذا قلت: إن يكن إتيانٌ فحديث ثمّ سكتَّ وجعلته جواباً لم يشرك الأول، وكان مرتفعاً بالابتداء.
وتقول: إن تأتني لآتك فأُحدثك. هذا الوجه، وإن شئت ابتدأتَ. وكذلك الواو وثمَّ، وإن شئت نصبت بالواو والفاء كما نصبت ما كان بين المجزومين.
واعلم أنّ ثمَّ لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما يضمر بعده أن، وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء،وليس معناها معنى الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها.
واعلم أنّ ثمَّ إذا أدخلته على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلَّا جزماً، لأَّنه ليس مما ينصب. وليس يحسن الابتداء لأنَّ ما قبله لم ينقطع. وكذلك الفاء والواو وأو إذا لم ترد بهن النصب، فإذا انقضى الكلام ثم جئت بثمَّ، فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت. وكذلك الواو والفاء. قال الَّله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمَّ لا ينصرون " وقال تبارك وتعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم " إِّلا أنَّه قد يجوز النصب بالفاء والواو.
وبلغنا أنَّ بعضهم قرأ: " يحاسبكم به الَّله فيغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء " والَّله على كل شيء قدير " وتقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك، وإن تأتني فأنا لآتيك وأحسن إليك. وقال عزَّ وجلَّ: " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم " . والرفع ههنا وجه الكلام، وهو الجيِّد؛ لأنَّ الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء فجرى الفعل هنا كما كان يجري في غير الجزاء.
وقد بلغنا أنَّ بعض القرَّاء قرأ: " من يضلل الَّله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " ؛ وذلك لأنَّه حمل الفعل على موضع الكلام؛لأنَّ هذا الكلام في موضع يكون جواباً؛ لأنّ أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء؛ ولكنَّهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره.
؟ومثل الجزم ههنا النصب في قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصبٍ، كما كان موضع ذاك موضع جزمِ.
وتقول: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل، فالرفع ههنا الوجه إذا لم يكن محمولاً على لن كما قال الرفع الوجه في قوله فهو خير لك وأكرمك ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك فالرفع الوجه إذا لم تحمله على لم كما كان ذلك في لن.
وأحسن ذلك أن تقول: إن تأتني لا آتك، كما أن أحسن الكلام أن تقول: إن أتيتني لم آتك. وذلك أنّ لم أفعل نفي فعل وهو مجزوم بلم، ولا أفعل نفي أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل. وإذا قال إن فعلت فأحسن الكلام أن تقول: فعلت، لأنَّه مثله. فكما ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت، قبح لم أفعل مع يفعل، لأن لم أفعل نفي فعلت. وقبح لا أفعل مع فعل لأنها نفي أفعل.
واعلم أنَّ النصب بالفاء والواو في قوله:إن تأتني لآتك وأعطيك ضعيف، وهو نحومن قوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا يجوز وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلَّا أنَّه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنّه ليس بواجب أنّه يفعل، إلّا أن يكون من الأول فعلٌ، فلمَّا ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، وإن كان معناه كمعنى ما قبله إذا قال وأعطيك. وإنَّما هو في المعنى كقوله أفعل إن شاء الَّله، يوجب بالإستثناء. قال الأعشى فيما جاز من النصب:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصرع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وتدفن منه الصالحات وإن يسىء ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
باب من الجزاء ينجزم فيه الفعلإذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهام أو تمنِّ أو عرض
فأما ما انجزم بالأمر فقولك : ائتني آتك.
وأما ما انجزم بالنهي فقولك: لا تفعل يكن خيراً لك.
وأمّا ما انجزم بالاستفهام فقولك: ألا تأتيني أحدثِّك؟ وأين تكون أزرك؟ وأمّا ما انجزم بالتّمني فقولك: ألا ماءَ أشربه، وليته عندنا يحدَّثنا.

وأمَّا ما انجزم بالعرض فقولك: ألا تنزل تصب خيراً.
وإنَّما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إن تأتني، بإن تأتني، لأنَّهم جعلوه معلَّقاً بالأوّل عير مستغنٍ عنه إذا أرادوا الجزاء، كما أنَّ إن تأتني عير مستغنية عن آتك.
وزعم الخليل: أنَّ هذه الأوائل كلَّها فيها معنى إن، فلذلك انجزم الجواب؛ لأنه إذا قال ائتني آتك فإنّ معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك، وإذا قال: أين بيتك أزرك، فكأنّه قال إن أعلم مكان بيتك أزرك ؛ لأنّ قوله أين بيتك يريد به: أعلمني. وإذا قال ليته عندنا يحدثنا، فإنّ معنى هذا الكلام إن يكن عندنا يحدَّثنا، وهو يريد ههنا إذا تمنَّى ما أراد في الأمر.وإذا قال لو نزلت فكأنَّه قال انزل.
ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره قوله عزّ وجلّ: " هل أدلُّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابِ أليم. تؤمنون بالَّله ورسوله وتجاهدون في سبيل الَّله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون " فلمَّا انقضت الآية قال: " يغفر لكم " .
ومن ذلك أيضاً: أتينا أمس نعطيك اليوم، أي إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم. هذا معناه فإن كنت تريد أن تقررِّه بأنه قد فعل فإنَّ الجزاء لا يكون، لأنَّ الجزاء إنَّما يكون في غير الواجب.
ومما جاء أيضاً منجزماً بالاستفهام قوله، وهو رجل من بني تغلب، جابر ابن حنى:
ألا تنتهي عنَّا ملوك وتتقى ... محارمنا لا يبؤ الدَّم بالدَّم
وقال الراجز:
متى أنام لا يؤرقني الكرى ... ليلاً ولا أسمع أجراس المطى
كأنّه قال: إ، يكن منِّى نومٌ في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرىُّ، كأنَّه لم يعَّد نومه في هذه الحال نوماً.
وقد سمعنا من العرب من يشمُّه الرَّفع، كأنه يقول: متى أنام غير مؤرق.
وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقاً بالأوَّل، ولكنَّك تبتدئه وتجعل الأوّل مستغنياً عنه، كأنَّه يقول: ائتني أنا آتيك. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو الأخطل:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف أمريءٍ يمضي لمقدار
وقال الأنصاري:
يا مال والحق عنده فقفوا ... تؤتون فيه الوفاء معترفا
كأنّه قال: إنكم تؤتون فيه الوفاء معترفاً. وقال معروف:
كونوا كمن واسى أخاه بنفسه ... نعيش جميعاً أو نموت كلانا
كأنه قال: كونوا هكذا إنّا نعيش جميعاً أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا.
وزعم الخليل: أنَّه يجوز أن يكون نعيش محمولاً على كونوا، كأنه قال: كونوا نعيش جميعاً أو نموت كلانا.
وتقول: لا تدن منه يكن خيراً لك. فإن قلت: لا تدن من الأسديا كلك فهو قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس؛ لأنَّك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سبباً لأكله. وإن رفعت فالكلام حسن، كأنك قلت: لا تدن منه فإنَّه يأكلك. وإن أدخلت الفاء فهو حسن ، وذلك قولك: لا تدن منه فيأكلك.
وليس كلُّ موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنه يقول: ما أتيتنا فتحثنا، والجزاء ههنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.
وسمعنا عربياً موثوقاً بعربيته يقول: لا تذهب به تغلب عليه؛ فهذا كقوله: لا تدن من الأسد يأكلك.
وتقول: ذره يقل ذاك، وذره يقول ذاك فالرفع من وجهين: فأحدهما الإبتداء، والآخر على قولك: ذره قائلاً ذاك؛فتجعل يقول في موضع قائل.
فمثل الجزم قوله عزّ وجلّ: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل " ومثل الرفع قوله تعالى جدٌّه: " ذرهم في خوضهم يلعبون " .
وتقول: ائتني تمشي، أي ائتني ماشياً، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشي فيما يستقبل فيما يستقبل . وإن شاء رفعه على الإبتداء.
وقال عز وجل: " فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى " . فالرفع على وجهين: على الإبتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائفٍ ولا خاشٍ.
وتقول: قم يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعله دعاءً بعد قيامه ويكون القيام سبباً له، ولكنَّك أردت: قم إنّه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت.
وإما قول الأخطل
كرُّوا إلى حرَّيتكم تعمرونهما ... كما تكرُّ إلى أوطانها البقر
فعلى قوله: كرُّوا عامرين. وإن شئت رفعت على الابتداء.

وتقول: مره يحفرها، وقل له يقل ذاك. وقال الَّله عزّ وجلّ: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة وينفقوا ممَّا رزقناهم " . ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيَّداً. وقد جاء رفعه على شيء هو قليل في الكلام، على مره أن يحفرها، فإذا لم يذكروا أن، جعلوا المعنى بمنزلته في عسينا نفعل. وهو في الكلام قليل، لا يكادون يتكلمون به، فإذا تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب، كأنه قال: عسى زيد قائلاً، ثم وضع يقول في موضعه. وقد جاء في الشعر، قال طرفة بن العبد:
ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد الَّلذات هل أنت مخلدي
وسألته عن قوله عزّ وجل: " قل أفغير الَّله تأمروني أعبد أيُّها الجاهلون " فقال: تأمرونِّي كقولك: هو يقول ذاك بلغني، فبلغني لغو فكذلك تأمرونِّي، كأنه قال: فيما تأمرونِّي، كأنّه. قال فيما بلغني. وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى
باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهيلأنّ فيها معنى الأمر والنهي
فمن تلك الحروف: حسبك، وكفيك، وشرعك، وأشباهها.
تقول: حسبك ينم الناس. ومثل ذلك: " اتّقي الَّله امرؤ وفعل خيراً يثب عليه " لأنّ فيه معنى ليتَّق الَّله امرؤ وليفعل خيراً. وكذلك ما أشبه هذا.
وسألت الخليل عن قوله عزّ وجلّ: " فأصَّدق وأكن من الصالحين " فقال: هذا كقول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا
فإنَّما جرّوا هذا، لأنَّ الأوّل قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلّموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهمّوا هذا.
وأما قول عمرو بن عمّار الطائيّ:
فقلت له صوِّب ولا تجهدنَّه ... فيدنك من أخرى القطاة فتزلق
فهذا على النهي كما قال: لا تمددها فتشققها، كأنَّه قال: لا تجهدنّه ولا يدنينّك من أخرى القطاة ولا تزلقن.
ومثله من النهي: لا يرينَّك ههنا، ولا أرينَّك ههنا.
وسألته عن آتي الأمير لا يقطع الِّصَّ، فقال: الجزاء ها هنا خطأ، لا يكون الجزاء أبداً حتى يكون الكلام الأول غير واجب، إلا أن يضطرَّ شاعر.ولا نعلم هذا جاء في شعر البتَّة.
وسألته عن قوله: أما أنت منطلقاً أنطلق معك، فرفع. وهو قول أبي عمرو، وحدثنا به يونس. وذلك لأنّه لا يجازي بأن كأنّه قال: لأن صرت منطلقاً أنطلق معك.
وسألته عن قوله: ما تدوم لي أدوم لك، فقال: ليس في هذا جزاء، من قبل أن الفعل صلة لما؛ فصار بمنزلة الّذي، وهو بصلته كالمصدر، ويقع على الحين كأنّه قال: أدوم لك دوامك لي. فما، ودمت، بمنزلة الدَّوام. ويدلّك على أنَّ الجزاء لا يكون ها هنا أنك لا تستطيع أن تستفهم بما تدوم على هذا الحدّ.
ومثل ذلك: كلَّما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لما، كأنه قال: كلَّ إتيانك آتيك، وكلَّما تأتيني يقع أيضاً على الحين كما كان ما تأتيني يقع على الحين. ولا يستفهم بما تدوم.
وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء ها هنا والَّذي يأتيني بمنزلة عبد اللَّه، وأنت لا يجوز لك أن تقول عبد الَّله فله درهما؟ فقال: إنَّما يحسن في الَّذي لأنه جعل الآخر جواباً للأوَّل، وجعل الأوّل به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء ها هنا، كما دخلت في الجزاء إذا قال: إن يأتني فله درهمان. وإن شاء قال: الذي يأتيني له درهمان، كما تقول: عبد الَّله له درهمان غير أنَّه إنما أدخل الفاء لتكون العطّية مع وقوع الإتيان، فإذا أدخل الفاء فإنما يجعل الإتيان سبب ذلك. فهذا جزاء وإن لم يجزم، لأنَّه صلة.
ومثل ذلك قولهم: كلّ رجل يأتينا فله درهمان. ولو قال: كلّ رجل فله درهمان كان محالاً، لأنه لم يجيْ بفعل ولا بعمل يكون له جوابٌ.
ومثل ذلك : " الذَّين ينفقون أموالهم بالَّليل والنَّهار سرَّاّ وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربِّهم " وقال تعالى جدُّه: " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " ومثل ذلك: " إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنَّم ولهم عذاب الحريق.

وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: " حتَّى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب " ، " ولو يرى إذ وقفوا على النَّار " فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبر لأيِّ شيء وضع هذا الكلام.
وزعم أنَّه قد وجد في أشعار العرب ربَّ لا جواب لها. من ذلك قول الشمّاخ:
ودوّيّةٍ قفرٍ تمشِّى نعامها ... كمشي النَّصارى في خفاف الأرندج
وهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجيء فيها جوابٌ لربَّ؛ لعلم المخاطب أنّه يريد قطعتها، وما فيه هذا المعنى:
باب الأفعال في القسماعلم أنَّ القسم توكيدٌ لكلامك. فإذا حلفت على فعلٍ غير منفيّ لم يقع لزمته اللامُ. ولزمت اللام النونُ الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة.وذلك قولك: والَّله لأفعلنَّ.
وزعم الخليل: أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك: إن كان لصالحاً، فإن بمنزلة اللام، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة.
واعلم أنّ من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين، يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك واللَّه، وذلك قولك: أقسم لأفعلنَّ، وأشهد لأفعلنَّ، وأقسمت باللَّه عليك لتفعلنَّ.
وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد على اللام؛ وذلك قولك: والَّله لفعلت. وسمعنا من العرب من يقول: والَّله لكذبت، وواللَّه لكذب.
فالنون لا تدخل على فعلٍ قد وقع، إنَّما تدخل على غير الواجب.
وإذا حلفت على فعلٍ منفيٍّ لم تغيِّره عن حاله التي كان عليها قبل أن تحلف، وذلك قولك: والَّله لا أفعل. وقد يجوز لك وهو من كلام العرب أن تحذف لا وأنت تريد معناها، وذلك قولك: والَّله أفعل ذلك أبداً، تريد: والَّله لا أفعل ذلك أبداً. وقل:
فحالف فلا والَّله تهبط تلعةً ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وسألت الخليل عن قولهم: أقسمت عليك إلاَّ فعلت ولّما فعلت، لم جاز هذا في هذا الموضع، وإنّما أقسمت ها هنا كقولك: والَّله؟ فقال: وجه الكلام لتفعلنَّ، هاهنا ولكنهم إنما أجازوا هذا لأنهم شبهوه بنشدتك الله، إذ كان فيه معنى الطلب. وسألته عن قوله إذا جاءت مبتدأةً ليس قبلها ما يحلف به؟ فقال: إنّما جاءت على نيَّة اليمين وإن لم يتكلَّم بالمحلوف به.
واعلم أنَّك إذا أخبرت عن غيرك أنَّه أكَّد على نفسه أو على غيره فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت؛ وذلك قولك: أقسم ليفعلنَّ، واستحلفه ليفعلنّ، وحلف ليفعلنَّ ذلك، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبداً. وذاك أنَّه أعطاه من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيت أنت من نفسك حين حلفت، كأنَّك قلت حين قلت أقسم ليفعلَّن قال واللَّه ليفعلنَّ، وحين قلت استحلفه ليفعلنَّ قال له واللَّه ليفعلنَّ.
ومثل ذلك قوله تعالى جدُّه: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاَّ الَّله " .
وسألته: لِمَ لَم يجز والَّله تفعل يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال: من قبل أنَّهم وضعوا تفعل ها هنا محذوفة منها لا، وإنما تجيء في معنى لا أفعل، فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى. فقلت:فلم ألزمت النون آخر الكلمة؟ فقال: لكي لا يشبه قوله إنه ليفعل، لأنّ الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعلٍ واقع فيه الفاعل، كما ألزموا اللام: إن كان ليقول، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك، لأنّ إن تكون بمنزلة ما.
وسألته عن قوله عزّ وجل: " وإذ أخذ الَّله ميثاق النَّبييِّن لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنَّه " فقال: ما ههنا بمنزلة الّذي، ودخلتها اللام كما دخلت على إن حين قلت: واللّه لئن فعلت لأفعلنّ، واللام التي في ما كهذه التي في إن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا.
ومثل هذه هذه اللام الأولى أن إذا قلت: والَّله أن لو فعلت لفعلت. وقال:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشرِّ مظلم
فأن في لو بمنزلة اللام في ما، فأوقعت ها هنا لامين: لام للأول ولام للجواب، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم، فكذلك الامان في قوله عز وجل: " لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدَّق لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه " لام للأوّل وأخرى للجواب.
ومثل ذلك " لمن تبعك منهم لأملأنَّ " إنما دخلت اللام على نيّة اليمين. والَّله أعلم.

وسألته عن قوله عز وجل: " ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلّوا من بعده يكفرون " فقال: هي في معنى ليفعلنَّ، كأنه قال ليظلَّن، كما تقول: والَّله لا فعلت ذاك أبداً، تريد معنى لا أفعل.
وقالوا: لئن زرته ما يقبل منك، وقال: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعلٌ وما يفعل، كما كان لظلُّوا مثل ليظلّن، وكما جاءت: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " على قوله: أم صمتٌّم فكذلك جاز هذا على ما هو فاعل. قال عز وجل: " ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلِّ آية مَّا تبعوا قبلتك " أي ما هم تابعين.
وقال: سبحانه: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " أي ما يمسكهما من أحدٍ.
وأما قوله عز وجلّ: " وإنَّ كلاًّ لما ليوفِّينهم ربُّك أعمالهم " فإن إنّ حرف توكيد، فلها لام كلام اليمين، لذلك أدخلوها كما أدخلوها في: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظ " ، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين، كأنَّه قال: إنّ زيداً لما واللَّه ليفعلنَّ.
وقد يستقيم في الكلام إنّ زيداً ليضرب وليذهب، ولم يقع ضرب. والأكثر على ألسنتهم كما خبَّرتك في اليمين، فمن ثمَّ ألزموا النون في اليمين، لئلا يلتبس بما هو واقع. قال الَّله عز وجل: " إنَّما جعل السَّبت على الذين اختلفوا فيه وإنّ ربَّك ليحكم بينهم يوم القيامة " . وقال لبيد:
ولقد علمت لتأتين منيَّتي ... إنَّ المنايا لا تطيش سهامها
كأنَّه قال: والَّله لتأتينّ، كما قال: قد علمت لعبد اللّه خير منك، وقال: أظنُّ لتسبقنّني، وأظنُّ ليقومنَّ، لأنه بمنزلة علمت. وقال عزّ وجل: " ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننّه " ؛ لأنه موضع ابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أيُّهم أفضل، لحسن كحسنه في علمت، كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضل أم هذا.
هذا بابالحروف التي لا تقدِّم فيها الأسماء الفعل
فمن تلك الحروف العوامل في الأفعال الناصبة. ألا ترى أنك لا تقول: جئتك كي زيد يقول ذاك، ولا خفت أن زيد يقول ذاك. فلا يجوز أن تفصل بين الفعل والعامل فيه بالاسم، كما لا يجوز أن تفصل بين الاسم وبين إنّ وأخواتها بفعلٍ.
ومما لا تقدَّم فيه الأسماء الفعل الحروف العوامل في الأفعال الجازمة، وتلك: لم، ولمّا، ولا التي تجزم الفعل في النهيولا التي تجزم في الأمر. ألا ترى أنّه لا يجوز أن تقول: لم زيد يأتك، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بشيء، كما لم يجز أن تفصل بين الحروف التي تجرّ وبين الأسماء بالأفعال، لأنّ الجزم نظير الجر. ولا تجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بحشوٍ، كما لا تجوز لك أن تفصل بين الجارّ والمجرور بحشوٍ، إلاّ في شعر.
ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب، كراهة أن تشبَّه بما يعمل في الأسماء. ألا ترى أنّه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بحشوٍ، كراهية أن يشبهوه بما يعمل في الاسم؛ لأنّ الاسم ليس كالفعل، وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل. ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في الاسم وقلّة هذا.
فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء، وذلك أنّك لو قلت: جئتك كي بك يؤخذ زيد لم يجز، وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجرّ؛ لقلّة ما يعمل في الأفعال، وكثرة ما ينسى في الأسماء.
واعلم أنّ حروف الجزاء يقبح أن تتقدّم الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك لأنّهم شبّهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا أنّ حروف الجزاء قد جاز فيها ذلك في الشعر لأنّ حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فترفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة الّذي، فلّما كانت تصرَّف هذا التصُّرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجبرُّ من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو: ضارب عبد الَّله، لأنك إن شئت نوّنت ونصبت، وإن شئت لم تجاوز الاسم العامل في الآخر، يعني ضاربٍ، فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام في الأمر؛ لأنهن لا يفارقن الجزم.
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ، نحو قوله:
عاود هراة وإن معمورها خربا
فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبَّه بلم، وإنّما جاز في الفصل ولم يشبه لم لأنّ لم لا يقع بعدها فعل، وإنما جاز هذا في إن لأنّها أصل الجزاء ولا تفارقه، فجاز هذا كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا: إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرُّ.

وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام، لأنَّها ليست كإن، فلو جاز في إن وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيها فعل.
وممَّا جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدىَّ بن زيد:
فمتى واغلٌ ينبهم يحيّو ... ه هو وتعطف عليه كأس الساقي
وقال كعب بن جعيل:
صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميَّلها تمل
ولو كان فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام.
واعلم أنًّ قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنّما ارتفع على فعلٍ هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك: إن زيداً رأيته يكن ذلك؛ لأنه لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبني عليها.
فإن قلت: إن تأتني زيد يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته، وهذا موضع ابتداء ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خير لك، كان حسناً. وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله:
الله يشكرها
ومثل الأوّل قول هشام المرّى:
فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ... ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا
هذا باب
الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل
ولا تغير الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون قبله شيء منهافمن تلك الحروف قد، لا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جواب لقوله أفعل كما كانت ما فعل جواباً لهل فعل؟ إذا أخبرت أنه لم يقع. ولمّا يفعل وقد فعل، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئاً. فمن ثم أشبهت قد لمّا، في أنَّها لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف أيضاً سوف يفعل؛ لأنها بمنزلة السين التي في قولك سيفعل. وإنما تدخل هذه السين على الأفعال، وإنَّما هي إثبات لقوله لن يفعل، فأشبهتها في أن لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف: ربمّا وقلّما وأشباههما،جعلوا ربَّ مع ما بمنزلة كلمة واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل، لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى " ربَّ يقول " ، ولا إلى " قلَّ يقول " ، فألحقوهما ما وأخلصوهما للفعل.
ومثل ذلك: هلا ولولا وألاَّ، ألزموهنّ لا وجعلوا كلَّ واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهنّ للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض.
وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال:
صددن فأطولت الصدود وقلَّما ... وصال على طول الصدود يدوم
واعلم أنّه إذا اجتمع بعد حروف الاستفهام نحو هل وكيف ومن اسم وفعل، كان الفعل بأن يلي حرف الاستفهام أولى؛ لأنّها عندهم في الأصل من الحروف التي يذكر بعدها الفعل. وقد بيِّن حالهنَّ فيما مضى.
هذا باب
الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء
ويجوز أن يليها بعدها الأفعالوهي لكن، وإنما ، وكأنما، وإذ، ونحو ذلك، لأنَّها حروف لا تعمل شيئاً، فتركت الأسماء بعدها على حالها كأنَّه لم يذكر قبلها شيء، فلم يجاوز ذا بها إذ كانت لا تغيَّر ما دخلت عليه، فيجعلوا الاسم أولى بها من الفعل.
وسألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيِّرت للفعل كما صيِّرت للفعل ربَّما، والمعنى لعلِّى آتيك؛ فمن ثم لم ينصبوا به الفعل، كما لم ينصبوا بربّما. قال رؤبة:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه ... كما تغدِّى الناس من شوائه
هذا باب نفي الفعلإذا قال: فعل فإنَّ نفيه لم يفعل. وإذا قال: قد فعل فإنّ نفيه لمَّا يفعل. وإذا قال: لقد فعل فإنَّ نفيه ما فعل. لأنّه كأنَّه قال: والَّله لقد فعل فقال: والله ما فعل. وإذا قال هو يفعل، أي هو في حال فعل، فإنَّ نفيه ما يفعل. وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعاً فنفيه لا يفعل. وإذا قال لفعلنَّ فنفيه لا يفعل، كأنّه قال: والَّله ليفعلنَّ فقلت والَّله لا يفعل. وإذا قال: سوف يفعل فإنَّ نفيه لن يفعل
باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء
=================
ج4. كتاب الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر


يضاف إليها أسماء الدهر. وذلك قولك: هذا يوم يقوم زيدٌ، وآتيك يوم يقول ذاك. وقال الَّله عز وجل: " هذا يوم لا ينطقون " وهذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم " . وجاز هذا في الأزمنة واطّرد فيها كما جاز للفعل أن يكون صفةً؛ وتوسَّعوا بذلك في الدهر لكثرته في كلامهم، فلم يخرجوا الفعل من هذا كما لم يخرجوا الأسماء من ألف الوصل نحو ابنٍ، وإنما أصله للفعل وتصريفه.
ومما يضاف إلى الفعل أيضاً قولك: ما رأيته منذ كان عندي. ومذ جاءني ومنه أيضاً " آية " .
قال الأعشى:
بآية تقدمون الخيل شعثاً ... كأن على سنابكها مداما
وقال يزيد بن عمرو بن الصعق:
ألا من مبلغٌ عنِّي تميماً ... بآية ما تحبُّون الطّعاما
فما لغو.
ومما يضاف إلى الفعل قوله: لا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا أفعل بذي تسلمون، المعنى: لا أفعل بسلامتك، وذو مضافة إلى الفعل كإضافة ما قبله، كأنَّه قال: لا أفعل بذي سلامتك. فذو ههنا الأمر الذي بسلّمك وصاحب سلامتك.
ولا يضاف إلى الفعل غير هذا كما أنّ لدن لا تنصب إلاَّ في غدوة.
واطَّردت الأفعال في آية اطّرد الأسماء في أتقول إذا قلت: أتقول زيداً منطلقاً، شبّهت بتطنّ.
وسألته عن قوله في الأزمنة كان ذاك زمن زيد أمير؟ فقال: لمَّا كانت في معنى إذ أضافوها إلى ما قد عمل بعضه في بعضٍ، كما يدخلون إذ على ما قد عمل بعضه في بعض ولا يغيّرونه، فشبَّهوا هذا بذلك. ولا يجوز هذا في الأزمنة حتَّى تكون بمنزلة إذ. فإن قلت: يكون هذا يوم زيدٌ أميرٌ، كان خطأ.
حدثنا بذلك يونس عن العرب؛ لأنَّك لا تقول: يكون هذا إذا زيدٌ أميرٌ.
جملة هذا الباب أنَّ الزمان إذا كان ماضياً أضيف إلى الفعل، وإلى الابتداء والخبر؛ لأنَّه في معنى إذ، فأضيف إلى ما يضاف إليه إذ. وإذا كان لما لم يقع لم يضف إلاَّ إلى الأفعال؛ لأنه في معنى إذا، وإذا هذه لا تضاف ألاَّ إلى الأفعال.
هذا باب إنَّ وأنَّ
أمّا أنَّ فهي اسم وما عملت فيه صلةٌ لها، كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة وتكون أن اسماً. ألا ترى أنك تقول: قد عرفت أنك منطلقٌ، فأنّك في موضع اسم منصوب كأنّك قلت: قد عرفت ذاك.
وتقول: بلغني أنك منطلقٌ، فأنَّك في موضع اسم مرفوع، كأنك قلت: بلغني ذاك.
فأنّ الأسماء التي تعمل فيها صلةٌ لها، كما أنّ أنِ الأفعال التي تعمل فيها صلة لها.
ونظير ذلك في أنه وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد لا في غير ذلك، قولك: رأيت الضارب أباه زيد، فالمفعول فيه لم يغيَّره عن أنّه اسم واحد، بمنزلة الرجل والفتى. فهذا في هذا الموضع شبيهٌ بأنّ، إذ كانت مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، فهذا ليعلم أنَّ الشيء يكون كأنّه من الحرف الأوّل وقد عمل فيه.
وأما إنَّ فإنَّما هي بمنزلة الفعل لا يعمل فيها ما يعمل في أنَّ، كما لا يعمل في الفعل ما يعمل في الأسماء، ولا تكون إنّ إلاّ مبتدأةً، وذلك قولك: إنّ زيداً منطلقٌ، وإنّك ذاهب.
هذا باب من أبواب أنّ
تقول: ظننت أنَّه منطلق، فظننت عاملة، كأنّك قلت: ظننت ذاك. وكذلك وددت ذاك.
وتقول: لولا أنَّه منطلق لفعلت، فأنَّ مبنيَّة على لولا كما تبنى عليها الأسماء.
وتقول: لو أنّه ذاهب لكان خيراً له، فأنَّ مبنيَّة على لو كما كانت مبنيَّة على لولا، كأنك قلت: لو ذاك، ثم جعلت أنَّ وما بعدها في موضعه فهذا تمثيل وإن كانوا لا يبنون على لو غير أنّ، كما كان تسلم في قولك بذي تسلم في موضع اسم، ولكنَّهم لا يستعملون الاسم لأنّهم مما مستغنون بالشيء عن الشيء حتَّى يكون المستغني عنه مسقطاً.
وقال الَّله عز وجلّ: " قل لو أنتم تملكون جزائن رحمة ربِّي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق " . وقال:
لو بغير الماء حلقي شرق
وسألته عن قول العرب: ما رأيته مذ أنَّ الَّله خلقني؟ فقال: أنَّ في موضع اسمٍ، كأنه قال: مذ ذاك.
وتقول: أما إنَّه ذاهبٌ، وأما أنّه منطلق، وإذا قال: أما إنّه منطلقٌ، فسألت الخليل عن ذلك فقال: إذا قال: أما أنّه منطلقٌ، فإنّه يجعله كقولك: حقّاً أنّه منطلقٌ، وإذا قال: أما إنّه منطلقٌ، فإنّه بمنزلة قوله: ألا، كأنَّك قلت: ألا إنَّه ذاهبٌ.

وتقول: قد عرفت أنه ذاهب ثم أنه معجل، ولأن الآخر شريك الأول في عرفت. وتقول قد عرفت أنه ذاهب ثم إني أخبرك أنه معجل، لأنك ابتدأت إني ولم تعجل الكلام على عرفت. أما والَّله ذاهب أنه ذاهبٌ، كأنك قلت: قد علمت والَّله أنه ذاهبٌ. وإذا قلت: أما والَّله إنّه ذاهب :كأنك قلت: ألا إنّه والَّله ذاهب.
وتقول: رأيته شابّاً وإنّه يفخر يومئذٍ، كأنك قلت: رأيته شاباً وهذه حاله. تقول هذا بتداء ولم يجعل الكلام على رأيت. وإن شئت حملت الكلام على الفعل ففتحت. قال ساعدة بن جؤيَّة:
رأته على شيب القذال وأنّها ... تواقع بعلاً مَّرة وتئيمُ
وزعم أبو الخطَّاب: أنَّه سمع هذا البيت من أهله هكذا.
وسألته عن قوله عز وجلّ: " وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون " ، ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذا في ذا الموضع، إنما قال: وما يشعركم، ثم ابتدأ فأوجب فقال: إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون. ولو قال: وما يشعركم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون، كان ذلك عذراً لهم.
وأهل المدينة يقولون " أنّها " . فقال الخليل: هي بمنزلة قول العرب: ائت السُّوق أنك تشتري لنا شيئاً ، أي لعلَّك، فكأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
وتقول: إنَّ لك هذا علىّ وأنَّك لا تؤذي، كأنك قلت: وإنّ لك أنَّك لا تؤذي. وإن شئت ابتدأت ولم تحمل الكلام على إنَّ لك. وقد قرئ هذا الحرف على وجهين، قال بعضهم: " وإنّك لا تظمأ فيها " . وقال بعضهم: " وأنّك " .
واعلم أنه ليسس يحسن لأنَّ أن تلي إنَّ ولا أن كما قبح ابتداؤك الثقيلة المفتوحة وحسن ابتداؤك الخفيفة؛ لأنّ الخفيفة لا تزول عن الأسماء، والثقيلة تزول فتبدأه. ومعناها مكسورة ومفتوحة سواء. واعلم أنه ليس يحسن أن تلي إنّ أنَّ ولا أنَّ إنّ. ألا ترى أنك لا تقول إنّ أنّك ذاهبٌ في الكتاب، ولا تقول قد عرفت أ، إنِّك منطلق في الكتاب. وإنّما قبح هذا ههنا كما قبح في الابتداء، ألا ترى أنه يقبح أن تقول أن تقول أنّك منطلقٌ بلغني أو عرفت، لأنَّ الكلام بعد أنّ وإن غير مستغنٍ كما أن المبتدأ غير مستغن. وإنما كرهوا ابتداء أنّ لئَّلا يشبِّهوها بالأسماء التي تعمل فيها إنَّ، ولئلا يشِّبهوها بأن الخفيفة، لأنَّ أن والفعل بمنزلة مصدر فعله الذي ينصبه، والمصادر تعمل فيها إنّّ وأنَّ.
ويقول الرجل للرجل: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لم أنّه ظريف، كأنه قال: قلت لمه قلت لأنّ ذاك كذلك.
وتقول إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم: أي إني تجد إذا ابتدأت كما تبتدىء أي أنا نجد. وإن شئت قلت أي أنِّى نجد، كأنك قلت: أي لأنى نجد.
هذا باب آخر من أبواب أنَّ
تقول: ذلك وأنّ لك عندي ما أحببت، وقال الَّله عزّ وجلّ: " ذلكم وأنّ الَّله موهن كيد الكافرين " وقال: " ذلكم فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النّار " ؛ وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه، كأنه قال: الأمر ذلك وأن الَّله. ولو جاءت مبتدأه لجازت، يدلّك على ذلك قوله عزَّ وجل: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمَّ بغى عليه لينصرنّه الَّله. فمن ليس محمولاً على ما حمل عليه ذلك فكذلك يجوز أن يكون إنّ منقطعةً من ذلك قال الأحوص:
عوّدت قومي إذا ما لضيَّف نبَّهي ... عقر العشار على عسري وإيساري
إنَّي إذا خفيت نار لمرملةٍ ... ألفي بأرفع تلٍّ رافعاً ناري
ذاك وإنَّي على جاري لذو حدبٍ ... أحنو عليه بما يحنى على الجار
فهذا لا يكون إلاّ مستأنفاً غير محمول على ما حمل عليه ذاك. فهذا أيضاً يقوّى ابتداء إنّ في الأوّل.
هذا باب آخر من أبواب أنّ
تقول: جئتك أنّك تريد المعروف، إنَّما أراد: جئتك لأنك تريد المعروف، ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت:
وأغفر عوراء الكريم أّدِخاره ... واعرض عن ذنب الَّلئيم تكرًّما
أي: لاّدخاره.
وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: " وأنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدة وأنا ربُّكم فاتّقون " ، فقال: إنَّما هو على حذف اللام، كأنه قال: ولأنّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون.
وقال: ونظيرها: " لإيلاف قريشٍ " لأنّه إنما هو: لذلك " فليعبدوا " .

فإن حذفت اللام من أن فهو نصبٌ، كما أنَّك لو حذفت اللام من لإيلاف كان نصباً. هذا قول الخليل. ولو قرؤها: " وإنّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً " كان جيّداً، وقد قرىء.
ولو قلت: جئتك إنَّك تحب المعروف، مبتدأً كان جيداً.
وقال سبحانه وتعالى: " فدعا ربّه أنِّي مغلوبٌ فانتصر " . وقال: " ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه أنَّي لكم نذير مبين " ، إنما أراد بأنِّي مغلوب، وبأنيِّ لكم نذير مبين، ولكنه حذف الباء. وقال أيضاً: " وأنّ المساجد لّله فلا تدعوا مع الَّله أحداً " بمنزلة: " وأنّ هذه أمّتكم أمّة واحدةً " ، والمعنى: ولأنّ هذه أمّتكم فاتقون، ولأن المساجد للّه فلا تدعوا مع الَّله أحداً.
وأما المفِّسرون فقالوا: على أوحى، كما كان " وأنّه لما قام عبد اللّه يدعوه " على أوحي. ولو قرئت: وإنّ المساجد لّله كان حسناً.
واعلم أن هذا البيت ينشد على وجهين على إرادة اللام، وعلى الابتداء. قال الفرزدق.
منعت تميماً منك أنِّى أنا ابنها ... وشاعرها المعروف عند المواسم
وسمعنا من العرب من يقول: إنِّي أنا ابنها.
وتقول: لبيك إنّ الحمد والنعمة لك، وإن شئت قلت أنّ. ولو قال إنسان: إنّ " أنَّ في موضع جرٍّ في هذه الأشياء، ولكنه حرف كثر استعماله في كلامهم، فجاز فيه حذف الجارّ كما حذفوا ربّ في قولهم:
وبلدٍ تحسبه مكسوحا
لكان قولاً قوياً. وله نظائر نحو قوله: لاه أبوك والأوّل قول الخليل. ويقوّى ذلك قوله: " وأنّ المساجد للّه " ؛ لأنهم لا يقدِّمون أنّ ويبتدئونها ويعملون فيها ما بعدها. إلاّ أنه يحتجُّ الخليل بأنّ المعنى معنى اللام. فإذا كان الفعل أو غيره موصّلاً إليه باللام جاز تقديمه وتأخيره، لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى، فاحتملوا هذا المعنى كما قال: حسبك ينم الناس؛ إذ كان فيه معنى الأمر. وسترى مثله، ومنه ما قد مضى.
هذا باب إنَّما وأنَّما
اعلم أنَّ كلِّ موضع تقع فيه أنَّ تقع فيه أنَّما،وما ابتدىء بعدها صلةُ لها كما أنّ الذي ابتدىْ بعد الذي صلة له. ولا تكون هي عاملةً فيما بعدها كما لا يكون الذّي عاملاً فيما بعده.
فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: " قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنّما إلهكم إله واحدٌ " . وقال الشاعر، ابن الإطنابة:
أبلغ الحارث بن ظالم المو ... عد والناذر النُّذور عليَّا
أنَّما تقتل النِّيام ولا تقت ... ل يقظان ذا سلاحٍ كميَّا
فإنّما وقعت أنّما ههنا لأنك لو قلت: أنّ إلهكم إله واحدٌ، وأنك تقتل النيام كان حسنا. وإن شئت قلت: إنَّما تقتل النيام، على الابتداء. زعم ذلك الخليل.
فأمّا إنَّما فلا تكون اسماً، وإنّما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغى، مثل: أشهد لزيد خير منك، لأنَّها تعمل فيما بعدها ولا تكون إلاَّ مبتدأةً بمنزلة إذا، لا تعمل في شيء.
واعلم أن الموضع الذي لا يجوز فيه أنَّ لا تكون فيه إنَّما إلاَّ مبتدأةً وذلك قولك: وجدتك إنما أنت صاحب كلّ خنى لم يجز ذلك، لأنَّك إذا قلت أرى أنه منطلق فإنما وقع الرأي على شيء لا يكون الكاف التي في وجدتك ونحوها من الأسماء فمن ثم لم يجز لأنك لو قلت وجدتك أنك صاحب كل خنى رأيتك أنك منطلق،فإنما أدخلت إنَّما على كلامٍ مبتدأ؛ كأنك قلت:وجدتك أنت صاحب كلِّ خىً، ثم أدخلت إنما على هذا الكلام، فصار كقولك: إنَّما أنت صاحب كلّ خنىً، لأنَّك أدخلتها على كلام قد عمل بعضه في بعض. ولم تضع إنَّما في موضع ذاك إذا قلت وجدتك ذاك، لأنّ ذاك هو الأوّل، وأنَّما وأنَّ إنّما يصيِّران الكلام شأناً وحديثاً، فلا يكون الخبر ولا الحديث الرجل ولا زيداً، ولا أشباه ذلك من الأسماء.وقال كثيَّر.
أراني ولا كفران لَّله إنَّما ... أواخي من الأقوام كلَّ بخيلٍ
لأنه لو قال: " أنَّى " ههنا كان غير جائز لما ذكرنا، فإنَّما ههنا بمنزلتها في قولك: زيدٌ إنما يواخي كلَّ بخيل. وهو كلام مبتدأ، وإنَّما في موضع خبره، كما أنك إذا قلت: كان زيدٌ أبوه منطلق. فهو مبتدأ وهو في موضع خبره.
وتقول: وجدت خبره أنَّما يجالس أهل الخبث؛ لأنك تقول: أرى أمره أنَّه يجالس أهل الخبث، فحسنت أنَّه ها هنا لأنّ الآخر هو الأوّل.
باب تكون فيه أنَّ بدلا من شيء
هو الأول

وذلك قولك: بلغتني قصَّتك أنّك فاعلٌ، وقد بلغني الحديثُ أنَّهم منطلقون، وكذلك القصّة وما أشبهها.
هذا باب تكون فيه أنَّ بدلاً
من شيءٍ ليس بالآخر
من ذلك: " وإذ يعدكم الَّله إحدى الطائفتين أنَّها لكم " ، فأنَّ مبدلة من إحدى الطَّائفتين، موضوعة في مكانها، كأنك قلت: وإذ يعدكم الَّله إن،ّ إحدى الطائفتين لكم، كما أنَّك إذا قلت: رأيت متاعك بعضه فوق بعض،فقد أبدلت الآخر من الأول، وكأنَّك قلت: رأيت بعض متاعك فوق بعض، كما جاء الأوّل على معنى وإذ يعدكم الَّله أنّ إحدى الطائفتين لكم.
ومن ذلك قوله عز وجل: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنَّهم إليهم لا يرجعون " . فالمعنى والَّله أعلم: ألم يروا أنَّ القرون الذين أهلكناهم إليهم لا يرجعون.
ومما جاء مبدلاً من هذا الباب: " أيعدكم أنَّكم إذا متُّم وكنتم تراباً وعظاماً أنَّكم مخرجون " ، فكأنّه على: أيعدكم أنَّكم مخرجون إذا متّم، وذلك أريد بها، ولكنّه إنما قدّمت أنَّ الأولى ليعلم بعد أيّ شيءٍ الإخراج.
ومثل ذلك قولهم: زعم أنّه إذا أتاك أنَّه سيفعل، وقد علمت أنّه إذا فعل أنّه سيمضي.
ولا يستقيم أن تبتدىء إنَّ ها هنا كما تبتدىء الأسماء أو الفعل، إذا قلت: قد علمت زيداً أبوه خير منك، وقد رأيت زيداً يقول أبوه ذاك، لأنّ إنَّ لا تبتدأ في كلّ موضع، وهذا من تلك المواضع.
وزعم الخليل: أ،ّ مثل ذلك قوله تبارك وتعالى: " ألم يعلموا أنَّه من يحادد اللَّه ورسوله فأنّ له نار جهنّم " . ولو قال: " فإنّ " كانت عربيّة جيّدة.
وسمعناهم يقولون في قول ابن مقبلٍ:
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تخدى في طريقٍ طلائح
وأنَّى إذا ملَّت ركابي مناخها ... فإنِّي على حظَّي من الأمر جامح
وإن جاء في الشعر قد علمت أنّك إذا فعلت إنَّك سوف تغتبط به، تريد معنى الفاء جاز. والوجه والحدّ ما قلت لك أوّل مرةٍ.
وبلغنا أن الأعرج قرأ: " أنَّه من عمل منكم سوأً بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فإنّه غفور رحيم " . ونظيره ذا البيت الذي أنشدتك.
هذا باب من أبواب أنّ
تكون أنّ فيه مبنية على ما قبلها
وذلك قولك: أحقاً أنَّك ذاهبٌ، وآلحقَّ أنَّك ذاهب، وكذلك إن أخبرت فقلت: حقا " ً أنَّك ذاهبٌ. والحق أنك ذاهب وكذلك أأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، وأجهد رأيك أنَّك ذاهبٌ. وكذلك هما في الخبر.
وسألت الخليل فقلت: ما منعهم أن يقولوا: أحقاً إنَّك ذاهبٌ على القلب، كأنَّك قلت: إنَّك ذاهبٌ حقاً، وإنَّك ذاهب الحقَّ، وأنَّك منطلقٌ حقاً؟ فقال: ليس هذا من مواضع إنَّ؛ لأنّ إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع. ولو جاز هذا لجاز يوم الجمعة، إنك ذاهب، تريد إنك ذاهب يوم الجمعة ولقلت أيضاً لا محالة إنك ذاهبٌ، تريد إنك لا محالة ذاهب، فلما لم يجز ذلك حملوه على: أفي حقًّ أنَّك ذاهب، وعلى: أفي أكبر ظنَّك أنَّك ذاهبٌ، وصارت أنَّ مبنيةً عليه، كما يبني الرحيل على غدٍ إذا قلت: غداً الرحيل. والدليل على ذلك إنشاد العرب هذا البيت كما أخبرتك.
زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر:
أحقاً بني أبناء سلمى بن جندلٍ ... تهدُّدكم إيَّاي وسط المجالس
فزعم الخليل: أنَّ التهدّدها هنا بمنزلة الرحيل بعد غدٍ، وأنَّ أن بمنزلته، وموضعه كموضعه.
ونظير: أحقّاً أنَّك ذاهبٌ من أشعار العرب قول العبديّ:
أحقّاً أنَّ جيرتنا استقّلوا ... فنيَّتنا ونيَّتهم فريق
قال: فريق، كما تقول للجماعة:هم صديق. وقال الَّله تعالى جدَّه: " عن اليمين وعن الشَّمال قعيد " . وقال عمر بن أبي ربيعة:
أألحق أن دار الرَّباب تباعدت ... أو أنبتَّ حبل أنَّ قلبك طائر
وقال النابغة الجعدي
ألا أبلغ بني خلفٍ رسولاً ... أحقاً أنّ أخطلكم هجاني
فكلُّ هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا.
والرفع في جميع ذا حيّد قوىّ، وذلك أنَّك إن شئت قلت: أحقُّ أنَّك ذاهبٌ، وأأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، تجعل الآخر هو الأول.
وأما قولهم: لا محالة أنَّك ذاهبٌ، فإنما حملوا أنّ على أنَّ فيه إضمار من، على قوله: لا محالة من أنَّك ذاهب كما تقول لا بد أنك ذاهب كأنك قلت لا بد من أنك ذاهب حين لم يجز أن يحملوا الكلام على القلب.

وسألته عن قولهم: أمّا حقّاً فإنك ذاهب، فقال: هذا جيد، وهذا الموضع من مواضع إنَّ. ألا ترى أنَّك تقول: أمّا يوم الجمعة فإنَّك ذاهبٌ وأمّا فيها فإنَّك داخل. فإنما جاز هذا في أماَّ لأنَّ فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شيء فإنَّك ذاهبٌ.
وأمّا قوله عزّ وجل: " لا جرم أنَّ لهم النّار " فأنَّ جرم عملت فيها لأنَّها فعل، ومعناها: لقد حقَّ أنّ لهم النار. ولقد استحق أن لهم النار وقول المفسَّرين: معناها: حقّاً أنَّ لهم النار، يدلُّك أنَّها بمنزلة هذا الفعل إذا مثَّلت، فجرم بعد عملت في أنَّ عملها في قول الفزاريّ:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي: أحقّت فزارة.
وزعم الخليل: أنَّ لا جرم إنَّما تكون جواباً لما قبلها من الكلام، يقول الرجل كان كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا فتقول: لا جرم أنَّهم سيندمون أو أنَّه سيكون كذا وكذا.
وتقول: أمّا جهذ رأيي فأنَّك ذاهبٌ؛ لأنَّك لم تصطَّرَّ إلى أن تجعله ظرفاً كما اضطررت في الأوّل. وهذا من مواضع إنَّ، لأنَّك تقول: أما في رأيي فإنَّك ذاهب، أي فأنت ذاهب، وإن شئت قلت فأنَّك. وهو ضعيف؛ لأنَّك إذا قلت: أمّا جهد رأيي فإنك عالم لم تضطرّ إلى أن تجعل الجهد ظرفاً للقصة، لأنَّ ابتداء إنَّ يحسن ها هنا.
وتقول: أمّا في الدار فإنك قائمُ ، لا يجوز فيه إلاَّ إنَّ، تجعل الكلام قصّةً وحديثاً، ولم ترد أن تخبر أنّ في الدار حديثه، ولكنَّك أردت أن تقول: أما في الدار فأنت قائم فمن ثم لم يعمل في أي شيء أردت أن تقول. أمّا في الدار فحديثك وخبرك قلت: أمّا في الدار فأنّك منطلقٌ، أي هذه القصَّة.
ويقول الرجل: ما اليوم؟ فتقول: اليوم أنَّك مرتحلٌ، كأنَّه قال: في اليوم رحلتك . وعلى هذا الحدّ تقول: أمّا اليوم فأنَّك مرتحلٌ.
وأما قولهم: أمّا بعد فإنّ الَّله قال في كتابة، فإنه منزلة قولك: أمّا اليوم فإنَّك، ولا تكون بعد أبداً مبنياً عليها إذا لم تكن مضافةً ولا مبنّية على شيء، إنَّما تكون لغواً.
وسألته عن شدَّ ما أنَّك ذاهٌب، وعزَّ ما أنَّك ذاهبٌ، فقال: هذا بمنزلة حقاً أنّك ذاهٌب، كما تقول: أما أنّك ذاهبٌ، بمنزلة حقاً أنَّك ذاهبٌ. ولو بمنزلة لولا، ولا تبتدأ بعدها الأسماء سوى أنَّ، نحو لو أنّك ذاهبٌ. ولولا تبتدأ بعدها الأسماء، ولو بمنزلة لولا، وإن لم يجز فيها ما يجوز فيما يشبهها . تقول: لو أنّه ذهب لفعلت. وقال عزّ وجلّ: " لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربيّ " . وإن شئت جعلت شدَّما وعزَّما كنعم ما، كأنّك قلت: نعم العمل أنّك تقول الحقَّ.
وسألته عن قوله: كما أنّه لا يعلم ذلك فتجاوز الَّله عنه، وهذا حقُّ كما أنّك ها هنا، فزعم أنّ العاملة في أنَّ الكاف وما لغو، إلا أنّ ما لا تحذف من ها هنا كراهية أن يجيء لفظها مثل لفظ كأنَّ، كما ألزموا النون لأفعلنَّ، واللام قولهم إن كان ليفعل، كراهية أن يلتبس اللفظان.
ويدلّلك على أن الكاف هي العاملة قولهم: هذا حقُّ مثل ما أنّك ها هنا. وبعض العرب يرفع فيما حدَّثنا يونس، وزعم أنه يقول أيضاً: " إنَّه لحقُّ مثل ما أنَّكم تنطقون " ، فلولا أنَّ ما لغو لم يرتفع مثل، وإن نصبت مثل فما أيضاً لغوٌ، لأنَّك تقول: مثل أنّك ها هنا. وإن جاءت ما مسقطة من الكاف في الشعر جاز، كما قال النابغة الجعدي:
قرومٍ تسامى عند باب دفاعه ... كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا
فما لا تحذف ها هنا كما لا تحذف في الكلام من أنَّ، ولكنه جاز في الشعر، كما حذفت ماالتي في إمّا كقوله:
وإن من خريف فلن يعدما
هذا بابٌ من أبواب إنَّ
تقول: قال عمرو إن زيداًُ خيرٌ منك، وذلك لأنّك أردت أن تحكي قوله، ولا يجوز أن تعمل قال في إنَّ كما لا يجوز لك أن تعملها في زيد وأشباهه إذا قلت: قال زيدٌ عمروٌ خير الناس، فأنَّ لا تعمل فيها قال كما لا تعمل قال فيما تعمل فيه أنَّ؛ لأن أنَّ تجعل الكلام شأناً، وأنت لا تقول قال الشأن متفاقماً، كما تقول: زعم الشأن متفاقماً. فهذه الأشياء بعد قال حكاية.
ومثل ذلك: " وإذ قال موسى لقومه إنّ الّله يأمركم أن تذبحوا بقرة " وقال أيضاً: " قال الَّله إنّى منزَّلها عليكم " . وكذلك جميع ما جاء من ذا في القرآن.

