سورة الطلاق مشاري

**

 المصحف المرتل ختمة كاليفورنيا

** ///

طلاق سورة الطلاق  إعجازٌ وضعه الله في حرفٍ.حيث وضع الله الباري إعجاز تبديل أحكام الطلاق التي كانت  في سورة البقرة 2هـ  إلي أحْكَمِ  أحكامها  في  سورةِ الطلاقِ 5هـ لينتهي كل متشابهٍ  وظنٍ وخلافٍ واختلافٍ  إلي الأبد وحتي يوم القيامة ..وسورة الطلاق5هـ نزلت بعد سورة البقرة2هـ بحوالي عامين ونصف تقريباً يعني ناسخة لأحكام طلاق سورة البقرة2هـ .

الخميس، 6 أكتوبر 2022

ج1وج2.كتاب الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

ج1وج2.كتاب الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر

الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلمقال أبو عبيد الله محمد بن يحيى: قرأت على ابن ولاّد، وهو ينظر في كتاب أبيه. وسمعته يقرأ على أبي جعفر أحمد بن محمد، المعروف بابن النحّاس.
وأخذه أبو القاسم بن ولاد عن أبيه عن المبرد.
وأخذه المبرد عن المازني عن الأخفش عن سيبويه.
الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتابه، وجعله آخر دعاء أهل الجنة فقال جلّ ثناؤه: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " . وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين.
قال لنا أبو جعفر أحمد بن محمد: لم يزل أهل العربية يفضّلون كتاب أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر؛ المعروف بسيبويه، حتّى لقد قال محمد بن يزيد: " لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنّفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره " .
وقال: سمعت أبا بكر بن شقير يقول: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعت الجرمي يقول: أنا مذ ثلاثون أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه.
قال: فحدثت به محمد يزيد على وجه التعجب والإنكار فقال: " أنا سمعت الجرمي يقول هذا - وأومأ بيديه إلى أذنيه. وذلك أن أبا بكر عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقّه في الحديث؛ إذ كان كتاب سيبويه يتعلّم منه النظر والتفتيش " . انتهى.
قال أبو جعفر: وقد حكى بعض النحويين أن الكسائي قرأ الأخفش كتاب سيبويه ودفع له مائتي دينار.
وحكى أحمد بن جعفر أن كتاب سيبويه وجد بعضه تحت وسادة الفراء التي كان يجلس عليها.
وأصل ما جاء به سيبويه عن الخليل.
قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل: " وقال غيره " فإنما يعني نفسه، لأنه أجلّ الخليل عن أن يذكر نفسه معه. وإذا قال: " وسألته " فإنما يعني الخليل.
وقال أبو إسحاق: إذا تأملت الأمثلة من كتاب سيبويه تبينت أنه أعلم الناس باللغة.
قال أبو جعفر: وحدثني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد أن المفتشين من أهل العربية ومن له المعرفة باللغة، تتبعوا على سيبويه الأمثلة فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلاّ ثلاثة أمثلة: منها الهندلع، وهي بقلة. والدراقس، وهو عظم في القفا. وشمنصير، وهو اسم أرض.
وقال أبو إسحاق: حدثني القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثني نصر بن علي قال: سمعت الأخفش يقول: يعد من أصحاب الخليل في النحو أربعة: سيبويه، والنضر بن شميل، وعلي بن نصر - وهو أبو نصر ابن علي - ومؤرّج السدوسي.
قال: وسمعت نصراً يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاون على إحياء علم الخليل.
قال أبو جعفر: وقد رأيت أبا جعفر بن رستم يروي كتاب سيبويه عن المازني غير أن الذي اعتمد عليه أبو جعفر في كتاب سيبويه إبراهيم ابن السري؛ لمعرفته به وضبطه إياه.
وذكر أن علي بن سليمان حكى أن أبا العباس كان لا يكاد يقرئ أحداً كتاب سيبويه حتى يقرأه على أبي إسحاق، لصحة نسخته، ولذكر أسماء الشعراء فيها.
قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتاً. فأما ألف فعرفت أسماء قائليها فأثبت أسماءهم، وأما خمسون فلم أعرف قائليها.
قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: نظرت في نسخة كتاب سيبويه التي أمليت بمصر فإذا فيها مائتا حرف خطأ. قال: ورأيت أبا إسحاق قد أنكر الإسناد الذي في أولها إنكاراً شديداً. وقال: لم يقرأ أبو العباس محمد بن يزيد كتاب سيبويه كله على الجرمي، ولكن قال أبو إسحاق: قرأته أنا على أبي العباس محمد بن يزيد وقال لنا أبو العباس: قرأت نحو ثلثه على أبي عمر الجرمي، فتوفيّ أبو عمر فابتدأت قراءته على أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وقال الأخفش: كنت أسأل سيبويه عمّا أشكل عليّ منه، فإن تعصّب عليّ الشيء منه قرأته عليه.
وأما أبو القاسم بن ولاّد فإنه حدّثنا عن أبيه أبي الحسين قال: حدّثني أبو العباس المبرد قال: قرأ المازني كتاب سيبويه على الجرمي وساءل الأخفش عنه، وقرأه الجرميّ على الأخفش.
قال: وحدثني المبرد قال: قرأت بعض هذا الكتاب على الجرمي، وبعضه على المازنيّ، ومنه ما قرأته عليهما جميعاً.
قال: وسمعت المبرد يقول: قد أدرك أبو عمر من أخذ عنه سيبويه، واختلف إلى حلقة يونس.