وسألت يونس عن قوله: متى تقول أنّه منطلقٌ؟ فقال: إذا لم ترد الحكاية وجعلت تقول مثل تظنُّ، قلت: متى تقول أنَّك ذاهبٌ. وإن أردت الحكاية قلت: متى تقول إنّك ذاهبٌ. كما أنَّه يجوز لك أن تحكي فتقول: متى تقول زيد منطلقٌ، وتقول: قال عمروٌ إنّه منطلق. فإن جعلت الهاء عمراً أو غيره فلا تعمل قال، كما لا تعمل إذا قلت قال عمروٌ هو منطلقٌ. فقال: لم تعمل ها هنا شيئاً وإن كانت الهاء هي القائل،كما لا تعمل شيئاً إذا قلت قال وأظهرت هو. فقال لا تغّيَّر الكلام عن حاله قبل أن تكون فيه قال، فيما ذكرناه.
وكان عيسى يقرأ هذا الحرف: " فدعا ربَّه إنّى مغلوبٌ فانتصر أراد أن يحكي، كما قال عزّ وجلّ: " والذَّين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم " كأنه قال والَّله أعلم: قالوا ما نعبدهم. ويزعمون أنَّها في قراءة ابن مسعود كذا. ومثل ذلك كثيرٌ في القرآن.
وتقول: أوّل ما أقول أنّى أحمد الَّله، كأنك قلت: أوّل ما أقول الحمد لَّله، وأنَّ في موضعه. وإن أردت الحكاية قلت: أول ما أقول إنّي أحمد الّله.

هذا باب آخر من أبواب إنوذلك قولك: قد قاله القوم حتّى إنَّ زيداً يقوله، وانطلق القوم حتّى إنّ زيداً لمنطلق. فحتَّى ها هنا معلَّقة لا تعمل شيئاً في إنَّّ، كما لا تعمل إذا قلت: حتى زيد ذاهبٌ، فهذا موضع ابتداء وحتَّى بمنزلة إذا. ولو أردت أن تقول حتّى أنّ تقول حتّى أنّ في ذا الموضع كنت محيلا، لأنَّ أنَّ وصلتها بمنزلة الانطلاق، ولو قلت: انطلق القوم حتّى الانطلاق أو حتّى الخبر كان محالاً لأنَّ أنَّ تصيَّر الكلام خبراً، فلما لم يجز ذا حمل على الابتداء.
وكذلك إذا قلت: مررت فإذا إنّه يقول أنَّ زيداً خير منك.
وسمعت رجلاً من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به:
وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً ... إذا إنّه عبد القفا والَّلهازم
فحال إذا هاهنا كما لهل إذا قلت: إذا هو عبد القفا واللازم وإنما جاءت إن ها هنا لأنَّك هذا المعنى أردت، كما أردت في حتَّى معنى حتّى هو منطلق.
ولو قلت: مررت فإذا أنّه عبدٌ، تريد مررت به فإذا أمره العبوديّة واللؤم، كأنَّك قلت: مررت فإذا العبوديّة واللؤم، ثم وضعت أنَّ في هذا الموضع جاز.
وتقول: قد عرفت أمورك حتَّى أنك أحمق، كأنك قلت عرفت أمورك حتى حمقك، ثم وضعت أنَّ في هذا الموضع. هذا قول الخليل.
وسألته هل يجوز: كما أنّك ههنا على حد قوله: كما أنت هاهنا، فقال: لا؛ لأنّ إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع، ألا ترى أنّك لا تقول: يوم الجمعة إنّك ذاهب، ولا كيف إنك صانع. فكما بتلك المنزلة.
هذا باب آخر من أبواب إنِّ
تقول: ما قدم علينا أمير إِّلا إنّه مكرم لي؛لأنَّه ليس ههنا شيء يعمل في إنَّ. ولا يجوز أن تكون عليه أنَّ، وإنَّما تريد أن تقول: ما قدم علينا أمير إَّلا هو مكرم لي، فكما لا تعمل في ذا لا تعمل في إنّ.
ودخول اللام ههنا يدلّك على أنه موضع ابتداء. وقال سبحانه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إَّلا إنَّهم ليأكلون الطَّعام " . ومثل ذلك قول كثيّر:
ما أعطياني ولا سألتهما ... إّلا وإنِّي لحاجزي كرمى
وكذلك لو قال: إَّلا وإنِّي حاجزي كرمى.
وتقول: ما غضبت عليك إّلا أنّك فاسقٌ، كأنك قلت: إّلا لأنَّك فاسقٌ.
وأما قوله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إَّلا أنهم كفروا بالله " ، فإّنما حمله على منعهم.
وتقول إذا أردت معنى اليمين: أعطيته ما إنَّ شرَّه خير من جيِّد ما معك، وهؤلاء الذين إَّن أجنبهم لأشجع من شجعائكم. وقال الله عّز وجّل: " وآتيناه من الكنوز ما إَّن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوَّة؛ فإن صلةٌ لما، كأنك قلت: ما والله إّن شرَّه خير من جيّد ما معك.
هذا باب آخر من أبواب إَّن

تقول: أشهد إنّه لمنطلق، فأشهد بمنزلة قوله: واللهّ إنّه لذاهب. وإَّن غير عاملة فيها أشهد، لأنّ هذه اللام لا تلحق أبدأ إّلا في الابتداء. ألا ترى أنك تقول: أشهد لعبد اّلله خير من زيد، كأنك قلت: واللهّ لعبد اللهّ خيرٌ من زيد، فصارت إنَّ مبتدأةً حين ذكرت اللام هنا، كما كان عبد اّلله مبتدأً حين أدخلت فيه اللام.فإذا ذكرت اللام ههنا لم تكن إّلا مكسورةً، كما أنّ عبد اللّه لا يجوز هنا إَّلا مبتدأً. ولو جاز أن تقول: أشهد أنّك لذاهبٌ، لقلت أشهد بلذاك. فهذه اللام لا تكون إلاَّ في الابتداء، وتكون أشهد بمنزلة واّلله.
ونظير ذلك قول اّلله عّز وجلَّ: " واللهّ يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون " وقال عّز وجلَّ: " فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ باّلله إنَّه لمن الصَّادقين " ؛ لأنّ هذا توكيدُ كأنّه قال: يحلف باللّه إنه لمن الصادقين.
.
وقال الخليل: أشهد بأنّك لذاهبُ غير جائز، من قبل أنَّ حروف الجرّ لا تعَّلق. وقال: أقول أشهد إنه لذاهبٌ وإنهّ لمنطلق ، أتبع آخره أولّه. وإن قلت: أشهد أنّه ذاهبُ، وإنه لمنطلقُ،.لم يجز إلاَّ الكسر في الثاني، لأن اللام لا تدخل أبدا على أنَّ، وأن محمولةُ على ما قبلها ولا تكون إّلا مبتدأةً باللام.
ومن ذلك أيضاً قولك: قد علمت إنّه لخير منك. فإنَّ ههنا مبتدأةُ وعلمت ههنا بمنزلتها في قولك: لقد علمت أيّهم أفضل،معلقةَّ في الموضعين جميعاً.
وهذه اللام تصرف إنَّ إلى لابتداء، كما تصرف عبد اللّه إلى الابتداء إذا قلت قد علمت لعبد اللّه خيرُ منك، فعبد اّلله هنا بمنزلة إنَّ في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنّه لخيرُ منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك، ورأيت لعبد اّلله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أنَّ ولا عبد اّلله إلاَّ وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عزّ وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ " ،فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إنَّ مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: " ولقد علمت الجنةَّ إنَّهم لمحضرون " وقال أيضاً: " هل ندلكم على رجلٍ ينبئِّكم إذا مزّقتم كلَّ ممزَّقٍ إنَّكم لفي خلق جديد " ، فإنكم ههنا بمنزلة أيّهم إذا قلت: ينبئهم أيّهم أفضل.
وقال الخليل مثله: إنَّ اللّه يعلم ما تدعون من دونه من شيء فما ههنا بمنزلة أيّهم، ويعلم معلقة. قال الشاعر:
ألم تر إنّي وابن أسود ليلةً ... لنسري إلى نارين يعلو سناهما
سمعناه ممن ينشده من العرب.
وسألت الخليل عن قوله: أحقاً إنَّك لذاهبٌ، فقال: لا يجوز، كما لا يجوز: يوم الجمعة إنّه لذاهبٌ.
وزعم الخليل ويونس أنه لا تلحق هذه اللام مع كّل فعل. ألا ترى أنك لا تقول: وعدتك إنّك لخارجٌ، إنمّا يجوز هذا في العلم والظنّ ونحوه، كما يبتدأ بعدهنّ أيهّم. فإن لم تذكر اللام قلت: قد علمت أنّه منطلقٌ، لا تبتدئه وتحمله على الفعل، لأنه لم يجيء ما يضطرّك إلى الابتداء، وإنما ابتدأت إنَّ حين كان غير جائز أن تحمله على الفعل، فإذا حسن أن تحمله على الفعل لم تخطَّ الفعل إلى غيره.
ونظير ذلك قوله: إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌّ، حملته على الفعل حين لم يجز أن تبتدىء بعد إن الأسماء، وكما قال: أما أنت منطلقاً انطلقت معك، حين لم يجز إن تبتدىء الكلام بعد أمَّا، فاضطررت في هذا الموضع إلى أن تحمل الكلام على الفعل. فإذا قلت: إنّ زيداً منطلقٌ لم يكن في إنَّ إلاّ الكسر لأنَّك لم تضطر إلى شيء. ولذلك تقول: أشهد أنك ذاهبٌ، إذا لم تذكر اللام. وهذا نظير هذا.
وهذه كلمةٌ تكلّم بها العرب في حال اليمين، وليس كلُّ العرب تتكلم بها، تقول:لهنَّك لرجل صدق، فهي إنَّ ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقوله: هرقت، ولحقت هذه اللام إنَّ كما لحقت ما حين قلت: إنّ زيدا لما لينطلقنَّ، فلحقت إنَّ اللام في اليمين كما لحقت ما فاللام الأولى في لهنك لام اليمين، والثانية لام إنَّ.وفي لما لينطلقنَّ اللام الأولى لأن، والثانية لليمين. والدليل على ذلك النون التي معها كما أنَّ اللام الثانية في قولك: إن زيدا لما ليفعلنَّ لام اليمن، وقد يجوز في الشعر: أشهد إنّ زيدا ذاهبٌ، يشبهها بقوله: واّلله إنه ذاهبٌ؛ لأن معناها معنى اليمين، كما أنّه لو قال: أشهد أنت ذاهبٌ ولم يذكر اللام إلاَّ ابتداءً، وهو قبيح ضعيف إلاّ باللام.

ومثل ذلك في الضعف: علمت إنَّ زيدا ذاهبٌ، كما أنَّه ضعيف: قد علمت عمروٌ خيرٌ منك، ولكنَّه على إرادة اللام، كما قال عزّ وجل: " قد أفلح من زكَّاها " ، وهو على اليمين. وكان في هذا حسناً حين طال الكلام.
وسألت الخليل عن كأنَّ، فزعم أنهَّا إنَّ، لحقتها الكاف للتشبيه، ولكنهَّا صارت مع إنَّ بمنزلة كلمة واحدة، وهي نحو كأيٍّ رجلاً، ونحو له كذا وكذا درهماً.
وأما قول العرب في الجواب إنَّه، فهو بمنزلة أجل. وإذا وصلت قلت إنَّ يا فتى، وهي التي بمنزلة أجل.
قال الشاعر:
بكر العواذل في الصَّبو ... ح يلمنني وألومهنهَّ
ويلقن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنَّه
؟
هذا باب أن وإنفأن مفتوحة تكون على وجوه: فأحدها أن تكون فيه أن وما تعمل فيه من الأفعال بمنزلة مصادرها، والآخر: أن تكون فيه بمنزلة أي. ووجهٌ آخر تكون فيه لغواً. ووجهٌ آخر هي فيه مخففةَ من الثقيلة. فأمّا الوجه الذي تكون فيه لغواً فنحو قولك: لمَّا أن جاءوا ذهبت، وأما واللّه أن لو فعلت لأكرمتك.
وأما إن فتكون للمجازاة، وتكون أن يبتدأ ما بعدها في معنى اليمين، وفي اليمين، كما قال اّلله عزّ وجلّ: " إن كلّ نفسٍ لما عليها حافظٌ " " وإن كلّ لما جميع لدينا محضرون " .
وحدثني من لا أتهم، عن رجل من أهل المدينة موثوق به، أنه سمع عربيّا يتكّلم بمثل قولك: إن زيدٌ لذاهبٌ، وهي التي في قوله جلّ ذكره: " وإن كانوا ليقولون. لو أنَّ عندنا ذكراً من الأوَّلين " وهذه إنَّ محذوفةٌ.
وتكون في معنى ما. قال اللّه عزّ وجلّ: " إن الكافرون إلاَّ في غرورٍ " ، أي: ما الكافرون إلاّ في غرور.
وتصرف الكلام إلى الابتداء، كما صرفتها ما إلى الابتداء في قولك: إنمَّا، وذلك قولك: ما إن زيدٌ ذاهبٌ. وقال فروة بن مسيك:
وما إن طبّنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
هذا باب من أبواب أن
التي تكون والفعل بمنزلة مصدرتقول: أن تأتيني خيرٌ لك، كأنّك قلت: الإتيان خيرٌ لك. ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: " وأن تصوموا خيرٌ لكم " ، يعني الصوم خيرٌ لكم.
وقال الشاعر، عبد الرحمن بن حسّان:
إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا حرَّ الثياب وتشبعوا
كأنه قال: رأيت حسبكم لبس الثياب.
واعلم أنّ اللام ونحوها من حروف الجرّ قد تحذف من أن كما حذفت من أنَّ، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: فعلت ذاك حذر الشرِّ، أي لحذر الشّر. ويكون مجروراً على التفسير الآخر.
ومثل ذلك قولك: إنّما انقطع إليك أن تكرمه، أي: لأن تكرمه.
ومثل ذلك قولك: لا تفعل كذا وكذا أن يصيبك أمر تكرهه، كأنّه قال: لأن يصيبك أو من أجل أن يصيبك. وقال عزّ وجل: " أن تضلَّ إحداهما " ، وقال تعالى: " أأن كان ذا مالٍ وبنين " كأنه قال: ألأن كان ذا مال وبنين. وقال الأعشى:
أأن رأت رجلاً أعشى أضربَّه ... ريب المنّون ودهرٌ مفسدٌ خبل
فأن هاهنا حالها في حذف حرف الجرّ كحال أنَّ، وتفسيرها كتفسيرها، وهي مع صلتها بمنزلة المصدر.
ومن ذلك أيضاً قوله: ائتني بعد أن يقع الأمر، وأتاني بعد أن وقع الأمر، كأنَّه قال: بعد وقوع الأمر.
ومن ذلك قوله: أمّا أن أسير إلى الشأم فما أكرهه، وأمّا أن أقيم فانّ فيه أجراً، كأنه قال: أما السيّرورة فما أكرهها، وأمّا الإقامة فلى فيها أجرٌ.
وتقول: لا يلبث أن يأتيك، أي لا يلبث عن إتيانك. وقال تعالى: " فما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا " ، فأن محمولة على كان، كأنَّه قال: فما كان جواب قومه إلاّ قول كذا وكذا. وإن شئت رفعت الجواب فكانت أن منصوبةً.
وتقول: ما منعك أن تأتينا، أراد من إتياننا. فهذا على حذف حرف الجرّ.
وفيه ما يجيء محمولاً على ما يرفع وينصب من الأفعال، تقول: قد خفت أن تفعل، وسمعت عربّياً يقول: أنعم أن تشدَّه، أي بالغ في أن يكون ذلك هذا المعنى، وأن محمولة على أنعم. وقال جلّ ذكره: " بئسما اشتروا به أنفسهم " ، ثم قال: أن يكفروا على التفسير، كأنه قيل له ما هو؟ فقال: هو أن يكفروا.
وتقول: إني مّما أن أفعل ذاك، كأنه قال: إنّي من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك، فوقعت ما هذا الموقع، كما تقول العرب: بئسما له، يريدون بئس الشيء ماله.

وتقول: ائتني بعد ما تقول ذاك القول، كأنك قلت: ائتني بعد قولك ذاك القول، كما أنك إذا قلت بعد أن تقول فإنما تريد ذاك، ولو كانت بعد مع ما بمنزلة كلمةٍ واحدة لم تقل: ائتني من بعد ما تقول ذاك القول، ولكانت الدال على حالٍ واحدة.
وإن شئت قلت: إنّي مّما أفعل، فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة نحو ربمَّا. قال أبو حيّة النميّري:
وإنّا لممَّا نضرب الكبش ضربةً ... على رأسه تلقى اللسان من الفم
وتقول إذا أضفت إلى الأسماء: إنّه أهل أن يفعل، ومخافة أن يفعل، وإن شئت قلت: إنّه أهل أن يفعل، ومخافة أن يفعل، كأنك قلت: إنّه أهل لأن يفعل، ومخافة لأن يفعل. وهذه الإضافة كإضافتهم بعض الأشياء إلى أن. قال:
تظلّ الشمس كاسفةً عليه ... كآبة أنهّا فقدت عقيلاً
وتقول: أنت أهلٌ أن تفعل، أهلٌ عاملة في أن، كأنك قلت: أنت مستحقٌ أن تفعل. وسمعنا فصحاء العرب يقولون: لحقّ أنّه ذاهبٌ، فيضيفون، كأنه قال: ليقين أنه ذاهبٌ، أي ليقين ذاك أمرك. وليست في كلام كلّ العرب.
وتقول: إنّه خليقٌ لأن يفعل، وإنّه خليقٌ أن يفعل، على الحذف.
وتقول: عسيت أن تفعل، فأن هاهنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل، أي: قاربت ذاك، وبمنزلة: دنوت أن تفعل.
واخلو لقت السماء أن تمطر، أي: لأن تمطر. وعسيت بمنزلة اخلولقت السماء.
ولا يستعملون المصدر هنا كما لم يستعملوا الاسم الذي الفعل في موضعه كقولك: اذهب بذي تسلم، ولا يقولون: عسيت الفعل، ولا عسيت للفعل.
وتقول: عسى أن يفعل، وعسى أن يفعلوا، وعسى أن يفعلا وعسى محمولة عليها أن، كما تقول: دنا أن يفعلوا،وكما قالوا: اخلولقت السماء أن تمطر، وكلَّ ذلك تكلَّم به عامة العرب.
وكينونة عسى للواحد والجميع والمؤنثَّ تدلك على ذلك. ومن العرب من يقول: عسى وعسيا وعسوا، وعست وعستا وعسين. فمن قال ذلك كانت أن فيهن بمنزلتها في أنَّها منصوبة.
واعلم أنَّهم لم يستعملوا عسى فعلك، استغنوا بأن تفعل عن ذلك، كما استغنى أكثر العرب بعسى عن أن يقولوا: عسيا وعسوا، وبلو أنّه ذاهبٌ عن لو ذهابه. ومع هذا أنَّهم لم يستعملوا المصدر في هذا الباب، كما لم يستعملوا الاسم الذي في موضعه يفعل في عسى وكاد، فترك هذا لأنَّ من كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء.
واعلم أن من العرب من يقول: عسى يفعل، يشبهها بكاد يفعل، فيفعل حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قوله: عسى الغوير أبؤساً. فهذا مثل من أمثال العرب أجروا فيه عسى محرى كان. قال هدبة:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وقال:
عسى اّلله يغنى بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرَّباب سكوب
وقال:
فأمّا كيَّسٌ فنجا ولكن ... عسى يغترّ بي حمقٌ لئيم
وأمّا كاد فإنَّهم لا يذكرون فيها أن، وكذلك كرب يفعل، ومعناهما واحد. يقولون: كرب يفعل، وكاد يفعل ولا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال لما ذكرت لك في الكرّاسة التي تليها.
ومثله: جعل يقول، لا تذكر الاسم ههنا. ومثله أخذ يقول، فالفعل ههنا بمنزلة الفعل في كان إذا قلت: كان يقول، وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثمَّ، وهو ثمَّ خبرٌ كما أنه ههنا خبر، إلاَّ أنَّك لا تستعمل الاسم، فأخلصوا هذه الحروف للأفعال كما خلصت حروف الاستفهام للأفعال نحو: هلاَّ وألاَّ.
وقد جاء في الشعر كاد أن يفعل، شبهّوه بعسى. قال رؤبة:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا
والمحص مثله.
وقد يجوز في الشعر أيضاً لعلِّى أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل.
وتقول: يوشك أن تجيء،وأن محمولة على يوشك. وتقول: توشك أن تجيء، فأن في موضع نصب، كأنك قلت: قاربت أن تفعل.
وقد يجوز يوشك يجيء، بمنزلة عسى يجيء، وقال أمّية بن أبي الصَّلت:
يوشك من فرَّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها
وهذه الحروف التي هي لتقريب الأمور شبيهةٌ بعضها ببعض، ولها نحو ليس لغيرها من الأفعال.
وسألته عن معنى قوله: أريد لأن أفعل، إنَّما يريد أن يقول إرادتي لهذا، كما قال عزَّ وجلَّ: " وأمرت لأن أكون أوَّل المسلمين " إنمّا هو أمرت لهذا.
وسألت الخليل عن قول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزَّتا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم

فقال: لأنه قبيح أن تفصل بين إن والفعل، كما قبح أن تفصل بين كي والفعل، فلمّا قبح ذلك ولم يجز حمل على إن، لأنَّه قد تقدّم فيها الأسماء قبل الأفعال.
باب ما تكون فيه أن بمنزلة أيوذلك قوله عزّ وجل: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا " زعم الخليل أنه بمنزلة أي، لأنّك إذا قلت: انطلق بنو فلان أن امشوا، فأنت لا تريد أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي، ومثل ذلك:ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا اّلله. وهذا تفسير الخليل. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما قوله: كتبت إليه أن افعل، وأمرته أن قم، فيكون على وجهين: على أن تكون أن التي تنصب الأفعال ووصلتها بحرف الأمر والنهي، كما تصل الذي بتفعل إذا خاطبت حين تقول أنت الذي تفعل، فوصلت أن بقم لأنه في موضع أمر كما وصلت الذي بتقول وأشباهها إذا خاطبت.
والدليل على أنها تكون أن التي تنصب، أنَّك تدخل الباء فتقول: أوعزت إليه بأن افعل، فلو كانت أي لم تدخلها الباء كما تدخلها الباء كما تدخل في الأسماء.
والوجه الآخر: أن تكون بمنزلة أي، كما كانت بمنزلة أي في الأوّل.
وأمّا قوله عزَّ وجلَّ: " وآخر دعواهم أن الحمد للهّ ربّ العالمين " ، وآخر قولهم أن لا إله إلاّ الله، فعلى قوله أنّه الحمد لله، ولا إله إلا اّلله. ولا تكون أن التي تنصب الفعل؛ لأنّ تلك لا يبتدأ بعدها الأسماء. ولا تكون أي، لآنّ أي إنّما تجيء بعد كلام مستغنٍ ولا تكون في موضع المبنيِّ على المبتدأ.
ومثل ذلك: وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدَّقت الرّؤيا كأنه قال جلّ وعزّ: ناديناه أنَّك قد صدّقت الرؤيا يا إبراهيم.
وقال الخليل: تكون أيضاً على أي. وإذا قلت: أرسل إليه أن ما أنت وذا؟ فهي على أي، وإن أدخلت الباء على أنَّك وأنَّه، فكأنه يقول: أرسل إليه بأنَّك ما أنت وذا، جاز ويدّلك على ذلك: أنَّ العرب قد تكلّم به في ذا الموضع مثقلاً.
ومن قال: والخامسة أن غضب اّلله عليها، فكأنه قال: أنَّه غضب اّلله عليها، لا تخِّففها في الكلام أبداً وبعدها الأسماء إلاَّ وأنت تريد الثقيلة مضمراً فيها الاسم، فلو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون في الشعِّر إذا اضطروا بكأن إذا خففّوا، يريدون معنى كأنَّ، ولم يريدوا الإضمار، وذلك قوله:
كأن وريديه رشاء خلب
وهذه الكاف إنَّما هي مضافة إلى أنّ، فلمَّا اضطررت إلى التخفيف فلم تضمر لم يغيِّر ذلك أن تنصب بها، كما أنَّك قد تحذف من الفعل فلا يتغيّر عن عمله، ومثل ذلك قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كلّ من يحفى وينتعل
كأنه قال: أنَّه هالك:ٌ ومثل ذلك: أوّل ما أقول أن بسم الله، كأنه قال: أوّل ما أقول أنَّه بسم الله. وإن شئت رفعت في قول الشاعر:
كأن وريداه رشاء خلب
على مثل الإضمار الذي في قوله: إنَّه من يأتها تعطه، أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر، كما قال:
كأن ظبيةٌ تعطو إلى وارق السَّلم
ولو أنَّهم إذ حذفوا جعلوه بمنزلة إنما كما جعلوا إن بمنزلة لكن لكان وجهاً قويّا.
وأمّا قوله: أن بسم الله، فإنما يكون على الإضمار، لأنّك لم تذكر مبتدأ أو مبنيّاً عليه. والدليل على أنهم إنّما يخففّون على إضمار الهاء، أنك تستقبح: قد عرفت أن يقول ذاك، حتّى تقول أن لا، أو تدخل سوف أو السين أو قد. ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعاً بعدها كما تذكره بعد هذه الحروف، كما تقول: إنما تقول ولكن تقول
باب آخر تكون أن فيه مخففّة
وذلك قولك: قد علمت أن لا يقول ذاك، وقد تيقّنت أن لا تفعل ذاك، كأنه قال: أنَّه لا يقول وأنَّك لا تفعل.
ونظير ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " علم أن سيكون منكم مرضى " وقوله: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً " ، وقال أيضاً: " لئلاَّ يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء " .
وزعموا أنَّها في مصحف أبيّ ٍ: أنَّهم لا يقدرون.
وليست أن التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع، لأنّ ذا موضع يقين وإيجابٍ.
وتقول: كتبت إليه أن لا تقل ذاك، وكتبت غليه أن لا يقول ذاك وكتبت إليه أن لا تقول ذاك.
فأمّا الجزم فعلى الأمر. وأمّا النصب فعلى قولك لئلاَّ يقول ذاك.وأمّا الرفع فعلى قولك: لأنّك لا تقول ذاك أو بأنَّك لا تقول ذاك، تحبره بأنّ ذا قد وقع من أمره.

فأمّا ظننت وحسبت وخلت ورأيت، فانَّ أن تكون فيها على وجهين: على أنها تكون أن التي تنصب الفعل، وتكون أنَّ الثقيلة. فإذا رفعت قلت: قد حسبت أن لا يقول ذاك، وأرى أن سيفعل ذاك. ولا تدخل هذه السين في الفعل ههنا حتى تكون أنّه. وقال عزَّ وجلَّ: " وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ " ، كأنك قلت: قد حسبت أنَّه لا يقول ذاك. وإنمّا حسنت أنَّه ههنا لأنك قد أثبتَّ هذا في ظِّنك كما أثبتَّه في علمك، وأنَّك أدخلته في ظنّك على أنه ثابتٌ الآن كما كان في العلم، ولولا ذلك لم يحسن أنَّك ههنا ولا أنَّه، فجرى الظنّ ههنا مجرى اليقين لأنَّه نفيه. وإن شئت نصبت فجعلتهن بمنزلة خشيت وخفت، فتقول: ظننت أن لا تفعل ذاك.
ونظير ذلك: تظنّ أن يفعل بها فاقرةٌ و: إن ظنَّا أن يقيما حدود الله. فلا إذا دخلت ههنا لم تغيرّ الكلام عن حاله وإنمّا منع خشيت أن تكون بمنزلة خلت وظننت وعلمت إذا أردت الرفع أنك لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئاً قد ثبت عندك ولكنه كقولك: أرجو، وأطمع، وعسى. فأنت لا توجب إذا ذكرت شيئاً من هذه الحروف، ولذلك ضعف أرجو أنَّك تفعل، وأطمع أنَّك فاعلٌ.
ولو قال رجلٌ: أخشى أن لا تفعل، يريد أن يخبر أنه يخشى أمراً قد استقرّ عنده كائن، جاز. وليس وجه الكلام.
واعلم أنَّه ضعيفٌ في الكلام أن تقول: قد علمت أن تفعل ذاك ولا قد علمت أن فعل ذاك حتَّى تقول: سيفعل أو قد فعل، أو تنفي فتدخل لا؛ وذلك لأنَّهم جعلوا ذلك عوضاً مما حذفوا من أنَّه، فكرهوا أن يدعوا السين أو قد إذ قدروا على أن تكون عوضاً، ولا تنقص ما يريدون لو لم يدخلوا قد ولا السين.
وأمّا قولهم: أما أن جزاك اللّه خيراٍ، فإنَّهم إنما أجازوه لأنه دعاءٌ، ولا يصلون إلى قد ههنا ولا إلى السين. وكذلك لو قلت: أما أن يغفر اللّه لك جاز لأنّه دعاءٌ، ولا تصل هنا إلى السين. ومع هذا أيضاً أنَّه قد كثر في كلامهم حتّى حذفوا فيه إنَّه، وإنَّه لا تحذف في غير هذا الموضع. سمعناهم يقولون: أما إن جزاك الله خيراً، شبهّوه بأنَّه، فلمَّا جازت إنَّ كانت هذه أجوز.
وتقول: ما علمت إلاَّ أن أن تقوم، وما أعلم إلا أن تأتيه، إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئاً كائناً البتّة، ولكنك تكلّمت به على وجه الإشارة كما تقول: أرى من الرأي أن تقوم، فأنت لا تخبر أنّ قياماً قد ثبت كائناً أو يكون فيما تستقبل البتَّة، فكأنه قال: لو قمتم. فلو أراد غير هذا المعنى لقال: ما علمت إلاَّ أن ستقومون.
وإنمَّا جاز قد علمت أن عمروٌ ذاهبٌ، لأنّك قد جئت بعده باسم وخبر كما كان يكون بعده لو ثقَّلته وأعملته، فلمَّا جئت بالفعل بعد أن جئت بشيء كان سيمتنع أن يكون بعده لو ثقّلته أو قلت: قد علمت أن يقول ذاك، كان يمتنع، فكرهوا أن يجمعوا عليه الحذف وجواز ما لم يكن يجوز بعده مثقّلا، فجعلوا هذه الحروف عوضاً.
؟
هذا باب أم وأوأمّا أم فلا يكون الكلام بها إلاَّ استفهاماً. ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين: على معنى أيّهما وأيهّم، وعلى أن يكون الاستفهام الآخر منقطعاً من الأوّل.
وأمّا أو فإنما يثبت بها بعض الأشياء، وتكون في الخبر. والاستفهام يدخل عليها على ذلك الحّد. وسأبيّن لك وجوهه إن شاء اللّه تعالى.
؟باب أم إذا كان الكلام بها بمنزلة أيّهما
وأيّهم
وذلك قولك: أزيدٌ عندك أم عمروٌ، وأزيداً لقيت أم بشراً؟ فأنت الآن مدَّع أنَّ عنده أحدهما، لأنَّك إذا قلت: أيهما عندك، وأيَّهما لقيت. فأنت مدّعٍ أنّ المسئول قد لقي أحدهما،أو أنّ عنده أحدهما، الاَّ أن علمك قد استوى فيهما لا تدري أيهّما هو.
والدليل على أن قولك: أزيدٌ عندك أم عمروٌ بمنزلة قولك: أيّهما عندك، أنَّك لو قلت: أزيدٌ عندك أم بشرٌ فقال المسئول: لا، كان محالا، كما أنَّه إذا قال: أيهّما عندك، فقال: لا فقد أحال.
واعلم أنّك إذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن، لأنك لا تسأله عن اللّقى، وإنَّما تسأله عن أحد الاسمين لا تدري أيّهما هو، فبدأت بالاسم لأنَّك تقصد قصد أن يبين لك أيّ الاسمين في هذا الحال، وجعلت الاسم الآخر عديلاً للأوّل، فصار الذي لا تسأل عنه بينهما.
ولو قلت: ألقيت زيداً أم عمراً كان جائزاً حسناً، أو قلت: أعندك زيدٌ أم عمرو كان كذلك.

وإنّما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولم يجز للآخر إلاَّ أن يكون مؤخراً، لأنه قصد قصد أحد الاسمين، فبدأ بأحدهما، لأنّ حاجته أحدهما، فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها، لأنّه إنّما يسأل عن أحدهما من أجلها، فإنما يفرغ مما يقصد قصده بقصّته ثم يعدله بالثاني.
ومن هذا الباب قوله: ما أبالي أزيداً لقيت أم عمراً، وسواءٌ عليَّ أبشراً كلّمت أم زيدا، كما تقول: ما أبالي أيَّهما لقيت. وإنَّما جاز حرف الاستفهام ههنا لأنّك سوّيت الأمرين عليك كما استويا حين قلت: أزيدٌ عندك أم عمرو، فجرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النِّداء قولهم: اللهمَّ اغفر لنا أيَّتها العصابة.
وإنمّا لزمت أم ههنا لأنّك تريد معنى أيَّهما. ألا ترى أنَّك تقول: ما أبالي أيّ ذلك كان، وسواءٌ عليَّ أيّ ذلك كان، فالمعنى واحد، وأيّ ههنا تحسن وتجوز كم جازت في المسألة.
ومثل ذلك: ما أدري أزيدٌ ثمَّ أم عمروٌ، وليت شعري أزيدٌ ثمَّ أم عمروٌ، فإنَّما أوقعت أم ههنا كما أوقعته في الذي قبله؛ لأنّ ذا يجرى على حرف الاستفهام حيث استوى علمك فيهما كما جرى الأوّل. ألا ترى أنّك تقول، ليت شعري أيّهما ثمّ، وما أدري أيهّما ثمَّ، فيجوز أيهّما ويحسن، كما جاز في قولك: أيهّما ثمَّ.
وتقول: أضربت زيداً أم قتلته، فالبدء ههنا بالفعل أحسن، لأنّك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيّهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، فالبدء بالفعل ههنا أحسن، كما كان البدء بالاسم ثمَّ فيما ذكرنا أحسن كأنّك قلت: أيّ ذاك كان بزيدٍ. وتقول: أضربت أم قتلت زيداً لأنك مدَّعٍ أحد الفعلين: ولا تدري أيهمّا هو، كأنك قلت: أيّ ذاك كان بزيد.
وتقول: ما أدري أقام أم قعد، إذا أردت: ما أدري أيّهما كان. وتقول: ما أدري أقام أو قعد، إذا أردت: أنه لم يكن بين قيامه وقعوده شيءٌ، كأنّه قال: لا أدَّعي أنه كان منه في تلك الحال قيامٌ ولا قعودٌ بعد قيامه أي: لم أعدَّ قيامه قياماً ولم يستبن لي قعودٌ بعد قيامه، وهو كقول الرجل: تكلمت ولم تكلَّم.
هذا باب أم منقطعةً
وذلك قولك: أعمروٌ عندك أم عندك زيدٌ، فهذا ليس بمنزلة: أيهَّما عندك. ألا ترى أنك لو قلت: أيّهما عندك عندك، لم يستقم إلاَّ على التكرير والتوكيد.
ويدلّك على أن هذا الآخر منقطعٌ من الأوّل قول الرجل: إنِّها لإبلٌ ثم يقول: أم شاءٌ يا قوم. فكما جاءت أم ههنا بعد الخبر منقطعةً، كذلك تجيء بعد الاستفهام، وذلك أنه حين قال: أعمروٌ عندك فقد ظنَّ أنَّه عنده، ثم أدركه مثل ذلك الظنّ في زيد بعد أن استغنى كلامه، وكذلك: إنها لإبلٌ أم شاءٌ، إنّما أدركه الشكّ حيث مضى كلامه على اليقين.
وبمنزلة أم ههنا قوله عزّ وجلَّ: " آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين. أم يقولون افتراه " ، فجاء هذا الكلام على كلام العرب قد علم تبارك وتعالى وذلك من قولهم، ولكن هذا على كلام العرب ليعرَّفوا ضلالتهم.
ومثل ذلك: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين، كأنَّ فرعون قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء. فقوله: أم أنا خيرٌ من هذا، بمنزلة: أم أنتم بصراء؛ لأنّهم لو قالوا: أنت خيرٌ منه كان بمنزلة قولهم: نحن بصراء عنده وكذلك: أم أنا خيرٌ بمنزلته لو قال: أم أنتم بصراء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " أم اتَّخذ ممَّا يخلق بناتٍ وأصفاكم بالبنين " .فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون: أنّ الله عزّ وجلَّ لم يتخَّذ ولداً، ولكنه جاء حرف الاستفهام ليبصَّروا ضلالتهم. ألا ترى أنّ الرجل يقول للرجل: آلسعادة أحبّ إليك أم الشقّاء؟ وقد علم أنّ السعادة أحبّ إليه من الشقاء، وأنّ المسئول سيقول: السعادة، ولكنَّه أراد أن يبصّر صاحبه وأن يعلمه.
ومن ذلك أيضاً: أعندك زيدٌ أم لا، كأنه حيث قال: أعندك زيدٌ، كان يظنّ أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظنّ في أنه ليس عنده فقال: أم لا.
وزعم الخليل أنّ قول الأخطل:
كذبتك عنك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلاّم من الرَّباب خيالا
كقولك: إنَّها لإبلٌ أم شاءٌ. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو كثَّير عزّة:
أليس أبي بالَّنضر أم ليس والدي ... لكلّ نجيبً من خزاعة أزهرا

ويجوز في الشعر أن يريد بكذبتك الاستفهام ويحذف الإلف. قال التميمي، وهو الأسود بن يعفر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهمٍ أم شعيث بن منقر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان
هذا باب أوتقول: أيَّهم تضرب أو تقتل، تعمل أحدهما، ومن يأتيك أو يحدّثك أو يكرمك؛ لا يكون ههنا إلاَّ أو؛ من قبل أنك إنما تستفهم عن الاسم المفعول، وإنما حاجتك إلى صاحبك أن يقول: فلانٌ.
وعلى هذا الحدّ يجرى ما، ومتى، وكيف، وكم، وأين.
وتقول: هل عندك شعيرٌ أو برٌّ أو تمرٌ؟ وهل تأتينا أو تحدّثنا، لا يكون إلاَّ ذلك. وذاك أنّ هل ليست بمنزلة ألف الاستفهام، لأنك إذا قلت: هل تضرب زيداً، فلا يكون أن تدَّعي أنّ الضرب واقعٌ، وقد تقول: أتضرب زبداً وأنت تدَّعي أنَّ الضرب واقعٌ.
ومما يدلّك على أن ألف الاستفهام ليست بمنزلة هل أنك تقول للرجل: أطرباً! وأنت تعلم أنّه قد طرب، لتوبَّخه وتقِّرره. ولا تقول هذا بعد هل.
وإن شئت قلت: هل تأتيني أم تحدّثني، وهل عندك برٌّ أم شعيرٌ، على كلامين. وكذلك سائر حروف الاستفهام التي ذكرنا.
وعلى هذا قالوا: هل تأتينا أم هل تحدّثنا. قال زفر بن الحارث:
أبا مالك هل لمتنى مذ حضضتني ... على القتل، أم هل لامني لك لائم
وكذلك سمعناه من العرب. فأمَّا الذين قالوا: أم هل لامني لك لائم فإنَّما قالوه على أنه أدركه الظنّ بعد ما مضى صدر حديثه. وأمّا الذين قالوا: أو هل فإنَّهم جعلوه كلاماً واحداً.
وتقول: ما أدري هل تأتينا أو تحدّثنا، وليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا، فهل ههنا بمنزلتها في الاستفهام إذا قلت: هل تأتينا، وإنما أدخلت هل ههنا لأنك إنما تقول: أعلمني، كما أردت ذلك حين قلت: هل تأتينا أو تحدثّنا، فجرى هذا مجرى قوله عزَّ وجلَّ: " هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرّون " ، وقال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بداليا
وقال مالك بن الريب:
ألا ليت شعري هل تغيرَّت الرَّحا ... رحا الحزن أو أضحت بفلجٍ كما هيا
فهذا سمعناه ممن ينشده من بني عِّمه. وقال أناسٌ: أم أضحت على كلامين، كما قال علقمة بن عبدة:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبّة يوم البين مشكوم
؟
هذا باب آخر من أبواب أوتقول: ألقيت زيداً أو عمراً أو خالداً، وأعندك زيد أو خالدٌ أو عمروٌ، كأنّك قلت: أعندك أحدٌ من هؤلاء، وذلك أنّك للم تدَّع أن أحداً منهم ثمَّ. ألا ترى أنه إذا أجابك قال: لا، كما يقول إذا قلت: أعندك أحدٌ من هؤلاء.
واعلم أنَّك إذا أردت هذا المعنى فتأخير الاسم أحسن؛ لأنّك إنَّما تسأل عن الفعل بمن وقع. ولو قلت: أزيداً لقيت أو عمراً أو خالداً، وأزيدٌ عندك أو عمروٌ أو خالدٌ كان هذا في الجواز والحسن بمنزلة تأخير الاسم إذا أردت معنى أيهّما. فإذا قلت: أزيدٌ أفضل أم عمرو لم يجز ههنا إلاَّ أم، لأنّك إنَّما تسأل عن أفضلهما ولست تسأل عن صاحب الفضل.
ألا ترى أنَّك لو قلت: أزيدٌ أفضل لم يجز، كما يجوز: أضربت زيداً فذلك يدلّك أنّ معناه معنى أيهّما. إلا أنَّك إذا سألت عن الفعل استغنى بأوّل اسم.
ومثل ذلك: ما أدري أزيدٌ أفضل أم عمروٌ، وليت شعري أزيدٌ أفضل أم عمروّ. فهذا كلّه على معنى أيّهما أفضل.
وتقول: ليت شعري ألقيت زيداً أو عمراً، وما أدري أعندك زيدٌ أو عمروٌ، فهذا يجري مجرى ألقيت زيداً أو عمراً، وأعندك زيدٌ أو عمروٌ. فإن شئت قلت: ما أدري أزيدٌ عندك أو عمروٌ، فكان جائزا حسا كما جاز أزيدٌ عندك أو عمرو.
وتقديم الاسمين جميعاً مثله وهو مَّؤخر وإن كانت أضعف. فأما إذا قلت: ما أبالي أضربت زيداً أم عمراً، فلا يكون هنا إلاَّ أم، لأنه لا يجوز لك السكوت على أوّل الاسمين، فلا يجيء هذا إلاَّ على معنى أيهَّما، وتقديم الاسم ههنا أحسن.
وتقول: أتجلس أو تذهب أو تحدّثنا، وذلك إذا أردت هل يكون شيء من هذه الأفعال. فأمَّا إذا

ادَّعيت أحدهما فليس إلاَّ أتجلس أم تذهب أم تأكل، كأنَّك قلت: أيَّ هذه الأفعال يكون منك.
وتقول: أتضرب زيداً أم تشم عمراً أم تكلّم خالداً. ومثل ذلك أتضرب زيداً أو تضرب عمراً أو تضرب خالداً، إذا أردت هل يكون شيء من ضرب واحد من هؤلاء. وإن أردت أيّ ضرب هؤلاء يكون قلت: أم.
قال حسّان بن ثابت:
ما أبالي أنبَّ بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
كأنه قال: ما أبالي أيّ الفعلين كان.
وتقول: أزيداً أو عمراً رأيت أم بشراً، وذلك أنَّك لم ترد أن تجعل عمراً عديلاً لزيد حتى يصير بمنزلة أيّهما، ولكنَّك أردت أن يكون حشواً، فكأنك قلت: أأحد هذين رأيت أم بشراً. ومثل ذلك قول صفَّية بنت عبد المطلب:
كيف رأيت زبرا أأقطاً أو تمرا أم قرشيَّا صقرا
وذلك أنَّها لم ترد أن تجعل لتمر عديلاً للأقط؛ لأنّ المسئول عندها لم يكن عندها ممن قال: هو إما تمرٌ وإمّا أقطٌ وإمّا قرشيٌّ، ولكنها قالت: أهو طعامٌ أم قرشيٌّ، فكأنها قالت: أشيئاً من هذين الشيئين رأيته أم قرشياً.
وتقول: أعندك زيدٌ أو عندك عمروٌ أو عندك خالدٌ؟ كأنَّك قلت: هل عندك من هذه الكينونات شيءٌ؟ فصار هذا كقولك: أتضرب زيداً أو تضرب عمراً أو تضرب خالداً. ومثل ذلك: أتضرب زيداً أو عمراً أو خالداً؟ وتقول: أعاقلٌ عمروٌ أو عالمٌ؟ وتقول: أتضرب عمرا أو تشتمه؟ تجعل الفعلين والاسم بينهما بمنزلة الاسمين والفعل بينهما؛ لأنَّك قد أثبتَّ عمراً لأحد الفعلين كما أثبتَّ الفعل هناك لأحد الاسمين، وادعَّيت أحدهما كما ادَّعيت ثمَّ أحد الاسمين. وإن قدّمت الاسم فعربيٌّ حسن.
وأمّا إذا قلت: أتضرب أو تحبس زيداً؟ فهو بمنزلة أزيدا أو عمراً تضرب. قال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
وإن قلت: أزيدا تضرب أو تقتل؟ كان كقولك: أتقتل زيداً أو عمراً وأم في كلّ هذا جيدّةٌ.
وإذا قال: أتجلس أم تذهب، فأم وأو فيه سواءٌ؛ لأنّك لا تستطيع أن تفصل علامة المضمر فتجعل لأو حالاً سوى حال أم. وكذلك: أتضرب زيداً أو تقتل خالداً، لأنَّك لم تثبت أحد الفعلين لسمٍ واحد.
وإن أردت معنى أيّهما في هذه المسألة قلت: أتضرب زيداً أم تقتل خالدا؟ لأنَّك لم تثبت أحد الفعلين لاسمٍ واحد.
هذا باب أو في غير الاستفهامتقول: جالس عمراً أو خالدا أو بشراً، كأنَّك: قلت: جالس أحد هؤلاء ولم ترد إنساناً بعينه، ففي هذا دليلٌ أنّ كلهم أهلٌ أن يجالس، كأمَّك قلت: جالس هذا الضرب من الناس.
وتقول: كل لحماً أو خبزا أو تمراً، كأنك: قلت: كل أحد هذه الأشياء. فهذا بمنزلة الذي قبله.
وإن نفيت هذا قلت: لا تأكل خبزا أو لحما أو تمرا. كأنك قلت: لا تأكل شيئاً من هذه الأشياء.
ونظير ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " أي: لا تطع أحداً من هؤلاء.
وتقول: كل خبزا أو تمراً، أي: لا تجمعهما.
ومثل ذلك أن تقول: ادخل على زيد أو عمرو أو خالدٍ، أي: لا تدخل على أكثر من واحدٍ من هؤلاء. وإن شئت جئت به على معنى ادخل على هذا الضرب.
وتقول: خذه بما عزَّ أو هان، كأنه قال: خذه بهذا أو بهذا، أي لا يفوتَّنك على كل حال ومن العرب من يقول: خذه بما عن وهان، أي خذه بالعزيز والهّين، وكلّ واحدة منهما تجزئ عن أختّها.
وتقول: لأضربنَّه ذهب أو مكث، كأنه قال: لأضربنَّه ذاهباً أو ماكثاً، ولأضربنَّه إن ذهب أو مكث. وقال زيادة بن زيد العذريّ:
إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أو تناهى فأقصرا
وقال:
فلست أبالي بعد يوم مطرّفٍ ... حتوف المنايا أكثرت أو أقلَّت
وزعم الخليل أنَّه يجوز: لأضربنَّه أذهب أم مكث، وقال: الدليل على ذلك أنَّك تقول: لأضربنَّك أيّ ذلك كان.

وإنما فارق هذا سواء وما أبالي، لأنَّك إذا قلت: سواءٌ عليَّ أذهبت أم مكثت فهذا الكلام في موضع سواءٌ عليَّ هذان. وإذا قلت: ما أبالي أذهبت أم مكثت هو في موضع: ما أبالي واحداً من هذين. وأنت لا تريد أن تقول في الأوّل: لأضربنَّ هذين، ولا تريد أن تقول: تناهيت هذين، ولكنك إنَّما تريد أن تقول: إن الأمر يقع على إحدى الحالين. ولو قلت: لأضربنَّه أذهب أو مكث لم يجز، لأنَّك لو أردت معنى أيهّما قلت: أم مكث، ولا يجوز لأضربنَّه مكث فلهذا لا يجوز: لأضربنَّه أذهب أو مكث، كما يجوز: ما أدري أقام زيدٌ أو قعد. ألا ترى أنَّك تقول: ما أدري أقام كما تقول: أذهب، وكما تقول: أعلم أقام زيدٌ، ولا يجوز أن تقول: لأضربنَّه أذهب.
وتقول: وكلّ حقٍ له سميّناه في كتابنا أو لم نسمِّه، كأنه قال: وكلّ حقّ له علمناه أو جهلناه، وكذلك كلّ حقٍّ هو لها داخلٍ فيها أو خارجٍ منها، كأنّه قال: إن كان داخلاً أو خارجاً. وإن شاء أدخل الواو كما قال: بما عزَّ وهان.
وقد تدخل أم في: علمناه أو جهلناه وسمّيناه أو لم نسّمه، كما دخلت في: أذهب أم مكث وتدخل أو على وجهين: على أنه يكون صفة للحقّ، وعلى أن يكون حالاً، كما قلت: لأضربنَّه ذهب أو مكث، أي: لأضربنَّه كائناً ما كان. فبعدت أم ههنا حيث كان خبراً في موضع ما ينتصب حالاً، وفي موضع الصفة.
باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهاموذلك قولك: هل وجدت فلاناً عند فلانٌ؟ فيقول: أو هو ممن يكون ثمَّ؟ أدخلت ألف الاستفهام.
وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام، وتدخل عليها الألف، فإنما هذا استفهامٌ مستقبلٌ بالألف، ولا تدخل الواو على الألف، كما أنّ هل لا تدخل على الواو. فإنمّا أرادوا أن لا يجروا هذه الألف مجرى هل، إذ لم تكن مثلها، والواو تدخل على هل.
وتقول: ألست صاحبنا أو لست أخانا، ومثل ذلك: أما أنت أخانا أو ما أنت صاحبنا، وقوله: ألا تأتينا أو لا تحدّثنا، إذا أردت التقرير أو غيره ثم أعدت حرفاً من هذه الحروف لم يحسن الكلام، إلا أن تستقبل الاستفهام.
وإذا قلت: ألست أخانا أو صاحبنا أو جليسنا، فإنك إنما أردت أن تقول: ألست في بعض هذه الأحوال، وإنمّا أردت في الأوّل أن تقول: ألست في هذه الأحوال كلِّها. ولا يجوز أن تريد معنى ألست صاحبنا أو جليسنا أو أخانا، وتكرِّر لست مع أو، إذا أردت أن تجعله في بعض هذه الأحوال ألا ترى أنّك إذا أخبرت فقلت: لست بشراً أو لست عمراً، أو قلت: ما أنت ببشر، أو ما أنت بعمرو، لم يجيء إلاّ على معنى لا بل ما أنت بعمرو، ولا بل لست بشراً. وإذا أرادوا معنى أنّك لست واحداً منهما قالوا: لست عمرا ولا بشرا، أو قالوا: أو بشرا، كما قال عزَّ وجل: " ولا تطع منهم آثما أو كفوراً:. ولو قلت: أو لا تطع كفورا انقلب المعنى. فينبغي لهذا أن يجيء في الاستفهام بأم منقطعاً من الأوّل، لأن أو هذه نظيرتها في الاستفهام أم، وذلك قولك: أما أنت بعمرو أم ما أنت ببشر، كأنّه قال: لا بل ما أنت ببشر. وذلك: أنّه أدركه الظنّ في أنه بشرٌ بعدما مضى كلامه الأوّل، فاستفهم عنه.
وهذه الواو التي دخلت عليها ألف الاستفهام كثيرةٌ في القرآن. قال الله تعالى جدّه: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحّى وهم يلعبون " . فهذه الواو بمنزلة الفاء في قوله تعالى: " أفأمنوا مكر لله " وقال عزَّ وجلَّ: " أئنَّا لمبعوثون. أو آباؤنا الأوَّلون " ، وقال: " أو كلّما عاهدوا عهداً " .
باب تبيان أم لم دخلت على حروف الاستفهامولم تدخل على الألف تقول: أم من تقول، أم من تقول، ولا تقول: أم أتقول؟ وذاك لأنّ أم بمنزلة الألف، وليست: أيّ ومن وما ومتى بمنزلة الألف، وإنّما هي أسماء بمنزلة: هذا وذاك، إلاَّ أنهم تركوا ألف الاستفهام ههنا إذ كان هذا النحو من الكلام لا يقع إلا في المسألة، فلمّا علموا أنه لا يكون إلا كذلك استغنوا عن الألف.
وكذلك هل إنمَّا تكون بمنزلة قد، ولكنّهم تركوا الألف إذ كانت هل لا تقع إلاَّ في الاستفهام.

فلت: فما بال أم تدخل عليهن وهي بمنزلة الألف؟ قال: إنّ أم تجيء ههنا بمنزلة لا بل، للتحوَّل من الشيء إلى الشيء، والألف لا تجيء أبداً إلاَّ مستقبلةً، فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها واحتاجوا إلى أم؛ إذ كانت لترك شيءً إلى شيء؛ لأنهم لو تركوها فلم يذكروها لم يتبيّن المعنى.
باب ما ينصرف وما لا ينصرف
هذا باب أفعلاعلم أنّ أفعل إذا كان صفةً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، وذلك لأنَّها أشبهت الأفعال نحو: أذهب وأعلم.
قلت: فما باله لا ينصرف إذا كان صفةً وهو نكرةٌ؟ فقال: لأنَّ الصفات أقرب إلى الأفعال، فاستثقلوا التنوين فيه كما استثقلوه في الأفعال، وأرادوا أن يكون في الاستثقال كالفعل، إذ كان مثله في البناء والزيادة وضارعه، وذلك نحو: أخضر، وأحمر، وأسود، وأبيض، وآدر. فإذا حقّرت قلت: أخيضر وأحيمر وأسيود، فهو على حاله قبل أن تحقّره، من قبل أنّ الزيادة التي أشبه بها الفعل مع البناء ثابتةٌ، وأشبه هذا من الفعل ما أميلح زيداً، كما أشبه أحمر أذهب.
هذا باب أفعل إذا كان اسماً وما أشبه الأفعال من الأسماء التي في أوائلها الزوائد فما كان من الأسماء أفعل، فنحو: أفكلٍ، وأزملٍ، وأيدعٍ، وأربع، لا تنصرف في المعرفة، لأنَّ المعارف أثقل، وانصرفت في النكرة لبعدها من الأفعال، وتركوا صرفها في المعرفة حيث أشبهت الفعل، لثقل المعرفة عندهم.
وأمّا ما أشبه الأفعال سوى أفعل فمثل اليرمع واليعمل، وهو جماع اليعملة، ومثل أكلبٍ. وذلك أنّ يرمعاً مثل: يذهب، واكلبٌ مثل: أدخل. ألا ترى أنَّ العرب لم تصرف أعصر، ولغةٌ لبعض العرب يعصر، لا يصرفونه أيضاً، وتصرف ذلك في النكرة، لأنَّه ليس بصفة.
واعلم أنّ هذه الياء والألف لا تقع واحدةٌ منهما في أوّل اسمٍ على أربعة أحرف إلا وهما زائدتان. ألا ترى أنَّه ليس اسمٌ مثل أفكل يصرف وإن لم يكن له فعلٌ يتصرّف.
ومما يدلّك أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة، وكذلك الياء أيضاً. وإن لم تقل هذا دخل عليك أن تصرف أفكل وأن تجعل الشيء إذا جاء بمنزلة الّرجازة والّربابة لأنه ليس له فعلٌ، بمنزلة القمطرة والهدملة.
فهذه الياء الألف تكثر زيادتهما في بنات الثلاثة، فهما زائدتان حتى يجيء أمرٌ بيّن نحو: أولقٍ، فانَّ أولقاً إنمَّا الزيادة فيه الواو، يدلّك على ذلك قد ألق الرجل فهو مألوقٌ. ولو لم يتبيّن أمر أولقٍ لكان عندنا أفعل؛ لأنّ أفعل من هذا الضرب أكثر من فوعلٍ. ولو جاء في الكلام شيءٌ نحو أكللٍ وأيققٍ فسميت به رجلاً صرفته، لأنه لو كان أفعل لم يكن الحرف الأوّل إلاّ ساكناً مدغما.
وأمّا أوَّل فهو أفعل. يدلَّك على ذلك قولهم: هو أوّل منه، ومررت بأوّل منك، والأولى وإذا سميّت الرجل بألبب فهو غير مصروف، والمعنى عليه، لأنه من اللّبّ، وهو أفعل. وهو أفعل. ولو لم يكن المعنى هذا لكان فعلل. والعرب تقول: قد علمت ذاك بنات ألبيه يعنون لبّه.
ومما يترك صرفه لأنه يشبه الفعل ولا يجعل الحرف الأول منه زائداً إلاّ بثببتٍ، نحو تنضبٍ، فإنما التاء زائدة لأنه ليس في الكلام شيء على أربعة أحرف ليس أوله زائدة يكون على هذا البناء؛ لأنه ليس في الكلام فعلل.
ومن ذلك أيضاً: ترتب وترتب - وقد يقال أيضاً: ترتب - فلا يصرف. ومن قال ترتبٌ صرف؛ لأنّه وإن كان أوله زائداً فقد خرج من شبه الأفعال.
وكذلك التّدرأ، إنما هو من درأت. وكذلك التتفّل. ويدلك على ذلك قول بعض العرب: التتَّفل، وأنه ليس في الكلام كجعفر.
وكذلك رجلٌ يسَّمى: تألب، لأنَّه تفعل. ويدلك على ذلك أنَّه يقال للحمار ألب يألب، بفعل، وهو طرده طريدته. وإنما قيل له تألبٌ من ذلك.
وأمّا ما جاء نحو: نهشل وتولب فهو عندنا من نفس الحرف، مصروفٌ حتىَّ يجيء أمرٌ يبينَّه. وكذلك فعلت به العرب؟ لأنَّ حال التاء والنون في الزيادة ليست كحال الألف والياء، لأنَّهما لم تكثرا في الكلام زائدتين ككثرتهما. فان لم تقل ذلك دخل عليك أن لا تصرف نهشلا ونهسراً. وهو قول العرب، والخليل، ويونس.
وإذا سمّيت رجلا بإثمد لم تصرفه، لأنَّه يشبه إضرب، وإذا سميّت رجلا بإصبع لم تصرفه، لأنه يشبه إصنع. وإن سمّيته بأبلمٍ لم تصرفه، لأنه يشبه أقتل. ولا تحتاج في هذا إلى ما احتجت إليه في ترتبٍ وأشباهها لأنَّها ألفٌ. وهذا قول الخليل ويونس.

وإنما صارت هذه الأسماء بهذه المنزلة لأنهم كأنهم ليس أصل الأسماء عندهم على أن تكون في أوّلها الزوائد وتكون على هذا البناء. ألا ترى أن تفعل ويفعل في الأسماء قليل. وكان هذا البناء إنّما هو في الأصل للفعل، فلما صار في موضع قد يستثقل فيه التنوين استثقلوا فيه ما استثقلوا فيما هو أولى بهذا البناء منه. والموضع الذي يستثقل فيه التنوين المعرفة. ألا ترى أكثر ما لا ينصرف في المعرفة قد ينصرف في النكرة وإنما صارت أفعل في الصفات أكثر لمضارعة الصِّفة الفعل.
وإذا سمَّيت رجلاً بفعل في أوله زائدة لم تصرفه، نحو يزيد ويشكر وتغلب ويعمر. وهذا النحو أحرى أن لا تصرفه، وإنَّما أقصى أمره أن يكون كتنضبٍ ويرمعٍ.
وجميع ما ذكرنا في هذا الباب ينصرف في النكرة فان قلت: فما بالك تصرف يزيد في النكرة، وإنما منعك من صرف أحمر في النكرة وهو اسم أنه ضارع الفعل؟ فأحمر إذا كان صفةً بمنزلة الفعل قبل أن يكون اسماً فإذا كان اسماً ثم جعلته نكرة فإنما صيرَّته إلى حاله إذ كان صفة.
وأمّا يزيد فإنك لمَّا جعلته اسماً في حال يستثقل فيها التنوين استثقل فيه ما كان استثقل فيه قبل أن يكون اسماً، فلَّما صيرَّته نكرةً لم يرجع إلى حاله قبل أن بكون اسماً. وأحمر لم يزل اسماً.
وإذا سمَّيت رجلاً بإضرب أو أقتل أو إذهب لم تصرفه وقطعت الألفات حتَّى يصير بمنزلة الأسماء، لأنك قد غيِّرتها عن تلك الحال. ألا ترى أنك ترفعها وتنصبها. وتقطع الألف؛ لآن الأسماء لا تكون بألف الوصل، ولا يحتجّ باسمٍ ولا ابن، لقلّة هذا مع كثرة الأسماء. وليس لك أن تغيِّر البناء في مثل ضرب وضورب وتقول: إن مثل هذا ليس في الأسماء؛ لأنك قد تسمِّى بما ليس في الأسماء، إلاَّ أنك استثقلت فيها التنوين كما استثقلته في الأسماء التي شبهَّتها بها نحو: إثمد وإصبعٍ وأبلمٍ، فإنّما أضعف أمرها أن تصير إلى هذا.
وليس شيء من هذه الحروف بمنزلة امرىءٍ، لأن ألف امرىءٍ كأنك أدخلتها حين أسكنت الميم على مرءٌ ومرأً ومرءٍ، فلمَّا أدخلت الألف على هذا الاسم حين أسكنت الميم تركت الألف وصلا، كما تركت ألف إبنٍ، وكما تركت ألف إضرب في الأمر، فإذا سمَّيت بامرىءٍ رجلاً تركته على حاله، لأنَّك نقلته من اسم إلى اسم، وصرفته لأنَّه لا يشبه لفظه لفظ الفعل.
ألا ترى أنك تقول: امرؤٌ وامرىءٍ وامرأً، وليس شيء من الفعل هكذا. وإذا جعلت إضرب أو أقتل اسماً لم يكن له بدٌّ من أن تجعله كالأسماء، لأنَّك نقلت فعلاً إلى اسم. ولو سمَّيته انطلاقاً لم تقطع الألف، لأنَّك نقلت اسماً إلى اسم.
واعلم أن كلَّ اسم كانت في أوله زائدة ولم يكن على مثال الفعل فإنّه مصروف؛ وذلك نحو: إصليتٍ وأسلوبٍ وينبوبٍ وتعضوض، وكذلك هذا المثال إذا اشتققته من الفعل، نحو يضروبٍ وإضريب وتضريب، لأن ذا ليس بفعل وليس باسم على مثال الفعل، وليس بمنزلة عمر. ألا ترى أنك تصرف يربوعاً، فلو كان يضروبٌ بمنزلة يضرب لم تصرفه.
وإنّ سمَّيت رجلاً هراق لم تصرفه، لأن هذه الهاء بمنزلة الألف زائدة، وكذلك هرق بمنزلة أقم.
وإذا سمَّيت رجلاً بتفاعلٍ نحو تضاربٍ، ثم حقَّرته فقلت تضيرب لم تصرفه، لأنه يصير بمنزلة تغلب، ويخرج إلى ما لا ينصرف، كما تخرج هند في التحقير إذا قلت: هنيدة إلى ما لا ينصرف البتَّة في جميع اللغات.
وكذلك أجادل اسم رجل إذا حقَّرته، لأنَّه يصير أجيدل مثل أميلح. وإن سمَّيت رجلاً بهرق قلت: هذا هريق قد جاء، لا تصرف.
هذا باب ما كان من أفعل صفة
في بعض اللغات واسماً في أكثر الكلام
وذلك: أجدلٌ وأخيلٌ وأفعىً. فأجود ذلك أن يكون هذا النحَّو اسماً، وقد جعله بعضهم صفة؛ وذلك لأن الجدل شدَّة الخلق، فصار أجدلّ عندهم بمنزلة شديدٍ.
وأمّا أخيلٌ فجعلوه أفعل من الخيلان للونه، وهو طائر أخضر، وعلى جناحه لمعة سوداء مخالفة للونه.
وعلى هذا المثال جاء أفعىً، كأنَّه صار عندهم صفة وإن لم يكن له فعلٌ ولا مصدر.
وأما أدهم إذا عنيت القيد، والأسود إذا عنيت به الحَّية، والأرقم إذا عنيت الحّية، فإنك لا تصرفه في معرفة ولا نكرة؛ لم تختلف في ذلك العرب.

فإن قال قائل: أصرف هذا لأني أقول: أداهم وأراقم. فأنت تقول: الأبطح والأباطح، وأجارع وأبارق وإنّما الأبرق صفة. وإنما قيل: أبرق لأنّ فيه حمرةً وبياضاً وسواداً كما قالوا: تيسٌ أبرق، حين كان فيه سواد وبياض. وكذلك الأبطح إنّما هو المكان المنبطح من الوادي، وكذلك الأجرع إنما هو المكان المستوى من الرمل المتمكِّن. ويقال: مكانٌ جرعٌ. ولكّن الصفة ربَّما كثرت في كلامهم واستعملت وأوقعت مواقع الأسماء حتَّى يستغنوا بها عن الأسماء، كما يقولون: الأبغث فهو صفة جعل اسماً، وإنما هو لون. ومما يقّوى أنه صفة قولهم: بطحاء وجرعاء، وبرق، فجاء مؤنثّه كمؤنث أحمر.
هذا باب أفعل منك اعلم أنك إنّما تركت صرف أفعل منك لأنّه صفة.
فإن سميّت رجلاً بأفعل هذا، بغير منك، صرفته في النكرة، وذلك نحو أحمدٍ وأصغرٍ وأكبر، لأنك لا تقول: هذا رجلٌ أصغر ولا هذا رجل أفضل، وإنَّما يكون هذا صفة بمنك. ولو سميّته أفضل منك لم تصرفه على حال.
وأمّا أجمع وأكتع فإذا سميّت رجلاً بواحدٍ منهما لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة، وليس واحد منهما في قولك: مررت به أجمع أكتع، بمنزلة أحمر لأن أحمر صفة للنكرة، وأجمع وأكتع إنّما وصف بهما معرفة فلم ينصرفا لأنهما معرفة. فأجمع ههنا بمنزلة كلَّهم.
باب ما ينصرف من الأمثلة وما لا ينصرف تقول: كلّ أفعل يكون وصفا لا تصرفه في معرفة ولا نكرة، وكلّ أفعل يكون اسماً تصرفه في النكرة. قلت: فكيف تصرفه وقد قلت: لا تصرفه. قال لأنّ هذا مثالٌ يمثلَّ به، فزعمت أنَّ هذا المثال ما كان عليه من الوصف لم يجر، فإن كان اسماً وليس بوصف جرى.
ونظير ذلك قولك: كلّ أفعلٍ أردت به الفعل نصبٌ أبدا، فإنمَّا زعمت أنَّ هذا البناء يكون في الكلام على وجوه، وكان أفعل اسماً، فكذلك منزلة أفعل في المسألة الأولى، ولو لم تصرفه ثمَّ لتركت أفعل ههنا نصباً، فإنَّما أفعل ههنا اسمٌ بمنزلة أفكل. ألا ترى أنَّك تقول: إذا كان هذا البناء وصفاً لم أصرفه. وتقول: أفعل إذا كان وصفاً لم أصرفه. فإنَّما تركت صرفه ههنا كما تركت صرف أفكلٍ إذا كان معرفةً.
وتقول: إذا قلت هذا رجلٌ أفعل لم أصرفه على حال، وذلك لأنَّك مثلّت به الوصف خاصّة، فصار كقولك كلّ أفعل زيد نصبٌ أبداً؛ لأنَّك مثَّلت به الفعل خاصَّة.
قلت: فلم لا يجوز أن تقول: كلّ أفعل في الكلام لا أصرفه إذا أردت الذي مثَّلت به الوصف كما أقول: كلّ آدم في الكلام لا أصرفه؟ فقال: لا يجوز هذا، لأنَّه لم يستقرِّ أفعل في الكلام صفةً بمنزلة آدم، وإنَّما هو مثال. ألا ترى أنَّك لوسميَّت رجلاً بأفعلٍ صرفته في النكرة؛ لأنَّ قولك أفعلٌ لا يوصف به شيء، وإنَّما يمَّثل به. وإنَّما تركت التنوين فيه حين مثلَّت به الوصف، كما نصبت أفعلاً حين مثلَّت به الفعل. وأفعلٌ لا يعرف في الكلام فعلاً مستعملاً. فقولك: هذا رجلٌ أفعلٌ بمنزلة قولك: أفعل زيدٌ، فإذا لم تذكر الموصوف صار بمنزلة أفعل إذا لم يعمل في اسم مظهر ولا مضمر.
قلت: فما منعه أن يقول: كلّ أفعل يكون صفةً لا أصرفه، يريد الذي مثلَّت به الوصف. فقال: هذا بمنزلة الذي ذكرنا قبل، لو جاز هذا لكان أفعل وصفاً بائناً في الكلام غير مثال، ولم نكن نحتاج إلى أن أقول: يكون صفة ولكني أقول: لأنَّه صفة؛ كما أنَّك إذا قلت: لا تصرف كلّ آدم في الكلام قلت: لأنه صفة، ولا تقول: أردت به الصفة، فيرى السائل أن آدم يكون غير صفة لأن آدم الصفة بعنيها.
وكذلك إذا قلت: هذا رجلٌ فعلان يكون على وجهين؛ لأنك تقول: هذا إن كان عليه وصفٌ له فعلى لم ينصرف، وإن لم يكن له فعلى انصرف. وليس فعلان هنا بوصفٍ مستعمل في الكلام له فعلى، ولكنه هاهنا بمنزلة أفعل في قولك: كلّ أفعلٍ كان صفةً فأمره كذا وكذا. ومثله كلّ فعلانٍ كان صفة وكانت له فعلى لم ينصرف. وقولك: كانت له فعلى وكان صفةً، يدلّك على أنه مثال.
وتقول: كلّ فعلى أو فعلى كانت ألفها لغير التأنيث انصرف، وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم ينصرف، قلت: كل فعلى أو فعلى، فلم ينَّون؛ لأنّ هذا الحرف مثال. فإن شئت أنثته وجعلت الألف للتأنيث، وإن شئت صرفت وجعلت الألف لغير التأنيث.

وتقول: إذا قلت: هذا رجلٌ فعنلى نّونت لأنك مثلّت به وصف المذكَّر خاّصةً،وفعنلى مثل حبنطًى، ولا يكون إلاّ منوَّناً ألا ترى أنك تقول: هذا رجلٌ حبنطًى يا هذا. فعلى هذا جرى هذا الباب.
وتقول: كلّ فعلى في الكلام لا ينصرف وكلّ فعلاء في الكلام لا ينصرف لأن هذا المثال لا ينصرف في الكلام البتة كما أنك لو قلت: هذا رجل أفعل لم ينصرف، لأنك مثلَّته بما لا ينصرف وهي صفة، فأفعل صفة كفعلاء.
هذا باب ما ينصرف من الأفعال إذا سميت به رجلاً زعم يونس: أنّك إذا سمّيت رجلاً بضارب من قولك: ضارب، وأنت تأمر، فهو مصروف.
وكذلك إن سمّيته ضارب، وكذلك ضرب. وهو قول أبي عمرو والخليل، وذلك لأنَّها حيث صارت اسماً في موضع الاسم المجرور والمنصوب والمرفوع، ولم تجيء في أوائلها الزوائد التي ليس في الأصل عندهم أن تكون في أوائل الأسماء إذا كانت على بناء الفعل غلبت الأسماء عليها إذا أشبهتها في البناء وصارت أوائلها الأوائل التي هي في الأصل للأسماء، فصارت بمنزلة ضارب الذي هو اسم، وبمنزلة حجرٍ وتابلٍ، كما أنَّ يزيد وتغلب يصيران بمنزلة تنضبٍ ويعمل إذا صارت اسماً.
وأمّا عيسى فكان لا يصرف ذلك. وهو خلاف قول العرب، سمعناهم يصرفون الرجل يسَّمى: كعبساً؛ وإنَّما هو فعل من الكعسبة، وهو العدو الشديد مع تداني الخطأ. والعرب تنشد هذا البيت لسحيم بن وثيل اليربوعيّ:
أنا ابن جلا وطلاّع الثنّايا ... مثى أضع العمامة تعرفوني
ولا نراه على قول عيسى ولكنَّه على الحكاية، كما قال:
بنى شاب قرناها تصرّ وتحلب
كأنه قال: أنا ابن الذي يقال له: جلا.
فإن سمّيت رجلاً ضَّرب أو ضرِّب أو ضورب لم تصرف. فأما فعَّل فهو مصروف، ودحرج ودحرج لا تصرفه لأنَّه لا يشبه الأسماء.
ولا يصرفون خضَّم، وهو اسم للعنبر بن عمرو بن تميم.
فإن حقرّت هذه الأسماء صرفتها، لأنَّها تشبه الأسماء، فيصير ضاربٌ وضاربٌ ونحوهما بمنزلة ساعد وخاتم.
فكّل اسم يسمى بشيء من الفعل ليست في أوّله زيادة وله مثال في الأسماء انصرف؛ فإن سمّيته باسمٍ في أوله زيادة وأشبه الأفعال لم ينصرف.
فهذه جملة هذا كلّه.
وإن سميِّت رجلا ببقِّم أو شلَّم وهو بيت المقدس لم تصرفه البتّة؛ لأنه ليس في العربيّة اسمٌ على هذا البناء، ولأنه أشبه فعِّلا، فهو لا ينصرف إذا صار اسماً؛ لأنه ليس له نظيرٌ في الأسماء، لأنَّه جاء على بناء الفعل الذي إنّما هو في الأصل للفعل لا للأسماء، فاستثقل فيه ما يستثقل في الأفعال. فإن حقّرته صرفته.
وإن سميّت رجلاً ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث قلت: هذا ضربون قد أقبل، تلحق النون كما تلحقها في أولي لو سمّيت بها رجلاً من قوله عزّ وجلّ: " أولى أجنحةٍ " . ومن قال: هذا مسلمون في اسم رجل قال: هذا ضربون، ورأيت ضربين. وكذلك يضربون في هذا القول.
فإن جعلت النون حرف الإعراب فيمن قال هذا مسلمينٌ قلت: هذا ضربينٌ قد جاء. ولو سميّت رجلاً: مسلمينٌ على هذه اللغة لقلت: هذا مسلمينٌ، صرفت وأبدلت مكان الواو ياءً، لأنَّها قد صارت بمنزلة الأسماء، وصرت كأنَّك سميّته بمثل: يبرين. وإنَّما فعلت هذا بهذا حين لم يكن علامةً للإضمار، وكان علامةً للجمع، كما فعلت ذلك بضربت حين كانت علامةً للتأنيث، فقلت هذا ضربة قد جاء. وتجعل التاء هاءً لأنهَّا قد دخلت في الأسماء حين قلت هذه ضربة، فوقفت إذا كانت بعد حرف متحّرك قلبت التاء هاءً حين كانت علامة للتأنيث.
وإن سميَّته ضرباً في هذا القول ألحقته النون، وجعلته بمنزلة رجل سمّى برجلين. وإنمّا كففت النون في الفعل، لأنّك حين ثنيت وكانت الفتحة لازمةً للواحد حذفت أيضاً في الاثنين النون، ووافق الفتح في ذاك النصب في اللفظ، فكان حذف النون نظير الفتح، كما كان الكسر في هيهات نظير الفتح في: هيهات.
وإن سمّيت رجلاً بضربن أو يضربن، لم تصرفه في هذا، لأنه ليس له نظيرٌ في الأسماء؛ لأنَّك إن جعلت النون علامةً للجمع فليس في الكلام مثل: جعفرٍ، فلا تصرفه. وإن جعلته علامةً للفاعلات حكيته. فهو في كلا القولين لا ينصرف.
باب ما لحقته الألف في آخره فمنعه ذلك من الانصراف في المعرفة والنكرة، وما لحقته الألف فانصرف في النكرة ولم ينصرف في المعرفة

أمّا لا ينصرف فيهما فنحو: حبلى وحبارى، وجمزى ودفلى، وشروى وغضبى. وذاك أنَّهم أرادوا أن يفرقوا بين الألف التي تكون بدلاً من الحرف الذي هو من نفس الكلمة، والألف التي تلحق ما كان من بنات الثلاثة ببنات الأربعة، وبين هذه الألف التي تجيء للتأنيث.
فأمّا ذفرى فقد اختلفت فيها العرب، فيقولون: هذه ذفرىً أسيلةٌ، ويقول بعضهم: هذه ذفرى أسيلةٌ، وهي أفلّهما، جعلوها تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، كما أن واو جدولٍ بتلك المنزلة.
وكذلك: تترى فيها لغتان.
وأما معزّى فليس فيها إلاّ لغة واحدة، تنوَّن في النكرة.
وكذلك: الأرطى كلهم يصرف. وتذكيره مما يقوّى على هذا التفسير.
وكذلك: العلقى. ألا ترى أنَّهم إذا أنّثوا قالوا: علقاةٌ وأرطاةٌ، لأنهما ليستا ألفى تأنيث.
وقالوا: بهمى واحدة، لأنَّها ألف تأنيث، وبهمى جميع.
وحبنطًى بهذه المنزلة، إنّما جاءت ملحقة بجعفلٍ. وكينونته وصفاً للمذكَّر يدلّك على ذلك، ولحاق الهاء في المؤنث.
وكذلك قبعثرّى؛ لأنك لم تلحق هذه الألف للتأنيث. ألا ترى أنك تقول: قبعثراةٌ، وإنمّا هي زيادة لحقت بنات الخمسة، كما لحقتها الياء في قولك: دردبسٍ.
وبعض العرب يؤّنث العلقى، فينزِّلها منزلة: البهمى، يجعل الألف للتأنيث. وقال العجاج.
يستنّ في علقى وفي مكور
فلم ينونّه.
وإنما منعهم من صرف: دفلى وشروى ونحوهما في النكرة أنّ ألفهما حرف يكسَّر عليه الاسم إذا قلت: حبالى، وتدخل تاء التأنيث لمعنًى يخرج منه، ولا تلحق به أبداً بناءً ببناء، كما فعلوا ذلك بنون رعشنٍ وبتاء سنبته وعفريت. ألا تراهم قالوا: جمزىً فبنوا عليها الحرف، فتوالت فيه ثلاث حركات، وليس شيء يبنى على الألف التي لغير التأنيث نحو نون رعشنٍ، توالى فيه ثلاث حركات فيما عدتّه أربعة أحرف، لأنَّها ليست من الحروف التي تلحق بناءً ببناءً، وإنّما تدخل لمعنى، فلمّا بعدت من حروف الأصل تركوا صرفها، كما تركوا صرف مساجد حيث كسّروا هذا البناء على ما لا يكون عليه الواحد.
وأما موسى وعيسى فإنهما أعجميان لا ينصرفان في المعرفة، وينصرفان في النكرة، أخبرني بذلك من أثق به.
وموسى مفعل، وعيسى فعلى؛ والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة بمنزلة ياء معزى. وموسى الحديد مفعل، ولو سميت بها رجلاً لم تصرفها لأنها مؤنثة بمنزلة معزى إلا أن الياء في موسى من نفس الكلمة.
هذا بابما لحقته ألف التأنيث بعد ألف فمنعه ذلك من الانصراف في النكرة والمعرفة وذلك نحو حمراء، وصفراء، وخضراء، وصحراء، وطرفاء، ونفساء، وعشراء، وقوباء، وفقهاء، وسابياء، وحاوياء، وكبرياء. ومثله أيضاً: عاشوراء ومنه أيضاً: أصدقاء وأصفياء. ومنه زمكاَّء وبروكاء وبراكاء، ودبوقاء، وخنفساء، وعنظباء، وعقرباء، وزكرياَء.
فقد جاءت في هذه الأبنية كلَّها للتأنيث. والألف إذا كانت بعد ألف، مثلها إذا كانت وحدها، إلاّ أنَّك همزت الآخرة للتحريك، لأنّه لا ينجزم حرفان، فصارت الهمزة التي هي بدلٌ من الألف بمنزلة الألف لو لم تبدل، وجرى عليها ما كان يجري عليها إذا كانت ثابتة، كما صارت الهاء في هراق بمنزلة الألف.
واعلم أن الألفين لا تزادان أبداً إلا للتأنيث، ولا تزادان أبداً لتلحقا بنات الثلاثة بسرداحٍ ونحوها.ألا ترى أنك لم ترقطّ فعلاء مصروفةً ولم نر شيئاً من بنات الثلاثة فيه ألفان زائدتان مصروفاً.

فإن قلت: فما بال علباءٍ وحرباء؟ فإ،َّ هذه الهمزة التي بعد الألف إنمّا هي بدل من ياءٍ، كالياء التي في درحايةٍ وأشباهها، وإنَّما جاءت هاتان الزائدتان هنا لتلحقا علباء وحرباء، بسرداحٍ وسربالٍ. ألا ترى أن هذه الألف والياء لا تلحقان اسماً فيكون أوّله مفتوحاً، لأنه ليس في الكلام مثل سرداحٍ ولا سربالٍ، وإنما تلحقان لتجعلا بنات الثلاثة على هذا المثال والبناء، فصارت هذه الياء بمنزلة ما هو من نفس الحرف، ولا تلحق ألفان للتأنيث شيئاً فتلحقا هذا البناء به، ولا تلحق ألفان للتأنيث شيئاً على ثلاثة أحرف وأول الاسم مضموم أو مكسور، وذلك لأنَّ هذه الياء والألف إنّما تلحقان لتبلغا بنات الثلاثة بسرداحٍ وفسطاط لا تزادان ههنا إلاّ لهذا، فلم تشركهما الألفان اللتان للتأنيث، كما لم تشركا الألفين في مواضعهما، وصار هذا الموضع ليس من المواضع التي تلحق فيها الألفان اللّتان للتأنيث، وصار لهما إذا جاءتا للتأنيث أبنية لا تلحق فيها الياء بعد الألف، يعني الهمزة. فكذلك لم تلحقا في المواضع التي تلحق فيها الياء بعد الألف.
واعلم أنَّ من العرب من يقول: هذا قوباءٌ كما ترى، وذلك لأنهم أرادوا أن يلحقوه ببناء فسطاط والتذكير يدلّك على ذلك والصرف.
وأما غوغاء، فمن العرب من يجعلها بمنزلة عوراء، فيؤنث ولا يصرف، ومنهم من يجعلها بمنزلة قضقاضٍ، فيذكّر ويصرف، ويجعل الغين والواو مضاعفتين، بمنزلة القاف والضاد. ولا يجيء على هذا البناء إلاّ ما كان مردَّداً. والواحدة غوغاء.
هذا باب ما لحقته نونٌ بعد ألف فلم ينصرف في معرفة ولا نكرة وذلك نحو: عطشان، وسكران، وعجلان، وأشباهها. وذلك أنهم جعلوا النون حيث جاءت بعد ألف كألف حمراء، لأنها على مثالها في عدَّة الحروف والتحرك والسكون، وهاتان الزائدتان قد اختصّ بهما المذكّر. ولا تلحقه علامة التأنيث، كما أن حمراء لم تؤنَّث على بناء المذكَّر. ولمؤنث سكران بناءٌ على حدةٍ كما كان لمذكَّر حمراء بناءٌ على حدة.
فلمّا ضارع فعلاء هذه المضارعة وأشبهها فيما ذكرت لك أجرى مجراها.
باب ما لا ينصرف في المعرفة مما ليست نونه بمنزلة الألف التي في نحو: بشرى، وما أشبهها وذلك كلّ نون لا يكون في مؤنثها فعلى وهي زائدةٌ؛ وذلك نحو: عريانٍ وسرحانٍ وإنسانٍ. يدلك على زيادته سراحٍ فإنما أرادوا حيث قالوا: سرحانٌ أن يبلغوا به باب سرداحٍ، كما أرادوا أن يبلغوا بمعزى باب هجرعٍ.
ومن ذلك: ضبعانٌ. يدلَّك على زيادته قولك: الضَّبع والضبِّاع أشباه هذا كثير.
وإنما تعتبر أزيادة هي أم غير زيادة بالفعل، أو الجمع، أو بمصدر، أو مؤنث نحو: الضَّبع وأشباه ذلك.
وإنما دعاهم إلى أن لا يصرفوا هذا في المعرفة أنّ آخره كآخر ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فجعلوه بمنزلته في المعرفة، كما جعلوا أفكلاً بمنزلة ما لا يدخله التنوين في معرفة ولا نكرة. وذلك أفعل صفةً؛ لأنه بمنزلة الفعل، وكان هذه النون بعد الألف في الأصل لباب فعلان الذي له فعلى، كما كان بناء أفعل في الأصل للأفعال فلما صار هذا الذي ينصرف في النكرة في موضع يستثقل فيه التنوين جعلوه بمنزلة ما هذه الزيادة له في الأصل.
فإذا حقّرت سرحان اسم رجل فقلت: سريحينٌ صرفته، لأن آخره الآن لا يشبه آخر غضبان، لأنّك تقول في تصغير غضبان: غضيبان؛ ويصير بمنزلة غسليٍن وسنينٍ فيمن قال: هذه سنينٌ كما ترى. ولو كنت تدع صرف كل نون زائدة لتركت صرف رعشنٍ، ولكنك إنَّما تدع صرف ما آخره كآخر غضبان، كما تدع صرف ما كان على مثال الفعل إذا كانت الزيادة في أوله. فإذا قلت: إصليت صرفته لأنه لا يشبه الأفعال، فكذلك صرفت هذا لأن آخره لا يشبه آخر غضبان إذا صغّرته. وهذا قول أبي عمروٍ والخليل ويونس.
وإذا سميّت رجلاً: طّحان، أو سمّان من السمن، أو تبّان من الّتبن، صرفته في المعرفة والنكرة، لأنها نونٌ من نفس الحرف، وهي بمنزلة دال حمّاد.
وسألته: عن رجل يسَّمى: دهقان، فقال: إن سميَّته من التَّدهقن فهو مصروف. وكذلك: شيطان إن أخذته من التشيَّطن. فالنون عندنا في مثل هذا من نفس الحرف إذا كان له فعل يثبت فيه النون. وإن جعلت دهقان من الدَّهق، وشيطان من شيَّط لم تصرفه.

وسألت الخليل: عن رجل يسّمى مرّاناً، فقال: أصرفه، لأنَّ المرّان إنما سمِّى للينه، فهو فعّالٌ، كما يسمَّى الحمّاض لحموضته. وإنَّما المرانة اللّين.
وسألته: عن رجل يسَّمى فيناناً فقال: مصروف، لأنَّه فيعالٌ، وإنّما يريد أن يقول لشعره فنونٌ كأفنان الشجر.
وسألته: عن ديوانٍ، فقال: بمنزلة قيراطٍ، لأنَّه من دوّنت. ومن قال ديوانٌ فهو بمنزلة بيطار.
وسألته: عن رمّان فقال: لا أصرفه، وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف.
وسألته: عن سعدان والمرجان، فقال: لا أشكّ في أن هذه النون زائدة، لأنه ليس في الكلام مثل: سرداحٍ ولا فعلالٌ إلاّ مضعَّفاً. وتفسيره كتفسير عريان، وقصّته كقصتّه.
فلو جاء شيء في مثال: جنجانٍ، لكانت النون عندنا بمنزلة نون مرّان، إلاّ أن يجيء أمر بيِّن، أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه، فيعلم أنَّهم جعلوها زائدة، كما قالوا: غوغاء فجعلوها بمنزلة: عوراء. فلَّما لم يريدوا ذلك وأرادوا أن لا يجعلوا النون زائدة صرفوا، كما أنَّه لو كان خضخاضٌ لصرفته وقلت: ضاعفوا هذه النون.
فإن سمعناهم لم يصرفوا قلنا: لم يريدوا ذلك، يعنى التضعيف، وأرادوا نوناً زائدة، يعنى في: جنحان.
وإذا سميّت رجلاً: حبنطى، أو علقى لم تصرفه في المعرفة، وترك الصرف فيه كترك الصرف في: عريان، وقصتَّه كقصتّه.
وأمّا علباءٌ وحرباء اسم رجل فمصروف في المعرفة والنكرة، من قبل أنَّه ليست بعد هذه الألف نون فيشَّبه آخره بآخر غضبان، كما شبّه آخر علقى بآخر شروى. ولا يشبه آخر حمراء، لأنه بدلٌ من حرفٍ لا يؤنَّث به كالألف، وينصرف على كلّ حال، فجرى عليه ما جرى على ذلك الحرف، وذلك الحرف بمنزلة الياء والواو اللّتين من نفس الحرف.
وسألته عن تحقير علقى، اسم رجل، فقال: أصرفه، كما صرفت سرحان حين حقّرته، لأنَّ آخره حينئذ لا يشبه آخر ذفرى. وأمّا معزى فلا يصرف إذا حقرّتها اسم رجل، من أجل التأنيث. ومن العرب من يؤنّث علقى فلا ينوِّن. وزعموا أنَّ ناساً يذكِّرون معزًى، زعم أبو الخطّاب أنهى سمعهم يقولون:
ومعزىّ هدباً يعلو ... قران الأرض سودانا
ونظير ذلك قول اّلله عّز وجلَّ: " واللهّ يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون " وقال عّز وجلَّ: " فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ باّلله إنَّه لمن الصَّادقين " ؛ لأنّ هذا توكيدُ كأنّه قال: يحلف باللّه إنه لمن الصادقين.
.
وقال الخليل: أشهد بأنّك لذاهبُ غير جائز، من قبل أنَّ حروف الجرّ لا تعَّلق. وقال: أقول أشهد إنه لذاهبٌ وإنهّ لمنطلق ، أتبع آخره أولّه. وإن قلت: أشهد أنّه ذاهبُ، وإنه لمنطلقُ،.لم يجز إلاَّ الكسر في الثاني، لأن اللام لا تدخل أبدا على أنَّ، وأن محمولةُ على ما قبلها ولا تكون إّلا مبتدأةً باللام.
ومن ذلك أيضاً قولك: قد علمت إنّه لخير منك. فإنَّ ههنا مبتدأةُ وعلمت ههنا بمنزلتها في قولك: لقد علمت أيّهم أفضل،معلقةَّ في الموضعين جميعاً.
وهذه اللام تصرف إنَّ إلى لابتداء، كما تصرف عبد اللّه إلى الابتداء إذا قلت قد علمت لعبد اللّه خيرُ منك، فعبد اّلله هنا بمنزلة إنَّ في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنّه لخيرُ منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك، ورأيت لعبد اّلله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أنَّ ولا عبد اّلله إلاَّ وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عزّ وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ " ،فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إنَّ مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: " ولقد علمت الجنةَّ إنَّهم لمحضرون " وقال أيضاً: " هل ندلكم على رجلٍ ينبئِّكم إذا مزّقتم كلَّ ممزَّقٍ إنَّكم لفي خلق جديد " ، فإنكم ههنا بمنزلة أيّهم إذا قلت: ينبئهم أيّهم أفضل.
وقال الخليل مثله: إنَّ اللّه يعلم ما تدعون من دونه من شيء فما ههنا بمنزلة أيّهم، ويعلم معلقة. قال الشاعر:
ألم تر إنّي وابن أسود ليلةً ... لنسري إلى نارين يعلو سناهما
هذا باب هاءات التأنيث اعلم أن كلّ هاء كانت في اسم للتأنيث فإنّ ذلك الاسم لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة.
قلت: فما باله انصرف في النكرة وإنما هذه للتأنيث، هلاّ ترك صرفه في النكرة، كما ترك صرف ما فيه ألف التأنيث؟

قال: من قبل أن الهاء ليست عندهم في الاسم،وإنّما هي بمنزلة اسم ضمَّ إلى اسم فجعلا اسما واحداً نحو: حضرموت. ألا ترى أنًّ العرب تقول في حبارى: حبيرًّ، وفي جحجبى: جحيجب ولا يقولون في دجاجةٍ إلا دجيجة، ولا في قرقرة إًّلا قريقرة، كما يقولون في حضرموت،وفي خمسة عشر:خميسة عشر،فجعلت هذه الهاء بمنزلة هذه الأشياء.
ويدلّك على أنًّ الهاء بهذه المنزلة أنّها لم تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة قّط، ولا الأربعة بالخمسة،لأنًّها بمنزلة: عشر وموت، وكرب في معد يكرب. وإنما تلحق بناء المذكرّ، ولا يبنى عليها الاسم كالألف، ولم يصرفوها في المعرفة، كما يصرفوا معد يكرب ونحوه. وسأبيّن ذلك إن شاء الله.
هذا باب ما ينصرف في المذكر البّتة مما ليس في آخره حرف التأنيث كلَّ مذكّر سّمى بثلاثة أحرف ليس فيه حرف التأنيث فهو مصروف كائناً ما كان،أعجميّا أو عربيّا، أو مؤنّثا، إَّلا فعل مشتقاًّ من الفعل، أو يكون في أوّله زيادة فيكون كيجد ويضع، أو يكون كضرب لا يشبه الأسماء. وذلك أن المذكّر أشدّ تمكّنا، فلذلك كان أحمل للتنوين، فاحتمل ذلك فيما كان على ثلاثة أحرف، لأنَّه ليس شيء من الأبنية أقلُّ حروفا منه، فاحتمل التنوين لخفته ولتمكّنه في الكلام.
ولو سمّيت رجلا قدماً أو حشاً صرفته.فإن حّقرته قلت: قد بمٌ فهو مصروف، وذلك لاستخفافهم هذا التحقير كما استخفّوا الثلاثة، لأنَّ هذا لا يكون إَّلا تحقير أقلَّ العدد، وليس محقَّر أقلُّ حروفا منه، فصار كغير المحَّقر الذي هو أقُّل ما كان غير محَّقر حروفا. وهذا قول العرب والخليل ويونس.
واعلم أن كلّ اسم لا ينصرف فإن الجرّ يدخله إذا أضفته أو أدخلت فيه الألف واللام، وذلك أنَّهم أمنوا التنوين، وأجروه مجرى الأسماء.وقد أوضحته في أوّل الكتاب بأكثر من هذا وإن سمّيت رجلا ببنت أو أخت صرفته، لأنك بنيت الاسم على هذه التاء وألحقها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا: سنبتةً بالأربعة. ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها، إنما هذه التاء فيها كتاء عفريتٍ، ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة. وليست كالهاء لما ذكرت لك، وإنَّما هذه زيادة في الاسم بني عليها وانصرف في المعرفة. ولو أنَّ الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرف في المعرفة.
وأن سمَّيت رجلاً بهنه، وقد كانت في الوصل هنتٌ، قلت هنة يا فتى، تحرّك النون وتثبت الهاء؛ لأنّك لم تر مختصًّا متمكنِّا على هذه الحال التي تكون عليها هنة قبل أن تكون اسماً تسكن النون في الوصل، وذا قليل. فإن حوّلته إلى الاسم لزمه القياس.
وإن سّميت رجلاً ضربت قلت: هذا ضربه، لأنه لا يحرَّك ما قبل هذه التاء فتوالى أربع حركات؛ وليس هذا في الأسماء، فتجعلها هاء، وتحملها على ما فيه هاء التأنيث.
هذا باب فعل اعلم أنَّ كل فعلٍ كان اسما معروفا في الكلام أو صفةً فهو مصروف. فالأسماء نحو:صردٍ وجعلٍ، وثقبٍ وحفرٍ، إذا أردت جماع الحفرة والثقُّبة.
وأمّا الصفات فنحو قولك: هذا رجل حطم.
قال الحطم القيسىّ: قد لفَّها الليل بسواقٍ حطمٌ فإنما صرفت ما ذكرت لك، لأنه ليس باسمٍ يشبه الفعل الذي في أوّله زيادة، وليست في آخره زيادة تأنيث، وليس بفعل لا نظير له في الأسماء،فصار ما كان منه اسماً ولم يكن جمعاً بمنزلة حجر ونحوه وصار ما كان منه جمعاً بمنزلة كسرٍ وإبرٍ.
وأما ما كان صفة فصار بمنزلة قولك: هذا رجلٌ عملٌ، إذا أردت معنى كثير العمل.
وأمّا عمر وزفر، فإنما منعهم من صرفهما وأشباههما أنَّهما ليسا كشيء مما ذكرنا، وإنما هما محدودان عن البناء الذي هو أولى بهما، وهو بناؤهما في الأصل، فلمّا خالفا بناءهما في الأصل تركوا صرفهما، وذلك نحو: عامرٍ وزافرٍ.
ولا يجيء عمر وأشباهه محدوداً عن البناء الذي هو أولى به إلا وذلك البناء معرفة. كذلك جرى في الكلام.
فإن قلت: عمرٌ آخر صرفته، لأنه نكرة فتحول عن موضع عامرٍ معرفةً.