وحدّثنا أبو القاسم بن ولاد عن أبيه قال: حدثنا أبو العباس قال: حدثني الزيادي أبو إسحاق قال: عمدت إلى أبي عمر الجرميّ أقرأ عليه كتاب سيبويه، ووافيت المازنيّ يقرأ عليه في أثناء " هذا باب ما يرتفع بين الجزأين " فكنّا نعجب من حذقه وجودة ذهنه. وكان قد بلغ من أوّل الكتاب إلى هذا الموضع.
قال أبو الحسين بن ولاّد: يعني أن المازني كان قد بلغ على الأخفش إلى هذا الموضع.
وسمعت أبا القاسم بن ولاّد يقول: كان أبي قد قدم على أبي العباس المبرّد ليأخذ منه كتاب سيبويه، فكان المبرد لا يمكّن أحداً من أصله، وكان يضنّ به ضنّة شديدة، فكلّم ابنه على أن يجعل له في كل كتاب منها جعلاً قد سمّاه. فأكمل نسخه. ثم إن أبا العباس ظهر على ذلك بعد، فكان قد سعى بأبي الحسين إلى بعض خدمه السلطان ليحبسه له ويعاقبه في ذلك، فامتنع أبو الحسين منه بصاحب خراج بغداد يومئذ - وكان أبو الحسين يؤدّب ولده - فأجاره منه. ثم إن صاحب الخراج ألظّ بأبي العباس يطلب إليه أن يقرأ عليه الكتاب حتّى فعل.
قال أبو عبد الله: فقرأته أنا على أبي القاسم وهو ينظر في ذلك الكتاب بعينه، وقال لي: قرأته على أبي مراراً.
هذا باب علم الكلم من العربيةفالكلم: اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.
فالاسم: رجل، وفرس، وحائط.
وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع.
فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومكث وحمد. وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً: اذهب واقتل واضرب، ومخبراً: يقتل ويذهب ويضرب ويقتل ويضرب. وكذلك بناء ما لم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت.
فهذه الأمثلة التي أخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة ستبين إن شاء الله.
والأحداث نحو الضرب والحمد والقتل.
وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل فنحو: ثمّ، وسوف، وواو القسم ولام الإضافة، ونحوها.
هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربيةوهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجرّ والرفع والجزم، والفتح والضمّ والكسر والوقف.
وهذه المجاري الثمانية يجمعهنّ في اللفظ أربعة أضرب: فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد، والجرّ والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضمّ، والجزم والوقف.
وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يبنى عليه الحرف بناءً لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكلّ منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب.
فالرفع والجر والنصب والجزم لحروف الإعراب. وحروف الإعراب للأسماء المتمكّنة، وللأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائد الأربع: الهمزة، والتاء، والياء، والنون. وذلك قولك: أفعل أنا، وتفعل أنت أو هي، ويفعل هو، ونفعل نحن.
والنصب في الأسماء: رأيت زيداً، والجرّ: مررت بزيد، والرفع: هذا زيد. وليس في الأسماء جزم، لتمكنها وللحاق التنوين، فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا على الاسم ذهابه وذهاب الحركة.
والنصب في المضارع من الأفعال: لن يفعل، والرفع: سيفعل، والجزم: لم يفعل. وليس في الأفعال المضارعة جر كما أنه ليس في الأسماء جزم؛ لأن لمجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال. وإنما ضارعت أسماء الفاعلين أنك تقول: إن عبد الله ليفعل، فيوافق قولك: لفاعل، حتّى كأنّك قلت: إن زيداً لفاعل فيما تريد من المعنى. وتلحقه هذه اللام كما لحقت الاسم، ولا تلحق فعل اللام. وتقول سيفعل ذلك وسوف يفعل ذلك فتلحقها هذين الحرفين لمعنى كما تلحق الألف واللام الأسماء للمعرفة.
ويبّن لك أنها ليست بأسماء أنك لو وضعتها مواضع الأسماء لم يجز ذلك. ألا ترى أنّك لو قلت إنّ يضرب يأتينا وأشباه هذا لم يكن كلاماً؟! إلا أنها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى. وسترى ذلك أيضاً في موضعه.
ولدخول اللام قال الله جلّ ثناؤه: " وإن ربّك ليحكم بينهم " أي لحاكم.