وإن حقَّرته صرفته؛ لأنّ فعيلاً لا يقع في كلامهم محدوداً عن فويعلٍ وأشباهه، كما لم يقع فعلٌ نكرة محدوداً عن عامرٍ، فصار تحقيره كتحقير عمرٍو، كما صارت نكرته كصردٍ وأشباهه. وهذا قول الخليل.وزحل معدول في حالةٍ،إذا أردت اسم الكوكب فلا ينصرف.وسالته عن جمع وكتع فقال: هما معرفة بمنزله كلُّهم، وهما معدولتان عن جمع جمعاء، وجمع كتعاء، وهما منصرفان في النكرة.
وسألته عن صغر من قوله: الصغرى وصغر فقال: اصرف هذا في المعرفة لأنه بمنزلة: ثقبةٍ وثقبٍ، ولم يشبهَّ بشيء محدود عن وجهه.
قلت: فما بال أخر لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؟ فقال: لأن أخر خالفت أخواتها وأصلها، وإنما هي بمنزلة: الطوّل والوسط والكبر، لا يكنَّ صفةً إلا وفيهن ألف ولام، فتوصف بهنَّ المعرفة. ألا أنك لا تقول:نسوةٌ صغرٌ، ولا هؤلاء نسوةٌ وسطٌ، ولا تقول: هؤلاء قوم أصاغر. فلما خالفت الأصل وجاءت صفة بغير الألف واللام تركوا صرفها، كما تركوا صرف لكع حين أرادوا يا ألكع، وفسق حين أرادوا يا فاسق. وترك الصرف في فسق هنا لأنه لا يمكن بمنزلة يا رجل للعدل.فإن حقرت أخر اسم رجل صرفته، لأن فعيلاً لا يكون بناءً لمحدد عن وجهه، فلمّا حقَّرت غيّرت البناء الذي جاء محدوداً عن وجهه.
وسألته عن أحاد وثناء ومثنى وثلاث ورباع، فقال: هو بمنزلة أخر، إنما حدُّه واحداً واحداً، واثنين اثنين، فجاء محدوداً عن وجهه فترك صرفه.
قلت أفتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة يوصف به نكرة، وقال لي: قال أبو عمرو: " أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع " صفة، كأنك قلت: أولي أجنحة اثنين اثنين، وثلاثةٍ ثلاثةٍ. وتصديق قول أبي عمروٍ وقول ساعدة بن جؤية:
وعاودني ديني فبتُّ كأنَّما ... خلال ضلوع الصَّدر شرعٌ ممدَّد.
ثم قال:
ولكنَّما أهلي بوادٍ أنيسه ... ذئابٌ تبغَّى الناس مثنى وموحد.
فإذا حَّقرت ثناء وأحاد صرفته، كما صرفت أخيراً وعميراً، تصغير عمر وأخر إذا كان اسم رجل؛ لأنَّ هذا ليس هنا من البناء الذي يخالف به الأصل.
فإن قلت: ما بال قال صرف اسم رجل، وقيل التي هي فعل، وهما محدودان عن البناء الذي هو الأصل؟ فليس يدخل هذا على أحد في هذا القول، من قبل أنك خّففت فعل وفعل نفسه، كما خفّفت الحركة من علم، وذلك من لغة بني تميم، فتقول: علم كما حذفت الهمزة من يرى ونحوها، فلَّما خفَّت وجاءت على مثال ما هو في الأسماء صرفت. وأمَّا عمر فليس محذوفا من عامرٍ كما أنّ ميتاً محذوف من مّيتٍ، ولكنه اسمٌ بني من هذا اللفظ وخولف به بناء الأصل. يدّلك على ذلك: أن مثنى ليس محذوفاً من اثنين.
وإن سّميت رجلا ضرب ثم خّففته فأسكنت الراء صرفته؛ لأنك قد أخرجته إلى مثال ما ينصرف كما صرفت قيل، وصار تخفيك لضرب كتحقيرك إيَّاه،لأنَّك تخرجه إلى مثال الأسماء. ولو تركت صرف هذه الأشياء في التخفيف للعدل لما صرفت اسم هارٍ، لأنه محذوف من هائرٍ.
باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل اعلم أنه ليس شيءٌ يكون على هذا المثال إلاَّّ لم ينصرف في معرفة ولا نكرة. وذلك لأنه ليس شيء يكون واحداً يكون على هذا من البناء والواحد الذي هو أشدُّ تمكنا وهو الأول فلما لم يكن هذا من بناء الواحد هو أشد تمكناً وهو الأول تركوا صرفه؛ إذ خرج من بناء الذي هو أشدّ تمكنا. وإنّما صرفت مقاتلاً وعذافراً، لان هذا المثال يكون للواحد.
قلت: فما بال ثمان لم يشبه: صحارى وعذارى؟ قال: الياء في ثماني ياء الإضافة أدخلتها على فعال، كما أدخلتها على يمانٍ وشآمٍ، فصرفت الاسم إذ خفَّفت كما إذ ثقلت يمانيٌّ وشآميٌّ. وكذلك: رباٍع، فإنَّما ألحقت هذه الأسماء ياءات الإضافة.

قلت: أرأيت صياقلةً وأشباهها؛ لم صرفت ؟ قال: من قبل أن هذه الهاء إنَّما ضُّمت إلى صياقل، كما ضمت موت إلى حضر، وكرب إلى معدي في قول من قال: معد يكرب. وليست الهاء من الحروف التي تكون زيادةً في هذا البناء، كالياء والألف في صياقلةٍ، وكالياء ةالألف اللتين يبنى بهما الجميع إذا كّسرت الواحد، ولكنَّها إنَّما تجيء مضمومة إلى هذا البناء كما تضم ّياء الإضافة إلى مدائن ومساجد بعد ما يفرغ من البناء، فتلحق ما فبه الهاء من نحو: صياقلةٍ باب طلحةٍ وتمرةٍ، كما تلحق هذا بباب تميمىٍّ، وقيسىٍّ، يعني قولك مدائنيٌّ ومساجديٌّ فقد أخرجت هذه الياء مفاعيل ومفاعل إلى باب تميمي، كما أخرجته الهاء إلى باب طلحةٍ. ألا ترى أنَّ الواحد تقول له: مدائنىٌّ، فقد صار يقع للواحد ويكون من أسمائه.
وقد يكون هذا المثال للواحد نحو: رجلٍ عباقيةٍ، فلما لحقت هذه الهاء لم يكن عند العرب مثل البناء الذي ليس في الأصل للواحد، ولكنه صار عندهم بمنزلة اسم ضمّ إليه فجعل اسماً واحداً، فقد تغير بهذا عن حاله، كما تغيَّر بياء الإضافة.
ويقول بعضهم: جندلٌ وذلذلٌ، يحذف ألف جنادل وذلاذل وينونون، يجعلونه عوضاً من هذا المحذوف.
واعلم أنَّك إذا سميت رجلا مساجد، ثم حقَّرته صرفته؛ لأَّنك قد حوّلت هذا البناء. وإن سمّيته حضاجر ثم حقَّرته صرفته، لأنها إنّما سِّميت بجمع الحضجر؛ سمعنا العرب يقولون: أوطبٌ حضاجر. وإنَّماجعل هذا اسما لضَّبع لسعة بطنها.
وأمّا سراويل فشيءٌ واحد، وهو أعجميّ أعرب كما أعرب الآجرُّ، إَّلا أنَّ سراويل أشبه من كلامهم مالا ينصرف في نكرة ولا معرفة كما أشبه بقَّم الفعل ولم يكن له نظير في الأسماء. فإن حقّرتها اسم رجل لم تصرفها كما لا تصرف عناق اسم رجل.
وأمّا شراحيل فتحقيره ينصرف؛ لأنَّه عربيٌّ ولا يكون إَّلا جماعا. وأمّا أجمالٌ وفلوس ق فإنها تنصرف وما اشبهها، ضارعت الواحد. ألا ترى أنك تقول: أقوالٌ وأقاويل، وأعرابٌ وأعاريب، وأيدٍ وأيادٍ. فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل إذا كسّر للجميع كما يخرج إليه الواحد إذا كسّر للجمع.
وأمّا مفاعل ومفاعيل فلا يكسّر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلمّا ضارعت الواحد صرفت؛ كما أدخلوا الرفع والنصب في يفعل حين ضارع فاعلاً، وكما ترك صدف افعل حين ضارع الفعل.
وكذلك الفعول لو كسّرت، مثل الفلوس، لان تجمع جمعا لأخرج إلى فعائل، كما تقول: جدودٌ وجدائد، وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم تجاوز هذا ويقوَّي ذلك أنَّ بعض العرب يقول: أتيٌ للواحد، فيضمُّ الألف.
وأما أفعالٌ فقد يقع للواحد، من العرب من يقول: هو الأنعام.
وقال الله عز وجل " نسقيكم مما في بطونه " .
وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثوبٌ أكياشٌ، ويقال: سدوسٌ لضرب من الثياب، كما تقول: جدورٌ. ولم يكسَّر عليه شيء كالجلوس والقعود.
وأمّا بخاتيُّ فليس بمنزلة مدائنيٍّ لأنك لم تلحق هذه الياء بخاتٍ للإضافة، ولكنها التي كانت في الواحد إذا كّسرته للجمع، فصارت بمنزلة الياء في حذريةٍ، إذا قلت حذارٍ، وصارت هذه الياء كدال مساجد،لأنهَّا جرت في الجمع مجرى هذه الدال، لأنَّك بنيت الجمع بها، ولم تلحقها بعد فراغ من بنائها.
وقد جعل بعض الشعراء ثماني بمنزلة حذارٍ. حدّثني أبو الخطَّاب أنَّه سمع العرب ينشدون هذا البيت غير منوَّن، قال:
يحدو ثماني مولعاً بلقاحها ... حتَّى هممن بزيغة الإرتاج
وإذا حقَّرت بخاتيَّ اسم رجل صرفته، كما صرفت تحقير مساجد.
وكذلك صحارٍ فيمن قال: صحيرٌ، لأنه ليس ببناء جمع.
وأمّا ثمانٍ إذا سمّيت به رجلا فلا تصرف؛ لانها واحدة كعناقٍ.
وصحارٍ جماعٌ كعنوقٍ، فإذا ذهب ذلك البناء صرفته.وياء ثمانٍ كياء قمريٍّ وبختىٍّ، لحقت كلحاق ياء يمانٍ وشآمٍ وإن لم يكن فيهما معنى إضافة إلى بلد ولا إلى أب، كما لم يك ذلك في بختيٍّ.
ورباعٍ بمنزلته وأجري مجري سداسيٍ. وكذلك حواريٌ. وأما عواريُّ وعواديَّ وحواليٌّ فإنه كسر عليه حولي وعادي وعاريّةٌ، وليست ياءً لحقت حوالٍ.
باب تسمية المذكّر بلفظ الاثنين والجميع الذي تلحق له الواحد واوا ونونا

فإذا سميَّت رجلا برجلين فإن أقيسه وأجوده أن تقول: هذا رجلان ورأيت رجلين، ومررت برجلين، كما تقول: هذا مسلمون ورأيت مسلمين. ومررت بمسلمين. فهذه الياء والواو بمنزلة الياء والألف. ومثل ذلك قول العرب: هذه قنَّسرون وهذه فلسطون. ومن النحويين من يقول: هذا رجلان كما ترى، يجعله بمنزلة عثمان.
وقال الخليل: من قال هذا قال: مسلمينٌ كما ترى، جعله بمنزلة قولهم: سنينٌ كما ترى، وبمنزلة قول بعض العرب: فلسطينٌ وقنَّسرينٌ كما ترى. فإن قلت: هل تقول: هذا رجلينٌ، تدع الياء كما تركتها في مسلمين؟ فإنهّ إنّما منعهم من ذلك أنّ هذه لا تشبه شيئاً من الأسماء في كلامهم، ومسلمينٌ مصروف كما كنت صارفاً سنياً.
وقال في رجل اسمه مسلماتٌ أو ضرباتٌ: هذا ضرباتٌ كما ترى ومسلماتٌ كما ترى. وكذلك المرأة لو سمّيتها بهذا انصرفت. وذلك أن هذه التاء لما صارت في النصب والجرّ جرّاً أشبهت عندهم الياء التي في مسلمين، والياء التي في رجلين، وصار التنوين بمنزلة النون. ألا ترى إلى عرفاتٍ مصروفةً في كتاب الله عز وجلَّ وهي معرفةٌ. الدَّليل على ذلك قول العرب: هذه عرفاتٌ مباركاً فيها. ويدلك أيضا على معرفتها أنك لا تدخل فيها ألفا ولاما، وإنّما عرفاتٌ بمنزلة أبانين، وبمنزلة جمع. ومثل ذلك أذرعاتٌ، سمعنا أكثر العرب يقولون في بيت امرئ القيس:
تنورَّتها من أذرعاتٍ، وأهلها ... بيثرب، ادنى دارها نظرٌ عال
ولو كانت عرفات نكرة لكانت إذاً عرفات في غير موضع.
ومن العرب من لا ينوّن أذرعات ويقول: هذه قريشيّات كما ترى، شبهوها بهاء التأنيث، لأن الهاء تجئ للتأنبث ولا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة.
فإن قلت: كيف تشبهها بالهاء وبين التاء وبين الحرف المتحرك ألف؟ فإنّ الحرف الساكن ليس عندهم بحاجز حصين، فصارت التاء كأنِّها ليس بينها وبين الحرف المتحرك شيء.ألا ترى أنِّك تقول: اقتل فتتبع الألف التاء، كأنها ليس بينها شيء وسترى أشباه ذلك إن شاء الله مما يشبَّه بالشيء وليس مثله في كل شيء. ومنه ما قد مضى هذا باب الأسماء الأعجمية اعلم أن كلَّ اسم أعجمي أعرب وتمكّن في الكلام فدخلته الألف واللام وصار نكرة، فإنك إذا سمّيت به رجلا صرفته، إَّلا أن يمنعه من الصرف ما يمنع العربيّ. وذلك نحو: اللجّام، والدّيباج، واليرندج، والنَّيروز، والفرند، والزَّنجبيل، والأرندج، والياسمين فيمن قال: ياسمينٌ كما ترى، والسّهريز، والآجرّ فإن قلت: أدع صرف الآجرّ، لأنه لا يشبه شيئاً من كلام العرب، فإنه قد أعرب وتمكّن في الكلام، وليس بمنزلة شيء ترك صرفه من كلام العرب؛ لأنَّه لا يشبه الفعل وليس في آخره زيادة، وليس من نحو عمر، وليس بمؤنث، وإنمَّا هو بمنزلة عربيٍّ ليس له ثلنٍ في كلام العرب، نحو إبل، وكدت تكاد، وأشباه ذلك وأمّا إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب، وهرمز، وفيروز، وقارون، وفرعون، وأشباه هذه الأسماء فإنَّها لم تقع في كلامهم الا معرفة على حد ما كانت في كلام العجم ولم تمكن في كلامهم كما تمكنّ الأوّل،ولكنها وقعت معرفة، ولم تكن من أسمائهم العربيَّة فاستنكروها ولم يجعلوها بمنزلة أسمائهم العربية: كنهشلٍ وشعثمٍ، ولم يكن شيء منها قبل ذلك اسماً يكون لكل شيء من أمةٍ. فلمّا لم يكن فيها شيء من ذلك استنكروها في كلامهم.
وإذا حقّرت اسماً من هذه الأسماء فهو على عجمته كما ان العناق إذا حقّرتها اسم رجل كانت على تأنيثها.
وأما صالحٌ، فعربيّ، وكذلك شعيبٌ.
وأمّا نوحٌ، وهودٌ، ولوطٌ فتنصرف على كل حال، لخفتها.
هذا باب تسمية المذكر بالمؤنث اعلم أن كل مذكّر سّميته مؤنّث على أربعة أحرف فصاعداً لم ينصرف.
وذلك أن أصل المذكّر، عندهم أن يسمى بالمذكر، وهو شكله والذي يلائمه،فلما عدلوا عنه ما هو له في الأصل، وجاءوا بما لا يلائمه ولم يكن منه فعلوا ذلك به، كما فعلوا ذلك بتسميتهم إيَّاه بالمذكر وتركوا صرفه كما تركوا صرف الأعجمي.
فمن ذلك : عناق، وعقرب، وعقاب، وعنكبوت، وأشباه ذلك.
وسالته: عن ذراع فقال: ذراعٌ كثر تسميتهم به المذكّر، وتمكّن في المذكّر وصار من أسمائه خاصَّة عندهم، ومع هذا أنهَّم يصفون به المذكر فيقولن: هذا ثوبٌ ذراعٌ. فقد تمكن هذا الاسم في المذكر.

وأمّا كراع فإنّ الوجه ترك الصرف، ومن العرب من يصرفه يشبهّه بذراع؛ لأنه من أسماء المذكر. وذلك أخبث الوجهين.
وإن سمَّيت رجلاً ثماني لم تصرفه لأن ثماني اسم لمؤنث، كما أنك لا تصرف رجلا اسمه ثلاث؛ لأنَّه ثلاثا كعناق.
ولو سّميت رجلا حباري، ثم حقرّته فقلت: حبيرّ لم تصرفه، لأنَّك لو حقرت الحباري نفسها فقلت:حبيرٌ كنت إنمَّا تعني المؤنَّث،فالياء إذا ذهبت فإنما هي مؤنثة؛ كعنيّقٍ.
واعلم انك إذا سّميت المذكر بصفة المؤنَّث صرفته، وذلك أن تسِّمى رجلا بحائضٍ أو طامثٍ أو متئمٍ. فزعم أنّه إنّما يصرف هذه الصفات لأنَّها مذكرةٌ وصف بها المؤنّث، كما يوصف المذكر بمؤنث لا يكون إلا لمذكَّر،وذلك نحو قولهم: رجلٌ نكحةٌ، ورجل ربعةٌ، ورجل خجأةٌ فكأنَّ هذا المؤنَّث وصفٌ لسلعة أو لعين أو لنفس، وما أشبه هذا. وكأنَّ المذكر وصف لشيء، كأنّك قلت: هذا شيءٌ حائضٌ ثم وصفت به المؤنَّث، كما تقول هذا بكرٌ ضامرٌ، ثم تقول: ناقةٌ ضامرٌ.
وزعم الخليل أن فعولاً ومفعالاً إنَّما امتعتنا من الهاء لأنَّهما إنّما وقعتا في الكلام على التذكير، ولكنَّه يوصف به المؤنث، كما يوصف بعدلٍ وبرضاً. فلو لم تصرف حائضا لم تصرف رجلا يسَّمى قاعداً إذا أردت صفة القاعد من الزوج ولم تكن لتصرف رجلاً يسمى ضارباً إذا أردت الناقة الضارب، ولم تصرف أيضاً رجلاً يسمى عاقراً؛ فإنَّ ما ذكرت لك مذكَّر وصف به مؤنَّث، كما أن ثلاثةٌ مؤنثٌ لا يقع إَّلا لمذكرين.
ومما جاء مؤنَّثاً صفةً تقع للمذكّر والمؤنَّث: هذا غلامٌ يفعةٌ، وجاريةٌ يفعةٌ، وهذا رجل ربعةٌ، وامرأة ربعةٌ.
فأمّا ما جاء من المؤنَّث لا يقع إَّلا لمذكر وصفاً، فكأنه في الأصل صفة لسلعة أو نفسٍ، كما قال: " لا يدخل الجّنة إلا نفسٌ مسلمةٌ " والعين عين القوم وهو ربيثتهم، كما كان الحائض في الأصل صفةً لشيء وإن لم يستعملوه؛كما أنَّ أبرق في الأصل عندهم وصفٌ، وأبطح، وأجرع، وأجدل، فبمن ترك الَّصرف، وإن لم يستعملوه وأجروه مجرى الأسماء. وكذلك جنوبٌ وشمالٌ،وحرورٌ وسمومٌ وقبولٌ ودبورٌ، إذا سمّيت رجلاً بشيء منها صرفته لأنَّها صفاتٌ في أكثر كلام العرب: سمعناهم يقولون: هذه ريح حرورٌ، وهذه ريحٌ شمالٌ، وهذه الريح الجنوب، وهذه ريح سمومٌ، وهذه ريحٌ جنوبٌ. سمعنا ذلك من فصحاء العرب، لا يعرفون غيره. قال الأعشى:
لها زجلٌ كحفيف الحصا ... د صادف باللَّيل ريحاً دبورا
ويجعل اسما، وذلك قليل، قال الشاعر.
حالت وحيل بها وغيّر آيها ... صرف البلى تجري به الرّيحان
ريح الجنوب مع الَّشمال وتارةً ... رهم الرَّبيع وصائب التَّهتان
فمن جعلها أسماءً لم يصرف شيئاً منها اسم رجل، وصارت بمنزلة: الصعَّود والهبوط، والحرور، والعروض.
وإذا سمّيت رجلا بسعاد أو زينب أو جيأل، وتقديرها جيعل، لم تصرفه؛ من قبل انَّ هذه أسماء تمكنت في المؤنّث واختص بها وهي مشتقةّ، وليس شيء منها يقع على شيء مذكر: كالرَّباب، والثوَّاب، والدَّلال. فهذه الأشياء مذكرة، وليست سعاد وأخواتها كذلك، ليست بأسماء للمذكر، ولكنهَّا اشتقَّت فجعلت مختصّا بها المؤنّث في التسمية، فصارت عندهم كعناق.وكذلك تسميتك رجلا بمثل: عمان؛ لأنَّها ليست بشيء مذكر معروف، ولكنَّها مشتقّة لم تقع إلاّ علما لمؤنث وكان الغالب عليها المؤنَّث، فصارت عندهم حيث لم تقع إلاَّ لمؤنّثٍ كعناق لا تعرف إلا َّعلما لمؤنَّث، كما أن هذه مؤنّثة في الكلام. فإن سمَّيت رجلا بربابٍ، أودلالٍ صرفته؛ لأنه مذكر معروف.
واعلم أنَّك إذا سميّت رجلا خروقاً، أو كلابا، أو جمالاً، صرفته في النكرة والمعرفة، وكذلك الجماع كلُّه. ألا تراهم صرفوا: أنماراً، وكلابا؛ وذلك لأنَّ هذه تقع على المذكر، وليس يختصّ به واحد المؤنَّث فيكون مثله. ألا ترى أنَّك تقول: هم رجالٌ فتذكِّر كما ذكّرت في الواحد، فلمَّا لم تكن فيه علامة التأنيث وكان يخرج إليه المذكر ضارع المذكر الذي يوصف به المؤنّث، وكان هذا مستوجبا لصرف إذا صرف ذراعٌ وكراعٌ لما ذكرت لك.

فإن قلت: ما تقول في رجل يسمَّى: بعنوق فإن عنوقا بمنزلة خروق؛ لأن هذا التأنيث هو التانيث الذي يجمع به المذكَّر، وليس كتأنيث عناق، ولكن تأنيثه تأنيث الذي يجمع المذكَّرين، وهذا التأنيث الذي في عنوقٍ تأنيث حادث، فعنوقٌ البناء الذي يقع للمذكرين، والمؤنّث الذي يجمع المذكرين. وكذلك رجل يسمَّى: نساءً، لأنها جمع نسوةٍ.
فأمَّا الطًّاغون فهو اسمٌ واحدٌ مؤنث، يقع على الجميع كهيئة للواحد. وقال عزَّ وجلَّ: " والذين اجتنبوا الطَّاغوت أن يعبدوها " .
وأمَّا ما كان اسّماً لجمع مؤنّث لم يكن له واحدٌ فتأنيثه كتأنيث الواحد، لا تصرفه اسم رجل، نحو: إبل، وغنم؛ لأنَّه ليس له واحد، يعني أنهّ إذا جاء اسماً لجمع ليس له واحد كسّر عليه، فكان ذلك الاسم على أربعة أحرف، لم تصرفه اسماً لمذكّر.
هذا باب تسمية المؤنث اعلم أن كل مؤنث سميّته بثلاثة أحرف متوالٍ منها حرفان بالتحرك لا ينصرف، فإن سميّته بثلاثة أحرف فكان الأوسط منها ساكنا وكانت شيئاً مؤنثاً أو اسماً الغالب عليه المؤنّث كسعاد، فأنت بالخيار: إن شئت صرفته وإن شئت لم تصرفه. وترك الصرف أجواد.
وتلك الأسماء نحو: قدر، وعنز، ودعد، وجمل، ونعم، وهند.
وقال الشاعر فصرفت ذلك ولم يصرفه:
لم تتلفَّع بفضل مئزرها ... دعدٌ ولم تغذ دعد في العلب
فصرفت ولم يصرف. وإنمَّا كان المؤنث بهذه المنزلة ولم يكن كالمذكر لأنّ الأشياء كلَّها اصلها التذكير ثم تختصَّ بعد، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكَّر، فالتذكير أوّل، وهو أشدّ تمكنّا، كما أنَّ النكرة هي اشدّ تمكنّا من المعرفة، لأنَّ الأشياء إنمَّا تكون نكرةً ثم تعرف فالتذكير قبل، وهو أشد تمكّنا عندهم. فالأول هو أشد تمكنا عندهم.
فالنكرة تعرف بالألف واللام والإضافة، وبأن يكون علماً. والشيء يختصّ بالتأنيث فيخرج من التذكير، كما يخرج المنكور إلى المعرفة.
فإن سميّت المؤنث بعمرو أو زيد، لم يجز الصرف.
هذا قول ابن أبي إسحاق وأبي عمرو، فيما حدثنا يونس، وهو القياس؛ لأنَّ المؤنث اشد ملاءمةً للمؤنث. والأصل عندهم أن يسمىَّ المؤنث بالمؤنث، كما أنَّ اصل تسمية المذكَّر بالمذكر.
وكان عيسى يصرف امرأةً اسمها عمرو، لأنَّه على أخفّ الأبنية.
هذا باب أسماء الأرضين إذا كان اسم الأرض على ثلاثة أحرف خفيفةٍ وكان مؤنثا،أو كان الغالب عليه المؤنث كعمان، فهو بمنزلة: قدر، وشمس، ودعد.
وبلغنا عن بعض المفسَّرين أن قوله عزَّ وجلَّ: " اهبطوا مصر " ، إنما أراد مصر بعينها.
فإن كان الاسم الذي على ثلاثة أحرف أعجميَّا، لم ينصرف وإن كان خفيفا، لأن المؤنث في ثلاثة الأحرف الخفيفة إذا كان أعجمياً،بمنزلة المذكَّر في الأربعة فما فوقها إذا كان اسما مؤنثاً. ألا ترى أنَّك لو سَّميت مؤنثَّا بمذكر خفيف لم تصرفه، كما لم تصرف المذكَّر إذا سّميته بعناق ونحوها.
فمن الأعجمَّية: حمص، وجور، وماه. فلو سميّت امرأة بشيء من هذه الأسماء لم تصرفها، كما لا تصرف الرَّجل لو سميَّته بفارس ودمشق.
وأمَّا واسطٌ فالتذكير والصرف أكثر، وإنمَّا سمي واسطاً، لأنه مكانٌ وسط البصرة والكوفة. فلو أرادوا التأنيث قالوا: واسطةٌ. ومن العرب من يجعلها اسم أرض فلا يصرف.
ودابق الصرف والتذكير فيه أجود. قال الراجز، وهو غيلان:
ودابق وأين مِّني دابق
وقد يؤنث فلا يصرف.
وكذلك منيً، الصرف والتذكير أجود، وإن شئت أنّثت ولم تصرفه.
وكذلك هجر، يؤنث ويذكَّر.قال الفرزدق:
منهنّ ايَّام صدق قد عرفت بها ... أيَّام فارس والأيام من هجرا
فهذا أنت.
وسمعنا من يقول: " كجالب التَّمر إلى هجر " يا فتى.
وأمَّا حجر اليمامة فيذكَّر ويصرف. ومنهم من يؤنث فيجريه مجرى امرأةٍ سميِّت بعمروٍ،لأن حجرا شيء مذكر سِّمي به المذكَّر.
فمن الأرضين: ما يكون مؤنَّثا ويكون مذكَّرا، ومنها مالا يكون إلا على التأنيث، نحو: عمان، والزّاب، وإراب، ومنها ما لا يكون إَّلا على التذكير نحو فلجٍ، وما وقع صفة كواسط ثم صار بمنزلة زيد وعمرو،وإنمَّا وقع لمعنىً، نحو قول الشاعر:
ونابغة الجعديُّ بالرَّمل بيته ... عليه ترابٌ من صفيح موضَّع
أخرج الألف واللام وجعله كواسط.

وأمَّا قولهم: قباء وحراء، فد اختلفت العرب فيهما، فمنهم من يذكّر ويصرف، وذلك أنهَّم جعلوهما اسمين لمكانين، كما جعلوا واسطاً بلداً أو مكانا. ومنهم من أنَّث ولم يصرف، وجعلهما اسمين لبقعتين من الأرض.
قال الشاعر، جرير:
ستعلم أينّا خير قديما ... وأعظمنا ببطن حراء نارا
وكذلك أضاخ؛ فهذا أنَّث، وقال غيره فذكر. وقال العجاج:
وربِّ وجهٍ من حراءٍ منحن
وسألت الخليل فقلت: أرأيت من قال: قباء يا هذا،كيف ينبغي له أن يقول إذا سمَّى به رجلاً؟ قال: يصرفه، وغير الصرف خطأ، لأنَّه ليس بمؤنَّث معروف في الكلام، ولكنَّه مشتق كجلاس، وليس شيئاً قد غلب عليه عندهم التأنيث كسعاد وزينب. ولكه مشتقٌّ يحتمله المذكَّر ولا ينصرف في المؤنث، كهجر وواسط. ألا ترى أنَّ العرب قد كفتك ذلك لمَّا جعلوا واسطا للمذكَّر صرفوه، فلو علموا أنَّه شيء للمؤَّنث كعناق لم يصرفوه، أو كان اسماً غلب التأنيث لم يصرفوه، ولكنَّه اسم كغراب ينصرف في المذكَّر ولا في المؤنث؛ فإذا سمّيت به الرجل فهو بمنزلة المكان.
قلت: فإن سمَّيته بلسان، في لغة من قال: هي اللسان؟ قال: لا أصرفه، من قبل أنَّ اللَّسان قد استقرّ عندهم حينئذ أنَّه بمنزلة: عناق قبل أن يكون اسماً لمعروف، وقباء وحراء ليسا هكذا، إنَّما وقعا علماً علماً على المؤنَّث والمذكّر مشتقين وغير مشتقّين في الكلام لمؤنَّث من شيء، والغالب عليهما التأنيث، فإنَّما هما كمذكر إذا وقع على المؤنَّث لم ينصرف. وأمَّا اللِّسان فبمنزلة اللذاذ واللذَّاذة، يؤنِّث قوم ويذكّر آخرون.
هذا باب أسماء القبائل والأحياء وما يضاف إلى الأب والأم أمَّا ما يضاف إلى الآباء والأمهات فنحو قولك: هذه بنو تميم، وهذه بنو سلول، ونحو ذلك.
فإذا قلت: هذه تميم،وهذه أسد، وهذه سلول، فإنَّما تريد ذلك المعنى، غير أنَّك إذا حذفت المضاف تخفيفاً، كما قال عزَّ وجلَّ: " واسأل القرية " ، ويطؤهم الطريق،وأنَّما يريدون: أهل القرية وأهل الطريق. وهذا في كلام العرب كثير، فلمَّا حذفت المضاف وقع عل المضاف إليه ما يقع على المضاف، لأنه صار في مكانه فجرى مجراه. وصرفت تميماً وأسداً؛ لأنّك لم تجعل واحداً منهما اسماً للقبيلة؛ فصارا في الانصراف على حالهما قبل أن تحذف المضاف. ألا ترى أنَّك لو قلت: أسأل واسطاً كان في الانصراف على حاله إذا قلت: أهل واسط فأنت لم تغيّر ذلك المعنى وذلك التأليف، إلاّ أنَّك حذفت. وإن شئت قلت: هؤلاء تميم وأسد؛ لأنَّك تقول: هؤلاء بنو أسد وبنو تميم، فكما أثبتَّ اسم الجميع ههنا أثبت هنالك اسم المؤنث، يعني في: هذه تميم وأسد.
فإن قلت: لم لم يقولوا: هذا تميم، فيكون الفظ كلفظه إذا لم ترد معنى الإضافة حين تقول: جاءت القرية، تريد: أهلها؟ فلأنَّهم أرادوا أن يفصلوا بين الإضافة وبين إفرادهم الرجل، فكرهوا الالتباس.
ومثل هذا القوم، هو واحد في اللفظ، وصفته تجري على المعنى، لا تقول القوم ذاهب.
وقد أدخلوا التأنيث فيما هو أبعد من هذا، أدخلوه فيما لا يتغيّر منه المعنى لو ذكرَّت، قالوا: ذهبت بعض أصابعه وقالوا: ذهبت بعض أصابعه، وقالوا: ما جاءت حاجتك. وقد بين أشباه هذا في موضعه.
وإن شئت جعلت تميماً وأسدا اسم قبيلة في الموضعين جميعا فلم تصرفه. والدليل على ذلك قول الشاعر
نبا الخزُّ عن روحٍ وأنكر جلده ... وعجّت عجيجاً من جذام المطارف
وسمعنا من العرب من يقول، للأخطل:
فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإنَّ الريح طيَّبة قبول
فإذا قالوا: ولد سدوسٌ كذا وكذا، أو ولد جذامٌ كذا وكذا، صرفوه: ومما يقويِّ ذلك أن يونس زعم: أنَّ بعض العرب يقول: هذه تميم بنت مرٍّ. وسمعناهم يقولون: قيس بنت عيلان، وتميم صاحبة ذلك. فإنَّما قال:بنت حين جعله اسماً لقبيلة.
ومثل ذلك قوله: باهلة بن أعصر، فباهلة امرأةٌ ولكنَّه جعله اسماً للحيّ، فجاز له أن يقول: ابن.
ومثل ذلك تغلب ابنة وائلٍ.
غير أنه قد يجيء الشيء يكون الأكثر في كلامهم أن يكون أباً، وقد يجيء الشيء يكون الأكثر في كلامهم أن يكون اسماً للقبيلة. وكلٌّ جائز حسن.

فإذا قلت: هذه سدوس، فأكثرهم يجعله اسماً للقبيلة. وإذا قلت: هذه تميمٌ فأكثرهم يجعله اسماً للأب. وإذا قلت: هذه جذام فهي كسدوس. فّإذا قلت: من بني سدوسٍ فالصرف، لأنَّك قصدت قصد الأب.
وأمّا أسماء الأحياء فنحو: معدٍّ، وقريشٍ، وثقيفٍ. وكلُّ شيء لا يجوز لك أن تقول فيه: من بني فلان، ولا هؤلاء بنو فلان، فإنمَّا جعله اسم حيّ فإن قلت: لم تقول هذه ثقيفٍ، فإنهم إنما أرادوا:هذه جماعة ثقيف أو هذه جماعة فإنهم إنما أرادوا: هذه جماعة ثقيف أو هذه جماعة من ثقيف ثم حذفوها ههنا كما حذفوا في تميمٍ. ومن قال: هؤلاء جماعة ثقيف قال: هؤلاء ثقيف. فإن أرادت الحيَّ ولم ترد الحرف قلت: هؤلاء ثقيف، كما تقول: هؤلاء قومك، والحيّ جينئذٍ بمنزلة القوم، فكينونة هذه الأشياء للأحياء أكثر.
وقد تكون تميمٌ اسماً للحيّ. وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن، ويعني قريش وأخواتها. قال الشاعر:
غلب المساميح الوليد سماحةً ... وكفى قريش المعضلات وسادها
وقال:
علم القبائل من معدَّ وغيرها ... أنّ الجواد محمَّد بن عطارد
وقال:
ولسنا إذا عدَّ الحصي بأقلةٍ ... وإنّ معدَّ اليوم مودٍ ذليلها
وقال:
وأنت أمرؤٌ من خير قومك فيهم ... وأنت سواهم في معدَّ مخيَّر
وقال زهير:
تمدُّ عليهم من يمينٍ واشملٍ ... بحورٌ له من عهد عاد وتبعَّا
وقال:
لو شهد عاد في زمان عاد ... لا بتزَّها مبارك الجلاد
وتقول: هؤلاء ثقيف بن قسيّ، فتجعله اسم الحيّ وتجعل ابن وصفاً، كما تقول: كلٌّ ذاهبٌ وبعض ذاهب، فهذه الأشياء إنمَّا هي آباء، والحدُّ فيها أن تجري ذلك المجرى، وقد جاز فيها ما جاز في قريشٍ إذا كانت جمعاً لقوم. قال الشاعر فيما وصف به الحيُّ ولم يكن جمعا:
بحيٍّ نميريٍّ عليه مهابةٌ ... جميعٍ إذا كان اللئّام جنادعا
وقال
سادوا البلاد وأصبحوا في آدمٍ ... بلغوا بها بيض الوجوه فحولا
فجعله كالحي والقبيلة.
وقال بعضهم: بنو عبد القيس؛ لأنهّ أب.
فأما ثمود وسبأ، فهما مرّةً للقبيلتين، ومرّةً للحيين، وكثرتهما سواءٌ. وقال تعالى: " وعاداً وثموداً " وقال تعالى: " ألا إنَّ ثموداً كفروا ربَّهم " وقال: " وآتينا ثمود النَّاقة مبصرةً " ، وقال: " وأمَّا ثمود فهديناهم " ، وقال: " لقد كان لسبأٍ في مساكنهم " وقال " من سبأٍ بنبأٍ يقين " وكلن أبو عمرٍ ولا يصرف سبأ، يجعله اسماً للقبيلة. وقال الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
وقال في الصرف، للنابغة الجعدي:
أضحت ينفرها الوالدان من سبأٍ ... كأنّهم تحت دفيًّها دحاريج
هذا باب ما لم يقع إلا اسما للقبيلة كما أنّ عمان لم يقع إَّلا اسما لمؤنث، وكان التأنيث هو الغالب عليها وذلك: مجوس، ويهود. قال امرؤ القيس:
أحار أريك برقاً هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا
وقال:
أولئك أولي من يهود بمدحه ... إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنَّب
فلو سميّت رجلاً بمجوس لم تصرفه، كما لا تصرفه إذا سميّته بعمان.
وأما قولهم: اليهود والمجوس، فانما أدخلوا الألف واللام ههنا كما أدخلوها في المجوسّ واليهوديّ، لأنهم أرادوا اليهوديِّين والمجوسِّيين، ولكنهم حذفوا ياءي الإضافة، وشبهوا ذلك بقولهم: زنجيٌّ وزنجٌ، إذا أدخلوا الألف واللام على هذا، فكأنك أدخلتها على: يهودِّيين ومجوسييِّن، وحذفوا ياءي الإضافة وأشباه ذلك. فإن أخرجت الألف واللام من المجوس صار نكرة، كما أنك لو أخرجتها من المجوسييِّن صار نكرة.
وأما نصاري فنكرة، وإنمَّا نصاري جمع نصران ونصرانةٍ، ولكنهَّ لا يستعمل في الكلام إلاّ بباءي الإضافة إلا في الشعر، ولكنهم بنو الجميع على حذف الياء، كما أن ندامى جمع ندمان، والنَّصاري ههنا بمنزلة: النصرانييِّن. ومما يدلّك على ذلك قول الشاعر.
صدَّت، كما صدَّ عمَّا لا يحلُّ له ... ساقي نصاري قبيل الفصح صوّام
فوصفه بالنكرة، وإنمَّا النَّصاري جماع نصران ونصرانةٍ. والدليل على ذلك قول الشاعر:
فكلتاهما خرَّت وأسجد راسها ... كما سجدت نصرانةٌ لم تحنَّف

فجاء على هذا كما جاء بعض الجميع على غير ما يستعمل واحداً في الكلام، نحو:مذاكير وملامح.
هذا باب أسماء السُّور تقول: هذه هود كما ترى، إذا أردت أن تحذف سورة من قولك: هذه سورة هود، فيصير هكذا كقولك هذه تميم كما ترى.
وإن جعلت هوداً اسم السورة لم تصرفها، لأنَّها تصير بمنزلة امرأة سمّيتها بعمرو. والسُّور بمنزلة النسِّاء، والأرضين.
وإذا أردت أن تجعل اقتربت اسماً قطعت الألف، كما قطعت ألف إضرب حين سمَّيت به الرجل، حتَّى يصير بمنزلة نظائره من الأسماء: نحو إصبع.
وأمّا نوح بمنزلة هودٍ، تقول: هذه نوح، إذا أردت أن تحذف سورة من قولك: هذه سورة نوح. ومما يدلُّك على أن ّك حذفت سورةً قولهم: هذه الرَّحمن. ولا يكون هذا أبداً إلاّ وأنت تريد: سورة الرَّحمن. وقد يجوز أن تجعل نوح اسماً ويصير بمنزلة امرأة سمّيتها بعمرو، إن جعلت نوح اسماً لها لم تصفره.
وأمَّا حم فلا ينصرف، جعلته اسماً لسورة أو أضفته إليه، لأنَّهم أنزلوه بمنزلة اسم أعجمي، نحو: هابيل وقابيل. وقال الشاعر: وهو الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأوَّلها منّا تقيٌّ ومعرب
وقال الحمَّاني:
أو كتباً بينَّ من حاميما ... قد علمت أبناء إبراهيما
وكذلك: طاسين، وياسين.
واعلم أنه لا يجيء في كلامهم على بناء: حاميم وياسين، وإن أردت في هذا الحكاية تركته وقفاً على حاله. وقد قرأ بعضهم: " ياسين والقرآن " ، و " قاف والقرآن " . فمن قال هذا فكأنّه جعله اسما أعجميّا، ثم قال: أذكر ياسين.
وأمّا صاد فلا تحتاج إلى أن تجعله اسما أعجميّا، لأنَّ هذا البناء والوزن من كلامهم، ولكنَّه يجوز أن يكون اسما للسُّورة فلا تصرفه.
ويجوز أيضاً أن يكون ياسين وصاد اسمين غير متمكنين، فيلزمان الفتح، كما ألزمت الأسماء غير المتمكّنة الحركات، نحو: كيف، وأين، وحيث، وأمس.
وأمّا طسم فإن جعلته اسما لم يكن بدٌّ من أن تحرَّك النون، وتصيَّر ميما كأنك وصلتها إلى طاسين، فجعلتها اسما واحداً بمنزلة دراب جرد وبعل بكَّ. وإن شئت حكيت وتركت السواكن على حالها.
وأما كهيعص والمر فلا يكنَّ إلاَّ حكاية. وإن جعلتها بمنزلة طاسين لم يجز لأنهم لم يجعلوا طاسين كحضرموت ولكنهم جعلوها بمنزلة: هابيل، وقابيل، وهاروت.
وإن قلت: أجعلها بمنزلة: طاسين ميم لم يجز، لأنَّك وصلت ميماً إلى طاسين، ولا يجوز أن تصل خمسة أحرف فتجعلهنّ اسماً واحدا.
وإن قلت: أجعل الكاف والهاء اسماً، ثم أجعل الياء والعين اسماً، فإذا صارا اسمين ضممت أحدهما إلأى الآخر فجعلتها كاسم واحدا، لم يجز ذلك لأنَّه لم يجيء مثل حضرموت في كلام العرب موصولا بمثله. وهذا أبعد، لأنك تريد أن تصله بالصاد.
فإن قلت: أدعه على حاله وأجعله بمنزلة إسماعيل لم يجز؛ لأنَّ إسماعيل قد جاء عدة حروف على عدّة حروف أكثر العربية، نحو: اشهيباب. وكهيعص ليس على عدّة خروفه شيء، ولا يجوز فيه إلاَّ الحكاية.
وأما نون فيجوز صرفها في قول من صرف هنداً، لأن النون تكون أنثى فترفع وتنصب.
ومما يدلُّ على أن حاميم ليس من كلام العرب أنّ العرب لا تدري ما معنى حاميم. وإن قلت: إنَّ لفظ حروفه لا يشبه لفظ حروف الأعجمي فإنّه قد يجيء الاسم هكذا وهو أعجمي، قالوا: قابوس ونحوه من الأسماء.
باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفاً ولا أسماءً غير ظروف؛ ولا أفعالا فالعرب تختلف فيها، يؤنثها بعض ويذكِّرها بعض، كما أن اللَّسان يذكَّر ويؤنَّث، زعم ذلك يونس، وأنشدنا قول الراجز:
كافاً وميمين وسيناً طاسما
فذكَّر ولم يقل: طاسمةً. وقال الراعي:
كما بيِّنت كاف تلوح وميمها
فقال: بيِّنت فأنّث

وأما إنَّ وليت، فحرّكت أواخرهما بالفتح، لأنَّهما بمنزلة الأفعال نحو كان فصار الفتح أولى، فإذا صيّرت واحداً من الحرفين اسماً للحرف فهو ينصرف على كلّ حال. وإن جعلته اسماً للكلمة وأنت تريد بلغة من ذكر لم تصرفها، كما لم تصرف امرأة اسمها عمرو، وإن سمّيتها بلغة من أنّث كنت بالخيار. ولا بدَّ لكلِّ واحدٍ من الحرفين إذا جعلته اسماً أن يتغيّر عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون اسما، كما أنَّك إذا جعلت فعل اسما تغيّر عن حاله وصار بمنزلة الأسماء، وكما أنَّك إذا سمَّيته بافعل غيرته عن حاله في الأمر. قال الشاعر: وهو أبو طالب:
ليت شعري مسافر بن أبي عم ... رو وليت يقولها المحزون
وسألت الخليل عن رجل سمَّيته أنَّ فقال: هذا أنَّ لا أكسره، وأنَّ غير إنَّ: إنَّ كالفعل وأنَّ كالاسم. ألا ترى أنَّك تقول: علمت أنك منطلق فمعناه: علمت انطلاقك، ولو قلت هذا لقلت لرجل يسمَّى بضارب: يضرب، ولرجل يسمّى يضرب: ضارب. ألا ترى أنَّك لو سميته بإن الجزاء كان مكسورا، وإن سميته بأن التي تنصب الفعل كان مفتوحاً.
وأما لو، وأو، فهما ساكنتا الأواخر، لأن قبل آخر كل واحدٍ منهما حرفا متحركا، فإذا صارت كلُّ واحدة منهما اسماً، فقصتّها في التأنيث والتذكير والانصراف، كقصة ليت وإنَّ، إلاَّ أنَّك تلحق واواً أخرى فتثقل؛ وذلك لأنَّه ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها حرف مفتوح.
قال الشاعر، أبو زبيد:
ليت شعري وأين منِّي ليت ... إن ليتاً وإنَّ لوا عناء
وقال:
ألام على لوٍّ ولو كنت عالماً ... بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله
وكان بعض العرب يهمز، كما يهمز النؤور، فيقول: لوء. وإنَّما دعاهم إلى تثقيل لوٍّ الذي يدخل الواو من الإجحاف لو نوَّنت وما قبلها متحرّك مفتوح، فكرهوا أن لا يثقِّلوا حرفاً لو انكسر ما قبله أو انضمَّ ذهب في التنوين، ورأوا ذلك إخلالاً لو لم يفعلوا.
فممَّا جاء فيه الواو وقبله مضموم: هو، فلو سمَّيت به ثقَّلت، فقلت: هذا هوٌّ وتدع الهاء مضمومة، لأنَّ أصلها الضمُّ تقول: هما وهم وهنَّ.
ومما جاء وقبله مكسور: هي، فإن سمّيت به رجلاً ثقلّته، كما ثقلّت هو. وإن سمّيت مؤنثاً بهو لم تصرفه لأنه مذكّر.
ولو سمّيت رجلاً ذو لقلت: هذا ذواً، لأن اصله فعلٌ. إلا ترى أنك تقول: هاتان ذواتا مالٍ. فهذا دليلٌ على أن ذو فعلٌ، كما أنَّ أبوان دليل على أن أباً فعلٌ.
وكان الخليل يقول: هذا ذوٌّ بفتح الذال، لأنَّ أصلها الفتح، تقول: ذوا، وتقول: ذوو.
وأمَّا كي فتثقَّل ياؤها لأنهّ ليس في الكلام حرف آخره ياء ما قبله مفتوح. وقصَّتها كقصَّة لوّ.
وأمَّا في فتثقَّل ياؤها، لأنهَّا لو نوّنت أجحف بها اسماً. وهي كياء هي وكواو هو، وليس في الكلام اسم هكذا، ولم يبلغوا بالأسماء هذه الغاية أن تكون في الوصل لا يبقى منها إَّلا حرف واحد، فإذا كانت اسماً لمؤنّث لا ينصرف ثقّلت أيضاً؛ لأنه إذا اثر أن يجعلها اسماً فقد لزمها أن تكون نكرة وان تكون اسماً لمذكَّر، فكأنَّهم كرهوا أن يكون الاسم في التذكير والنكَّرة على حرف، كما كرهوا أن يكون كذلك في الوصل. وليس من كلامهم أن يكون في الانصراف والوصل على بناء وفي غير الانصراف والوصل على آخره، فصار الاسم لغير منصرف يجيء على بنائه إذا كان اسماً لمنصرف، ومن ثمَّ مدَّوا لا وفي في الانصراف وغير الانصراف، والتأنيث والتذكير، ككي ولو، وقصتها كقصتَّهما في كل شيء.
وإذا صارت ذا اسماً أو ما مدَّت، ولم تصرف واحداً منهما إذا كان اسم مؤنث، لأنهما مذكران. فأمَّا لا فتمدهُّا، وقصتها قصَّة في ، في التذكير والتأنيث، والانصراف وتركه.
وسألته عن رجل اسمه: فو، فقال: العرب قد كفتنا أمر هذا، لما أفردوه قالوا: فمٌ، فأبدلوا الميم مكان الواو، حتَّى يصير على مثال تكون الأسماء عليه، فهذا البدل بمنزلة تثقيل لوًّ ليشبه الأسماء فإذا سميتَّه بهذا فشبهه بالأسماء كما شبهت العرب ولو لم يكونوا قالوا: فم لقلت : فوه لأنَّه من الهاء قالوا: أفواه كما قالوا سوط و أسواط .

وأما البا والتا والثا واليا والحا والخا والرا والطا والظا والفا فإذا صرن أسماء فهنّ مددن كما مدت لا مدت إلا أنهن إذا كن أسماء يجرين مجرى رجل ونحوه، و يكنَّ نكرةً بغير ألف ولام. ودخول الالف واللام فيهنَّ يدلك على أنهن نكرة إذا لم يكن فيهن ألف ولام، فأحريت هذه الحروف مجرى ابن مخاضٍ وابن لبونٍ، وأجريت الحروف الاول مجرى سامّ ابرص وأمّ حبين ونحوهما. ألا ترى أن الألف واللام لا تدخلان فيهن.
واعلم أن هذه الحروف إذا تهجّيت مقصورةٌ، لأنها ليست بأسماء وإنمَّا جاءت في الَّتهجيَّ على الوقف. ويدلك على ذلك: أن القاف والصاد والدال موقوفة الأواخر، فلولا أنهَّا على الوقف حرّكت أواخرهن. ونظير الوقف ههنا الحذف في الباء وأخواتها. وإذا أردت أن تلفظ بحروف المعجم قصرت وأسكنت، لأنك لست تريد أن تجعلها أسماء، ولكنك أردت أن تقطع حروف الاسم، فجاءت كأنها أصواتٌ يصوت بها، إّلا أَّنك تقف عندها لأنها بمنزلة عه.
فإن قلت ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشمُّ الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف؟ فلأنًّ الواحد اسم متمكّن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج، وليس أصلها الإدراج، وهي ههنا بمنزلة لا في الكلام، إَّلا أنهَّا ليست تدرج عندهم؛ وذلك لأنّ لا في الكلام على غير ما هي عليه إذا كانت اسما.
وزعم من يوثق به: أنهَّ سمع من العرب من يقول: ثلاثة أربعة، طرح همزة أربعة على الهاء ففتحها، ولم يحوّلها تاءً، لأنهَّ جعلها ساكنة، والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
واعلم أنَّ الخليل كان يقول: إذا تهجَّيت فالحروف حالها كحالها في المعجم والمقَّطع،تقول:لام ألف، وقاف لام. قال: تكتبّان في الطريق لام ألف وأمَّا زاي ففيها لغتان: فمنهم من يجعلها في التهجي ككي، ومنهم من يقول:زاي،فيجعلها بزنة واو، وهي أكثر.
وأمَّا أم ومن وإن، ومذ في لغة من جرّ،وأن، وعن إذا لم تكن ظرفا، ولم ونحوهن إذا كنَّ أسماءً لم تغيرَّ، لأنَّها تشبه الأسماء نحو: يدٍ، ودمٍ، تجريهنَّ إن شئت إذا كن أسماءً للتأنيث.
وأمّا نعم وبئس ونحوهما فليس فيهما كلامٌ، لأنهما لا تغيران لأنَّ عامّة الأسماء على ثلاثة أحرف. ولا تجريهن إذا كن أسماءً للكلمة، لأنَّهن أفعال، والأفعال على التذكير، لأنهَّا تضارع فاعلاً.
واعلم أنك إذا جعلت حرفاً من حروف المعجم نحو: البا والتا وأخواتهما اسماً للحرف أو للكلمة أو لغير ذلك جرى مجرى لا إذا سمّيت بها، تقول: هذا باءٌ كما تقول: هذا لاءٌ فاعلم.
باب تسميتك الحروف بالظروف وغيرها من الأسماء اعلم أنَّك إذا سميّت كلمة بخلف أو فوق أو تحت لم تصرفها، لأنهَّا مذكَّرات. ألا ترى انّك تقول: تحيت ذاك،وخليف ذاك، ودوين ذاك. ولو كنّ مؤنّثاتٍ لدخلت فبهن الهاء، كما دخلت في قد يديمةٍ ووريئّةٍ.
وكذلك قبل وبعد، تقول: قبيل وبعيد. وكذلك أين وكيف ومتى عندنا، لأنَّها ظروف، وهي فيعندنا على التذكير، وهي الظروف بمنزلة ما ومن في الأسماء، فنظيرهنَّ من الأسماء غير الظروف مذكّر. والظروف قد تبيَّن لنا أن أكثرها مذكّر حيّث حقّرت، فهي على الأكثر وعلى نظائرها.
وكذلك إذ،هي كالحين وبمنزلة ما هو جوابه، وذلك متى.
وكذلك ثمَّ وهنا، هما بمنزلة أين، وكذلك حيث، وجواب أين كخلف ونحوها.
وأمّا أمام فكلُّ العرب تذكَّره. أخبرنا بذلك يونس.
وأمّا إذا ولدن فكعند، ومثلهن عن فيمن فال: من عن يمينه. وكذلك منذ في لغة من رفع، لأنهَّا كحيث.ولو لم تجد في هذا الباب ما يؤكّد التذكير لكان أن تحمله على التذكير أولى حتىَّ يتبينّ لك أنه مؤنّث.
وأمّا الأسماء غير الظروف فنحو بعض، وكلّ، وأيّ، وحسب. ألا ترى أنَّك تقول: أصبت حسبي من الداء.
وقط كحسب، وإن لم تقع في جميع مواقعها.ولو لم يكن اسماً لم تقل: قطك درهمان، فيكون مبنيّا عليه، كما أنَّ علي بمنزلة فوق وإن خالفتها في أكثر الواضع. سمعنا من العرب من يقول: نهضت من عليه، كما تقول: نهضت من فوقه.
واعلم أنهَّم إنمَّا قالوا: حسبك درهمٌ، وقطك درهمٌ، فأعربوا حسبك لانهَّا أشد تمكنّا. ألا ترى أنهَّا تدخل عليها حروف الجرّ، تقول: بحسبك، وتقول: مررت برجلٍ حسبك، فتصف به. وقط لا تمكَّن هذا التمكَّن.

واعلم أنَّ جميع ما ذكرنا لا ينصرف منه شيءٌ إذا كان اسماً للكلمة، وينصرف جميع ما ذكرنا في المذكّر، إلاّ أن وراء وقدّام لا ينصرفان، لأنهَّما مؤنثّان.
وأمّا ثمَّ وأين وحيث ونحوهنّ إذا صيرن اسماً لرجل أو امرأة أو حرفٍ أو كلمة، فلا بد لهنَّ من أن يتغيرّن عن حالهنَّ ويصرن بمنزلة زيد وعمرو، لأنَّك وضعتهن بذلك الموضع، كما تغيرّت ليت وإنَّ.فإن أردت حكاية هذه الحروف تركتها على حالها قال: " إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال " ، ومنهم من يقول: عن قبل وقالٍ، لماّ جعله اسماً. قال ابن مقبل:
أصبح الدهر وقد ألوي بهم ... غير تقوالك من قيلٍ وقال
و القوافي مجرورة. قال:
ولم أسمع به قيلاً وقالا
وفي الحكاية قالوا: مذشبَّ إلى دبَّ، وإن شئتٍّ: مذشبٍّ إلى دب: وتقول إذا نظرت في الكتاب: هذا عمروٌ، وإنمَّا المعنى هذا اسم عمرو وهذا ذكر عمروٍ، ونحو هذا، إّلا أنَّ هذا يجوز على سعة الكلام، كما تقول: جاءت القرية. وإن شئت قلت: هذه عمروٌ،أي هذه الكلمة اسم عمرو، كما تقول: هذه ألفٌ وأنت تريد هذه الدراهم الفٌ. وإن جعلته اسماً للكلمة لم تصرفه، وإن جعلته للحرف صرفته.
وأبو جادٍ وهوّازٌ وحطّيٌّ، كعمروٍ وفي جميع ما ذكرنا، وحال هذه الأسماء حال عمروٍ. وهي أسماءٌ عربيّة، وأمَّا كلمن وسعفص وقريشيات فإنهنَّ أعجمية لا ينصرفن، ولكنهَّن يقعن مواقع عمروٍ وفيما ذكرنا، إّلا أنَّ قريشيات بمنزلة عرفاتٍ وأذرعاتٍ. فإمَّا الألف وما دخلته الألف واللام فإنمَّا يكنَّ معارف بالألف واللام، كما أنَّ الرجل لا يكون معرفة بغير ألف ولام.
باب ما جاء معدولا عن حده من المؤنّث كما جاء المذكّر معدولاً عن حدّه نحو: فسق، ولكع، وعمر، وزفر وهذا المذكّر نظير ذلك المؤنّث.
فقد يجيء هذا المعدول اسماً للفعل، واسماً للوصف المنادّى المؤنّث، كما كان فسق ونحوه المذكّر، وقد يكون اسماً للوصف غير المنادى وللمصدر ولا يكون إلاَّ مؤنّثاً لمؤنّث. وقد يجيء معدولاً كعمر، ليس اسماً لصفة ولا فعلٍ ولا مصدرٍ.
أمّا ما جاء اسماً للفعل وصار بمنزلته فقول الشاعر:
مناعها من إبل مناعها ... ألا ترى الموت لدى ارباعها
تراكها من إبل تراكها ... ألا ترى الموت لدى أوراكها
وقال أبو النجم:
حذار من أرماحنا حذار
وقال رؤبة:
نظار كي أركبها نظار
ويقال: نزال، أي انزل. وقال زهير:
ولنعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجَّ في الذَّعر
ويقال للضَّبع: دباب، أي دبّي. قال الشاعر:
نعاء ابن ليلى للسمَّاحة والنَّدى ... وأيدي شمالٍ باردات الأنامل
وقال جرير:
نعاء أبا ليلى لكلّ طمرةٍ ... وجرداء مثل القوس سمحٍ حجولها
فالحدّ في جميع هذا أفعل ولكنه معدول عن حده وحرك آخره لأنه لا يكون بعد الألف ساكن. وحرّك بالكسر، إنَّ الكسر مما يؤنّث به. تقول: إنّك ذاهبة وأنت ذاهبة، وتقول: هاتي هذا للجارية، وتقول: هذي أمة الله، واضر. إذا أردت المؤنّث، وإنَّما الكسرة من الياء.
ومما جاء من الوصف منادّى وغير منادّى: يا خباث وبالكاع. فهذا اسم للخبيثة وللَّكعاء ومثل ذلك قول الشاعر، النابغة الجعدي:
فقلت لها عيثي جعار وجرِّري ... بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره.
وإنَّما هو اسم للجاعرة، وإنَّما يريد بذلك الضَّبع. ويقال لها: فثام، لأنَّها تقثم أي تقطع. وقال الشاعر:
لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرِّقاب ولا يهمُّ المغنم
فحلاق معدول عن الحالقة، وإنَّما يريد بذلك المنيّة لأنها تحلق. وقال الشاعر، مهلهل:
ما أرجّى بالعيش بعد ندامى ... قد أراهم سقوا بكأس حلاق
فهذا كلّه معدول عن وجهه وأصله، فجعلوا آخره كآخر ما كان للفعل، لأنَّه معدول عن اصله، كما عدل: نظار وحذار وأشباههما عن حدّهن، وكلهن مؤنّث، فجعلوا بابهنَّ واحدا.
فإن قلت: ما بال فسق ونحوه لا يكون جزما كما كان هذا مكسورا؟ فإنَّما ذلك لم يقع في موضع الفعل فيصير بمنزلة: صه، ومه ونحوهما، فيشبَّه ها هنا به في ذلك الموضع. وإنَّما كسروا فعال ها هنا، لأنَّهم شبّهوها بها في الفعل.
ومما جاء اسماً للمصدر قول الشاعر النابغة:

إنّا اقتسمنا خطَّتينا بيننا ... فحملت برّة واحتملت فجار
ففجار معدول عن الفجرة. وقال الشاعر:
فقال أمكثي حتَّى يسار لعلنا ... نحجُّ معاُ قالت: أعاماً وقابله
فهي معدولة عن الميسرة. وأجرى هذا الباب مجرى الذي قبله أنه عدل كما عدل، ولأنَّه مؤنّث بمنزلته. وقال الشاعر الجعديّ:
وذكرت من لبن المحلَّق شربةً ... والخيل تعدو بالصعَّيد بداد
فهذا بمنزلة قوله: تعدو بدداً، إَّلا أنَّ هذا معدولٌ عن حدّه مؤنثّا.
وكذلك عدلت عليه مساس. والعرب تقول: أنت لا مساس، ومعناه لا تمسنُّي ولا أمسُّك. ودعني كفاف، فهذا معدول عن مؤنّث وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المؤنّث الذي عدل عنه بداد وأخواتها.
ونحو ذا في كلامهم. ألا تراهم قالوا:ملامح ومشابه وليالٍ، فجاء جمعه على حدِّ ما لم يستعمل في الكلام، لا يقولون: ملمحة ولا ليلاة. ونحو ذا كثير. قال الشاعر، الملتمس:
جماد لها جماد ولا تقولي ... طوال الدهر ما ذكرت حماد
فهذا بمنزلة جموداً؛ ولا تقولي: حماد عدل عن قوله: حمداً لها، ولكنه عدل عن مؤنّث كبداد.
وأمّا ما جاء معدولاً عن حدّه من بنات الأربعة فقوله:
قالت:له ريح الصَّبا قرقار
فإنَّما يريد بذلك قال له: قرقر بالرَّعد للسَّحاب ،وكذلك عرعار، وهو بمنزلة قرقار، وهي لعبة وإنمَّا هي من عرعرت. ونظيرها من الثلاثة خراج، أي اخرجوا، وهب لعبة أيضاً.
واعلم أنَّ جميع ماذكرنا إذا سميّت به امرأةً فإنَّ بني تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسمٍ لا ينصرف؛ وهو القياس، لأنَّ هذا لم يكن اسماً علما، فهو عندهم بمنزلة الفعل الذي يكون فعال محدوداً عنه، وذلك الفعل افعل؛ لأن فعال لا يتغّير عن الكسر، كما أنَّ افعل لا يتغير عن حال واحدة. فإذا جعلت افعل اسماً لرجل أو امرأة تغَّير وصار بمنزلة الأسماء، فينبغي لفعال التي هي معدولة عن افعل أن تكون بمنزلة بل هي أقوى. وذلك أنَّ فعال اسمٌ للفعل، فإذا نقلته إلى الإسم إلى شيء هو مثله والفعل إذا نقلته إلى الاسم إلى الاسم نقلته إلى الاسم نقلته إلى شيء هو منه أبعد.
وكذلك كلّ فعال إذا كانت معدولة عن غير افعل إذا جعلتها اسماً، لأنَّك إذا جعلتها علماً فأنت لا تريد ذلك المعنى. وذلك نحو حلاق التي هي معدولة عن الحالقة، وفجار التي هي معدولة عن الفجرة، وما أشبه هذا. ألا ترى أنَّ بني تميم يولون: هذه قطام وهذه حذام؛ لأنَّ هذه معدولة عن حاذمة، وقطام معدولة عن قاطمة أو قطمة وإنمَّا كل واحدةٍ منهما معدولةٌ عن الاسم هو علم ليس عن صفة، كما أن عمر معدول عن عامرٍ علماً لا صفةً. لولا ذلك لقلت: هذا العمر، تريد: العامر.
وأمّا أهل الحجاز فلمّا رأوه اسماً لمؤنّث ورأوا ذلك البناء على حاله لم يغيِّروه؛ لانَّ البناء واحد، وهو ههنا اسم للمؤنّث كما كان ثمَّ اسماً للمؤنث، وهو ههنا معرفة كما كان ثمَّ، ومن كلامهم أن يشبهٍّوا الشيء بالشيء، وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنه ما قد مضى.
فأمّا ما كان آخره راءً فإنَّ أهل الحجاز وبني تميم فيه متفّقون، ويختار بنو تميم فيه لغة أهل الحجاز كما اتفقوا في يرى، والحجازيّة هي اللغة الأولى القدمى.
فزعم الخليل: إن إجناح الألف أخفُّ عليهم، يعني: الإمالة، ليكون العمل من وجهٍ واحد، فكرهوا ترك الخفّة وعلموا أنهَّم إن كسروا الراء وصلوا إلى ذلك، وأنهَّم إن رفعوا لم يصلوا.
وقد يجوز أن ترفع وتنصب ما كان في آخره الراء. قال الأعشى:
ومرَّ دهرٌ على وبار ... فهلكت جهرةً وبار
والقوافي مرفوعة.
فممّا جاء وآخره راءٌ: سفار وهو اسم ماء، وحضار وهو اسم كوكب،ولكنَّهما مؤنثان كماويّة والشِّعري، كأنَّ تلك اسم الماءة وهذه اسم الكوكبة.
وممّا يدلَّك على أن فعال مؤنّثة قوله: دعيت نزال، ولم يقل دعي نزال وأنهم لا يصرفون رجلا سموه رقاش وحذام ويجعلونه بمنزلة رجل سموه يضق وأعلم أن جميع ما ذكر في هذا الباب من فقال ما كان منه بالراء وغير ذلك إذا كان شيء منه اسماً لمذكر لم ينجزّ أبدا، وكان المذكر في هذا بمنزلته إذا سمّي بعناقٍ، لأنَّ هذا البناء لا يجيء معدولاً عن مذكّر فيشبَّه به.

تقول: هذا حذام ورأيت حذام قبل، ومررت بحذام قبل سمعت ذلك ممن يوثق بعلمه.
وإذا كان جميع هذا نكرةً انصرف كما ينصرف عمر في النكرة، لأنَّ ذا لا يجيء معدولاً عن نكرة.
ومن العرب من يصرف رقاش وغلاب إذا سمّي به مذكَّرا، لا يضعه على التأنيث، بل يجعله اسماً مذكرّا كأنه سمّي رجلاً بصباح.
وإذا كان الاسم على بناء فعال نحو: حذامٍ ورقاش،لا تدري ما اصله أمعدولٌ أم غير معدول، أم مؤنّث أم مذكّر، فالقياس فيه أن تصرفه؛ لأنَّ الأكثر من هذا البناء مصروف غير معدولٍ، مثل: الذَّهاب، والصَّلاح والفساد، والربَّاب.
واعلم أنّ فعال جائزة من كل ما كان على بناء فعل أو فعل أو فعل، ولا يجوز من أفعلت، لأنا لم نسمعه من بنات الأربعة، إلاَّ أن تسمع شيئاً فتجيزه فيما سمعت ولا تجاوزه. فمن ذلك: قرقار وعرعار.
واعلم أنَّك إذا قلت: فعال وأنت تأمر امرأةً أو رجلاً أو أكثر من ذلك، أنَّه على لفظك إذا كنت تأمر رجلاً واحداً. ولا يكون ما بعده إلاّ نصباً؛ لان معناه افعل كما أنَّ ما بعد افعل لا يكون إلاّ نصباً. وإنما منعهم أن يضمروا في فعال الاثنين والجميع والمرأة، لأنهَّ ليس بفعل، وإنما هو اسمٌ في معنى الفعل.
واعلم أن فعال ليس بمطّرد في الصفات نحو: حلاق، ولا في مصدر نحو: فجار، وإنَّما يطّرد هذا الباب في النداء وفي الأمر.
باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علامات خاصّة وذلك: ذا، وذي، وتا، وألا، وألاء وتقديرها أولاع. فهذه الأسماء لما كانت مبهمة تقع على كلّ شكل شيء، وكثرت في كلامهم، خالفوا بها ما سواها من الأسماء في تحقيرها وغير تحقيرها، وصارت عندهم بمنزلة لا وفي نحوها، وبمنزلة الأصوات نحو: غاق وحاء. ومنهم من يقول: غاقٍ وأشباهها؛ فإذا صار اسماً عمل فيه ما عمل بلا؛ لأنَّك قد حوّلته إلى تلك الحال كما حولت لا.
وهذا قول يونس والخليل ومن رأينا من العلماء، إلاّ أنكّ لا تجري ذا اسم مؤنّث لأنه مذكّر إلاّ في قول عيسى، فإنهّ كان يصرف امرأة سميتّها:بعمرو.
وأم ذي فبمنزلة: في، وتا بمنزلة: لا.
وأمّا آلاء فتصرفه اسم رجل وترفعه وتجّره وتنصبه، وتغيّره كما غيرّت هيهات لو سميّت رجلاً به، وتصرفه لأنّه ليس فيه شيء مما لا ينصرف به.
وأمّا ألا فبمنزلة: هدًي منوَّنا، وليس بمنزلة: حجا ورمي لأنَّ هذين مشتقّان، وألا ليس بمشتقّ ولا معدولا، وإنَّما ألا وآلاء بمنزلة: البكا والبكاء، إنمَّا هما لغتان.
وأمَّا الذي فإذا سميّت به رجلا أو بالتّي أخرجت الألف واللام لأنك تجعله علماً له، ولست تجعله ذلك الشيء بعينه كالحارث، ولو أردت ذلك لأثبتّ الصلة. وتصرفه وتجربه مجري عمٍ.
وأمّا اللائي واللاتي فبمنزلة: شآتي وضاري، وتحرج منه الألف واللام. ومن حذف الياء رفع وجرَّ ونصب أيضاً، لأنه بمنزلة الباب. فمن أثبت الياء جعلها بمنزلة قاضي، وقال فيمن قال: اللاء ولاء، لأنه يصيرها بمنزلة بابٍ حرف الأعراب العين، وتخرج الألف واللام هاهنا كما أخرجتهما في الذي وكذلك: ألا في معنى الذين بمنزلة: هديٍ.
وسألت الخليل: عن ذين اسم رجل فقال: هو بمنزلة رجلين ولا أغيِّره لأنه لا يختلُّ الاسم لأن يكون هكذا.
وسألته: عن رجل سمَّي بأولي من قوله:نحن أولو قوَّةٍ وأولو بأسٍ شديد،أو بذوي، فقال:أقول هذا ذوون، وهذا ألون، لأني لم أضف، وإنما ذهبت النون في الإضافة. وقال الكميت:
فلا اعني بذلك أسفليكم ... ولكني أريد به الذوينا
قلت: فإذا سميّت رجلا بذي مالٍ هل تغيره؟ قال لا، ألا تراهم قالوا: ذو يزنٍ منصرف، فلم يغيّروه كأبي فلانٍ، فذا من كلامهم مضاف؛ لأنهَّ صار المجرور منتهى الاسم، وأمنوا التنوين وخرج من حال التنوين حيث أضفت، ولم يكن منتّهى الاسم، واحتملت الإضافة ذا كما احتملت أبازيدٍ، وليس مفردٌ آخره هكذا فاحتملته كما احتملت الهاء عرقوةٌ.
وسألته عن أمسٍ اسم رجل؟ فقال: مصروفٌ؛ لأن أمس ليس هاهنا على الحد ولكنَّه لما كثر في كلامهم وكلن من الظروف تركوه على حالٍ واحدة، كما فعلوا ذلك باين؛ وكسروه كما كسروا غاق، إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب، كما أنَّ حركة غاق لغير إعراب. فإذا صار اسماً لرجل انصرف؛ لأنكَّ قد نقلته إلى غير ذلك الموضع، كما أنكَّ إذا سميّت بغلق صرفته. فهذا يجري مجرى هذا، كما جرى ذا مجرى لا.

واعلم أنَّ بني تميم يقولون في موضع الرفع: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، فلا يصرفون في الرَّفع، لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عن ما ينبغي له أن يكون عليه في القياس. ألا ترى أنَّ أهل الحجاز يكسرونه في كلّ المواضع، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في النصب والجر، فلمّا عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه تركوا صرفه كما تركوا صرف آخر حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها، وكما تركوا صرف سحر ظرفاً؛ لأنه إذا كان مجروراً أو مرفوعاً أو منصوبا غير ظرف لم يكن معرفةً إلا وفيه الألف واللام، أو يكون نكرةً إذا أخرجتا منه، فلمّا صار معرفةً في الظرف بغير ألف ولام خالف في هذه المواضع، وصار معدولاً عندهم كما عدلت أخر عندهم.فتركوا صرفه في هذا الموضع كما ترك صرف أمس في الرفع.
وإن سميّت رجلاً بأمس في هذا القول صرفته، لأنهَّ لا بد لك من أن تصرفه في الجرّ والنصب، لأنهّ في الجّر والنصب مكسورٌ في لغتهم، فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرَّفع، لأنك تدخله في الرفع وقد جرى له الصَّرف في القياس في الجرّ والنصب؛ لأنكَّ لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفاً للقياس. ولا يكون أبداً في الكلام اسمٌ منصرف في الجرّ والنصب ولا ينصرف في الرفع. وكذلك سحر اسم رجل تصرفه، وهو في الرجل أقوى؛ لانه لا يقع ظرفاً ولو وقع اسم شيء وكان ظرفاً.صرفته وكان كأمس لو كان أمس منصوبا غير ظرف مكسورٍ كما كان.
وقد فتح قوم أمس في مذ لمّا رفعوا وكانت في الجرّ هي التي ترفع، شَّبهوها بها. قال:
لقد رأيت عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل السَّعالي خمسا
وهذا قليل.
وأمّا ذه اسم رجل فأنَّك تقول: هذا ذهٌ قد جاء، والهاء بدل من الياء في قولك ذي أمة الله كما أنّ ميم فمٍ بدلٌ من الواو. والياء التي في قولك: ذهي أمة الله، إنمّا هي ياءٌ ليست من الحرف، وإنما هي لبيان الهاء. فإذا صارت اسماً لم تحتج إلى ذلك لمّا لزمتها الحركة والتنوين، والدَّليل على ذلك أنَّك إذا سكت: ذه.
وسمعنا العرب الفصحاء يقولون: ذه أمة الله، فيسكنون الهاء في الوصل كم يقولون: بهم في الوصل.
هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة وذلك لأنهَّا لا تضاف ولا تصرَّف تصرَّف غيرها، ولا تكون نكرة. وذاك: أين، ومتى، وكيف، وحيث، وإذ، وإذا، وقبل، وبعد. فهذه الحروف وأشباهها لمّا كانت مبهمة غير متمكّنة شبِّهت بالأصوات وبما ليس باسمٍ ولا ظرف. فإذا التقى في شيء منها حرفان ساكنان حركوا الآخر منهما. وإن كان الحرف الذي قبل الآخر متحرَّكا أسكنوه كما قالوا: هل، وبل، وأجل، ونعم، وقالوا: جير فحرّكوه لئّلا يسكن حرفان.
فأمّا ما كان غايةً نحو: قبل، وحيث فإنَّهم يحرّكونه بالضمّة. وقد قال بعضهم: حيث، شبهَّوه بأين. ويدلَّك على أن قبل وبعد غير متمكنّين انه لا يكون فيهما مفردينٍ ما يكون فيهما مضافين؛ لا تقول: قبل وأنت تريد أن تبني عليها كلاما، ولا تقول: هذا قبل ، كما تقول: هذا قبل العتمة، فلمّا كانت لا تمكَّن، وكانت تقع على كلّ، شبهّت حين بالأصوات وهل وبل؛ لأنهَّا ليست متمكنة.
وجزمت لدن ولم تجعل كعند لأنَّها لا تمكن في الكلام تمكّن عند ولا تقع في جميع مواقعه، فجعل بمنزلة قط لأنها غير متمكنّة.
وكذلك قط وحسب، إذا أردت ليس إلاَّ وليس إَّلا وليس إَّلا ذا.وذا بمنزلة قطُّ إذا أردت الزمان، لماّ كنّ غير متمكنّات فعل بهنَّ ذا. وحركوا قطُّ وحسب بالضمّة لأنهمَّا غايتان. فحسب للانتهاء، وقط كقولك: منذ كنت.
وأمّا لد فهي محذوفةً، كما حذفوا يكن. ألا ترى أنَّك إذا أضفت إلى مضمر رددته إلى الأصل، تقول: من لدنه ومن لدنّي؛ فإنمَّا لدن كعن.
وسألت الخليل عن معكم ومع، لأيِّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنَّها استعملت غير مضافة أسماً كجميع، ووقعت نكرة، وذلك قولك: جاءا معاً وذهبا معاً وقد ذهب معه، ومن معه، صارت ظرفاً، فجعلوها بمنزلة: أمام وقداَّم. قال الشاعر فجعلها كهل حين اضطرّ، وهو الراعي:
وريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
وأمّا منذ فضمّت لأنهَّا للغاية، ومع ذا أنّ من كلامهم أن يتبعوا الضمَّ الضمَّ، كما قالوا:ردُّ يافتى.

وسألت الخليل عن من عل،هلاّ جزمت اللام؟ فقال: لأنهَّم قالوا: من علٍ، فجعلوها بمنزلة المتمكّن، فأسبه عندهم من معالٍ، فلمّا أرادوا أن يجعل بمنزلة قبل وبعد حرَّكوه كما حرّكوا أوَّل فقالوا: ابدأ بهذا أوَّل، كما قالوا: يا حكم أقبل في النداء؛ لأنهَّما لمّا كانت أسماءً متمكنةً كرهوا أن يجعلوها بمنزلة غير المتمكنة، فلهذه الأسماء من التمكن ماليس من التمكن ما ليس لغيرها، فلم يجعلوها في الإسكان بمنزلة غيرها وكرهوا أن يخلوا بها. وليس حكم و أوَّل ونحوهما كالذَّي ومن؛ لأنهَّا لا تضاف ولا تتم اسماً، ولا تكون نكرةً، ومن أيضاً لا تتم اسماً في الخبر، ولا تضاف كما تضاف أيٌ، ولا تنوَّن كما تنوَّن أيٌّ.
وجميع ما ذكرنا من الظروف التي شبهّت بالأصوات ونحوها من الأسماء غير الظروف إذا جعل شيء منها اسماً لرجل أو امرأة تغيَّر، كما تغيَّر لو وهل وبل وليت، كما فعلت ذلك بذا وأشباهها؛ لأنّ ذا قبل أن تكون اسما خاصّاً كمن، في أنهَّ لا يضاف ولا يكون نكرةً، فلم يتمكّن تمكُّن غيره من الأسماء.
وسالت الخليل عن قولهم: مذ عامٌ أوَّل، ومذ عامٍ أوَّل فقال: أوَّل ههنا صفة، وهو أفعل من عامك، ولكنَّهم ألزموه هنا الحذف استخفافاً، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة أفضل منك.وقد جعلوه اسماً بمنزلة أفكّلٍ، وذلك قول العرب: ما تركت له أولاً ولا آخراً، وأنا أوَّل منه، ولم يقل رجلٌ أوَّل منه، فلمَّا جاز فيه هذان الوجهان أجازوا أم يكون صفةً وأن يكون اسماً. وعلى أيّ الوجهين جعلته اسماً لرجل صرفته اسماً في النكرة. وإذا قلت عامٌ أوَّل فإنما جاز هذا الكلام لأنك تعلم به أنك تعني العام الذي يليه عامك، كما أنَّك إذا قلت أوَّل من أمس أو بعد غدٍ فإنمَّا تعني الذي يليه أمس والذي يليه غدٌ. وأمّا قولهم: ابدأ به أوَّل وابدأ بها أوَّل فإنمَّا تريد أيضاّ أوَّل من كذا، ولكن الحذف جائز جيدِّ، كما تقول: أنت أفضل، وأنت تريد من غيرك. إلاَّ أن الحذف لزم صفة عامٍ لكثرة استعمالهم إيّاه حتى استغنوا عنه. ومثل هذا في الكلام كثير. والحذف يستعمل في قولهم: ابدأ به أوَّل اكثر. وقد يجوز أن يظهروه، إلا أنهَّم إذا أظهروه لم يكن إلا الفتح.
وسألته عن قول بعض العرب، وهو قليل: مذ عامٌ أوّل؟ فقال: جعلوه ظرفاً في ها الموضع، فكأنه قال: مذ عامٌ قبل عامك.
وسألته عن قوله: زيد أسفل منك؟ فقال: هذا ظرف، كقوله عزّ وجلّ: " والرَّكب أسفل منكم " كأنه قال: زيدٌ في مكان أسفل من مكانك. ومثل الحذف في أوَّل لكثرة استعمالهم إيّاه قولهم: لا عليك. فالحذف في هذا الموضع كهذا.
ومثله: هل لك في ذلك؟ ومن له في ذلك؟ ولا تذكر له حاجة، ولا لك حاجة ونحو هذا أكثر من أن يحصى قال يا ليتها كانت لإهلي إبلاً أو هزلت في جدب عام أولاً يكون على الوصف والظرف.
وسألته عن قوله: من دونٍ، ومن فوقٍ، ومن تحتٍ، ومن قبلٍ، ومن بعدٍ، ومن دبرٍ؟ ومن خالف؟ فقال: أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنّة، لأنهَّا تضاف وتستعمل غير ظرف. ومن العرب من يقول: من فوق ومن تحت، يشبهّه بقبل وبعد. وقال أبو النجم:
أقبٌّ من تحت عريضٌ من عل
وقال آخر:
لا يحمل الفارس إلاَّ الملبون ... المحض من أمامه ومن دون
وكذلك من أمام ومن قدّامٍ، ومن وراءٍ، ومن قبلٍ، ومن دبرٍ.
وزعم الخليل أنّهنّ نكراتٌ كقول أبي النجم:
يأتي لها من أيمنٍ وأشمل
وزعم أنهّن نكراتٌ إذا لم يضفن إلا معرفة، كما يكون أيمن وأشمل نكرة.
وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه، ويجعلونه كقولك: من يمنةٍ وشأمةٍ، وكما جعلت ضحوةٌ نكرة وبكرة معرفة.
وأمّا يونس فكان يقول: من قدّام، ويجعلها معرفة، وزعم أنهَّ منعه من الصرف أنهَّا مؤنثّة. ولو كانت شأمةٌ كذا لما صرفها وكانت تكون معرفةً. وهذا مذهبٌ، إلاّ أنهَّ ليس يقوله أحدٌ من العرب.
وسألنا العلويّين والتمَّيميّين، فرأيناهم يقولون: من قد يديمةٍ ومن ورئيِّةٍ لا يجعلون ذلك إلاَّ نكرة، كقولك: صباحاً ومساءً، وعشيّةً وضحوةً. فهذا سمعناه من العرب.
وتقول في النصب على حدّ قولك: من دون ومن أمامٍ: جلست أماماً وخلفاً، كما تقول يمنةً وشأمةً. قال الجعدي.
لها فرطٌ يكون ولا تراه ... أماماً من معرسَّنا وودنا

وسألته عن قوله : جاء من أسفل يا فتى؟ فقال: هذا افعل من كذا وكذا، كما قال عزّ وجلّ: " إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم " .
وسألته عن هيهات اسم رجل وهيهاة؟ فقال: أمّا من قال: هيهاة فهي عنده بمنزلة علقاة. والدليل على ذلك أنَّهم يقولون في السكوت: هيهاه. ومن قال: هيهات فهي عنده كبيضاتٍ. ونظير الفتحة في الهاء الكسرة في التاء، فإذا لم يكن هيهات ولا هيهاة علماً لشيء. فهما على حالهما لا يغيرَّان عن الفتح والكسر؛ لأنهَّما بمنزلة ما ذكرنا مماَّ لم يتمكّن.
ومثل هيهاة ذيَّة، إذا لم يكن اسماً، وذلك قولك: كان من الأمر ذيَّة وذيَّة، فهذه فتحةٌ كفتحة الهاء ثمَّ؛ وذلك أنهَّا ليست أسماءً متمكنِّاتٍ، فصارت بمنزلة الصَّوت.
فإن قلت: لم تسكن الهاء في ذيةَّ وقبلها حرف متحرّك؟ فإنَّ الهاء ليست ههنا كسائر. الحروف ألا ترى أنهَّا تبدل في الصلة تاءً وليست زائدة في الاسم، فكرهوا أن يجعلوها بمنزلة ما هو في الاسم ومن الاسم، وصارت الفتحة أولى بها لأنّ ما قبل هاء التأنيث مفتوح أبداً، فجعلوا حركتها كحركة ما قبلها لقربها منه، ولزوم الفتح، وامتنعت أن تكون ساكنة كما امتنعت عشر في خمسة عشر، لأنهَّا مثلها في أنهَّا منقطعة من الأوَّل، ولم تحتمل أن يسكن حرفان وأن يجعلوهما كحرف.
ونظير هيهات وهيهاة في اختلاف اللغتين، قول العرب:استأصل الله عرقاتهم، واستأصل الله عرقاتهم، بعضهم يجعله بمنزلة عرسٍ وعرساتٍ، كأنك قلت: عرقٌ وعرقان وعرقاتٌ. وكلاًّ سمعنا من العرب.
ومنهم من يقول: ذيت فيخفِّف، ففيها إذا خففّت ثلاث لغات: منهم من يفتح كما فتح بعضهم حيث وحوث، ويضمّ يعضهم حيث وحوث، ويضمّ بعضهم كما ضمّتها العرب، ويكسرون أيضاً كما أولاء؛ لأنَّ التاء الآن إنمَّا هي بمنزلة ما هو من نفس الحرف.
وسالت الخليل عن شتّان فقال: فتحها كفتحة هيهاة، وقصتها في غير المتمكن كقصّتها ونحوها، ونونها كنون سبحان زائدةٌ. فإن جعلته اسم رجل فهو كسبحان.
باب الأحيان في الانصراف وغير الانصراف اعلم أنّ غدوة وبكرة جعلت كلَّ واحدة منهما اسماً للحين، كما جعلوا أمَّ حبينٍ اسماً للدّابةّ معرفة.
فمثل ذلك قول العرب: هذا يوم اثنين مباركاً فيه، وأتيتك يوم اثنين مباركاً فيه. جعل اثنين اسماً له معرفة، كما تجعله اسماً لرجل.
وزعم يونس عن أبي عمرو، وهو قوله أيضاً وهو القياس، انكَّ إذا قلت: لقيته العام الأوّل، أو يوماً من الأيام، ثم قلت: غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون وكذلك إذا لم تذكر العام الأول ولم تذكر، إلاَّ المعرفة ولم تقل يوماً من الأيّام، كأنك قلت: هذا الحين في جميع هذه الأشياء. فإذا جعلتها اسماً لهذا المعنى لم تنوّن. وكلك تقول العرب.
فإمّا ضحوة وعشية فلا يكونان إلاَّ نكرة على كلّ حال، وهما كقولك: آتيك غذاً وصباحاً ومساءً. وقد تقول: أتيتك ضحوةً وعشيةً، فيعلم أنكَّ تريد عشيّة يومك وصحوته، كما تقول: عاماً أوّل فيعلم أنك تريد العام الذي يليه عامك.
وزعم الخليل أنّه يجوز أن تقول: آتيتك اليوم غدوةً وبكرةً، تجعلها بمنزلة ضحوةٍ.
وزعم أبو الخطَّاب أنهَّ سمع من يوثق به من العرب يقول:آتيك بكرةً وهو يريد الإتيان في يومه أو في غده. ومثل ذلك قول الله عزّ وجلّ: " ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياَّ " .هذا قول الخليل.
وأمَّا سحر إذا كان ظرفا فإنَّ ترك الصرف فيه قد بيّنته لك فيما مضى.
وإذا قلت:مذ السَّحر أو عند السَّحر الأعلى، لم يكن إلاّ بالألف واللام.فهذه حاله، لا يكون معرفةً إلاّ بهما. ويكون نكرةً إّلا في الموضع الذي عدل فيه.
وأمّا عشيّةٌ فإنَّ بعض العرب يدع فيه التنوين ،كما ترك في غدوة.
هذا باب الألقاب إذا لقَّبت مفرداً بمفرد أضفته إلى الألقاب،وهو قول أبي عمرو ،ويونس والخليل ،وذلك قولك :هذا سعيد كرزٍ ،وهذا قيس قفَّة قد جاء، وهذا زيد بطَّةً ،فإنّما جعلت قفَّة معرفةً لأنَّك أردت المعرفة التي أردتها إذا قلت: هذا قيسٌ.فلو نوّنت قفًّة .صار الاسم نكرةً،لأن المضاف إنَّما يكون نكرة ومعرفة بالمضاف إليه، فيصير قفةّ هاهنا كأنها كانت معرفة قبل ذلك ثم أضفت إليها.

ونظير ذلك انه ليس عربيٌّ يقول: هذه شمس فيجعلها معرفة، إلاّ أن يدخل فيها ألفاً ولاماً. فإذا قال: عبد شمس صارت معرفة، لأنه أراد شيئاً بعينه، ولا يستقيم أن يكون ما أضفت إليه نكرةً.
فإذا لقَّبت المفرّد بمضاف والمضاف بمفرد، جرى أحدهما على الآخر كالوصف، وهو قول أبي عمرو ويونس والخليل. وذلك قولك: هذا زيدٌ وزن سبعةٍ، وهذا عبد الله بطَّة يا فتى، وكذلك إن لقبّت المضاف بالمضاف.
وإنمَّا جاء هذا مفترقاً هو والأوّل لأنَّ أصل التسمية والذي وقع عليه الأسماء، أن يكون للرجل اسمان: أحدهما مضاف، والآخر مفرد أو مضاف، ويكون أحدهما وصفاً للآخر؛ وذلك الاسم والكنية، وهو قولك: زيدٌ أبو عمروٍ، وأبو عمرٍو زيدٌ، فهذا أصل التسمية وحدُّها. وليس من أصل التسمية عندهم أن يكون للرجل اسمان مفردان، فإنما أجروا الألقاب على أصل التسمية، فأرادوا أن يجعلوا اللفَّظ بالألقاب إذا كانت أسماءًٍ على أصل تسميتهم، ولا يجاوزوا ذلك الحَّد.
باب الشيئين الَّلذين ضمّ أحدهما إلى الآخر فجعلا بمنزلة اسم واحد كعيضموزٍ وعنتريس وذلك نحو: حضرموت وبعلبك.ومن العرب من يضيف بعل إلى بكٍّ، كما اختلفوا في رام هرمز، فجعله بعضهم اسماً واحداً، وأضاف بعضهم رام إلى هرمز. وكذلك مار سرجس، وقال بعضهم:
مار سرجس لا قتالا
وبعضهم يقول في بيت جرير:
لقيّم بالجزيرة خيل قيسٍ ... فقلتمّ مار سرجس لا قتالا
وأمّا معد يكرب ففيه لغات: منهم من يقول: معد يكربٍ فيضيف، ومنهم من يقول: معد يكرب فيضيف ولا يصرف، يجعل كرب اسماً مؤنثّا ومنهم من يقول: معد يكرب فيجعله اسماً واحداً فقلت ليونس: هلاّ صرفوه إذ جعلوه اسماً واحداً وهو عربيّ؟ فقال: ليس شيءٌ يجتمع من شيئين فيجعل اسماً سميِّ به واحدٌ إلاّ لم يصرف.وإنمّا استثقلوا صرف هذا لأنَّه ليس أصل بناء الأسماء.يدلّك على هذا قلّته في كلامهم في الشيء الذي يلزم كلَّ من كان من أمتّه ما لزمه، فلمّا لم يكن هذا البناء أصلاً ولا متمكنِّا كرهوا أن يجعلوه بمنزلة المتمكّن الجاري على الأصل، فتركوا صرفه كما تركوا صرف الأعجميّ. وهو مصروف في النكرة، كما تركوا صرف إبراهيم وإسماعيل لأنهما لم يجيئا على مثال ما لا يصرف في النكرة كأحمر، وليس بمثال يخرج إليه الواحد للجميع نحو: مساجد ومفاتيح، وليس بزيارة لحقت لمعنًى كألف حبلي، وإنمَّا هي كلمة كهاء التأنيث، فثقلت في المعرفة إذ لم يكن اصل بناء الواحد؛ لأنَّ المعرفة أثقل من النكرة. كما تركوا صرف الهاء في المعرفة وصرفوها في النكرة لما ذكرت بك، فإنما معد يكرب واحدٌ كطلحة، وإنما بني ليلحق بالواحد الأوّل المتمكن، فثقل في المعرفة لما ذكرت بك، ولم يحتمل ترك الصرف في النكرة.وأمّا خمسة عشر وأخواتها وحادى عشر وأخواتها، فهما شيئان جعلا شيئاً واحداً. وإنمَّا أصل خمسة عشر: خمسةٌ، وعشرةٌ، ولكنهم جعلوه بمنزلة حرف واحد. وأصل حادى عشر أن يكون مضافاً كثالث ثلاثة، فلمَّا خولف به عن حال أخواته مما يكون للعدد خولف به وجعل كأولاء، إذ كان موافقاً له في أنهَّ مبهم يقع على كل شيء. فلمَّا اجتمع فيه هذان أجرى مجراه، وجعل كغير المتمكّن. والنون لا تدخله كما تدخل غاقٍ، لأنَّها محالفة لها ولضربها في البناء؛ فلم يكونوا لينوّنوا لأنهَّا زائدة ضمّت إلى الأوّل، فلم يجمعوا، عليه هذا والتنوين.
ونحو هذا في كلامهم: حيص بيص مفتوحة، لأنهَّا ليست متمكِّنة.
قال أميّة بن أبي عائذ
قد كنت خرّاجا ولوجاً صيرفاً ... لم تلتحصني حيص بيص لحاص
واعلم أنَّ العرب تدع خمسة عشر في الإضافة والألف واللام على حال واحدة، كما تقول: اضرب أيهُّم أفضل، وكالآن، وذلك لكثرتها في الكلام وأنهَّا نكرة فلا تغيَّر.
ومن العرب من يقول: خمسة عشرك، وهي لغة رديئة.

ومثل ذلك: الخازباز، وهو عند بعض العرب: ذبابٌ يكون في الرَّوض، وهو عند بعضهم: الداء، جعلوا لفظه كلفظ نظائره في البناء، وجعلوا آخره كسراً كجير وغاق؛ لأنَّ نظائره في الكلام التي لم تقع علامات إنما جاءت متحرّكة بغير جرٍ ولا نصب ولا رفع، فألحقوه بما بناؤه كبنائه، كما جعلوا حيث في بعض اللغات كأين، وكذلك حينئذ في بعض اللغات، لأنَّه مضاف إلى غير متمكّن، وليس كأين في كلّ شيء. كما جعلوا الآن كأين وليس مثله في كلّ شيء، ولكنه يضارعه في أنه ظرف، ولكثرته في الكلام كما يضارع حينئذ أين في أنه أضيف إلى اسم غير متمكّن. فكذلك صار هذا: ضارع خمسة عشر في البناء، وأنهَّ غير علم.
ومن العرب من يقول: الخربار، ويجعله بمنزلة سربال. قال الشاعر:
مثل الكلاب تهرَّ عند درابها ... ورمت لهازمها من الخرباز
وأما صهيل التي للأمر فمن شيئين يدلك على ذلك حي على الصلاة وزعم أبو الحطَّاب: أنهَّ سمع من يقول: حي هل الصلاة. والدَّليل على أنهما جعلا اسماً واحداص قول الشاعر:
وهيَّج الحيَّ من دارٍ فظلَّ لهم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيَّهله
والمواقي مرفوعة. وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس، وزعم أنه شعر أبيه.
وقد قال بعضهم: الخازباء، جعلها بمنزلة: القاصعاء والنافقاء.
وجميع هذا إذا صار شيءٌ منه علما أعرب وغيِّر، وجعل كحضرموت، كما غيرّت أولاد واذ ومن والأصوات ولو ونحوها، حين كنَّ علامات.
قال الشاعر، وهو الجعدي:
بحيهَّلا يزجون كلَّ مطيّةٍ ... أمام المطايا سيرها المتقاذف
وقال بعضهم:
وجنَّ الخازباز به جنونا
ومن العرب من يقول: هو الخازباز والخازباز، وخازبازٍ فيجعلها كحضرموتٍ.
ومن العرب من يقول: حيهَّلا، ومن العرب من يقول: حهيَّل إذا وصل، وإذا وقف أثبت الألف. ومنهم من لا يثبت الألف في الموقف والوصل.
وقد قال بعضهم: الخازباز جعله بمنزلة حضرموت.
وأمّا عمرويه فإنهَّ زعم أنه أعجميٌّ، وأنه ضربٌ من الأسماء الأعجمية، وألزموا آخره شيئاً لم يلزم الأعجمّية، فكما تركوا صرف الأعجميّة جعلوا ذا بمنزلة الصوَّت، لأنهمَّ رأوه قد جمع أمرين، فحطّوه درجةً عن إسماعيل وأشباهه؛ وجعلوه في النكرة بمنزلة غاقٍ، منوّنةً مكسورة في كلِّ موضع.
وزعم الخليل: أن اللذين يقولون: غاق غاق، وعاء وحاء، فلا ينّوّنون فيها ولا في أشباهها، أنهّا معرفة، وكأَّنك قلت في عاء وحاء الإتباع، وكأنه قال: قال الغراب هذا النحو. وأنَّ الذين قالوا: عاء وحاء وغاقٍ، جعلوها نكرة.
وزعم الخليل: أن الذين قالوا: صهٍ ذاك أرادوا النكرة، كأنهم قالوا: سكوتاً: إيهٍ وإيهاً وويهٍ وويهاً، إذا وقفت قلت: ويهاً، ولا يقول: إيهٍ في الوقف. وإيهاً وأخواته نكرةٌ عندهم، وهو صوتٌ.
وعمرويه عندهم بمنزلة حضرموت، في أنهَّ ضمّ الآخر إلى الأوّل. وعمرويه في المعرفة مكسورة في حال الجرّ والرفع والنصب غير منوَّن. وفي النكرة تقول: هذا عمرويهٍ آخر، ورأيت عمرويهٍ آخر.
وسألت الخليل عن قوله: فداءٍ لك، فقال: بمنزلة أمس؛ لأنهَّا كثرت في كلامهم، والجرُّ كان أخفَّ عليهم من الرفع إذ أكثروا استعمالهم إيَّاه، وشبّهوه بأمس، ونوّن لأنهّ نكرة. فمن كلامهم أن يشبِّهوا الشيء بالشيء وإن كان ليس مثله في جميع الأشياء.
وأمّا يوم يومٍ، وصباح مساءٍ، وبيت بيتٍ، وبين بينٍ، فإنَّ العرب تختلف في ذلك: يجعله بعضهم بمنزلة اسمٍ واحد، وبعضهم يضيف الأوّل إلى الآخر ولا يجعله اسماً واحداً. ولا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد إلاّ في حال الظرف أو الحال، كما يجعلوا: يا ابن عمَّ ويا ابن أمَّ بمنزلة شيء واحدٍ إلاّ في حال النداء.
والآخر من هذه الأسماء في موضع جرّ، وجعل لفظه كلفظ الواحد وهما اسمان أحدهما مضاف إلى الآخر. وزعم يونس، وهو رأيه، أنَّ أبا عمرٍو كان يجعل لفظه كلفظ الواحد إذا كان شيءٌ منه ظرفاً أو حالا.
وقال الفرزدق:
ولولا يوم يومٍ ما أردنا ... جزاءك والقروض لها جزاء
فالأصل في هذا والقياس الإضافة. فإذا سميّت بشيء من هذا رجلاً أضفت، كما أنَّك لو سميتّه ابن عمّ لم يكن إلاّ على القياس.
وتقول: أنت تأتينا في كلّ صباح مساءٍ، ليس إلاَّ.