ولما لحقها من السين وسوف كما لحقت الاسم والألف واللام للمعرفة. وأما الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غير، نحو سوف وقد، وللأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة، وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال ولم تجئ إلاّ لمعنى.
فالفتح في الأسماء قولهم: حيث وأين وكيف. والكسر فيها نحو: أولاد وحذار وبداد. والضم نحو: حيث وقبل وبعد. والوقف نحو: من وكم وقط وإذ.
والفتح في الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة قولهم: ضرب، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه فعل. ولم يسكنو آخر فعل لأن فيها بعض ما في المضارعة، تقول: هذا رجل ضربنا، فتصف بها النكرة، وتكون في موضع ضارب إذا قلت هذا رجل ضارب. وتقول: إن فعل فعلت، فيكون في معنى إن يفعل أفعل، فهي فعل كما أنّ المضارع فعل وقد وقعت موقعها في إن، ووقعت موقع الأسماء في الوصف كما تقع المضارعة في الوصف، فلم يسكّنوها كما لم يسكنو من الأسماء ما ضارع المتمكن ولا ما صيّر من المتمكن في موضع بمنزلة غير المتمكن. فالمضارع: من عل، حرّكوه لأنهم قد يقولون من عل فيجرونه. وأما المتمكن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن في موضع فقولك ابدأ بهذا أول، ويا حكم.
والوقف قولهم: اضرب في الأمر، ولم يحركوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة، فبعدت من المضارعة بعدكم وإذ من المتمكنة.
وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه افعل.
والفتح في الحروف التي ليست إلا لمعنى وليست بأسماء ولا أفعال، قولهم: سوف، وثم.
والكسر فيها قولهم في باء الإضافة ولامها: بزيد ولزيد.
والضم فيها: منذ، فيمن جرّبها، لأنها بمنزلة من في الأيام.
والوقف فيها قولهم: من، وهل، وبل، وقد.
ولا ضم في الفعل؛ لأنه لم يجيء ثالث سوى المضارع. وعلى هذين المعنيين بناء كل فعل بعد المضارع.
واعلم أنك إذا ثنّيت الواحد لحقته زيادتان: الأولى منهما حرف المد والين وهو حرف الإعراب غير متحرّك ولا منوّن، يكون في الرفع ألفاً، ولم يكن واواً ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية، ويكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها، ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حدّ التثنية. ويكون في النصب كذلك، ولم يجعلوا النصب ألفاً ليكون مثله في الجمع، وكان مع ذا أن يكون تابعاً لما الجر منه أولى، لأن الجرّ للاسم لا يجاوزه، والرفع قد ينتقل إلى الفعل، فكان هذا أغلب وأقوى. وتكون الزيادة الثانية نوناً كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين، وهي النون وحركتها الكسر، وذلك قولك: هما الرجلان، ورأيت الرجلين، ومررت بالرجلين.
وإذا جمعت على حدّ التثنية لحقتها زائدتان: الأولى منهما حرف المد والين، والثانية نون. وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنها حرف الإعراب، حال الأولى في التثنية، إلا أنها واو ومضموم ما قبلها في الرفع، وفي الجر والنصب ياء مكسور ما قبلها ونونها مفتوحة، فرقوا بينها وبين نون الاثنين كما أنّ حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما. وذلك قولك: المسلمون، ورأيت المسلمين ومررت بالمسلمين. ومن ثم جعلوا تاء الجمع في الجر والنصب مكسورة، لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب كالواو والياء، والتنوين بمنزلة النون لأنها في التأنيث نظيرة الواو والياء في التذكير فأجروها مجراها.
واعلم أنّ التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين لحقتها ألف ونون، ولم تكن الألف حرف الإعراب لأنك لم ترد أن تثنّي يفعل هذا البناء فتضم إليه يفعل آخر، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفاعلين، ولم تكن منونة، ولا يلزمها الحركة لأنه يدركها الجزم والسكون فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كالتنوين، فكلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلته، فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون لتكون له في التثنية علامة للرفع كما كان في الواحد إذ منع حرف الإعراب.
وجعلوا النون مكسورة كحالها في الاسم، ولم يجعلوها حرف الإعراب إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم ولم يكونوا ليحذفوا الألف لأنها علامة الإضمار والتثنية في قول من قال: أكلوني البراغيث، وبمنزلة التاء في قلت وقالت، فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم كما حذفوا الحركة في الواحد.