وجعل لفظهنَّ في ذلك الموضع كلفظ خمسة عشر، ولم يبن ذلك البناء في غير هذا الموضع. وهذا قول جميع من نثق بعلمه وروايته عن العرب. ولا أعلمه إلاّ قول الخليل.
وزعم يونس: أن كفّة كفّةٍ كذلك، تقول: لقيته كفّة كفّةٍ، وكفّة كفّة. والدليل على أنَّ الآخر مجرور ليس كعشر من خمسة، أنَّ يونس زعم أن رؤية كان يقول: لقيته كفّةً عن كفّةٍ يا فتى. وإنمَّا جعل هذا هكذا في الظرف والحال لأنَّ حد الكلام وأصله أن يكون ظرفاً أو حالا.
وأمَّا أيادي سبا وقالي قلا، وبادي بدا، فإنمّا هي بمنزلة: خمسة عشر. تقول: جاءوا أيادي سبا. ومن العرب من يجعله مضافا فينوّن سباً.
قال الشاعر، وهو ذو الرمّة:
فيالك من دارٍ تحمَّل أهلها ... أيادي سباً بعدي وطال احتيالها
فينوّن ويجعله مضافاً كمعد يكربٍ.
وأما قوله: كان ذلك بادي بدا؛ فإنهَّم جعلوها بمنزلة: خمسة عشر. ولا نعلمهم أضافوا، ولا يستنكر أن تضيفها، ولكن لم أسمعه من العرب.ومن العرب من يقول: بادي بدي. قال أبو نخيلة:
وقد علتني ذرأة بادي بدى ... ورثية تنهض في تشددي
ومثل أيادي سبا وبادى بدا قوله: ذهب شغر بغر. ولا بدّ من أن يحرِّكوا آخره كما ألزموا التحريك الهاء في ذيَّة ونحوها؛ لشبه الهاء بالشيء الذي ضم إلى الشيء.
وأما قالي قلا فمنزلة حضرموت. قال الشاعر:
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعاً ... بقالي قلا أومن وراء دبيل
وسألت الخليل عن الياءات لم لم تنصب في موضع النصب إذا كان الأول مضافاً، وذلك قولك: رأيت معد يكرب، واحتملوا أيادي سبا؟ فقال: شبَّهوا هذه الياءات بألف مثنى حيث عرَّوها من الرفع والجر، فكما عرّوا الألف منهما عرَّوها من النصب أيضاً، فقالت الشعراء حيث اضطرّوا، وهو رؤية:
سوَّي مساحيهنَّ تقطيط الحقق
وقال بعض السّعدييِّن:
يا دار هند عفت إلاَّ أثافيها
وإنما اختصّت هذه الياءات في هذا الموضع بذا لأنهم يجعلون الشيئين ههنا اسماً واحداً، فتكون الياء غير حرف الإعراب، فيسكنونها ويشبِّهونها بياء زائدة ساكنة نحو ياء دردبيس ومفاتيح. ولم يحركوها كتحريك الراء في شغر لاعتلالها، كما لم تحرك قبل الإضافة وحركت نظائرها من غير الياءات، لأن للياء والواو حالاً ستراها إن شاء الله، فألزموها الإسكان في الإضافة ههنا إذ كانت قد تسكن فيما لا يكون وما بعده بمنزلة اسم واحد في الشعر.
ومثل ذلك قول العرب: لا أفعل ذاك حيرى دهر. وقد زعموا أن بعضهم ينصب الياء، ومنهم من يثقل الياء أيضاً.
وأما اثنا عشر فزعم الخليل أنه لا يغير عن حاله قبل التسمية، وليس بمنزلة خمسة عشر، وذلك أن الإعراب يقع على الصدر فيصير اثنا في الرفع، واثنى في النصب والجر، وعشر بمنزلة النون ولايجوز فيها الإضافة. كما لا يجوز في مسلمين، ولا تحذف عشر مخافة أن يلتبس بالاثنين فيكون علم العدد قد ذهب. فإن صار اسم رجل فأضفت حذفت عشر لأنك لست تريد العدد، وليس بموضع التباس، لأنك لا تريد أن تفرق بين عددين فإنما هو بمنزلة زيدين.
وأما أخول أخول فلا يخلو من أن يكون كشغر بغر، وكيوم يوم.
باب ما ينصرف ومالا ينصرف من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات منهن لامات اعلم أن كل شيء كانت لامه ياءً أو واواً، ثم كان قبل الياء والواو حرف مكسور أو مضموم، فإنها تعتلُّ وتحذف في حال التنوين، واواً كانت أو ياء، وتلزمها كسرة قبلها أبداً، ويصير اللفظ بما كان من بنات الياء والواو سواء.
واعلم أن كل شيء من بنات الياء والواو كان على الصفة فإنّه ينصرف في حال الجر والرفع. وذلَّك أنَّهم حذفوا الياء فخفّ عليهم، فصار التنوين عوضاً. وإذا كان شيء منها في حال النصب نظرت: فإن كان نظيره من غير المعتلّة مصروفاً صرفته، وإن كان غير مصروف لم تصرفه؛ لأنَّك تتم في حال النصب كما تتم غير بنات الياء والواو. وإذا كانت الياء زائدة وكانت حرف الإعراب، وكان الحرف الذي قبلها كسراً فإنّها بمنزلة الياء التي من نفس الحرف، إذ كانت حرف الإعراب.
وكذلك الواو تبدل كسرة إذا كان قبلها حرف مضموم وكانت حرف الإعراب وهي زائدة: تصير بمنزلتها إذا كانت من نفس الحرف وهي حرف الإعراب.

فمن الياءات والووات اللواتي ما قبلها مكسور قولك: هذا قاضٍ، وهذا غازٍ، وهذه مغاز، وهؤلاء جوارٍ. وما كان ما منهن ما قبله مضموم فقولك: هذه أدلٍ وأظبٍ، ونحو ذلك.
هذا ما كانت الياء فيه و الواو من نفس الحرف.
وأمّا ما كانت الياء فيه زائدة وكان الحرف قبلها مكسوراً فقولك: هذه ثمانً وهذه صحار، ونحو ذلك.
وأما ما كانت الواو فيه زائدة وكان الحرف قبلها مضموماً فقولك: هذه عرق كما ترى، إذا أرت جمع عرقوة. قال الرجز:
حتَّى تقضّى عرقى الدلىِّ
وجميع هذا في حال النصب بمنزلة غير المعتل. ولو سميت رجلا بقيل فيمن ضم القاف كسرتها اسما حتى تكون كبيضٍ.
واعلم أنَّ كلّ ياء أو واو كانت لاماً، وكان الحرف قبلها مفتوحاً، فإنَّها مقصورة تبدل مكانها الألف، ولا تحذف في الوقف، وحالها في التنين وترك التنوين بمنزلة ما كان غير معتّل؛ إلاَّ أنَّ الألف تحذف لسكون التنوين ويتمُّون الأسماء في الوقف.
وإن كانت الألف زائدة فقد فسرنا أمرها.
وإن جاءت في جميع ما لا ينصرف فهي غير منونة، كما لا ينوّن غير المعتلّ، لأنَّ الاسم متمٌّ. وذلك قولك: عذارى وصحارى، فهي الآن بمنزلة مدارى ومعايا لأنها مفاعل، وقد أتم وقلبت ألفا.
وإن كانت الياء والواو قبلها حرف ساكن وكانت حرف الإعراب، فهي بمنزلة غير المقتل وذلك نحو قولك ظبي ودلو وسألت الخليل عن رجل يسمى بقاض فقال هو بمنزلة قبل أن يكون إسماً في الوقف والوصل وجميع الأشياء كما أن مثنى ومعلى إذا كان إسماً فهو إذا كانت نكرة، ولا يتغيّر هذا عن حال كان عليها قبل أن يكون اسماً كما لم يتغيَّر معلَّى، وكذلك عم. وكلّ شيء كان من بنات الياء والواو انصرف نظيره من غير المعتلّ فهو بمنزلته.
وسألت الخليل عن رجل يسمى بجوار، فقال: هو في حال الجرّ والرفع بمنزلته قبل أن يكون اسماً. ولو كان من شأنهم أن يدعوا صرفه في المعرفة لتركوا صرفه قبل أن يكون معرفة، لأنَّه ليس شيء من الانصراف بأبعد من مفاعل، فلو امتنع من الانصراف في شيء لامتنع إذا كان مفاعل وفواعل ونحو ذلك. قلت: فإن جعلته اسم امرأة؟ قال: أصرفها؛ لأن هذا التنوين جعل عوضاً، فيثبت إذا كان عوضاً كما ثبتت التنوينة في أذرعات إذ صارت كنون مسلمين.
وسألته عن قاضٍ اسم امرأة، فقال: مصروفة في حال الرفع والجرّ، تصير ههنا بمنزلتها إذ كانت في مفاعل وفواعل. وكذلك أدل اسم رجل عنده؛ لأنَّ العرب اختارت في هذا حذف الياء إذا كانت في موضع غير تنوين في الجرّ والرفع، وكانت فيما لا ينصرف، وان يجعلوا التنوين عوضاً من الياء ويحذفوها.
وسألته عن رجل يسمَّى أعمى فقلت: كيف تصنع به إذا حقّرته؟ فقال: أقول: أعيم، أصنع به ما صنعت به قبل أن يكون اسماً لرجل؛ لأنَّه لو كان يمتنع من التنوين ههنا لامتنع منه في ذلك الموضع قبل أن يكون اسماً لرجل، كما أنَّ أحيمر وهو اسم لرجل وغير اسم سواء. ومن أبى هذا فخذه بقاضٍ اسم امرأة، فإن لم يصرفه فخذه بجوار فجوار فواعل، وفواعل أبعد من الصرف من فاعل معرفةً وهو اسم امرأة، لأنَّ ذا قد ينصرف في المذكّر، وفواعل لا يتغيّر على حال، وفاعل بناء ينصرف في الكلام معرفةً ونكرةً وفواعل بناء لا ينصرف. فاشد أحوال قاضٍ اسم امرأة أن يكون بمنزلة هذا المثال الذي لا ينصرف البتَّة في النكرة. فإن كانت هذه، يعني قاض، لا تنصرف ههنا لم تنصرف إذا كانت في فواعل. فإن صرف فجوار قبل أن يكون اسماً بمنزلة قاضٍ اسم امرأة.
وسألته عن رجل يسمَّى برمي أو أرمي؟ فقال: أنوِّنه، لأنَّه إذا صار اسماً فهو بمنزلة قاضٍ إذا كان اسم امرأة.
وسألت الخليل فقلت: كيف تقول مررت بأفيعل منك، من قوله مررت بأعيمى منك؟ فقال: مررت بأعيم منك، لأنَّ ذا موضع تنوين. ألا ترى بأنك تقول: مررت بخير منك، وليس أفعل منك بأثقل من افعل صفة.

وأمّا يونس فكان ينظر إلى كلّ شيء من هذا إذا كان معرفة كيف حال نظيره من غير المعتل معرفة، فإذا كان لا ينصرف لم ينصرف، يقول: هذا جواري قد جاء، ومررت بجواري قبل. وقال الخليل: هذا خطأ لو كان من شأنهم أن يقولوا هذا في موضع الجرّ لكانوا خلقاء أن يلزموا الرفع والجرّ، إذ صار عندهم بمنزلة غير المعتلّ في موضع الجرّ، ولكانوا خلقاء أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجرّ، فيقولوا: مررت بجواري قبل، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حال واحدة.
ويقول يونس للمرأة تسمَّى بقاضٍ: مررت بقاضي قبل، ومررت بأعيمى منك. فقال الخليل: لو قالوا هذا لكانوا خلقاء أن يلزموها الجرّ والرفع، كما قالوا حين اضطروا في الشعر فأجروه على الأصل، قال الشاعر الهذلىّ:
أبيت على معاري واضحات ... بهنّ ملوَّب كدم العباط
وقال الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
فلمَّا اضطرُّوا إلى ذلك في موضع لا بدَّ لهم فيه من الحركة أخرجوه على الأصل.
قال الشاعر، ابن قيس الرقيّات:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهنَّ مطَّلب
وقال: وأنشدني أعرابي من بني كليب، لجرير:
فيوماً يوافيني الهوى غير ماضىٍ ... ويوماً ترى منهن غولاً تغوَّل
قال: ألا تراهم كيف جرُّوا حين اضطرُّوا، كما نصبوا الأوّل حين اضطرُّوا. وهذا الجرّ نظير النصب.
فإن قلت: مررت بقاضي قبل اسم امرأة، كان ينبغي لها أن تجرَّ في الإضافة فتقول: مررت بقاضيك.
وسألناه عن بيت أنشدناه يونس:
قد عجبت منيِّ ومن يعيليا ... لمَّا رأتني خلقاً مقلوليا
فقال: هذا بمنزلة قوله:
ولكنَّ عبد الله مولى مواليا
وكما قال:
سماء الإله فوق سبع سمائيا
فجاء به على الأصل؛ وكما أنشدناه من نثق بعربيَّته:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بي زياد
فجعله حين اضطرّ مجروماً من الأصل. وقال الكميت:
خريع دوادي في ملعب ... تأزَّر طوَّراً وتلقى الإزارا
اضطرّ فأخرجه كما قال: ضنينوا وسألته عن رجل يسمّى يغزو، فقال: رأيت يغزى قبل، وهذا يغز، وهذا يغزى زيد، وقال: لا ينبغي له أن يكون في قول يونس إلا يغزى، وثبات الواو خطأ، لأنه ليس في الأسماء واو قبلها حرف مضموم، وإنما هذا بناء اختصَّ به الأفعال، ألا ترى أنَّك تقول: سرو الرجل ولا ترى في الأسماء فعل على هذا البناء. ألا ترى أنَّه قال: أنا أدلو حين كان فعلاً، ثم قال: أدل حين جعلها اسماً. فلا يستقيم أن يكون الاسم إلا هكذا.
فإن قلت: أدعه في المعرفة على حاله وأغيِّره في النكرة. فإن ذلك غير جائز، لأنك لم تر اسماً معروفاً أجرى هكذا.
قال الشاعر:
لا مهل حتَّى تلحقي بعنس ... أهل الريِّاط البيض والقلنسي
عنس: قيبلة. ولم يقل القلنسو.
ولا يبنون الاسم على بناء إذا بلغ حال التنوين تغيَّر وكان خارجاً من حد الأسماء، كما كرهوا أن يكون إي وفي، في السكوت وترك التنوين، على حالٍ يخرج منه إذا وصل ونوّن فلا يكون على حدّ الأسماء، فقرّوا من هذا كما فرُّوا من ذاك. ويكفيك من ذا قولهم: هذه أدلى زيد.
فإن قلت: إنما أعرب في النكرة، فلم يغيِّر البناء. كذلك أيضاً لا يكون في المعرفة على بناء يتغيَّر في النكرة.
وتقول في رجل سمَّيته بارمه: هذا إرم قد جاء، وينوّن، في قول الخليل، وهو القياس.
وتقول: رأيت إرمى قبل، يبيّن الياء، لأنها صارت اسماً وخرجت من موضع الجزم، وصارت من موضع يرتفع فيه وينجر وينتصب.
وإذا سميت رجلا بعه قلت: هذا وعٍ قد جاء، صيَّرت آخره كآخر إرمه حين جعلته اسماً. فإذا كان كذلك كان مختلاًّ؛ لأنَّه ليس اسم على مثال عٍ، فتصيّره بمنزلة الأسماء، وتلحقه حرفاً منه كان ذهب، ولا تقول: عيٌّ فتلحقه بالأسماء بشيء ليس منه، كما وأنَّك لو حقَّرت شيةً وعدةً لم تلحقه ببناء المحقَّر الذي اصل بنائه على ثلاثة أحرف بشيء ليس منه وتدع ما هو منه، وذلك قولك: هذا وعٍ كما ترى.

ولو سمَّيت رجلاً لأعدت الهمزة والألف فقلت: هذا إرأً قد جاء، وتقديره: إدعى، تلحقه بالأسماء بأن تضم إليه ما هو منه، كما تقول: وعيدةٌ وشيَّةٌ ولا تقول: عديَّةٌ ولا وشيَّةٌ، لأنك لا تدع ما هو منه وتلحق ما ليس منه.
ولا يجوز أن تقول: هذا عه، كما لم يجز ذلك في آخر إرمه.
وإن سمَّيت رجلاً قل أو خف أو بع أو أقم قلت: هذا قول قد جاء وهذا بيع قد جاء، وهذا خاف قد جاء، وهذا اقيم قد جاء؛ لأنَّك قد حركت آخر حرفٍ وحوَّلت هذا الحرف من المكان وعن ذلك المعنى، فإنّما حذقت هذه الحروف في حال الأمر لئَّلا ينجزم حرفان، فإذا قلت: قولا أو خافا أو بيعا أو أقيموا، أظهرت للتحرك، فهو ههنا إذا صار اسماً أجدر أن يظهر.
ولو سميت رجلا لم يرد أو لم يخف، لوجب عليك أن تحكيه؛ لأنَّ الحرف العامل هو فيه، ولو لم تظهر هذه الحروف لقلت: هذا يريد وهذا يخاف.
وكذلك لو سمَّيته بتردد من قولك: إن تردد أردد، وإن تخف أخف لقلت: هذا يخاف ويرد. ولو لم تقل ذا لم تقل في إرمه إرمي، ولتركت الياء محذوفة، ولكنما أظهرتها في موضع التحرُّك، كما تظهرها إذا قلت: ارميا وهو يرمي.
وإذا سمَّيت رجلا باعضض قلت: هذا إعض كما ترى، لأنّك إذا حرَّكت اللام من المضاعف أدغمت، وليس اسم من المضاعف تظهر عينه ولامه فإذا جعلت إعضض اسماً قطعت الألف كما قطعت ألف إضرب، وأدغمت كما تدغم أعضُّ إذا أردت أنا أفعل؛ لأنّ آخره كآخره، ولو لم تدغم ذا لما أدغمت إذا سمّيت بيعضض من قولك: إن يعضض أعضض، ولا تعضض.
وإذا سمّيت رجلاً بألبب من قولك:
قد علمت ذاك بنات ألبب
تركته على حاله، لأنّ هذا اسم، جاء على الأصل، كما قالوا: رجاء ابن حيوة، وكما قالوا: ضيون، فجاءوا به على الأصل. وربَّما جاءت العرب بالشيء على الأصل ومجرى بابه في الكلام على غير ذلك.
باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد قال الخليل يوماً وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك والكاف التي في مالك، والباء التي في ضرب؟ فقيل له: نقول: باء الكاف. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف. وقال: أقول كه وبه. فقلنا: لم ألحقت الهاء، فقال: رأيتهم قالوا: عه فألحقوا هاءاً حتى صيروها يستطاع الكلام بها، لأنَّه لا يلفظ بحرف. فإن وصلت قلت: ك وب فاعلم يا فتى، كما قالوا: ع يا فتى. فهذه طريقة كلِّ حرفٍ كان متحركاً، وقد يجوز أن يكون الألف هنا بمنزلة الهاء، لقربها منها وشبهها بها، فتقول: با وكا، كما تقول: أنا.
وسمعت من العرب من يقول: ألاتا، بلى فا؛ فإنما أرادوا ألا تفعل وبلى فافعل، ولكنه قطع كما كان قاطعا بالألف في أنا، وشركت الألف الهاء كشركتها في قوله: أنا، بيّنَوها بالألف كبيانهم بالهاء في هيه وهنَّه وبغلتيه. قال الراجز:
بالخير خيراتٍ وإن شرافا ... ولا أريد الشرَّ إلا أن تا
يريد: إن شرَّا فشرٌّ، ولا يريد إلا أن تشاء.

ثم قال: كيف تلفظون بالحرف الساكن نحو ياء غلامى وباء إضرب ودال قد؟ فأجابوا بنحو مما أجابوا في المرّة الأولى فقال: أقول إب وإي وإد، فألحق ألفا موصولة. قال: كذاك اراهم صنعوا بالساكن، ألا تراهم قالوا: ابن واسم حيث اسكنوا الباء والسين، وأنت لا تستطيع أن تكلَّم بساكن في أول اسم كما لا تصل إلى اللفظ بهذه السواكن، فألحقت ألفاً حتى وصلت اللفظ بها، فكذلك تلحق هذه الألفات حتى تصل إلى اللفظ بها كما ألحقت المسكَّن الأول في الاسم. وقال بعضهم: إذا سمَّيت رجلاً بالباء من ضرب قلت: رب فأردُّ العين. فإن جعلت هذه المتحركة اسماً حذفت الهاء كما حذفتها من عه حين جعلتها اسماً، فإذا صارت اسماً صارت من بنات الثلاثة؛ لأنَّه ليس في الدنيا اسم أقل عدداً من اسم على ثلاثة أحرف، ولكنَّهم قد يحذفون مما كان على ثلاثة حرفاً وهو الأصل له، ويردّونه في التحقير والجمع؛ وذلك قولهم في ذمً: دمي، وفي حر: حريح، وفي شفة: شفيهة، وفي عدة: وعيدة. فهذه الحروف إذا صيّرت اسماً صارت عندهم من بنات الثلاثة المحذوفة، وصارت من بنات الياء والواو؛ لأنَّا رأينا أكثر بنات الحرفين التي أصلها الثلاثة أو عامّتها، من بنات الياء والواو، وإنَّما يجعلونها كالأكثر، فكأنهم إن كان الحرف مكسوراً ضمّوا إليه ياءً لأنَّه عندهم له في الأصل حرفان، كما كان لدم في الأصل حرف؛ فإذا ضممت إليه ياء صار بمنزلة في، فتضمّ إليه ياء أخرى تثقلّه بها حتىَّ يصير على مثال الأسماء. وكذلك فعلت بفي.
وإن كان الحرف مضموماً ألحقوا واواً ثم ضمّوا إليها واواً أخرى حتَّى يصير على مثال الأسماء، كما فعلوا بذلك بلو وهو وأو. فكأنَّهم إذا كان الحرف مضموماً صار عندهم من مضاعف الواو، كما صارت لو وأو وهو إذ كانت فيهن الواوات من مضاعف الواو. وإن كان مكسورا فهو عندهم من مضاعف الياء كما كان ما فيه نحو في وكي من مضاعف الياء عندهم وإن كان الحرف مفتوحاً ضمّوا إليه ألفاً ثم ألحقوا ألفاً أخرى حتَّى يكون على مثال الأسماء، فكأنَّهم أرادوا أن يضاعفوا الألفات فيما كان مفتوحاً كما ضاعفوا الواوات والياءات فيما مكسوراً أو مضموماً، كما صارت ما ولا ونحوهما إذ كانت فيهما ألفات مما يضاعف.
فإن جعلت إي اسما ثقلته بياء أخرى واكتفيت بها حتّى يصير بمنزلة اسمٍ وابنٍ.
فأما قاف وياء وزاي وباء وواو فإنَّما حكيت بها الحروف ولم ترد أن تلفظ بالحروف كما حكيت بغاقٍ صوت الغراب، وبقب وقع السيف، وبطيخ الضحك، وبنيت كلَّ واحد بناء الأسماء. وقب هو وقع السيف. وقد ثقَّل بعضهم وضمّ ولم يسلّم الصوت كما سمعه فكذلك حين حكيت الحروف حكيتها ببناء للأسماء ولم تسلم الحروف كما لم تسلَّم الصوت. فهذا سبيل هذا الباب.
ولو سمّيت رجلاً بأب قلت: هذا إبٌ، وتقديره في الوصل: هذا آبٌ كما ترى، تريد الباء وألف الوصل من قولك: اضرب. وكذلك كلَُ شىء مثله لا تغيره عن حاله؛ لأنك تقول: إبٌ، فيبقى حرفان سوى التنوين. فإذا كان الاسم ههنا في الابتداء هكذا لم يختلّ عندهم أن تذهب ألفه في الوصل، وذلك أنَّ الحرف الذي يليه يقوم مقام الألف. ألا تراهم يقولون: من آبٌ فلا يبقى إلا حرف واحد فلا يختل ذا عندهم إذ كان كنونه حرف لا يلزمه في الإبتداء وفي غير هذا الموضع إذا تحرك ما قبل الهمزة في قولك ذهب أب لك وكذلك إب، لا يختلُّ أن يكون في الوصل على حرف إذا كان لا يلزمه ذلك في كل المواضع، ولولا ذلك لم يجز؛ لأنَّه ليس في الدنيا اسم يكون على حرفين أحدهما التنوين، لأنَّه لا يستطاع أن يتكلّم به في الوقف المبتدأ.
فإن قلت: يغيَّر في الوقف. فليس في كلامهم أن يغيّروا بناءه في الوقف عمّا كان عليه في الوصل، ومن ثمَّ تركوا أن يقولوا هذا في، كراهية أن يكون الاسم على حرفين أحدهما التنوين فيوافق ما كان على حرف.
وزعم الخليل أن الألف واللام اللتين يعرّفون بهما حرف واحد كقد، وأن ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف الاستفهام في قوله: أأريد، ولكن الألف كألف أيم في أيم الله، وهي موصولة كما أن ألف أيم موصولة، حدّثنا بذلك يونس عن أبي عمرو، وهو رأيه.

والدليل على أن ألف أيم ألف وصل قولهم: إيم الله، ثم يقولون: ليم الله. وفتحوا ألف أيم في الابتداء شبّهوها بألف أحمر لأنَّها زائدة مثلها. وقالوا في الاستفهام: آلرجل، شبّهوها أيضاً بألف أحمر، كراهية أن يكون كالخبر فيلتبس، فهذ1 قول الخليل. وأيم الله كذلك، فقد يشبَّه الشيء بالشيء في موضع ويخالفه في أكثر من ذلك، نحو: يا ابن عمَّ في النداء.
وقال الخليل: وممَّا يدل على أنَّ أل مفصولة من ألرَّجل ولم يبن عليها، وأنَّ الألف واللام فيها بمنزلة قد، قول الشاعر:
دع ذا وعجَّل ذا وألحقنا بذل ... بالشَّحم إنّا قد مللناه بجل
قال: هي ههنا كقول الرجل وهو يتذكَّر: قدى، فيقول: قد فعل ولا يفعل مثل هذا علمناه بشىء مما كان من الحروف الموصولة.
ويقوا الرجل: ألى، ثم يتذكّر، فقد سمعناهم يقولون ذلك، ولولا أنَّ الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا بناءً بني عليه الاسم لا يفارقه، ولكنَّهما جميعاً بمنزلة هل وقد وسوف، تدخلان لتعريف وتخرجان.
وإن سمّيت رجلاً بالضاد من ضرب قلت: ضاءٌ، وإن سمّيته بها من ضراب قلت: ضىٌّ، وإن سميته بها من ضحى قلت: ضوٌّ. وكذلك هذا الباب كله. وهذا قياس قول الخليل ومن خالفه ردّ الحرف الذي يليه.
باب الحكاية التي لا تغيَّر فيها الأسماء عن حالها في الكلام وذلك قول العرب في رجل يسمَّى تأبَّط شراً: هذا تأبَّط شرًّا وقالوا: هذا برق نحره، ورأيت برق نحره. فهذا لا يتغيّر عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون اسما.
وقالوا أيضاً في رجل اسمه ذرَّى حبَّا: هذا ذرَّى حبّاً. وقال الشاعر من بني طهيّة:
إنّ لها مركَّناً إرزبَّا ... كأنّه جبهة ذرَّى حبّا
فهذا كله يترك على حاله. فمن قال: أغيِّر هذا دخل عليه أن يسمَّى الرجل ببيت شعرٍ، أو بله درهمان، فإنّ غيّره عن حاله فقد ترك قول الناس وقال ما لا يقوله أحد. وقال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بنى شاب قرناها تصرُّ وتحلب
وعلى هذا يقول: بدأت بالحمد لله رب العالمين. وقال الشاعر:
وجدنا في كتاب بني تميمٍ ... أحقُّ الخيل بالرَّكض المعار
وذلك لأنه حكى أحقُّ الخيل بالركض المعار فكذلك هذه الضروب إذا كانت أسماء. وكلُّ شىء عمل بعضه في بعض فهو على هذه الحال.
واعلم أن الاسم إذا كان محكياً لم يثن ولم يجمع، إلا أن تقول: كلّهم تأبَّط شرَّا، وكلاهما ذرَّى حبًّا، لم تغيِّره عن حاله قبل أن يكون اسما. ولو تثنيت هذا أو جمعته لثنيت أحقُّ الخيل بالركض المعار إذا رأيته في موضعين.
ولا تضيعه إلى شىء إلا أن تقول: هذا تأبَّط شرّاً صاحبك أو مملوكك. ولا تحقّره قبل أن يكون علما. ولو سمّيت رجلا زيد أخوك لم تحقره.
فإن قلت: أقول زييد أخوك، كما أقول قبل قبل أن يكون اسما. فإنَّك إنَّما حقرت اسما قد ثبت لرجل ليس بحكاية، وإنَّما حقّرت اسما على حياله. فإذا جعلا اسماً فليس واحدٌ به من صاحبه ولم يجعل الأوَّل والآخر بمنزلة حضرموت، ولكن الاسم الآخر مبنّي على الأول. ولو حقّرتهما جميعاً لم يصيرا حكايةً، ولكان الأول اسما تاماً.
وإذا جعلت هذا زيدٌ اسم رجل فهو يحتاج في الابتداء وغيره إلى ما يحتاج إليه زيد، ويستغني كما يستغني. ولا يرخَّم المحكيُّ أيضاً ولا يضاف بالياء؛ وبذلك لأنَّك لا تقول: هذا زيد أخوكي ولا برق نحر هي، وهو يضيف إلى نفسه، ولكنَّه يجوز أن يحذف فيقول: تأبَّطي وبرقي، فتحذف وتعمل به عملك بالمضاف، حتى تصير الإضافة على شيء واحد لا يكون حكايةً لو كان اسماً فمن لم يقل ذا فطوّل له الحديث فإنه يقبح جدّا.
وسألت الخليل عن رجلٍ يسمَّى خيراً منك، أو مأخوذاً بك، أو ضارباً رجلا، فقال: هو على حاله قبل أن يكون اسما. وذلك أنَّك تقول: رأيت خيراً منك، وهذا خيرٌ منك، ومررت بخيرٍ منك.

قلت: فإن سمّيت بشيء منها امرأة؟ فقال: لا أدع التنوين، من قبل أن خيراً ليس منتهى الاسم، ولا مأخوذا، ولا ضاربا. ألا ترى أنك إذا قلت: ضاربٌ رجلا أو مأخوذٌ بك وأنت تبتدئ الكلام احتجت ههنا إلى الخبر كما احتجت إليه في قولك: زيدٌ، وضاربٌ ومنك بمنزلة شئ من الاسم، في أنَّه لم يسند إلى مسند وصار كمال الاسم، كما أنَّ المضاف إليه منتهى الاسم وكماله. ويدلّك على أنَّ ذا ينبغي له أن يكون منوّنا قولهم: لا خيراً منه لك، ولا ضارباً رجلاً لك، فإنَّما ذا حكاية، لأن خيراً منك كلمة على حدة، فلم يحذف التنوين منه في موضع حذف التنوين من غيره، لأنَّه بمنزلة شئ من نفس الحرف، إذ لم يكن في المنتهى. فعلى هذا المثال تجري هذه الأسماء. وهذا قول الخليل.
وإن سمّيت رجلا بعاقلةٍ لبيبةٍ أو عاقلٍ لبيبٍ، صرفته وأجريته مجراه قبل أن يكون اسماً. وذلك قولك: رأيت عاقلةً لبيبةً يا هذا، ورأيت عاقلاً لبيباً يا هذا. وكذلك في الجرّ والرفع منوَّن؛ لأنه ليس بشىء عمل بعضه في بعض فلا ينوَّن، وينوَّن لأنك نونتنه نكرةً، وإنَّما حكيت.
فإن قلت: ما بالي إن سميته بعاقلة لم أنوِّن؟ فإنك إن أردت حكاية النكرة جاز، ولكن َّ الوجه ترك الصرف. والوجه في ذلك الأوّل الحكاية وهو القياس، لأنَّهما شيئان، ولأنَّهما ليس واحدٌ منهما الاسم دون صاحبه، فإنما هي الحكاية وإنما ذا بمنزلة امرأة بعد ضارب إذا قلت هذا ضاربٌ امرأة إذا أردت النكرة، وهذا ضاربٌ طلحة إذا أردت المعرفة.
وسألت الخليل عن رجلٍ يسمَّى من زيد وعن زيد فقال: أقول: هذا من زيدٍ، وعن زيدٍٍ. وقال أغيّره في ذا الموضع وأصيَّره بمنزلة الأسماء كما فعل ذلك به مفرداً يعني عن ومن ولو سمّيته قط لقلت زيدٍ لقلت: هذا قط زيدٍ، ومررت بقط زيد، حتَّى تكون بمنزلة حسبك، لأنَّك قد حوّلته وغيّرته، وإنما عمله فيما بعده كعمل الغلام إذا قلت: هذا غلام زيدٍ. ألا ترى أنَّ من زيدٍ لا يكون كلاماً حتَّى يكون معتمدا علة غيره. وكذلك قط زيدٍ، كما أنَّ غلام زيدٍ لا يكون كلاما حتَّى يكون معه غيره. ولو حكيته مضافا ولم أغيّره لفعلت به ذلك مقرداً، لأني رأيت المضاف لا يكون حكايةً كما لا يكون المفرد حكايةً. ألا ترى أنَّك لو سمّيت رجلا وزن سبعة قلت: هذا وزن سبعة فتجعله بمنزلة طلحة. والدَّليل على ذلك أنَّك لو سمّيت رجلا خمسة عشر زيد لقلت: هذا خمسة عشر زيد، تغير كما تغيّر. أمس، لأنَّ المضاف من حدّ التسمية.
قلت: فإن سمَّيته بفي زيدٍ لا تريد الفم؟ قال: أثقِّله فأقول: هذا فيُّ زيدٍ كما ثقلَّته إذا جعلته اسماً لمؤنّث لا ينصرف. ولا يشبه ذا فاعبد الله، لأنّ ذا إنّما احتمل عندهم في الإضافة حيث شبّهوا آخره بآخر أب، يعني الفم مضافاً، وصار حرف الإعراب غير محرّك فيه إذ كان مفرداً على غير حاله في الإضافة. فأما في فليست هذه حاله، وياؤه تحرّك في النصب. وليس شيء يتحرّك حرف إعرابه في الإضافة ويكون على بناءٍ إلا لزمه ذلك في الانفراد. وكرهوا أن يكون على حالٍ إن نوّن كان مختلاّ عندهم.
ولو سمّيته طلحة وزيداً، أو عبد الله زيداً، وناديت نصبت ونونّت الآخر ونصبته، لأنّ الأول في موضع نصب وتنوين.
واعلم أنّك لا تثَّني هذه الأسماء، ولا تحقّرها، ولا ترخمّها، ولا تضيفها ولا تجمعها. والإضافة إليها كالإضافة إلى تأبَّط شرَّا؛ لأنَّها حكايات.
وسألت الخليل عن إنَّما وأنَّما وكأنَّما وحيثما وإمَّا في، قولك: إمَّا أن تفعل وإمّا أن لا تفعل، فقال: هنّ حكايات، لأنَّ ما هذه لم تجعل بمنزلة موت في حضرموت. ألا ترى أنها لم تغيِّر حيث عن أن يكون فيها اللغتان: الضمُّ ولافتح. وإنّما تدخل لمنع أن من النصب، ولتدخل حيث في الجزاء، فجاءت مغيِّرة، ولم تجيء كموت في حضر ولا لغواً.
والدَّليل على أن ما مضمومة إلى إن قول الشاعر:
لقد كذبتك نفسك فأكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر
وإنَّما يريدون إمَّا. وهي بمنزلة ما مع أن في قولك: أمَّا أنت منطلقاً انطلقت معك.

وكان يقول: إلاَّ التي للاستثناء بمنزلة دفلى، وكذلك حتَّى. وأمّا إلاِّ وإمّا في الجزاء فحكاية. وأما التي في قولك: أمَّا زيد فمنطلق فلا تكون حكايةً، وهي بمنزلة شروى. وكان يقول: أمَّا التي في الاستفهام حكاية، وألا التي في الاستفهام حكاية. وأمّا قولك: ألا إنّه ظريف، وأما إنّه ظريف، فبمنزلة قفاً ورحىً ونحو ذلك. ولعلّ حكاية؛ لأنَّ اللام ها هنا زائدة، بمنزلتها في لأفعلنّ. ألا ترى أنك تقول: علَّك. وكذلك كأنَّ، لأنَّ الكاف دخلت للتشبيه. ومثل ذلك كذا وكأيّ، وكذلك: ذلك، لأنَّ هذه الكاف لحقت للمخاطبة، وكذلك أنت التاء بمنزلة الكاف.
وقال: ولو سميت رجلا: هذا، أو هؤلاء، تركته على حاله، لأنِّي إذا تركت هاء التنبيه على حالها فإنما أريد الحكاية، فمجراها ها هنا مجراها قبل أن تكون اسماً.
وأما هلَّم فزعم أنَّها حكاية في اللغتين جميعاً، كأنَّها لمَّ أدخلت عليها الهاء، كما أدخلت ها على ذا؛ لأنِّي لم أر فعلاً قط بني على ذا ولا اسماً ولا شيئاً يوضع موضع الفعل وليس من الفعل. وقول بني تميم: هلممن يقوّي ذا، كأنَّك قلت: الممن فأذهبت ألف الوصل. قال: وكذلك لوما ولولا. وسمعت من العرب من يقول: لا من أين يا فتى، حكى ولم يجعلها اسماً.
ولو سميّت رجلا بو زيد، أو وزيداً، أو زيد، فلا بدَّ لك من أن تجعله نصباً أو رفعاً أو جرّا تقول: مررت بوزيداً، ورأيت وزيداً وهذا زيداً. كذلك الرفع والجرّ، لأنَّ هذا لا يكون إلاّ تابعا.
وقال: زيد الطَّويل حكاية، بمنزلة زيد منطلق، وهو اسم امرأة بمنزلته قبل ذلك، لأنهما شيئان، كعاقلةٍ لبيبةٍ. وهو النداء على الأصل، تقول: يا زيد الطويل. وإن جعلت الطوّيل صفةً صرفته بالإعراب، وإن دعوته قلت: يا زيداً الطويل. وإن سمّيته زيداً وعمراً، أو طلحة عمر لم تغيِّره. ولو سمّيت رجلا أولاء قلت: هذا أولاء. وإذا سمّيت رجلاً: الذي رأيته والذي رأيت، لم تغيَّره عن حاله قبل أن يكون اسماً؛ لأن الذي ليس منتهى الاسم، وإنَّما منتهى الاسم الوصل؛ فهذا لا يتغيّر عن حاله كما لم يتغّير ضارب أبوه اسم امرأة عن حاله، فلا يتغيّر الذي كما لم يتغيّر وصله. ولا يجوز لك أن تناديه كما لا يجوز لك أن تنادي الضارب أبوه إذا كان اسماً، لأنَّه بمنزلة اسم واحد فيه الألف واللام. ولو سمّيته الرجل المنطلق جاز أن تناديه فتقول يا الرجل منطلق لأنك سميته بشيئين كلُّ واحد منهما اسم تام.
والذي مع صلته بمنزلة اسم واحد نحو الحارث، فال يجوز فيه النداء كما لا يجوز فيه قبل أن يكون اسما. وأما الرَّجل منطلق فبمنزلة تأبَّط شرًّا، لأنَّه لا يتغير عن حاله، لأنه قد عمل بعضه في بعض. ولو سمّيته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء، لأنَّ ذا يجري مجراه قبل أن يكون اسما في الجرّ والنصب والرفع.
ولا يجوز أن تقول: يا أيُّها الذي رأيت؛ لأنه اسم غالب كما لا يجوز يا أيُّها النَّضر وأنت تريد الاسم الغالب. وإذا ناديته والاسم زيد وعمرو، قلت: يا زيداً وعمراً؛ لأنًّ الاسم قد طال ولم يكن الأوّل المنّهى ويشرك الآخر، وإنَّما هذا بمنزلته إذا كان اسمه مضافا.
وإن ناديته واسمه طلحة وحمزة نصبت بغير تنوين كنصب زيد وعمرو، وتنوّن زيداً وعمراً وتجريه على الأصل. وكذلك هذا وأشباهه يردُّ إذا طال على الأصل، كما ردّ ضارباً رجلاً.
وأما كزيدٍ وبزيدٍ فحكايات، لأنَّك لو أفردت الباء والكاف غيَّرتها ولم تثبت كما ثبتت من.
وإن سمّيت رجلا عمَّ فأردت أن تحكي في الاستفهام، تركته على حاله كما تدع أزيد وأزيد، إذا أردت النداء.
وإن اردت أن تجعله اسما قلت: عن ماءٍ لأنَّك جعلته اسما وتمد ماءً كما تركت تنوين سبعة؛ لأنَّك تريد أن تجعله اسماً مفردا أضيف هذا إليه بمنزلة قولك: عن زيد. وهن ههنا مثلها مفردةً؛ لأن المضاف في هذا بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الاسم حكاية؛ كم أنّ الألف واللام لا تجعلان الاسم حكاية؛ وإنّما هو داخل في الاسم وبدل من التنوين، فكأنه الألف واللام.
هذا باب الإضافة، وهو باب النسبةاعلم أنَّك إذا أضفت رجلاً إلى رجل فجعلته من آل ذلك الرجل، ألحقت ياءي الإضافة.
فإن أضفته إلى بلد فجعلته من أهله، ألحقت ياءي الإضافة؛ وكذلك إن أضفت سائر الأسماء إلى البلاد، أو إلى حيٍّ أو قبيلة.

واعلم أن ياءي الإضافة إذا لحقتا الأسماء فإنَّهم مما يغيّرونه عن حاله قبل أن تلحق ياءي الإضافة. وإنَّما حملهم على ذلك تغييرهم آخر الاسم ومنتها، فشجعهم على تغييره إذا أحدثوا فيه ما لم يكن.
فمنه ما يجيء على غير قياس، ومنه ما يعدل وهو القياس الجاري في كلامهم وستراه إن شار الله.
قال الخليل: كلُّ شيء من ذلك عدلته العرب تركته على ما عدلته عليه، وما جاء تامّا لم تحدث العرب فيه شيئاً فهو على القياس.
فمن المعدول الذي هو على غير قياس قولهم في هذيلٍ: وفي فقيم كنانة: فقميٌّ، وفي مليح خزاعة: ملحيٌّ، وفي ثقيفٍ: ثقفيٌّ، وفي زبينة: زبانيٌّ، وفي طّيءٍ: طائيٌّ، وفي العالية: علويٌّ، والبادية بدويٌّ، وفي البصرة: بصريٌّ، وفي السَّهل سهليٌّ، وفي الدَّهر: دهريٌّ، وفي حيٍّ من بني عديّ يقال لهم بنو عبيدة: عبديٌّ فضمّوا العين وفتحوا الباء فقالوا عبديٌّ؟ وحدَّثنا من نثق به أنَّ بعضهم يقول في بني جذيمة جذميٌّ، فيضم الجيم ويجريه مجرى عبديٌّ.
وقالوا في بني الحبلي من الأنصار: حبليٌّ، وقالوا في صنعاء: صنعائيٌّ، وفي شتاء: شتويٌّ، وفي بهراء قبيلة من قبيلة قضاعة: بهرانيٌّ، وفي دستواء: دستوانيٌّ مثل بحرانيٍّ.
وزعم الخليل أنَّهم بنوا البحر على فعلان، وإنَّما كان للقياس أن يقولوا: بحريٌّ.
وقالوا في الأفق: أفقيٌّ، ومن العرب من يقول: أفقيٌّ فهو على القياس. وقالوا في حروراء، وهو موضع: حروريٌّ، وفي جلولاء: جلوليٌّ، كما قالوا في خراسان: خرسيٌّ، وخراسانيٌّ أكثر، وخراسيٌّ لغةٌ.
وقال بعضهم: إبل حمضية إذا أكلت الحمض، وحمضية أجود. وقد يقال: بعير حامض وعاضه إذا أكل العضاه، وهو ضرب من الشجر. وحمضية أجود وأكثر وأقيس في كلامهم.
وقال بعضهم: خرفيَّ، أضاف إلى الخريف وحذف الياء. والخرفيٌّ في كلامهم أكثر من الخريفيّ إما أضافه إلى الخرف، وإمّا بنى الخريف على فعلٍ.
وقالوا: إبل طلاحية، إذا أكلت الطَّلح. وقالوا في عضاه: عضاهيٌّ في قول من جعل الواحدة عضاهة مثل قتادة وقتاد. والعضاهة بكسر العين، على القياس. فأمّا من جعل جميع العضة عضوات، وجعل الذي ذهب الواو فإنَّه يقول: عضويٌّ. وأمّا من جعله بمنزلة المياه وجعل الواحدة عضاهةً فإنه يقول عضاهيٌّ.
وسمعنا من العرب من يقول: أمويٌّ. فهذه الفتحة كالضمّة في السَّهل إذا قالوا سهليٌّ.
وقالوا: روحانيٌّ في الروَّحاء، ومنهم من يقول: روحاويٌّ كما قال بعضهم بهراويٌّ، حدثنا بذلك يونس. وروحاويٌّ أكثر من بهراويّ.
وقالوا: في القفا: قفيٌّ، وفي طهيّة: طهويٌّ، وقال بعضهم طهويٌّ على القياس، كما قال الشاعر:
بكلِّ قريشيٍّ إذا ما لقيته ... سريع إلى داعي النَّدى والتكرُّم
ومما جاء محدوداً عن بنائه محذوفة منه إحدى الياءين ياءي الإضافة قولك في الشَّأم: شآم، وفي تهامة: تهامٍ، ومن كسر التاء قال: تهاميٌّ، وفي اليمن يمانٍ.
وزعم الخليل أنهم ألحقوا هذه الألفات عوضاً من ذهاب إحدى الياءين، وكأنَّ الذين حذفوا الياء من ثقيف وأشباهه جعلوا الياءين عوضاً منها. فقلت: أرأيت تهامة، أليس فيها الألف؟ فقال: إنَّهم كسَّروا الاسم على أن يجعلوه فعليّاً أو فعليّاً، فلمَّا كان من شأنهم أن يحذفوا إحدى الياءين ردّوا الألف، كأنَّهم بنوه تهميٌّ أو تهميٌّ، وكأنَّ الذين قالوا: تهامٍ، هذا البناء كان عندهم في الأصل، وفتحتّهم التاء في تهامة حيث قالوا: تهامٍ يدٌّلك على أنَّهم لم يدعوا على بنائه.
ومنهم من يقول: تهاميٌّ ويمانيٌّ وشآميٌّ، فهذا كبحرانيّ وأشباهه مما غيَّر بناؤه في الإضافة. وإن شئت قلت: يمنيٌّ.
وزعم أبو الخطَّاب أنه سمع من العرب من يقول في الإضافة إلى الملائكة والجن جميعاً روحانيٌّ، وللجميع: رأيت روحانيِّين.
وزعم أبو الخطاب، أنّ العرب تقوله لكل شيء فيه الرُّوح من الناس والدوابّ والجن.
وجميع وزعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول شآمي هذا إذا صار اسماً في غير هذا الموضع فأضفت إليه جرى على القياس، كما يجري تحقير ليلة ونحوهما إذا حوّلتَّهما فجعلتها اسماً علما.
وإذا سمّيت رجلاص زبينة لم تقل: زبانيٌّ، أو دهراً لم تقل: دهريٌّ، ولكن تقول في الإضافة إليه: زبنيٌّ، ودهريٌّ.
باب ما حذف الياء والواو فيه القياس

وذلك قولك في ربيعة: ربعيٌّ، وفي حنيفة: حنفيٌّ، وفي جذيمة: جذميٌّ، وفي جهينة: جهنيٌّ، وفي قتيبة: قتبيٌّ، وفي شنوءة: شنىءٌّ وتقديرها: شنوعة وشنعيٌّ؛ وذلك لأنّ هذه الحروف قد يحذفونها من الأسماء لما أحدثوا في آخرها لتغييرهم منتهى الاسم، فلما اجتمع في آخر الاسم تغييره وحذف لازم لزمه حذف هذه الحروف؛ إذ كان من كلامهم أن يحذف لأمرٍ واحد، فكلّما ازداد التغيير كان الحذف ألزم، إذ كان من كلامهم أن يحذفوا لتغيير واحد.
وهذا شبيه بإلزامهم الحذف هاء طلحة، لأنَّهم قد يحذفون ممَّا لا يتغيَّر، فلمَّا كان هذا متغيَّراً في الوصل كان الحذف له ألزم.
وقد تركوا التغيير في مثل حنيفة، ولكنه شاذٌّ قليل، قد قالوا في سليمة: سليميٌّ، وفي عميرة كلب: عميريٌّ. وقال يونس: هذا قليل خبيث. وقالوا في خريبة: خريبيٌّ. وقالوا سليقيٌّ للرجل يكون من أهل السّليقة.
وسألته عن شديدة فقال: لا أحذف، لاستثقالهم التضعيف، وكأنَّهم تنكَّبوا التقاء الدالين وسائر هذا من الحروف.
قلت: فكيف تقول في بني طويلة؟ فقال: لا أحذف، لكراهيتهم تحريك هذه الواو في فعل، ألا ترى أنَّ فعل من هذا الباب العين فيه ساكنة والألف مبدلة، فيكره هذا كما يكره التضعيف، وذلك قولهم في بني حويزة: حويزيٌّ.
باب الإضافة إلى اسمكان على أربعة أحرف فصاعدا إذا كان آخره ياء ما قبلها حرف منكسر فإذا كان الاسم في هذه الصفة أذهبت الياء إذا جئت بياءي الإضافة، لأنَّه لا يلتقي حرفان ساكنان. ولا تحرَّك الياء إذا كانت في هذه الصفة لم تنكسر ولم تنجرّ، ولا تجد الحرف الذي قبل ياء الإضافة إلا مكسوراً. فمن ذلك قولهم في رجل من بني ناجية: ناجيٌّ، وفي أدل: أدليٌّ، وفي صحار: صحاريٌّ، وفي ثمان: ثمانيٌّ، وفي رجل اسمه يمان: يمانيٌّ. وإنَّما ثقلَّت لأنّك لو أضفت إلى رجل اسمه بخاتيٌّ يمني أو هجري أحدثت ياءين سواهما وحذفتهما. والدليل على ذلك أنك لو أضفت إلى رجل اسمه بخاتي لقلت بخاتي كما ترى.
ولو كنت لا تحذف الياءين اللتين في الاسم قبل الإضافة لم تصرف بخاتيٌّ ولكنهما ياءان تحدثان وتحذف الياءان اللتان كانتا في الاسم قبل الإضافة.
وتقول إذا أضفت إلى رجل اسمه يرمي: يرميٌّ كما ترى.
وإذا اضفت إلى عرقوة قلت: عرقيٌّ.
وقال الخليل: من قال في يثرب: يثربيٌّ، وفي تغلب تغلبيٌّ ففتح مغيِّراً فإنه غيَّر مثل يرمي على ذا الحدّ قال: يرمويٌّ، كأنّه أضاف إلى يرمي. ونظير ذلك قول الشاعر:
فكييف لنا باشُّرب إن لم تكن لنا ... دوانيق عند الحانويِّ ولا نقد
والوجه الحانيُّ، كما قال علقمة بن عبدة:
كأس عزيز من الأعناب عتَّقها ... لبعض أربابها حانية حوم
لأنَّه إنَّما أضاف إلى مثل: ناجية، وقاض.
وقال الخليل: الذين قالوا: تغلبيٌّ ففتحوا مغيِّرين كما غيَّروا حين قالوا سهليٌّ وبصريٌّ في بصريّ، ولو كان ذا لازماً كانوا سيقولون في يشكر: يشكريٌّ، وفي جلهم: جلهميٌّ. وأن لا يلزم الفتح دليل على أنَّه تغيير كالتغيير الذي يدخل في الإضافة ولا يلزم؛ وهذا قول يونس.
باب الإضافة إلى كل شيءٍ من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهنَّ، إذا كان على ثلاثة أحرف وكان منقوصاً للفتحة قبل اللام تقول في هدىً: هدويُّ، وفي رجل اسمه حصىً: حصويٌّ، وفي رجل اسمه رحى: رحويٌّ. وإنما منعهم من الياء إذا كانت مبدلة استثقالاً لإظهارها أنهم لم يكونوا ليظهروها إلى ما يستخفُّون، إنما كانوا يظهرونها إلى توالي الياءات والحركات وكسرتها، فيصير قريبا من أميٍّ؛ فلم يكونوا ليردُّوا الياء إلى ما يستثقلون إذ كانت معتلَّة مبدلة فراراً ممّا يستثقلون قبل أن يضاف الاسم، فكرهوا أن يردُّوا حرفا قد استثقلوه قبل أن يضيفوا إلى الاسم في الإضافة، إذ كان ردُّه إلى بناء هو أثقل منه في الياءات وتوالي الحركات؛ وكسرة اليا، وتوالي الياءات مما يثقلّه، لأنَّا رأيناهم غيَّروا للكسرتين والياءين الاسم استثقالاً، فلما كانت الياءان والكسرة والياء فيما توالت حركاته ازدادوا استثقالاً. وستراه إن شاء الله.

وإذا كانت الياء ثالثة، وكان الحرف قبل الياء مكسوراً، فإنّ الإضافة إلى ذلك الاسم تصيّره كالمضاف إليه في الباب الذي فوقه، وذلك قولهم في عمٍ: عمويٌّ، وفي ردٍ: ردويٌّ. وقالوا كلّهم في الشجَّي: شجويٌّ، وذلك لأنَّهم رأوا فعل بمنزلة رأوا فعل بمنزلة فعل في غير المعتلّ، كراهية للكسرتين مع الياءين ومع توالي الحركات، فأقرّوا الياء وأبدلوا، وصيّروا الاسم إلى فعل، لأنَّها لم تكن لتثبت ولا تبدل مع الكسرة، وأرادوا أن يجري مجرى نظيره من غير المعتلّ، فلمّا وجدوا الباب والقياس في فعلٍ أن يكون بمنزلة فعلٍ أقرُّوا الياء على حالها وأبدلوا، إذ وجدوا فعل قد اتلأبَّ لأن يكون بمنزل فعل.
وما جاء من فعلٍ بمنزلة فعل قولهم في النَّمر: نمريٌّ، وفي الحبطات حبطيٌّ، وفي شقرة: شقريٌّ، وفي سلمة: سلمىٌّ. وكأنَّ الذين قالوا: تغلبيٌّ أرادوا أن يجعلوه بمنزلة تفعل، كما جعلوا فعل كفعل للكسرتين مع الياءين، إلاَّ أنَّ ذا ليس بالقياس اللازم، وإنما هو تغيير؛ لأنَّه ليس توالي ثلاث حركات. والذين قالوا: حانويٌّ شبهوه بعمويٍ.
وإن أضفت إلى فعلٍ لم تغيّره، لأنّها إنّما هي كسرة واحدة، كلُّهم يقولون: سمريٌّ. والدٌّئل بمنزلة النَّمر، تقول: دؤليٌّ. وكذلك سمعناه من يونس وعيسى.
وقد سمعنا بعضهم يقول في الصَّعق: صعقيَّ، يدعه على حاله وكسر الصاد، لأنَّه يقول: صعق، والوجه الجيّد فيه: صعقيٌّ، وصعقيٌّ جيّد.
فإن أضفت إلى علبط قلت: علبطيٌّ، وإلى جندل قلت: جندليٌّ لأنَّ ذا ليس كالنَّمر ليس فيه إلا حرفاً واحدا وهو النون وحدها، فلمّا كثر فيه الكسر والياءات ثقل، فلذلك غيَّروه إلى الفتح.
باب لإضافة إلى فعيل وفعيل من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهن، وما كان في اللفظ بمنزلتهما وذلك في قولك في عديٍ: وفي غنيٍ: غنويٌّ، وفي قصيٍّ: قصويٌّ وفي أميَّة: أمويٌّ. وذلك أنهم كرهوا أن توالي في الاسم أربع ياءات، فحذفوا الياء الزائدة التي حذفوها من سليم وثقيف حيث استثقلوا هذه الياءات، فأبدلوا الواو من الياء التي تكون منقوصة، لأنَّك إذا حذفت الزائدة فإنَّما تبقى التي تصير ألفاً، كأنه أضاف إلى فعلٍ أو فعلٍ.
وزعم يونس أنّ أناساً من العرب يقولون: أميِّيٌّ، فلا يغيِّرون لمَّا صار إعرابها كإعراب ما لا يعتل، شبّهوه به كما قالوا طيَّئيٌّ. وأما عديِّيٌّ فيقال وهذا أثقلن لأنه صارت مع الياءات كسرة.
وسألته عن الإضافة إلى حية فقال: حيويٌّ، كراهية أن تجتمع الياءات. والدليل على ذلك قول العرب في حية بن بهدلة: حيويٌّ، وحرّكت الياء لأنَّه لا تكون الواو ثابتة وقبلها ياء ساكنة. فإن أضفت إلى ليةٍ قلت: لوويٌّ؛ لأنَّك احتجت إلى أن تحرّك هذه الياء كما احتجت إلى تحريك ياء حيّةٍ. فلمّا حركتها رددتها إلى الأصل كما تردُّها إذا حرّكتها في التصغير. ومن قال: أميِّيٌّ قال: حييٌّ.
وكان أبو عمرو يقول: حييٌّ وليِّيٌّ. وليّةٌّ من لويت يده ليّةً.
وسألته عن الإضافة إلى عدوَ فقال: عدوّيٌّ. وإلى كوّةٍ فقال: كوّيٌّ، وقال: لا أغيره لأنه لم تجتمع الياءات، وإنَّما أبدل إذا كثرت الياءات فأفرُّ إلى الواو فإذا قدرت على الواو ولم أبلغ من الياءات غاية الاستثقال لم أغيَّره، ألا تراهم قالوا في الإضافة إلى مرمىٍ مرميٌّ، فجعله بمنزلة البختىّ إذ كان آخره كآخره في الياءات والكسرة. وقالوا في مغزوٍّ: مغزوّيٌّ؛ لأنَّه لم تجتمع الياءات. فكذلك كوةٌ وعدوٌّ. وحيّةٌ قد اجتمعت فيه الياءات. فإن أضفت إلى عدوّةٍ قلت: عدويٌّ من أجل الهاء، كما قلت في شنوءة: شنئىٌّ.
وسألته عن الإضافة إلى تحيَّةٍ فقال: تحويٌّ، وتحذف أشبه ما فيها بالمحذوف من عديٍ وهو الياء الأولى، وكذلك كلُّ شيء كان في آخره هكذا.
وتقول في الإضافة إلى قسيٍ وثديٍ: ثدويٌّ وقسويٌّ؛ لأنَّها فعول فتردُّها إلى اصل البناء، وإنما كسر القاف والثاء قبل الإضافة لكسرة ما بعدهما وهو السين والدال، فإذا ذهبت العلَّةُ صارتا على الأصل. تقول في الإضافة إلى عدوٍ: عدويٌّ، وإلى عدوةٍ: عدويٌّ، وإلى مرمّىٍ: مرميٌّ تحذف اليائين وتثبت ياءي الإضافة. وإلى مرميّة مرميٌّ، تحذف اليائين الأوليين. ومن قال: حانويٌّ قال: مرمويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ياءً

وكان الحرف الذي قبل الياء ساكناً، وما كان آخره واواً وكان الحرف الذي قبل الواو ساكناً وذلك نحو ظبيٍ ورميٍ وغزوٍ ونحوٍ، تقول، ظبييٌّ ورمييٌّ وغزويٌّ ونحويٌّ، ولا تغيّر الياء والواو في هذا الباب؛ أنه حرف جرى مجرى غير المعتل. تقول: غزوٌ فلا تغيِّر الواو كما تغيّر في غدٍ. وكذلك الإضافة إلى نحيٍ وإلى العري.
فإذا كانت هاء التأنيث بعد هذه الياءات فإنَّ فيه اختلافاً: فمن الناس من يقول في رمية: رمييٌّ وفي ظبيةٌّ، وفي دميةٍ: دمييٌّ، وفي فتيةٍ: فتييٌّ، وهو القياس، من قبل أنَّك تقول رميٌّ ونحيٌّ فتجريه مجرى ما لا يعتل نحو درع وترس ومتن، فلا يخالف هذا النحو، كأنَّك أضفت إلى شيء ليس فيه ياء.
فإذا جعلت هذه الأشياء بمنزلة ما لا ياء فيه فأجره في الهاء مجراه وليست فيه هاء، لأنَّ القياس أن يكون هذا النحو من غير المعتل في الهاء بمنزلته إذا لم تكن فيه الهاء، ولا ينبغي أن يكون أبعد من أمييٍّ، فإذا جاز في اميَّة أمييٌّ، فهو أن يجوز في رمييٍّ أجدر، لأنَّ قياس أميَّة وأشباهها التغيير. فهذا الباب يجرونه مجرى غير المعتل.
وحدثنا يونس أنَّ أبا عمرو وكان يقول في ظبية: ظبييٌّ. ولا ينبغي أن يكون في القياس إلاَّ هذا إذ جاز في أميّة وهي معتلّة، وهي أثقل من رمييٍ: وأما يونس فكلن يقول في ظبيةٍ: ظبويٌّ، وفي دميةٍ: دمويٍ، وفي فتية: فتويٍ. فقال الخليل: كأنّهم شبَّهوها حيث دخلتها الهاء بفعلة؛ لأنَّ اللَّفظ بفعلةٍ إذا أسكنت العين وفعلةٍ من بنات الواو سواء. يقول: لو بينت فعلةً من بنات الواو لصارت ياءً، لو أسكنت العين على ذلك المعنى لثبتت ياءً ولم ترجع إلى الواو، فلمَّا رأوها آخرها يشبه آخرها جعلوا إضافتها كإضافتها، وجعلوا دميةً كفعلةً، وجعلوا فتيةً بمنزلة فعلةٍ.
هذا قول الخليل: وزعم أنَّ الأول أقيسهما وأعربهما. ومثل هذا قولهم في حى من العرب يقال لهم: بنو زنية: زنويٌّ، وفي البطية: بطويٌّ.
وقال: لا اقول في غزوةٍ إلاَّ غزويٌّ، لأنَّ ذا لا يشبه آخره آخر فعلة إذا أسكنت عينها. ولا تقول في غدوةٍ إلاّ غدويٌّ لأنه لا يشبه فعلةً ولا فعلةً، ولا يكون فعلة ولا فعلة من بنات الواو هكذا.
ولا تقول في عروةٍ إلاّ عرويٌّ لأن فعلةً من بنات الواو إذا كانت واحدة فعلٍ لم تكن هكذا وإنّما تكون ياء، ولو كانت فعلة ليست على فعل كما أن بسرةً على بسر لكان الحرف الذي قبل الواو يلزمه التحريك، ولم يشبه عروةً، وكنت إذا أضفت إليه جعلت مكان الواو ياءً كما فعلت ذلك بعرقوة، ثم يكون في الإضافة بمنزلة فعل.
وإن أسكنت ما قبل الواو في فعلةٍ من بنات الواو التي ليست واحدة فعل فحذفت الهاء لم تغيَّر الواو، لأنَّ ما قبلها ساكن. ويقوَّي أنَّ الواوات لا تغيَّر قولهم في بني جروة، وهم حيّ من العرب: حرويٌّ.
وأمّا يونس فجعل بنات الياء في ذا وبنات الواو سواء، ويقول في عروةٍ: عرويٌّ. وقولنا: عرويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى كلّ شيء لامه ياء أو واو وقبلها ألف ساكنة غير مهموزة وذلك نحو سقايةٍ وصلابةٍ ونفايةٍ وشقاوةٍ وغباوةٍ. تقول في الإضافة إلى سقاية: سقائيٌّ، وفي صلاية: صلائيٌّ، وإلى نفاية: نفائيٌّ، كأنَّك أضفت إلى سقاء وإلى صلاء، لأنَّك حذفت الهاء، ولم تكن الياء لتثبت بعد الألف فأبدلت الهمزة مكانها، لأنَّك أردت أن تدخل ياء الإضافة على فعال أو فعال أو فعالٍ.
وإن أضفت إلى شقاوة وغباوة وعلاوة قلت: شقاويٌّ وغباويٌّ وعلاويٌّ؛ لأنَّهم قد يبدلون مكان الهمزة الواو لثقلها، ولأنَّها مع الألف مشبَّهة بآخر حمراء حين تقول: حمراويٌّ وحمراوان. فإن خففت الهمزة فقد اجتمع فيها لأنَّها تستثقل وهي مع ما شبهها وهي الألف، وهي في موضع اعتلال وآخره كآخره حمراء. فإن خفّفت الهنزة اجتمعت حروف مشابهة كأنها ياءات، وذلك قولك في كساء: كساوان، ورداء: رداوان، وعلباء: علباوان.

وقالوا في غداء: غداويٌّ، وفي رداء: رداويٌّ، فلما كان من كلامهم قياساً مستمراً أن يبدلوا الواو مكان هذه الهمزة في هذه الأسماء استثقالاً لها، صارت الواو إذا كانت في الاسم أولى؛ لأنَّهم قد يبدلونها وليست في الاسم فراراً إليها، فإذا قدروا عليها في الاسم لم يخرجوها، ولا يفرُّون إلى الياء لأنَّهم لو فعلوا ذلك صاروا إلى نحو ما كانوا فيه؛ لأنَّ الياء تشبه الألف فيصير بمنزلة ما اجتمع فيه أربع ياءات؛ لأنَّ فيها حينئذ ثلاث ياءات، والألف شبيهة بالياء فتضارع أمييٌّ؛ فكرهوا أن يفرّوا إلى ما هو أثقل ممَّا هم فيه، فكرهوا الياء كما كرهوا في حصى ورحى. قال الشاعر، وهو جرير، في بنات الواو:
إذا هبطن سماوياً موارده ... من نحو دومة خبث قلَّ تعريسى
وياء درحاية بمنزلة الياء التي من نفس الحرف، ولو كان مكانها واو كانت بمنزلة الواو التي من نفس الحرف؛ لأنَّ هذه الواو والياء يجريان مجرى ما هو نفس الحرف، مثل السَّماوي والطَّفاوي.
وسألته عن الإضافة إلى رايةٍ وطايةٍ وثايةٍ وآيةٍ ونحو ذلك، فقال: أقول رائيٌّ وطائيٌّ وثائيٌّ وآئيٌّ. وإنَّما همز والاجتماع الياءات مع الألف، والألف تشبَّه بالياء، فصارت قريباً مما تجتمع فيه اربع ياءات، فهمزوها استثقلاً، وأبدلوا مكانها همزة، لأنَّهم جعلوها بمنزلة الياء التي تبدل بعد الألف الزائدة؛ لأنهم كرهوها هاهنا كما كرهت ثمَّ، وهي هنا بعد ألف كما كانت ثمَّ، وذلك نحو ياء رداء.
ومن قال: أمييٌّ قال: آييٌّ وراييٌّ بغير همز، لأنَّ هذه لام غير معتلّة، وهي أولى بذلك أنه ليس فيها أربع ياءات، ولأنَّها أقوى. وتقول واو فتثبت كما تثبت في غزوٍ. ولو أبدلت مكان الياء الواو فقلت: ثاوىٌّ وآوىٌّ وطاويٌّ وراويٌّ جاز ذلك، كما قالوا: شاويٌّ، فجعلوا الواو مكان الهمزة. ولا يكون في مثل سقايةٍ سقاييٌّ فتكسر الياء ولا تهمز، لأنَّها ليست من الياءات التي لا تعتلّ إذا كانت نتهى الاسم، كما لا تعتلّ ياء أميّة إذا لم تكن فيها هاء.
ومثل ذلك قصيٌّ، منهم من يقول: قصيٍّ.
وإذا أضفت إلى سقاية فكأنَّك أضفت إلى سقاء، كما أنّك لو أضفت إلى رجل اسمه ذو جمَّةٍ قلت: ذوويٌّ كأنّك أضفت إلى ذواً. ولو قلت: سقاويٌّ جاز فيه وفي جميع جنسه كما يجوز في سقاء.
وحولايا وبرداريا بمنزلة سقايةٍ؛ لأنَّ هذه الياء لا تثبت إذ كانت منتهى الاسم، والألف تسقط في النسبة لأنَّها سادسة فهي كهاء درحاية.
واعلم أنّك إذا أضفت إلى ممدود منصرف فإنّ القياس والوجه أن تقرّه على حاله؛ لأن الياءات لم تبلغ غاية الاستثقال، ولأنَّ الهمزة تجري على وجوه العربية غير معتلّة مبدلة. وقد أبدلها ناس من العرب كثير على ما فسَّرنا، يجعل مكان الهمزة واواّ.
وإذا كانت الهمزة من أصل الحرف فالإبدال فيها جائز، كما كان فيما كان بدلاً من واو أو ياء، وهو فيها قبيح. وقد يجوز إذا كان أصلها الهمز مثل قراء ونحوه.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم آخره آلف مبدلة من حرف من نفس الكلمة على أربعة أحرف وذلك نحو ملهى ومرمىً، وأعشى وأعمى وأعيا، فهذا يجري مجرى ما كان على ثلاثة أحرف وكان آخره ألفاً مبدلة من حرف من نفس الكلمة نحو حصَّى ورحّى.
وسألت يونس عن معزى وذفرى فيمن نوّن فقال: هما بمنزلة ما كان من نفس الكلمة، كما صار علباء حين انصرف بمنزلة رداء في الإضافة والتثنية، ولا يكون أسوأ حالاً في ذا من حبلى.
وسمعنا العرب يقولون في أعيا: أعيويٌّ. بنو أعيا: حي من العرب من جرمٍ. وتقول في أحوى: أحوويٌّ. وكذلك سمعنا العرب تقول.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفا زائدة لا ينون وكان على أربعة أحرف وذلك نحو حبلى ودفلى؛ فأحسن القول فيه أن تقول: حبلىٌّ ودفلىٌّ؛ لأنها زائدة لم تجيء لتلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، فكرهوا أن يجعلوها بمنزلة ما هو من نفس الحرف وما اشبه ما هو من نفس الحرف.
وقالوا في سلَّى: سلِّىٌّ.

ومنهم من يقول: دفلاويٌّ، فيفرق بينها وبين التي من نفس الحرفبأن يلحق هذه الألف فيجعله كآخر ما لا يكون آخره إلاّ زائداً غير منّون، نحو: حمراويٍّ وضهياويّ، فهذا الضرب لا يكون إلاّ هكذا، فبنوه هذا البناء ليفرقوا بين هذه الألف وبين التي من نفس الحرف، فقالوا في دهنا: دهناويٌّ، وقالوا قي دنيا: دنياويٌّ وإن شئت قلت دنييٌّ على قولهم سلىٌّ.
ومنهم من يقول: حبلوى فيجعلها بمنزلة ما هو نفس الحرف. وذلك أنَّهم رأوها زائدة يبنى عليها الحرف، ورأوا الحرف في الغدَّة والحركة والسُّكون كملهىً فشبَّهوها بها، كما أنهم يشبّهون الشيء بالشيء الذي يخالفه في سائر المواضع.
قال: فإن قلت في ملهى: ملهىً لم أر بذلك بأساً، كما لم أر بحبلوىٍّ بأساً. وكما قالوا: مدارى فجاءوا به على مثال: حبالى وعذارى ونحوهما من فعالى، وكما تستوي الزيادة غير المنوّنة والتي من نفس الحرف إذا كانت كلّ واحدة منهما خامسة.
ولا يجوز ذا في قفاً، لأنَّ قفا وأشباهه ليس بزنة حبلى، وإنّما هي على ثلاثة أحرف فلا يحذفونها.
وأمَّا جمزى فلا يكون جمزاويٌّ ولا ولكن جمزيٌّ، لأنَّها ثقلت وجاوزت زنة ملهىً فصارت بمنزلة حبارى لتتابع الحركات. ويقوِّي ذلك أنَّك لو سمّيت امرأة قدماً لم تصرفها كما لم تصرف عناق.
والحذف في معزى أجوز، إذ جاز في ملهىً لأنها زائدة.
وأمّا حبلى فالوجه فيها ما قلت لك.
قال الشَّاعر:
كأنَّما يقع البصريٌّ بينهم ... من الطَّوائف والأعناق بالوذم
يريد: بصرى.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفاً وكان على خمسة أحرف تقول في حبارى: حباريٌّ، وفي جمادى: جماديٌّ، وفي قرقرى: قرقريٌّ. وكذلك كلُّ اسم كان آخره ألفاً وكان على خمسة أحرف.
وسألت يونس عن مرامىً فقال: مراميًّ، جعلها بمنزلة الزيادة. قال: لو قلت: مرامويٌّ لقلت: حبارويٌّ، كما أجازوا في حبلى حبلويٌّ. ولو قلت ذا لقلت في مقلولى: مقلولويٌّ. وهذا لا يقوله أحد، إنَّما يقال: مقلوليٌّ، كما تقول في يهيرى يهيريٌّ. فإذا سوِّى بين هذا رابعاً وبين الألف فيه زائدة نحو حبلى لم يجز إلاّ أن تجعل ما كان من نفس الحرف إذا كان خامساً بمنزلة حبارى. وإن فرَّقت، بين الزائد وبين الذي من نفس الحرف دخل عليك أن تقول في قبعثري: قبعثرويٌّ، لأنَّ آخره منَّون فجرى مجرى ما هو من نفس الكلمة. فإن لم تقل ذا وأخذت بالعدد فقد زعمت أنهما يستويان. وإنَّما ألزموا ما كان على خمسة أحرف فصاعداً الحذف لأنه حين كان رابعاً في الاسم بزنة ما ألفه من نفسه، فلمَّا كثر العدد كان الحذف لازما، إذ كان من كلامهم أن يحذفوه في المنزلة الأولى.
وإذا أزداد الاسم ثقلاً كان الحذف ألزم، كما أنَّ الحذف لربيعة حين اجتمع تغييران.
وأمَّا الممدود، مصروفاً كان أو غير مصروف، كثر عدده أو قلَّ، فإنه لا يحذف، وذلك قولك في خنفساء: خنفساويٌّ، وفي حرملاء: حرملاويٌّ وفي معيوراء معيوراويٌّ. وذلك أنَّ آخر الاسم لمّا تحرّك وكان حيّاً يدخله الجرّ والرفع والنصب صار بمنزلة: سلامان وزعفران، وكالأواخر التي من نفس الحرف نحو: آحر نجام واشهيباب، فصارت هكذا كما صار آخر معزًى حين نوّن بمنزلة آخر مرمىً. وإنَّما جسروا على حذف الألف لأنَّها ميّتة لا يدخلها جرّ ولا رفع ولا نصب فحذفوها كما حذفوا ياء ربيعة وحنيفة. ولو كانت الياءان متحركتيتن لم تحذفا لقوّة المتحرّك. وكما حذفوا الياء الساكنة من ثمانٍ حيث أضفت إليه. فإنَّما جعلوا ياءي الإضافة عوضاً. وهذه الألف أضعف، تذهب مع كلِّ، تذهب مع كلِّ حرف ساكن، فإنَّما هذه معاقبة كما عاقبت هاء الجحاجحة ياء الجحاجيح، فإنَّما يجسرون بهذا على هذه الحروف الميتة.
وسترى للمتحرك قوةً ليست للساكن في مواضع كثيرة إن شاء الله تعالى.
ولو أضفت إلى عثير، وهو التراب، أو حثيل، لأجريته مجرى حميريٍ.

وزعم يونس أن مثنّى بمنزلة معزى ومعطى، وهو بمنزلة مرامًى، لأنَّه خمسة أحرف. وإن جعلته كذلك فهو ينبغي له أن يجيز في عبدَّي: عبدَّويٌّ، كما جاز في حبلى: حبلويٌّ. فإن جعل النون بمنزلة حرف واحد، وجعل زنته كزنته فهو ينبغي له أن سمَّى رجلاً باسم مؤنَّث على زنة معدٍّ مدغم مثله أن يصرفه، ويجعل المدغم كحرف واحد. فهذه النون الأولى بمنزلة حرف ساكن ظاهر. وكذلك يجري في بناء الشِّعر وغيره.
فأمًا المصروف نحو حراء فمن العرب من يقول: حراويٌّ، ومنهم من يقول حرائيٌّ، لا يحذف الهمزة.
هذا باب الإضافة إلى كلّ اسم ممدود لا يدخله التنوين كثير العدد كان أو قليله فلإضافة إليه أن لا يحذف منه شيء، وتبدل الواو مكان الهمزة ليفرقوا بينه وبين المنوّن الذي هو من نفس الحرف وما جعل بمنزلته، وذلك قولك في زكريَّاء: زكريّاويٌّ، وفي بروكاء: بروكاويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى بنات الحرفين اعلم أن كلّ اسم على حرفين ذهبت لامه ولم يردَّ في تثنيته إلى الأصل ولا في الجمع بالتَّاء، كان أصله فعل أو فعل أو فعل، فإنَّك فيه بالخيار، إن شئت تركته على بنائه قبل أن تضيف إليه، وإن شئت غيّرته فرددت إليه ما خذف منه، فجعلوا الإضافة تغيَّر فتردّ كما تغيَّر فتحذف، نحو الف حبلى، وياء ربيعة وحنيفة، فلمّا كان ذلك من كلامهم غيَّروا بنات الحرفين التي حذفت لاماتهن بأن ردّوا فيها ما حذف منها، وصرت في الردّ وتركه على حاله بالخيار، كما صرت في حذف ألف حبلى وتركها بالخيار.
وإنما صار تغيير بنات الحرفين الردَّ لأنَّها أسماء مجهودة، لا يكون اسم على أقل من حرفين، فقويت الإضافة على ردِّ اللامات كما قويت على حذف ما هو من نفس الحرف حين كثر العدد، وذلك قولك: مرامىً.
فمن ذلك قولهم في دم: دميٌّ، وفي يدٍ: يديٌّ، وإن شئت قلت: دمويٌّ ويدويٌّ، كما قالت العرب في غدٍ: غدويٌّ. كلُّ ذلك عربّى.
فإن قال: فهلاَّ قالوا: غدويٌّ، وإنَّما يد وغد كلُّ واحد منهما فعل، يستدلّ على ذلك بقول ناس من العرب: آتيك غدواً، يريدون غداً.
قال الشاعر:
وما الناس إلاّ كالديار وأهلها ... بها يوم حلَّوها وغدواً بلاقع
وقولهم: أيد، وإنَّما هي أفعل، وأفعل جماع فعلٍ؟ لأنَّهم ألحقوا ما الحقوا ولا يريدون أن يخرجوا من حرف الإعراب التحرُّك الذي كان فيه، لأنَّهم أرادوا أن يزيدوا، لجهد الاسم، ما حذفوا منه، فلم يريدوا أن يخرجوا منه شيئاً كان فيه قبل أن يضيفوا، كما أنَّهم لم يكونوا ليحذفوا حرفاً من الحروف من ذا الباب، فتركوا الحروف على حالها، لأنَّه ليس موضع حذف.
ومن ذلك أيضاً قولهم في ثبةٍ: ثبيٌّ وثبويٌّ، وشفةٍ: شفيٌّ وشفهيٌّ.
وإنَّما جاءت الهاء لأنَّ اللام من شفةٍ الهاء. ألا ترى أنك تقول: شفاه وشفيهة في التصغير.
وتقول في حرٍ: حريٌّ، وحرحيٌّ، لأنَّ اللام الحاء، تقول في التصغير: حريح، وفي الجمع: أحراح.
وإن أضفت إلى رب فيمن خفَّف فرددت قلت ربيٌّ. وإنَّما أسكنت كراهية التضعيف، فيعاد بناؤه. ألا تراهم قالوا في قرّة قريٌّ لأنَّها من التضعيف، كما قالوا في شديدة: شديديٌّ كراهية التضعيف، فيعاد بناؤه.
باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرَّدّ وذلك قولك في أب أبويٌّ، وفي أخ: أخويٌّ، وفي حمٍ: حمويٌّ، ولا يجوز إلاَّ ذا، من قبل أنَّك تردّ من بنات الحرفين التي ذهبت لاماتهن إلى الأصل ما لا يخرج أصله في التثنية، ولا في الجمع بالتاء؛ فلمّا أخرجت التثنية الأصل لزم الإضافة أن تخرج الأصل، إذ كانت تقوى على الردّ فيما لا يخرج لامه في تثنيته ولا في جمعه بالتاء، فإذا ردّ في الأضعف في شيء كان في الأقوى أردَّ: واعلم أنَّ من العرب من يقول: هذا هنوك ورأيت هناك ومررت بهنيك، ويقول: هنوان فيجريه مجرى الأب. فمن فعل ذا قال: هنوات، يردُّه في التثنية والجمع بالتاء، وسنة وسنوات، وضعة وهو نبت ويقول: ضعوات، فإذا أضفت قلت: سنويٌّ وهنويٌّ.
والعلّة ههنا هي العلّة في: أبٍ وأخٍ ونحوهما.
ومن جعل سنةً من بنات الهاء قال: سنيهة وقال: سانهت، فهي بمنزلة شفة، تقول: شفهيٌّ وشنهيٌّ.
وتقول في عضةٍ: عضويٌّ، على قول الشاعر:
هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللَّهازما

ومن العرب من يقول: عضيهة، يجعلها من بنات الهاء بمنزلة شفةٍ إذا قالوا ذلك.
وإذا أضفت إلى أخت قلت: أخويٌّ، هكذا ينبغي له أن يكون على القياس.
وذا القياس قول الخليل، من قبل أنَّك لمّا جمعت بالتاء حذفت تاء التأنيث كما تحذف الهاء، وردت إلى الأصل. فالإضافة تحذفه كما تحذف الهاء، وهي أردُّله إلى الأصل.
وسمعنا من العرب من يقول في جمع هنتٍ: هنوات. قال الشاعر:
أرى ابن نزار قد جفاني وملَّني ... على هنوات كلُّها متتابع
فهي بمنزلة أخت وأما يونس فيقول أختي وليس بقياس.
هذا باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين فإن شئت تركته في الإضافة على حاله قبل أن يضيف، وإن شئت حذفت الزوائد ورددت ما كان له في الأصل. وذلك: ابن واسم واست، واثنان واثنتان وابنة. فإذا تركته على حاله قلت: اسمىٌّ واستىٌّ وابنىٌّ واثنىٌّ في اثنين واثنتين.
وحدثنا يونس: أن أبا عمرو كان يقوله.
وإن شئت حذفت الزوائد التي في الاسم ورددته إلى أصله فقلت: سمويٌّ وبنويٌّ وستهيٌّ. وإنَّما جئت في استٍ بالهاء لأنَّ لامها هاء، ألا ترى أنَّك تقول: الأستاه وستيهة في التحقير، وتصديق ذلك أنَّ أبا الخطّاب كان يقول: إنَّ بعضهم إذا أضاف إلى أبناء فارس قال: بنويٌّ. وزعم يونس أن أبا عمرو وزعم أنَّهم يقولون: ابنيٌّ، فيتركه على حاله كما ترك دم.
وأما الذين حذفوا الزوائد وردُّوا فإنهم جعلوا الإضافة تقوى على حذف الزوائد كقوتها على الردّ كما قويت على الردّ في دمٍ، وإنَّما قويت على حذف الزوائد لقوّتها على الردّ، فصار ماردّ عوضاً. ولم يكونوا ليحذفوا ولا يردّوا لأنهم قد ردّوا ما ذهب من الحرف للإخلال به، فإذا حذفوا شيئاً ألزموا الردّ، ولم يكونوا ليردّوا والزائد، لأنَّه إذا قوي على ردّ الأصل قوي على حذف ما ليس من الأصل، لأنهما متعاقبان.
وسألت الخليل عن الإضافة إلى ابنم فقال: إن شئت حذفت الزوائد فقلت: بنويٌّ كأنك أضفت إلى ابن. وإن شئت تركته على حاله فقلت: ابنميٌّ كما قلت: ابنيٌّ واستيٌّ.
واعلم أنَّك إذا حذفت فلا بدَّ لك من أن تردّ، لأنه عوض وإنَّما هي معاقبة، وقد كنت تردّ ما عدة حروفه حرفان وإن لم يحذف منه شيء، فإذا حذفت منه شيئاً ونقصته منه كان العوض لازماً. وأمَّا بنت فإنك تقول: بنويٌّ من قبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت في الإضافة كما لا تثبت في الجمع بالتاء.
وذلك لأنّهم شبَّهوها بهاء التأنيث، فلمَّا حذفوا وكانت زيادة في الاسم كتاء سنبتة وتاء عفريتٍ، ولم تكن مضمومة إلى الاسم كالهاء، يدّلك على ذلك سكون ما قبلها، جعلناها بمنزلة ابن.
فإن قلت: بنيٌّ جائز كما قلت: بنات، فإنَّه ينبغي لك أن تقول بنيٌّ في ابني؛ كما قلت في بنون، فإنَّما ألزموا هذه الردَّ في الإضافة لقوتها على الرد، ولأنَّها قد ترد ولا حذف، فالتاء يعوَّض منها كما يعوَّض من غيرها. وكذلك: كلتا وثنتان، تقول: كلويٌّ وثنويٌّ، وبنتان: بنويٌّ.
وأمّا يونس فيقول ثنتيٌّ، وينبغي له أن يقول: هنتيٌّ في هنه؛ لأنَّه إذا وصل فهي تاء كتاء التأنيث.
وزعم الخليل أنَّ من قال بنتي قال هنتي وهذا لا يقوله أحد وأعلم ذيت بمنزلة بنت، وإنَّما أصلها ذيّة عمل بها ما عمل بينت. يدلُّك عليه اللفظ والمعنى، فالقول في هنت وذيت مثله في بنت، لأنّ ذيت يلزمها التثقيل إذا حذفت التاء.
ثمَّ تبدل واواً مكان التاء، كما كنت تفعل لو حذفت التاء من أخت وبنت، وإنَّما ثقلَّت كتثقيلك كي اسما.
وزعم أن أصل بنت وابنة فعل كما أن أخت فعل؛ يدًّلك على ذلك أخوك وأخاك وأخيك، وقول بعض العرب فيما زعم يونس آخاء. فهذا جمع فعل.
وتقول في الإضافة إلى ذيَّة وذيت: ذيويًّ فيهما؛ وإنَّما منعك من ترك التاء في الإضافة أنّه كان يصير مثل: أختيٍّ، وكما أن هنت أصلها فعل، يدلك على ذلك قول بعض العرب: هنوك، وكما أن است فعل يدّلك على ذلك أستاه.
فإن قيل: لعله فعل أو فعل فإنه يدلك على ذلك قول بعض العرب سه، لم يقولوا: سه ولا سه، وقولهم: ابن ثم قالوا: بنون ففتحوا يدلُّك أيضاً.

واثنتان بمنزلة ابنة، أصلها فعل، لأنَّه عمل بها ما عمل بابنة؛ وقالوا في الاثنين: أثناء؛ فهذا يقوِّي فعل، وأنَّ نظائرها من الأسماء أصلها تحرّك العين، وهنت عندنا متحرّكة العين تجعلها بمنزلة نظائرها من الأسماء، وتلحقها بالأكثر.
ولم يجيء شيء هكذا ليست عينه في الأصل متحركة إلا ذيت؛ وليست باسم متمكِّن.
وأمّا كلتا فيدلّك على تحريك عينها قولهم: رأيت كلا أخويك: فكلا كمعاً واحد الأمعاء ومن قال: رأيت كلتا أختيك، فإنَّه يجعل الألف ألف تأنيث. فإن سمَّى بها شيئاً لم يصرفه في معرفة ولا نكرة، وصارت التاء بمنزلة الواو في شروى.
ولو جاء شيء مثل بنت وكان أصله فعل أو فعل واستبان لك أن اصله فعل أو فعل؛ لكان في الإضافة متحرّك العين، كأنّك تحذف إلى اسم قد ثبت في الكلام على حرفين، فإنما تردُّ والحركة قد ثبتت في الاسم.
وكلّ اسم تحذف منه في الإضافة شيئاً فكأنّك ألحقت ياءي الإضافة اسماً لم يكن فيه شيء مما حذف، لأنَّك إنَّما تلحق ياءي الإضافة بعد بناء الاسم.
ومن ثمّ جعل ذيت في الإضافة كأنَّها اسم لم يكن فيه قبل الإضافة تاء، كذلك ثقلَّتها كتثقيلك: كي، ولو، وأو، أسماء.
وأمَّا فم فقد ذهب من اصله حرقان، لأنه كان أصله فوه، فأبدلوا الميم مكان الواو، ليشبه الأسماء المفردة من كلامهم، فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم دمٍ، ثبتت في الاسم في تصرفه في الجرّ والنصب، والإضافة والتثنية. فمن ترك دم على حاله إذا اضاف، ترك فم على حاله، ومن ردَّ إلى دمٍ اللام ردَّ إلى فمٍ العين فجعلها مكان اللام، كما جعلوا الميم مكان العين في فمٍ.
قال الشاعر وهو الفرزدق:
هما نفثا في فيَّ من فمويها ... على الناتج العوي أشدَّ رجام
وقالوا: فموان، فإنّما ترد في الإضافة كما تردّ في التثنية وفي الجمع بالتاء، وتبني الاسم كما تثنِّي به، إلاَّ أنّ الإضافة أقوى على الردِّ. فإن قال: فمان فهو بالخيار، إن شاء قال: فمويٌّ، وإن شاء قال: فميٌّ. ومن قال: فموان قال: فمويٌّ على كلّ حال.
وأمّا الإضافة إلى رجل اسمه ذو مال فإنَّك تقول: ذوويٌّ، كأنَّك أضفت إلى ذواً. وكذلك فعل به حين أفرد وجعل اسما، ردَّ إلى أصله؛ لأنَّ أصله فعل، يدلَّك على ذلك قولهم: ذواتا، فإن أردت أن تضيف فكأنك أضفت إلى مفرد لم يكن مضافاً قطٌّ، فافعل به فلعك به إذا كان اسماً غير مضاف.
وكذلك الإضافة إلى ذاه ذوويٌّ، لأنَّك إذا أضفت حذفت الهاء، فكأنَّك تضيف إلى ذي، إلا أنَّ الهاء جاءت بالألف والفتحة، كما جاءت بالفتحتين في امرأة، فلأصل أولى به، إلاّ أن تغيِّر العرب منه شيئاً فتدعه على حاله نحو: فمٍ.
وإذا أضفت إلى رجل اسمه فوزيد فكأنَّك إنّما تضيف إلى فمٍ، لأنَّك إنَّما تريد أن تفرد الاسم ثم تضيف إلى الاسم. فافعل به فعلك به إذا أفردته اسماً. وأمّا الإضافة إلى شاءٍ فشاويٌّ، كذلك يتكلَّمون به.
قال الشاعر:
فلست بشاويٍّ عليه دمامة ... إذا ما غدا يغدو بقوس وأسهم
وإن سمَّيت به رجلا أجريته على القياس تقول، شائيٌّ، وإن شئت قلت شاوى كما قلت: عطاويٌّ، كما تقول في زبينة وثقيف بالقياس إذا سمّت به رجلاً.
وإذا أضفت إلى شاة قلت: شاهيٌّ، تردّ ما هو من نفس الحرف، وهو الهاء. ألا ترى أنك تقول: شويهة، وإنما أردت أن تجعل شاةً بمنزلة الأسماء، فلم يوجد شيء هو أولى به مّما هو من نفسه، كما هو التحقير كذلك.
وأمّا الإضافة إلى لات من اللات والعزَّى، فإنك تمدُّها كما تمد لا إذا كانت اسماً، كما تثقل لو وكي إذا كان كلّ واحد منهما اسماً. فهذه الحروف وأشباهها التي ليس لها دليل بتحقير ولا جمع ولا فعل ولا تثنية إنّما تجعل ما ذهب منه مثل ما هو فيه ويضاعف، فالحرف الأوسط ساكن على ذلك يبنى، إلا أن تستدلّ على حركته بشيء. وصار الإسكان أولى به لأن الحركة زائدة، فلم يكونوا ليحرِّكوا إلا بثبت، كما أنهم لم يكونوا ليجعلوا الذّهب من لو غير الواو إلا بثبت، فجرت هذه الحروف على فعل أو فعل أو فعل.
وأمّا الإضافة إلى ماءٍ فمائيٌّ، تدعه على حاله، ومن قال: عطاويٌّ قال: ماويٌّ يجعل الواو مكان الهمزة، وشاويٌّ بقوِّى هذا.

وأمّا الإضافة إلى امرئ فعلى القياس تقول امرئتي وتقديرها إمرعي لأنه ليس من بنات الحرفيين وليس الألف ههنا بعوض فهو كالإنطلاق اسم رجل وإن أ ضعت إلى امرأة فكذلك تقول امرئي، امرئ، لأنّك كأنك تضيف إلى امرئ، فالإضافة في ذا كالإضافة إلى استغاثة إذا قلت: استغاثي. وقد قالوا: مرئي تقديرها: مرعيٌ في امرئ القيس، وهو شاذ.
هذا باب الإضافة إلى ما ذهبت فاؤه من بنات الحرفين وذلك عدة وزنة. فإذا أضفت قلت: عديٌّ وزنيٌّ، ولا ترده الإضافة إلى أصله، لبعدها من ياءي الإضافة، لأنَّها لو ظهرت لم يلزمها اللام لو ظهرت من التغير، لوقوع الياء عليها.
ولا تقول: عدويٌ بعد اللام شيئاً ليس من الحرف، يدلُّك على ذلك التصغير. ألا ترى أنَّك تقول: وعيدة فتردّ الفاء، ولا ينبغي أن تلحق الاسم زائدةً، فتجعلها أولى من نفس الحرف في الإضافة كما لم تفعل ذلك في التحقير، ولا سبيل إلى ردّ الفاء لبعدها، وقد ردّوا في التثنية والجمع بالتاء بعض ما ذهبت لاماته، كما ردّوا في الإضافة، فلو ردّوا في الإضافة الفاء لجاء بعضه مردوداً في الجميع بالتاء فهذا دليل على أن الإضافة لا تقوى حيث لم يردُّوا في الجميع بالتاء.
فإن قلت: أضع الفاء في آخر الحرف لم يجز، ولو جاز ذا لجاز أن تضع الواو والياء إذا كانت لاما في أوّل الكلمة إذا صغرّت. ألا تراهم جاءوا بكلّ شيء من هذا في التحقير على أصله. وكذا قول يونس، ولا نعلم أحداً يوثق بعلمه قال خلاف ذلك.
وتقول في الإضافة إلى شيةٍ: وشويٌّ، لم تسكن العين كما لم تسكن الميم إذا قال: دمويٌّ، فلمّا تركت الكسرة على حالها جرت مجرى شجويٍّ، وإنَّما ألحقت الواو ههنا كما ألحقتها في عه حين جعلتها اسماً ليشبه الأسماء، لأنَّك جعلت الحرف على مثال الأسماء في كلام العرب. وإنَّما شية وعدة فعلة، لو كان شيء من هذه الأسماء قعلة لم يحذفوا الواو، كما لم يحذفوا في الوجبة والوثبة والوحدة وأشباهها. وسترى بيان ذلك في بابه إن شاء الله.
فإنَّما ألقوا الكسرة فيما كان مكسور الفاء على العينات وحذفوا الفاء، وذلك نحو عدةٍ وأصلها وعده وشية وأصلها وشية، فحذفوا الواو وطرحوا كسرتها على العين. وكذلك أخواتها.
هذا باب الإضافة إلى كلّ اسم ولي آخره ياءين مدغمةً إحداهما في الأخرى وذلك نحو أسيّدٍ، وحميّرٍ، ولبيّدٍ، فإذا أضفت إلى شيء من هذا تركت الياء الساكنة وحذفت المتحرّكة لتقارب الياءات مع الكسرة التي في الياء والتي في آخر الاسم، فلما كثرت الياءات وتقاربت وتوالت الكسرات التي في الياء والدال استثقلوه، فحذفوا، وكان حذف المتحرك هو الذي يخففه عليهم؛ لأنهم لو حذفوا الساكن لكان ما يتوالى فيه من الحركات التي لا يكون حرف عليها مع تقارب الياءات والكسرتين في الثقل مثل أسيّدٍ، لكراهيتهم هذه المتحرِّكات. فلم يكونوا ليفرّوا من الثقل إلى شيء هو في الثِّقل مثله وهو أقلّ في كلامهم منه، وهو أسيديٌّ وحميريٌّ ولبيديٌّ. وكذلك تقول العرب.
وكذلك سيد وميت ونحوهما؛ لأنهما ياءان مدغّمة إحداهما في الأخرى، يليها أخر الاسم. وهم ممَّا يحذفون هذه الياءات في غير الإضافة. فإذا أضافوا فكثرت الياءات وعدد الحروف ألزموا أنفسهم أن يحذفوا.
فما جاء محذوفاً من نحو سيّد وميّت: هين وميت، ولين وطيب وطيء، فإذا أضفت لم يكن إلاَّ الحذف، إذ كنت تحذف هذه الياء في غير الإضافة. تقول: سيديٌّ وطيبيٌّ إذا أضفت إلى طيب. ولا اراهم قالوا طائيٌّ إلاّ فراراً من طيئيٌّ وكان القياس طيئيٌّ وتقديرها طيغيٌّ ولكنهم جعلوا الألف مكان الياء، وبنوا الاسم على هذا كما قالوا في زبينة: زبانيٌّ.

وإذا أضفت إلى مهيمٍ قلت: مهيِّيميٌّ لأنَّك إذ حذفت الياء التي تلي الميم صرت إلى مثل أسيديّ فتقول: مهيميٌّ، فلم يكونوا ليجمعوا على الحرف هذا الحذف كما أنَّهم إذا حقّروا عيضموز لم يحذفوا الواو لأنَّهم لو حذفوا الواو احتاجوا إلى أن يحذفوا حرفاً آخر حتَّى يصير إلى مثال التحقير، فكرهوا أن يحملوا عليه هذا وحذف الياء. وستراه مبينَّاً في بابه إن شاء الله. فكان ترك هذه الياء إذ لم تكن متحركة كياء تميم، وفصلت بين آخر الكلمة والياء المشدَّدة، فكان أحبَّ إليهم ممَّا ذكرت لك، وخفَّ عليهم تركها لسكونها، تقول: مهيَّيميٌّ فلا تحذف منها شيئاً، وهو تصغير مهوّم.
باب ما لحقته الزائدتان للجمع والتثنية وذلك قولك: مسلمون ورجلان ونحوهما؛ فإذا كان شيء من هذا اسم رجل فأضفت إليه حذفت الزائدتين الواو والنون، والألف والنون، والياء والنون لأنَّه لا يكون في الاسم رفعان ونصبان وجراَّان، فتذهب الياء لأنَّها حرف الإعراب، ولأنه لا تثبت النون إذا ذهب ما قبلها لأنَّهما زيدتا معا ولا تثبتان إلاّ معا. وذلك قولك رجليٌّ ومسلميٌّ.
ومن قال من العرب: هذه قنَّسرون، ورأيت قنَّسرين، وهذه يبرون، ورأيت يبرين، قال: يبريٌّ وقنسريٌّ. وكذلك ما اشبه هذا.
ومن قال: هذه يبرين، قال: يبرينيٌّ كما تقول: غسلينيٌّ، وسريحين سريحينيٌّ. فأمّا قنَّسون ونحوها فكأنهم الحقوا الزائدتين قنَّسر، وجعلوا الزائدة التي قبل النون حرف الإعراب، كما فعلوا ذلك في الجمع.
هذا باب الإضافة إلى كلّ اسم لحقته التاء للجمع وذلك مسلمات وتمرات ونحوهما. فإذا سمّيت شيئاً بهذا النحو ثم أضفت إليه: مسلميٌّ وتمريٌّ، وتحذف كماا حذفت الهاء، وصارت كالهاء في الإضافة كما صارت في المعرفة حين قلت: رأيت مسلماتٍ وتمراتٍ قبل. ولا يكون أن تصرف التاء بالنصب في هذا الموضع.
ومثل ذلك قول العرب في أذرعات: أذرعيٌّ، لا يقول أحد إلاّ ذاك. وتقول في عانات: عانيٌّ، أجريت مجرى الهاء، لأنَّها لحقت لجمع مؤنث، كما لحقت الهاء الواحد للتأنيث، فكذلك لحقته للجمع. ومع هذا أنها حذفت كما حذفت واو مسلمين في الإضافة، كما شبّهوها بها في الإعراب. وتقول في الإضافة إلى محىّ: محتىٌّ، وإن شئت قلت: محويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى الاسمين اللذين ضمّ أحدهما إلى الآخر فجعلا اسما واحدا كان الخليل يقول: تلقى الآخر منهما كما تلقى الهاء من حمزة وطلحة؛ لأنَّ طلحة بمنزلة حضرموت. وقد بيّنا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف.
فمن ذلك خمسة عشر ومعدي يكرب في قول من لم يضف. فإذا أضفت قلت: معديٌّ وخمسيٌّ. فهكذا سبيل الباب. وصار بمنزلة المضاف في إلقاء أحدهما حيث كان من شيئين ضمّ أحدهما إلى الآخر. وليس بزيادة في الأول كما أنّ المضاف إليه ليس بزيادة في الأول المضاف.
ويجيء من الأشياء التي هي من شيئين جعلا اسما واحدا ما لا يكون على مثاله الواحد، نحو: أيادي سبا، لأنه ثمانية أحرف، ولم يجيء اسم واحد عدّته ثمانية أحرف. ونحو: شغر بغر، ولم يكن اسم واحد توالت فيه ولا بعدّته من المتحرّكات ما في هذا كما أنه قد يجيء في المضاف والمضاف إليه ما لا يكون على مثله الواحد نحو صاحب جعفر وقدم عمر ونحو هذا مما لا يكون الواحد على مثاله . فمن كلام العرب أن يجعلوا الشيء كالشيء إذا أشبهه في بعض المواضع. وقالوا: حضرميٌّ كما قالوا: عبدريٌّ، وفعلوا به ما فعلوا بالمضاف.
وسألته عن الإضافة إلى رجل اسمه اثنا عشر، فقال، ثنويٌّ في قول من قال: بنويٌّ في ابن، وإن شئت قلت: اثنىٌّ في اثنين، كما قلت: ابنيٌّ؛ وتحذف عشر كما تحذف نون عشرين، فتشبَّه عشر بالنون كما شبَّهت عشر في خمسة عشر بالحاء. وأمّا اثنا عشر التي العدد فلا تضاف ولا يضاف إليها.
هذا باب الإضافة إلى المضاف من الأسماء اعلم أنّه لا بدّ من حذف أحد الاسمين في الإضافة. والمضاف في الإضافة يجري في كلامهم على ضربين. فمنه ما يحذف منه الاسم الآخر، ومنه ما يحذف منه الأوّل.

وإنّما لزم الحذف أحد الاسمين لأنَّهما اسمان قد عمل أحدهما في الآخر، وإنما تريد أن تضيف إلى الاسم الأوّل، وذلك المعنى تريد. فإذا لم تحذف الآخر صار الأول مضافا إلى مضاف إليه؛ لأنَّه لا يكون هو والآخر اسما واحدا، ولا تصل إلى ذلك كما لا تصل إلى أن تقول: أبو عمرين، وأنت تريد أن تثنَّي الأوّل. وقد يجوز: أبو عمرين إذا لم ترد أن تثنّيى الأب وأردت أن تجعله أبا عمرين اثنين. فالإضافة تفرد الاسم.
فأمّا ما يحذف منه الأوّل، فنحو: ابن كراع، وابن الزُّبير، تقول زبيريٌّ وكراعيٌّ، وتجعل ياءي الإضافة في الاسم الذي صار به الأول معرفة فهو أبين وأشهر إذ كان به صار معرفةً.
ولا يخرج الأول من أن يكون المضافون إليه وله . ومن ثمَّ قالوا في أبي مسلمٍ: مسلميٌّ، لأنَّهم جعلوه معرفة بالآخر، كما فعلوا ذلك بابن كراع، غير أنَه لا يكون غالباً حتى يصير كزيد وعمرو، وكما صار ابن كراع غالبا.
وابو فلان عند العرب كابن فلان. ألا تراهم قالوا في أبي بكر بن كلابٍ: بكريٌّ كما قالوا في ابن دعلجٍ: دعلجيٌّ، فوقعت الكنية عندهم موقع ابن فلان. وعلى هذا الوجه يجري في كلامهم، وذلك يعنون،وصار الآخر إذا كان الأول معرفةً بمنزلته لو كان علماً مفردا.
وأمّا ما يحذف منه الآخر فهو الاسم الذي لا يعرَّف بالمضاف إليه ولكنَّه معرفة كما صار معرفةً يزيد، وصار الأوَّل بمنزلته لو كان علما مفرداً؛ لأنَّ المجرور لم يصر الاسم الأوّل به معرفةً؛ لأنك لو جعلت المفرد اسمه صار به معرفةً كما يصير معرفةً إذا سمّيته بالمضاف. فمن ذلك: عبد القيس، وامرؤ القيس، فهذه الأسماء علامات كزيد وعمر، فإذا أضفت قلت: عبديٌّ وامرئيٌّ، ومرئيٌّ، فكذلك هذا أشباهه.
وسألت الخليل عن قولهم في عبد منافٍ منافيٌّ فقال: أمّا القياس فكما ذكرت لك، إلاّ أنَّهم قالوا منافيٌّ مخافة الالتباس، ولو فعل ذلك بما جعل اسمّا من شيئين جاز؛ لكراهية الالتباس.
وقد يجعلون للنَّسب في الإضافة اسماً بمنزلة جعفر، ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر، ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف، كما قالوا سبطر، فجعلوا فيه حروف السَّبط إذ كان المعنى واحدا. وسترى بيان ذلك في بابه إن شاء الله.
فمن ذلك: عبشميٌّ، وعبدريٌّ. وليس هذا بالقياس، إنَّما قالوا هذا كما قالوا: علويٌّ وزبانيٌّ. فذا ليس بقياس كما أنَّ علويٌّ ونحو علويٌّ ليس بقياس.
هذا باب الإضافة إلى الحكاية فإذا أضفت إلى الحكاية حذفت وتركت الصدر بمنزلة عبد القيس وخمسة عشر، حيث لزمه الحذف كما لزمها، وذلك قولك في تأبَّط شرا تأبطيٌّ. ويدلك على ذلك أنَّ من العرب من يفرد فيقول: يا تأبَّط أقبل، فيجعل الأوّل مفردا. فكذلك تفرده في الإضافة. كذلك حيثما وإنما ولولا وأشباه ذلك تجعل الإضافة إلى الصدر.
وسمعنا من العرب من يقول: كونيٌّ، حيث أضافوا إلى كنت، وأخرج الواو حيث حرّك النون.
هذا باب الإضافة إلى الجمع اعلم أنّك إذا أضفت إلى جميع أبداً فإنَّك توقع الإضافة على واحده الذي كسّر عليه؛ ليفرق بينه إذا كان اسماً لشيء واحد وبينه إذا لم ترد به إلاّ الجميع. فمن ذلك قول العرب في رجل من القبائل: قبليٌّ وقبليةٌّ للمرأة. ومن ذلك أيضاً قولهم في أبناء فارس بنويٌّ، وقالوا في الرباب: ربيٌّ وإنَّما الربِّاب جماع وواحدة ربة، فنسب إلى الواحد وهو كالطوائف.
وقال يونس: إنَّما هي ربة ورباب، كقولك: جعفرة وجفار، وعلبة وعلاب، والربةٌّ: الفرقة من الناس.
وكذلك لو أضفت إلى المساجد قلت: مسجديٌّ، ولو أضفت إلى الجمع قلت: جمعيٌّ كما تقول: ربيٌّ. وإن أضفت إلى عرفاء قلت: عريفيٌّ. فكذلك ذا واشباهه. وهذا قول الخليل، وهو القياس على كلام العرب وزعم الخليل أن نحو ذلك قولهم في المسامعه مسمعي والمهالبة مهلبي لأن المهالبة والمسامعة ليس منهما واحد إسماً لواحد.
وتقول في الإضافة إلى نفر نفريٌّ، ورهط رهطيٌّ، لأن نفر بمنزلة حجر لم يكسر له واحد وإن كان فيه معنى الجميع. ولو قلت: رجليٌّ في الإضافة إلى نفر لقلت في الإضافة إلى الجمع: واحديٌّ، وليس يقال هذا.
وتقول في الإضافة إلى أناس: إنسانيٌّ وأناسيٌّ، لأنه لم يكسّر له إنسان وهو أجود القولين. وقال أبو زيد: النسسبة إلى محاسن محاسنى؛ لأنه لا واحد له. فصار بمنزلة نفر.

وتقول في الإضافة إلى نساء: نسويٌّ، أنه جماع نسوة وليس نسوة بجمع كسّر له واحد.
وإن أضفت إلى عباديد قلت: عباديديٌّ؛ لأنه ليس له واحد؛ وواحده يكون على فعلولٍ أو فعليلٍ أو فعلال؛ فإذا لم يكن واحد لم تجاوزه حتَّى تعلم؛ فهذا أقوى من أن أحدث شيئاً لم تكلَّم به العرب.
وتقول في الأعراب: أعرابيٌّ؛ أنه ليس له واحد على هذا المعنى. ألا ترى أنَّك تقول: العرب فلا تكون على هذا المعنى؟ فهذا يقوِّيه.
وإذا جاء شيء من هذه الأبنية التي توقع الإضافة على واحدها اسماً لشيء واحد تركته في الإضافة على حاله، ألا تراهم قالوا في أنمارٍ: أنماريٌّ؛ لأنّ أنماراً اسم رجل، وقالوا في كلاب: كلابيٌّ.
ولو سمّيت رجلاً ضربات لقلت: ضربيٌّ، لا تغيَّر المتحرِّكة لأنّك لا تريد أن توقع الإضافة على الواحد.
وسألته عن قولهم: مدائنيٌّ فقال: صار هذا البناء عندهم اسماً لبلد.
ومن ثم قالت بنو سعدٍ في الأبناء: أبناويٌّ، كأنهم جعلوه اسم الحيّ والحيُّ كالبلد، وهو واحد يقع على الجميع، كما يقع المؤنث على المذكّر. وسترى ذلك إن شاء الله.
وقالوا في الضِّباب إذا كان، اسم رجل: ضبابيَّ، وفي معافر: معافريٌّ. وهو فيما يزعمون معافر بن مرٍّ، أخو تميم بن مرّ.
هذا باب ما يصير إذا كان علماً في الإضافة على غير طريقته وإن كان في الإضافة قبل أن يكون علماً على غير طريقة ما هو بنائه فمن قولهم في الطَّويل الجَّمة: جمَّاني، وفي الطَّويل اللَّحية: اللحيانيِّ، وفي الغليظ الرقبة: الرقبانيِّ. فإن سمّيت، برقبة أو جمة أو لحية قلت: رقبيٌّ ولحيٌّ وجمَّيٌّ ولحويٌّ، وذلك لأنّ المعنى، قد تحوّل، إنما أردت حيث قلت: جمانيٌّ الطويل الجمَّة، وحيث قلت: اللِّحياني الطَّويل اللِّحية، فلمّا لم تعن ذلك أجرى مجرى نظائره التي ليس فيها ذلك المعنى.
ومن ذلك أيضاً قولهم في القديم السنِّ: دهريٌّ، فإذا جعلت، الدَّهر اسم رجل قلت: دهريٌّ. وكذلك ثقيف إذا حولته من هذا الموضع قلت ثقيفيٌّ. وقد بينّا ذلك فيما مضى.
باب من الإضافة تحذف فيه ياءي الإضافة وذلك إذا جعلته صاحب شيء يزاوله، أو ذا شيء.
أمّا ما يكون صاحب شيء يعالجه فإنه مما يكون فعَّالاً، وذلك قولك لصاحب الثياب: ثوَّاب، ولصاحب العاج: عواج؛ ولصاحب الجمال التي ينقل عليها: جمَّال، ولصاحب الخمر التي يعمل عليها: حمار، وللّذي يعالج الصرّف: صراف. وذا أكثر من أن يحصى. وربَّما ألحقوا ياءي الإضافة كما قالوا: البتِّيٌّ، أضافوه إلى البتوت، فأوقعوا الإضافة على واحده، وقالوا: البتات.
وأمَّا ما يكون ذا شيء وليس بصنعة يعالجها فإنَّه مما يكون فاعلا وذلك قولك لذي الدرع: ولذي النَّبل: نابل، ولذي النُّشاب: ناشب، ولذي التَّمر: تامر، ولذي اللّبن: لابن.
قال الحطيئة:
ففررتني وزعمت أنَّك ... لابن بالصيف تامر
وتقول لمن كان شيء من هذه الأشياء صنعته: لبَّان، وتمّار، ونبَّال.
وليس في كلِّ شيء من هذا قيل هذا. ألا ترى أنَّك لا تقول لصلحب البرّ: برار، ولا لصاحب الفاكهة: فكَّاه، ولا لصاحب الشَّعير: شعار، ولا لصاحب الدَّقيق: دقَّاق.
وتقول: مكان آهل، أي: ذو أهلٍ. وقال ذو الرمَّة:
إلى عطنٍ رحب المباءة آهل
وقالوا لصاحب الفرس: فارس.
وقال الخليل: إنَّما قالوا: عيشة راضية، وطاعم وكاس على ذا، أي: ذات رضاً وذو كسوة وطعامٍ، وقالوا: ناعل لذي النَّعل.
وقال الشاعر:
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب
أي: لهمٍّ ذي نصب.
وقالوا: بغَّال لصاحب البغل، شبَّهوه بالأوَّل، حيث كانت الإضافة؛ لأنَّهم يشبَّهون الشيء بالشيء وإن خالفه.
وقالوا لذي السيف: سيّاف، وللجميع: سيّافة. وقال امرؤ القيس:
وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيفٍ وليس بنبّال
يريد: وليس بذي نبل. فهذا وجه ما جاء من الأسماء ولم يكن له فعل. وهذا قول الخليل.
باب ما يكون مذكَّرا يوصف المؤنَّث

وذلك قولك: امرأة حائض، وهذه طامث، كما قالوا: ناقة ضامر، يوصف به المؤنَّث وهو مذكّر. فإنَّما الحائض وأشباهه في كلامهم على أنَّه صفة شيء، والشيء مذكّر، فكأنهم قالوا: هذا شيء حائض، ثمَّ وصفوا به المؤنَّث كما وصفوا المذكّر بالمؤنَّث فقالوا: رجل نكحة. فزعم الخليل أنَّهم إذا قالوا حائض فإنَّه لم يخرجه على الفعل، كما أنه حين قال: دارع لم يخرجه على فعل، وكأنَّه قال: درعيٌّ. فإنَّما أراد ذات حيضٍ ولم يجيء على الفعل.
وكذلك قولهم: مرضع، إذا أراد ذات رضاعٍ ولم يجرها على أرضعت. ولا ترضع. فإذا أراد ذلك قال: مرضعة. وتقول: هي خائضة غداً لا يكون إلاّ ذلك، لأنَّك إنَّما أجريتها على الفعل، على هي تحيض غداً.
هذا وجه ما لم يجر على فعله فيما زعم الخليل، مما ذكرنا في هذا الباب.
وزعم الخليل أنَّ فعولا، ومفعالا، ومفعلا، نحو قؤول ومقوال، إنَّما يكون في تكثير الشيء وتشديده والمبالغة فيه، وإنَّما وقع كلامهم على أنَّه مذكّر. وزعم الخليل أنَّهم في هذه الأشياء كأنهم يقولون: قوليٌّ، وضربيٌّ. ويستدلّ على ذلك بقولهم: رجل عمل وطعم ولبس، فمعنى ذا كمعنى قؤول ومقوال في المبالغة، إلاّ أن الهاء تدخله، يقول: تدخل في فعل في التأنيث.
وقالوا: نهر، وإنّما يريدون نهاريٌّ فيجعلونه، بمنزلة عمل، وفيه ذلك المعنى.
وقال الشاعر:
لست بليليٍ ولكنَّي نهر ... لا أدلج الليل ولكن أبتكر
فقولهم: نهر في نهاري يدُّل على أن عملاً كقوله: عمليٌّ؛ أن في عمل من المعنى ما في نهرٍ، وقؤول كذلك، لأنّه في معنى قوليّ.
وقالوا: رجل حرح ورجل سته، كأنه قال: حريٌّ واستيٌّ.
وسألته عن قولهم: موت مائت، شغل شاغل، وشعر شاعر، فقال: إنَّما يريدون في المبالغة والإجادة، وهو بمنزلة قولهم: همّ ناصب، وعيشة راضية في كلّ هذا.
فهذا وجه ما كان من الفعل ولم يجر على فعله، وهذا قول الخليل: يمتنع من الهاء في التأنيث في فعول وقد جاءت في شيء منه. وقال: مفعال ومفعيل قلّ ما جاءت الهاء فيه، ومفعل قد جاءت الهاء فيه كثيراً نحو مطعنٍ ومدعسٍ، ويقال: مصكٌّ ومصكٌّة ونحو ذلك.
؟
هذا باب التثنيةاعلم أنَّ التثنية تكون في الرفع بالألف والنون، وفي النصب والجرّ بالياء والنون، ويكون الحرف الذي تليه، الياء والألف مفتوحاً.
أمَّا ما لم يكن منقوصاً ولا ممدوداً فإنّك لا تزيده في التثنية على أن تفتح آخره كما تفتحه في الصلة إذا نصبت في الواحد، وذلك قولك: رجلان، وتمرتان، ودلوان، وعدلان، وعودان، وبنتان، وأختان، وسيفان، وعريانان، وعطشانان، وفرقدان، وصمحمحان، وعنكبوتان، وكذلك هذه الأشياء ونحوهما.
وتقول في النصب والجرِّ: رأيت رجلين؛ ومررت بعنكبوتين؛ تجريه كما وصفت لك.
هذا باب
تثنية ما كان من المنقوص على ثلاثة أحرفاعلم أنَّ المنقوص إذا كان على ثلاثة أحرف فإن الألف بدل؛ وليست بزيادة كزيادة ألف حبلى.
فإذا كان المنقوص من بنات الواو أظهرت الواو في التثنية؛ لأنَّك إذا حركت فلا بد من ياء أو واو؛ فالذي من الأصل أولى.
وإن كان المنقوص من بنات الياء أظهرت الياء.
فأمَّا ما كان من بنات الواو فمثل قفاً، لأنه من قفوت الرجل، تقول: قفوان، وعصاً عصوان؛ لأنَّ في عصاً ما في قفاً. تقول: عصوت ولا تميل ألفها، وليس شيء من بنات الياء لا يجوز فيه إمالة الألف، ورجاً رجوان، لأنَّه من بنات الواو، يدلُّك على ذلك قول العرب: رجا فلا يميلون الألف، وكذلك الرِّضا تقول: رضوان، لأنَّ الرِّضا من الواو، يدلك على ذلك مرضوٌّ والرضوان. وأما مرضيٌّ فبمنزلة مسنيّة. والسَّنا بمنزلة القفا، تقول: سنوان وكذلك ما ذكرت لك وأشباهه، وإذاعلمت أنه من بنات الواو وكانت الإمالة تجوز في الألف أظهرت الواو، لأنَّها ألف مكان الواو، فإذا ذهبت الألف فالتي الألف بدل منها أولي. يدلّك على ذلك أنَّهم يقولون: غزا فيميلون الألف، ثم يقولون: غزوا، وقالوا: الكبا ثم قالوا الكبوان، بذلك أبو الخطّاب عن أهل الحجاز.
وسألت الخليل عن العشا الذي في العينين فقال: عشوان، لأنَّه من الواو، غير أنَّهم قد يلزمون بعض ما يكون من بنات الواو انتصاب الألف ولا يجيزون الإمالة تخفيفاً للواو.

وأمّا الفتى فمن بنات الياء، قالوا: فتيان وفتية، وأمّا الفتوَّة والندوَّة فإنّما جاءت فيهما الواو لضمَّة ما قبلهما، مثل لقضو الرجل من قضيت، وموقن، فجعلوا الياء تابعة.
ولو سمَّيت رجلا بخطا قم ثنَّيت لقلت: خطوان، لأنَّها من خظوت . ولو جعلت على اسما ثم ثنَّيت لقلت: علوان، لأنَّها من علوت، ولأنَّ ألفها لازمة الانتصاب، وهي التي في قولك: على زيد درهم، وكذلك الجميع بالتاء في جميع ذا، لأنَّه يحرّك، ألا تراهم قالوا: قنوات وأدوات، وقطوات.
وأما ما كان من بنات الياء فرحى، وذلك لأنَّ العرب لا تقول إلاَّ رحىً ورحيان، والعمى كذلك: عمىً وعميان وعميٌ: وتقول: عميان، والهدى هديان، لأنَّك تقول: هديت، ولأنَّك قد تميل الألف في هدى. فهذا سبيل ما كان المنقوص على ثلاثة أحرف، وكذلك الجميع بالتاء.
فأمَّا ربا فربوان؛ لأنَّك تقول: ربوت.
فإذا جاء شيء من المنقوص ليس له فعل تثبت فيه الواو، ولا له اسم تثبت فيه الواو، وألزمت ألفه الانتصاب، فهو من بنات الواو؛ لأنَّه ليس شيء من بنات الياء يلزمه الانتصاب لا تجوز فيه الإمالة، إنَّما يكون ذلك في بنات الواو، وذلك نحو لدى، وإلى؛ وما أشبههما. وإنَّما تكون التثنية فيهما إذا صارتا اسمين؛ وكذلك الجميع بالتاء.
فإن جاء شيء من منقوص ليس له فعل تثبت فيه الياء، ولا اسم تثبت فيه الياء، وجازت الإمالة في ألفه؛ فالياء أولى به في التثنية؛ إلا أن تكون العرب قد ثنته فتبيَّن لك تثنيتهم من أي البابين هو، كما استبان لك بقولهم: قنوان وقطوات، أن القناة والقطاة من الواو. وإنَّما صارت الياء أولى حيث كانت الإمالة في بنات الواو وبنات الياء أنَّ الياء أغلب على الواو حتى تصيِّرها ياء من الواو على الياء حتى تصيِّرها واواً.
وسترى ذلك في أفعل؛ وفي تثنية ما كان على أربعة أحرف. فلمَّا لم يستبن كان الأقوى أولى حتَّى يستبين لك، وهذا قول يونس وغيره؛ لأنَّ الياء أقوى وأكثر.
وكذلك نحو متى إذا صارت اسماً وبلى، وكذلك الجميع بالتاء.
هذا باب
تثنية ما كان منقوصاً
وكان عدة حروفه أربعة أحرف فزائداً إن كانت ألفه بدلاً من الحرف
الذي من نفس الكلمة، أو كان زائداً غير بدل أمّا ما كانت الألف فيه بدلاً من حرف من نفس الحرف فنحو أعشى، ومغزى وملهى ومغتزى، ومرمى ومجرى، تثنّى ما كان من ذا من بنات الواو كتثنية ما كان من بنات الياء؛ لأنَّ أعشى ونحوه لو كان فعلاً لتحوّل إلى الياء.
فلمّا صار لو كان فعلا لم يكن إلاَّ من الياء، صار هذا النحو من الأسماء متحولا إلى الياء، وصار بمنزلة الذي عدَّة حروفه ثلاثة وهو من بنات الياء. وكذلك مغزى، لأنَّه لو كان يكون في الكلام مفعلت لم يكن إلاّ من الياء، لأنَّها أربعة أحرف كالأعشى، والميم زائدة كالألف وكلَّما ازداد الحرف كان من الواو أبعد.
فلمّا صار لو كان فعلا إلاَّ من الياء، صار هذا النحو من الأسماء متحولا إلى الياء، وصار بمنزلة الذي عدَّة حروفه ثلاثة وهو من بنات الياء. وكذلك مغزىً، لأنَّه لو كان يكون في الكلام مفعلت لم يكن إلاّ من الياء، لأنَّها أربعة أحرف كالأعشى، والميم زائدة كالألف وكلمَّا ازداد الحرف كان من الواو أبعد.
وأمّا مغتزى فتكون تثنيته بالياء، كما أن فعله متحوّل إلى الياء. وذلك أعشيان ومغزيان، ومغتزيان.
وكذلك، جمع ذا بالتاء كما كان جمع ما كان على ثلاثة أحرف بالتاء مثل التثنية.
وأمّا ما كانت ألفه زائدة فنحو: حبلى، ومعزى، ودفلى، وذفرى، لا تكون تثنيته إلاّ بالياء، لأنّك لو جئت بالفعل من هذه الأسماء بالزيادة لم يكن إلاّ من الياء كسلقيته، وذلك قولك: حبليان، ومعزيان، ودفليان، وذفريان. وكذلك جمعها بالتاء.
باب جمع المنقوص بالواو والنون في الرفع وبالنون والياء في الجرّ والنصب اعلم أنَّك تحذف الياء وتدع الفتحة التي كانت قبل الألف على حالها، وإنما حذفت لأنه لا يلتقي ساكنان، ولم يحركا كراهية الياءين مع الكسرة والياء مع الضمّة والواو حيث كانت معتلّة، وإنّما كرهوا ذا كما كرهوا في الإضافة إلى حصى حصيٌّ. وإن جمعت قفاً اسم رجل قلت: قفون، حذفت كراهية الواوين مع الضمَّة وتوالي الحركات.

وأمّا ما كان على أربعة ففيه ما ذكرنا مع عدّة الحروف وتوالي حركتين لازماً، فلما كان معتلاً كرهوا أن يحر؟كوه على ما يستثقلون إذ كان التحريك مستثقلاً، وذلك قولك: رأيت مصطفين، وهؤلاء مصطفون؛ ورأيت حبنطين؛ وهؤلاء خبنطون؛ ورأيت قفين؛ وهؤلاء قفون.
؟
هذا باب تثنية الممدوداعلم أنَّك كلَّ ممدود كان منصرفاً فهو في التثنية والجمع بالواو والنون في الرفع، وبالياء والنون في الجر والنصب؛ بمنزلة ما كان آخره غير معتلّ من سوى ذلك. وذلك نحو قولك: علباءان؛ فهذا الأجود الأكثر.
فإن كان الممدود لا ينصرف وآخره زيادة جاءت علامة للتأنيث فإنك إذا ثنيته أبدلت واواً كما تفعل ذلك في قولك: حنفاويٌّ؛ وكذلك إذا جمعته بالتاء.
واعلم أنَّ ناساً كثيراً من العرب يقولون: علباوان وحرباوان، شبّهوها ونحوهما بحمراء، حيث كان زنة هذا النحو كزنته، وكان الآخر زائداً كما كان آخره حمراء زائداً، وحيث مدّت كما مدّت حمراء.
وقال ناس: كساوان وغطاوان، وفي رداء رداوان، فجعلوا ما كان آخره بدلاً من شيء من نفس الحرف بمنزلة علباء، لأنَّه في المد مثل وفي الإبدال، وهو منصرف كما انصرف، فلمَّا كان حاله كحال علباء إلاَّ أنَّ آخره بدل من شيء من نفس الحرف تبع علباءٍ كما تبع علباء حمراء، وكانت الواو أخف عليهم حيث وجد لها شبه من الهمزة. وعلباوان أكثر من قولك كساوان في كلام العرب، لشبهها بحمراء.
وسألت الخليل عن قولهم: عقلته بثنايين وهنايين، لم لم يهمزوا؟ فقال: تركوا ذلك حيث لم يفرد الواحد ثم يبنوا عليه، فهذا بمنزلة السَّماوة، لمَّا لم يكن لها جمع كالعظاء والعباء يجيء عليه جاء على الأصل. والذين قالوا: عباءة جاءوا به على العباء. وإذا قلت: عباية فليس على العباء. ومن ثم زعم قالوا مذروان، فجاءوا به على الأصل، فشبّهوها بذا حيث لم يفرد واحده. وقالوا لك نقاوة ونقاوة. وإنَّما صارت واواً لأنها ليست آخر الكلمة. وقالوا لواحده: نقوة، لأنَّ أصلها كان من الواو.
باب لا تجوز فيه التثنية والجمعبالواو والياء والنون وذلك نحو: عشرين، وثلاثين، والاثنين. لو سمّيت رجلا بمسلمين قلت: هذا مسلمون، أو سمّيته برجلين قلت: هذا رجلان، لم تثنَّه أبداً ولم تجمعه كما وصفت لك، من قبل أنَّه لا يكون في اسم واحد رفعان ولا نصبان ولا جران ولكنك تقول: كلُّهم مسلمون، واسمهم مسلمون، وكلُّهم رجلان، واسمهم رجلان. ولا يحسن في هذا إلا هذا الذي وصفت لك وأشباهه.
وإنَّما امتنعوا أن يثنّوا عشرين حين لم يجيزوا عشرونان، واستغنوا عنها بأربعين. ولو قلت ذا لقلت مائانان، وألفانان، وأثنانان، وهذا لا يكون وهو خطأ لا تقوله العرب.
وإنما أوقعت العرب الاثنين في الكلام على حد قولك: اليوم يومان واليوم خمسة عشر من الشهر. والذين جاءوا بها فقالوا: أثناء إنَّما جاءوا بها على حدّ الاثن كأنَّهم قالوا: اليوم الاثن. وقد بلغنا أنَّ بعض العرب يقول: اليوم الثُّنى. فهكذا الاثنان كما وصفنا، ولكنَّه صار بمنزلة الثَّلاثاء والأربعاء اسماً غالبا، فلا تجوز تثنيته.
وأمّا مقبلات فتجوز فيها التثنية إذا صارت اسم رجل، لأنَّه لا يكون فيه رفعان ولا نصبان ولا جرّان فهي بمنزلة ما في آخره هاء في التثنية والجمع بالتاء. وذلك قولك في أذرعتان: أزرعاتان وفي تمرات اسم رجل: تمراتان. فإذا جمعت بالتاء قلت: تمرات، تحذف تحذف وتجيء أخرى كما تفعل ذلك بالهاء إذا قلت: تمرة وتمرات.
؟
باب جمع الاسم الذي في آخره هاء
التأنيثزعم يونس أنَّك إذا سمّيت رجلا طلحة أو امرأة أو سلمة أو جبلة، ثم أردت أن تجمع جمعته بالتاء، كما كنت جامعه قبل أن يكون اسماً لرجل أو امرأة على الأصل. ألا تراهم وصفوا المذكّر وبالمؤنث، قالوا: رجل ربعة وجمعوها بالتاء: فقالوا ربعات ولم يقولوا: ربعون. وقالوا: طلحة الطلحات ولم يقولوا: طلحة الطَّلحين. فهذا يجمع على الأصل لا يتغيّر عن ذلك، كما أنَّه إذا صار وصفا للمذكّر لم تذهب الهاء.

فإما حبلى فلو سمّيت بها رجلا أو حمراء أو خنفساء لم تجمعه بالتاء، وذلك لأن تاء التأنيث تدخل على هذه الألفات فلا تحذفها. وذلك قولك حبليات، وحباريات، وخنفساوات. فلمَّا صارت تدخل فلا تحذف شيئاً أشبهت هذه عندهم أرضات ودريهمات. فأنت لو سمّيت رجلاً بأرض لقلت: أرضون ولم تقل: أرضات؛ لأنه ليس ههنا حرف تأنيث يحذف، فغلب على حبلى التذكير حيث صارت الألف لا تحذف، وصارت بمنزلة ألف حبنطي التي لا تجيء للتأنيث. ألا تراهم قالوا: زكريّاوون فيمن مدّ، وقالوا زكريَّون فيمن قصر.
واعلم أنَّك لا تقول في حبلى وعيسى وموسى إلاَّ حبلون وعيسون وموسون، وعيسون وموسون خطأ. ولو كنت لا تحذف ذا لئلا يلتقي ساكنان، وكنت إنَّما تحذفها وأنت كأنك تجمع حبل وموس لحذفتها في التاء، فقلت: حبارات وحبلات وشكاعات، وهو نبت. وإذا جمعت ورقاء اسم رجل بالواو والنون وبالياء والنون جئت بالواو ولم تهمز، كما فعلت ذلك في التثنية والجمع بالتاء فقلت: ورقاوون.
وسمعت من العرب من يقول: ما اكثر الهبيرات، يريد جمع الهبيرة، واطَّرحوا هبيرين كراهية أن يصير بمنزلة ما لا علامة فيه.

باب جمع أسماء الرجال والنساءاعلم أنَّك إذا جمعت اسم رجل فأنت بالخيار: إن شئت ألحقته الواو والنون في الرفع، والياء والنون في الجرّ والنصب، وإن شئت كسّرته للجمع على حدّ ما تكسَّر عليه الأسماء للجمع.
وإذا جمعت اسم امرأة فأنت بالخيار إن شئت جمعته بالتاء، وإن شئت كسَّرته على حدّ ما تكسَّر عليه الأسماء للجمع.
فإن كان آخر الاسم هاء التأنيث لرجل أو امرأة، لم تدخله الواو والنون، ولا تلحقه في الجمع إلاّ التاء. وإن شئت كسّرته للجمع.
فمن ذلك إذا سمّيت رجلا بزيد أو عمرو أو بكر، كننت بالخيار إن شئت قلت: زيدون، وإن شئت قلت: أزياد، كما قلت: أبيات، وإن شئت قلت الزُّيود؛ وإن شئت قلت: العمرون، وإن شئت قلت: العمور والأعمر، وإن شئت قلتها ما بين الثلاثة إلى العشرة. وكذلك بكر. قال الشاعر، وهو رؤبة، فيما لحقته الواو والنون في الرفع؛ والياء والنون في الجرّ والنصب:
أنا ابن سعد أكرم السَّعدينا
والجمع هكذا في الأسماء كثير، وهو قول يونس والخليل.
وإن سمّيته ببشرٍ أو بردٍ أو حجر فكذلك، إن شئت ألحقت فيه ما الحقت في بكر وعمروٍ، وإن شئت كسّرت فقلت: أبراد، وأبشار وأحجار. وقال الشاعر، فيما كسّر واحده، وهو زيد الخيل:
ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفلٍ ... وقيس بن أهبان وقيس بن جابر
وقال الشاعر:
رأيت سعوداً من شعوب كثيرة ... فلم أر سعداً مثل سعد بن مالك
وقال الشاعر، وهو الفرزدق:
وشيَّد لي زرارة باذخاتٍ ... وعمرو الخير إذ ذكر العمور
وقال: فأين الجنادب لنفرٍ يسمَّى كلُ واحدٍ منهم جندبا.
وقال الشاعر:
رايت الصَّدع من كعبٍ وكانوا ... من الشنآن قد صاروا كعابا
وإذا سمَّيت امرأة بدعدٍ فجمعت بالتاء قلت: دعدات، فثقلت كما ثقَّلت أرضات؛ لأنَّك إذا جمعت الفعل بالتاء فهو بمنزلة جمعك الفعلة من الأسماء. وقولهم: أرضات دليل على ذلك.
وإذا جمعت جمل على من قال: ظلمات قلت: جملات، وإن شئت كسَّرتها كما كسَّرت عمراً فقلت: أدعد. وإن سمَّيت بهندٍ أو جملٍ فجمعت بالتاء فقلت: جملات ثقَّلت في قول من ثقَّل ظلمات وهندات فيمن ثقل في الكسرة فقال: كسرات - ومن العرب من يقول كسرات - وإن شئت كسّرت كما كسّؤت بردا وبشرا فقلت: أهناد وأجمال.
وإن سمّيت امرأة بقدمٍ فجمعت بالتاء قلت: قدمات كما تقول هندات وجملات، تسكِّن وتحرِّك هذين خاصَّة، وإن شئت كسَّرت كما كسَّرت حجراً.
قال الشاعر فيما كسّر للجمع، وهو جرير:
أخالد قد علقتك بعد هندٍ ... فشيّبني الخوالد والهنود
وقالوا: الهنود كما قالوا: الجذوع، وإن شئت قلت: الأهناد كما تقول: الأجذاع.
وإن سمّيت رجلا بأحمر فإن شئت قلت: أحمرون، وإن شئت كسَّرته فقلت: الأحامر، ولا تقول: الحمر لأنَّه الآن اسم وليس بصفة، كما تجمع الأرانب والأرامل، كما قلت: أداهم حين تكلَّمت بالأدهم كما يكلم بالأسماء، وكما قلت: الأباطح.

وإن سمّيت امرأة بأحمر فإن شئت قلت: أحمرات، وإن شئت كسرته كما تكسِّر الأسماء فقلت: الأحامر. وكذلك كسَّرت العرب هذه الصفات حين صارت أسماء، قالوا: الأجارب، والأشاعر. والأجارب بنو أجرب؛ وهو جمع أجرب.
وإن سمّيت رجلا بورقاء فلم تجمعه بالواو والنون وكسَّرته، فعلت به ما فعلت بالصَّلفاء إذا جمعت؛ وذلك قولك: صلاف، وخبراء وخبارٍ، وصحراء وصحار، فورقاء تحوَّل اسماً كهذه الأشياء؛ فإن كسَّرتها كسّرتها هكذا. وكذلك إن سمّيت بها امرأة فلم تجمع بالتاء.
وإن سمّيت رجلا بمسلمٍ فأردت أن تكسِّر ولا تجمع بالواو والنون قلت: مسالم، لأنه اسم مثل مطرف.
وإن سميته بخالدٍ فأردت أن تكسَّر للجميع قلت: خوالد؛ لأنَّه صار اسماً بمنزلة القادم والآخر، وإنّما تقول: القوادم والأواخر. والأناسي وغيرهم في ذا سواء. ألا تراهم قالوا: غلام، ثم قالوا: غلمان كما قالوا: غربان، وقالوا: صبيان كما قالوا: قضبان، وقد قالوا: فوارس في الصِّفة فهذا أجدر أن يكون. والدَّليل على ذلك أنّك لو أردت أن تجمع قوماً على خالد وحاتم كما قلت: المناذرة والمهالبة لقلت: الحواتم والخوالد.
ولو سمَّيت رجلاً بقصعة فلم تجمع بالتاء قلت: القصاع، وقلت: قصعات إذا جمعت بالتاء.
ولو سمّيت رجلاً أو امرأة بعبلةٍ، ثم جمعت بالتاء لثقّلت كما ثقلت تمرة لأنها صارت اسما. وقد قالوا: العبلات فثقّلوا حيث صارت اسماً، وهم حيٌّ من قريش.
ولو سمّيت رجلاً أو امرأة بسنةٍ لكنت بالخيار، إن شئت قلت: سنوات وإن شئت قلت: سنون، لا تعدو جمعهم إياها قبل ذلك، لأنَّها ثمَّ اسم غير وصف كما هي ههنا اسم غير وصف. فهذا اسم قد كفيت جمعه.
ولو سمّيته ثبةً لم تجاوز أيضا جمعهم إيّاها قبل ذلك ثبات وثبون.
ولو سمّيته بشيةٍ أو ظبةٍ لم تجاوز شيات وظبات؛ لأنَّ هذا اسم لم تجمعه العرب إلاَّ هكذا. فلا تجاوزنَّ ذا في الموضع الآخر؛ لأنَّه ثم اسم كما أنَّه ههنا اسم. فكذلك فقس هذه الأشياء.
وسألته عن رجل يسمَّى بابنٍ فقال: إن جمعت بالواو والنون قلت: بنون كما قلت قبل ذلك، وإن شئت كسّرت فقلت: أبناء.
وسألته عن امرأة تسمَّى بأمٍ، فجمعها بالتاء وقال: أمَّهات، وأمَّات في لغة من قال: أمَّات، لا يجاوز ذلك، كما أنَّك لو سمّيت رجلاً بأبٍ ثم ثنّيته لقلت: أبوان لا تجاوز ذلك.
وإذا سمّيت رجلاً باسم فعلت به ما فعلت بابنٍ، إلاَّ أنَّك لا تحذف الألف، لأنَّ القياس كان في ابنٍ أن لا تحذف منه الألف، كما لم تحذفه في التثنية، ولكنَّهم حذفوا لكثرة استعمالهم إيّاه، فحرّكوا الباء وحذفوا الألف كمنين وهنين: ولو سمّيت رجلاً بامرئ لقلت: امرءون. وإن شئت كسّرته كما كسّرت ابناً واسماً وأشباهه.
ولو سمّيته بشاةٍ لم تجمع بالتاء، ولم تقل إلاَّ: شياه، لأنَّ هذا الاسم قد جمعته العرب فلم تجمعه بالتاء.
ولو سمّيت رجلاً بضرب لقلت: ضربون وضروب، لأنّه قد صار اسماً بمنزلة عمرو، وهم قد يجمعون المصادر فيقولون: أمراض وأشغال وعقول، فإذا صار اسماً فهو أجدر أن يجمع بتكسير.
وإن سمّيته بربة، في لغة من خفَّف فقال: ربة رجلٍ فخفّف، ثم جمعت قلت: ربات وربون في لغة من قال: سنون. ولا يجوز ظبون في ظبةٍ؛ لأنَّه اسم جمع ولم يجمعوه بالواو والنون. ولو كانوا كسَّروا ربة وامرأً أو جمعوه بواو ونون فلم يجاوزا به ذلك لم تجاوزه، ولكنَّهم لمَّا لم يفعلوا ذلك شبَّهاه بالأسماء.
وأمّا عدة فلا تجمعه إلاَّ عدات. لأنَّه ليس شيء مثل عدةٍ كسّر للجمع، ولكنك إن شئت قلت: عدون إذا صارت اسما كما قلت: لدون.
ولو سمّيت رجلا شفةً أو أمةً ثم قلت: آم في الثلاثة إلى العشرة، وأمَّا في الكثير فإماء، ولقلت في شفةٍ: شفاه.
ولو سمّيت امرأة بشفةٍ أو أمةٍ ثم كسّرت لقلت: آم، وشفاه وإماء، ولا تقل: شفات ولا أمات، لأنَّهن أسماء قد جمعن، ولم يفعل بهنّ هذا. ولا تقل إلاَّ آمٍ في أدنى العدد؛ لأنه ليس بقياس. فلا تجاوز به هذا؛ لأنَّها أسماء كسّرتها العرب، وهي في تسمّيتك بها الرّجال والنساء أسماء بمنزلتها هنا. وقال بعض العرب: أمة وإموان، كما قالوا: أخ وإخوان، قال الشاعر، وهو القتّال الكلابّي:
أمَّا الإماء فلا يدعونني ولداً ... إذا ترامي بنو الإموان بالعار

ولو سمّيت رجلاً ببرةٍ ثم كسّرت لقلت: برّى مثل ظلمٍ، كما فعلوا به ذلك قبل التسمية، لأنَّه قياس.
وإذا جاء شيء مثل برة لم تجمعه العرب ثم قست وألحقت التاء والواو والنون لأن الأكثر مما فيه هاء التأنيث من الأسماء التي على حرفين جمع بالتاء والواو والنون ولم يكسر على الأصل.
وإذا سمّيت رجلاً أو امرأة بشيء كان وصفا، ثم أردت أن تكسِّره كسّرته على حدّ تكسيرك إيّاه لو كان على القياس. فإن كان اسماً قد كسّرته العرب لم تجاوز ذلك. وذلك أن لو سمّيت رجلاً بسعيدٍ أو شريفٍ، وجمعته كما تجمع الفعيل من الأسماء التي لم تكن صفة قط فقلت: فعلان وفعل إن أردت أن تكسّره، كما كسّرت عمراً حين قلت: العمور. ومن قال: أعمر قال في هذه أفعلة. فإذا جاوزت ذلك كسّرته على المثال الذي كسّر عليه الفعيل في الأكثر، وذلك نحو: رغيفٍ وجريبٍ، تقول: أرغفة وأجربة، وجربان ورغفان. وقد يقولون: الرغف، كما قالوا: قضب الرَّيحان. قال لقيط بن زرارة:
إنّ الشِّواء والنَّشيل والرُّغف
وقالوا: السُّبل، وأميل وأمل.
وأكثر ما يكسَّر هذا عليه: الفعلان، والفعلان، والفعل. وربما قالوا: الأفعلاء في السماء، نحو: الأنصباء، والأخمساء. وذلك نحو الأوّل الكثير.
فلو سمّيت رجلاً بنصيب لقلت: أنصباء إذا كسّرته. ولو سمّيته بنسيب، ثم كسّرته لقلت: أنسباء؛ لأنَّه جمع كما جمع النَّصيب، وذلك لأنَّهم يتكلّمون به كما يتكلمون بالأسماء.
وأمَّا والد وصاحب فإنَّهما لا يجمعان ونحوهما كما يجمع قادم الناقة، لأنَّ هذا وإن تكلم به كما يتكلم بالأسماء فإنّ أصله الصفة وله مؤنَّث يجمع بفواعل، فأرادوا أن يفرقوا بين المؤنَّث والمذكّر، وصار بمنزلة المذكّر الذي يستعمل وصفا نحو: ضاربٍ، وقاتلٍ.
وإذا جاء صفة قد كسّرت كتكسيرهم إيَّاها لو كانت اسما، ثم سمّيت بها رجلا كسّرته على ذلك التكسير؛ لأنَّه كسِّر تكسير الأسماء فلا تجاوزنَّه.
ولو سمّيت رجلاً بفعال، نحو جلالٍ، لقلت: أجلَّة، على حدّ قولك أجربة، فإذا جاوزت ذلك قلت: جلاَّن؛ لأنَّ فعالا في الأسماء إذا جاوز الأفعلة إنَّما يجيء عاَّمته على فعلانٍ، فعليه تقيس على الأكثر.
وإذا كسَّرت الصفة على شيء قد كسِّر عليه نظيرها من الأسماء كسَّرتها إذا صارت اسماً على ذلك، وذلك شجاع وشجعان، مثل زقاقٍ وزقَّان، وفعلوا ما ذكرت لك بالصفة إذا صارت اسماً، كما قلت في الأحمر: الأحامر، والأشقر: الأشاقر، فإذا قالوا: شقر أو شقران، فإنَّما يحمل على الوصف، كما أنَّ الذين قالوا: حارث قالوا: حوارث إذا أرادوا أن يجعلوا ذلك اسماً. ومن أراد أن يجعل الحارث صفةً، كما جعلوه الذي يحرث، جمعوه كما جمعوه صفة، إلاّ أنَّه غالب كزيدٍ.
ولو سمَّيت رجلا بفعيلةٍ، ثم كسَّرته قلت: فعائل. ولو سمَّيته باسم قد كسَّروه فجعلوه فعلا في الجمع مما كان فعيلةً، نحو: الصَّحف والسَّفن، أجريته على ذلك في تسميتك به الرجل والمرأة، وإن سمّيته بفعيلة صفةً نحو: القبيحة والظريفة، لم يجز فيه إلاَّ فعائل؛ لأنَّ الأكثر فعائل فإنَّما تجعله على الأكثر.
ولو سمّيت رجلا بعجوز لجاز فيه العجز؛ لأنَّ الفعول من الأسماء قد جمع على هذا، نحو عمودٍ وعمدٍ، وزبور وزيرٍ.
وسألت الخليل، عن أبٍ فقال: إن ألحقت به النون والزيادة التي قبلها قلت: أبون، وكذلك أخ تقول: أخون، لا تغيِّر البناء، إلا أن تحدث العرب شيئاً، كما تقول: دمون.
ولا تغيِّر بناء الأب عن حال الحرفين؛ لأنَّه عليه بني، إلاَّ أن تحدث العرب شيئاً، كما بنوه على غير بناء الحرفين.
وقال الشاعر:
فلما تبيَّن أصواتنا ... بكين وفدَّيننا بالأبينا
أنشدناه من نثق به، وزعم أن جاهلي. وإن شئت كسَّرت، فقلت: آباء وآخاء.
وأمّا عثمان ونحوه فلا يجوز فيه أن يكسِّره، لأنك توجب في تحقيره عثيمين؛ فلا تقول عثامين فيما يجب له عثيمان ولكن عثمانون. كما يجب عثيمان؛ لأنَّ أصل هذا أن يكون الغالب عليه باب غضبان، إلاّ أن تكسِّر العرب شيئاً منه عل مثال فعاعيل، فيجيء التحقير عليه.
ولو سمّيت رجلا بمصران، ثمَّ حقَّرته قلت: مصيران، ولا تلتفت إلى مصارين، لأنك تحقِّر المصران كما تحقِّر القضبان، فإذا صار اسماً جرى مجري عثمان؛ لأنه قبل أن يكون اسماً لم يجر مجرى سرحانٍ محقَّراً.
باب يجمع فيه الاسم

إن كان لمذكَّر أو مؤنث بالتاء كما يجمع ما كان آخره هاء التأنيث
وتلك الأسماء التي آخرها تاء التأنيث، فمن ذلك بنت إذا كان اسماً لرجل تقول: بنات، من قبل أنَّها تاء التأنيث، لا تثبت مع تاء الجمع، كما لا تثبت الهاء، فمن ثمّ صيرت مثلها.
وكذلك هنت وأخت، لا تجاوز هذا فيها.
وإن سمَّيت رجلاً بذيت ألحقت تاء التأنيث، فتقول: ذيات، وكذلك هنت اسم رجل، تقول: هنات.
باب ما لا يكسِّر مما كسّر للجمع
وما لا يكسَّر من أبنية الجمع إذا جعلته اسماً لرجل أو امرأة أما ما لا يكسَّر فنحو: مساجد ومفاتيح، لا تقول إلاَّ مساجدون ومفاتيحون، فإن عنيت نساء قلت: مساجدات ومفاتيحات؛ وذلك لأنَّ هذا المثال لا يشبه الواحد، ولم يشبَّه به فيكسَّر على ما كسّر عليه الواحد الذي على ثلاثة أحرف. وهو لا يكسَّر على شيء، لأنّه الغاية التي ينتهي إليها، ألا تراهم قالوا: سراويلات حين جاء على مثال ما لا يكسَّر.
ولو أردت تكسير هذا المثال رجعت إليه، فلمّا كان تكسيره لا يرجع إلاَّ إليه لم يحرّك.
وأمَّا ما يجوز تكسيره فرجل سمَّيته بأعدالٍ أو أنمارٍ، وذلك قولك: أعاديل وأنامير؛ لأنَّ هذا المثال قد يكسَّر وهو جميع، فإذا صار واحداً فهو أجدر أن يكسَّر. قالوا: أقاويل في أقوال، وأبابيت في أبياتٍ، وأناعيم في أنعامٍ. وكذلك أجربة تقول فيها: أجارب؛ لأنَّهم قد كسَّروا هذا المثال وهو جميع، وقالوا: في الأسقية: أساقٍ.
وكذلك لو سمّيت رجلاً بأعبدٍ جاز فيه الأعابد، لأنَّ هذا المثال يحقَّر كما يحقَّر الواحد، ويكسَّر وهو جميع، فإذا صار واحداً فهو أحسن أن يكسَّر، قالوا: أيدٍ وأيادٍ، وأوطب وأواطب.
وكذلك كلّ شيء بعدد هذا مما كسّر للجمع، فإن كان عدة حروفه ثلاثة أحرف فهو يكسّر على قياسه لو كان اسماً واحداً، لأنه يتحوَّل فيصير كخزرٍ وعنبٍ ومعيٍ، ويصير تحقيره كتحقيره لو كان اسماً واحداً.
ولو سمّيت رجلا بفعول جاز أن تكسّره فتقول: فعائل، لأنّ فعولا قد يكون الواحد على مثاله، كالأتي والسُّدوس. ولو لم يكن واحداً لم يكن بأبعد من فعولٍ من أفعال من إفعالٍ. وبكون مصدراً والمصدر واحد كالقعود والرُّكوب.
ولو كسّرته اسم رجل لكان تكسيره كتكسير الواحد الذي في بنائه، نحو فعول إذا قلت: فعائل. ففعول بمنزلة فعالٍ إذا كان جميعاً. والفعال نحو: جمالٍ إن سمّيت بها رجلا، لأنَّها على مثالٍ جرابٍ.
ولو سمّيت رجلا بتمرة لكانت كقصعة؛ لأنَّها قد تحولت عن ذلك المعنى؛ لست تريد فعلةً من فعلٍ؛ فيجوز فيها تمار كما جاز قصاع.
باب جمع الأسماء المضافةإذا جمعت عبد الله ونحوه من الأسماء وكسَّرت قلت: عباد الله وعبيد الله، كتكسيرك إيَّاه لو كان مفردا. وإن شئت قلت: عبدو الله، كما قلت: عبدون لو كان مفردا، وصار هذا فيه حيث صار علما، كما كان في حجر حجرون حيث صار علما.
وإذا جمعت أبا زيدٍ قلت: آباء زيدٍ، ولا تقول: أبو زيدين؛ لأنَّ هذا بمنزلة ابن كراع، إنّما يكون معرفة بما بعده. والوجه أن تقول: آباء زيدٍ، وهو قول يونس. وهو أحسن من آباء الزَّيدين، وإنَّما أردت أن تقول: كلّ واحدٍ منهم يضاف إلى هذا الاسم.
وهذا مثل قولهم: بنات لبونٍ، إنَّما أردت كلَّ واحدة تضاف إلى هذه الصفة وهذا الاسم.
ومثل ذلك ابنا عمٍ وبنو عمٍ، وابنا خالة، كأنَّه قال: هما ابنا هذا الاسم، تضيف كلَّ واحد منهما إلى هذه القرابة، فكأنه قال: هما مضافان إلى هذا القول. وآباء زيدٍ نحو هذا، وبنات لبون.
وتقول: أبو زيد، تريد أبون على إرادتك الجمع الصحيح.
باب من الجمع بالواو والنون وتكسير الاسمسألت الخليل عن قولهم. الأشعرون، فقال: إنما ألحقوا الواو والنون، كما كسّروا، فقالوا: الأشاعر، والأشاعث، والمسامعة، فكلما كسّروا مسمعاً والأشعث حين أرادوا بني مسمع وبني الأشعث، ألحقوا الواو والنون. وكذلك الأعجمون. وقد قال بعضهم: النُّميرون. وليس كل هذا النحو تلحقه الواو والنون، كما ليس كلُّ هذا النحو يكسَّر، ولكن تقول فيما قالوا: وكذلك وجه هذا الباب.
وسألوا الخليل عن مقتويٍ ومقتوين، فقال: هذا بمنزلة الأشعري والأشعرين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لقد أبطل الله كل طلاق سبق علي تنزيل طلاق سورة الطلاق 5هـ

  المقدمة الأولي /التفصيل القريب و الصواب في التفصيل الاتي 1= نزلت أحكام الطلاق في ثلاث سور قرانية أساسية تُشرِّع قواعده علي المُدرَّج ال...