ووافق النصب الجزم في الحذف كما وافق النصب الجر في الأسماء؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، والأسماء ليس لها في الجزم نصيب كما أنه ليس للفعل في الجر نصيب. وذلك قولك: هما يفعلان، ولم يفعلا، ولن يفعلا.
وكذلك إذا لحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان، إلا أنّ الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية، ونونها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلت ذلك في التثنية، لأنهما وقعتا في التثنية والجمع ههنا كما أنهما في الأسماء كذلك، وهو قولك: هم يفعلون ولم يفعلوا ولن يفعلوا.
وكذلك إذا ألحقت التأنيث في المخاطبة، إلاّ أن الأولى ياء وتفتح النون لأن الزيادة التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في الجمع، وهي تكون في الأسماء في الجر والنصب، وذلك قولك: أنت تفعلين ولم تفعلي ولن تفعلي.
وإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ألحقت للعلامة نوناً، وكانت علامة الإضمار والجمع فيمن قال أكلوني البراغيث، وأسكنت ما كان في الواحد حرف الإعراب، كما فعلت ذلك في فعل حين قلت فعلت وفعلن، فأسكن هذا ههنا وبني على هذه العلامة، كما أسكن فعل، لأنه فعل كما أنه فعل، وهو متحرك كما أنه متحرك، فليس هذا بأبعد فيها - إذا كانت هي وفعل شيئاً واحداً - من يفعل، إذ جاز لهم فيها الأعراب حين ضارعت الأسماء وليست باسم، وذلك قولك: هن يفعلن ولن يفعلن ولم يفعلن. وتفتحها لأنها نون جمع، ولا تحذف لأنها علامة إضمار وجمع في قول من قال أكلوني البراغيث. فالنون ههنا في يفعلن بمنزلتها في فعلن. وفعل بلام يفعل ما فعل بلام فعل لما ذكرت لك، ولأنها قد تبنى مع ذلك على الفتحة في قولك هل تفعلن. وألزموا لام فعل السكون وبنوها على العلامة وحذفوا الحركة لمّا زادوا، لأنها في الواحد ليست في آخرها حرف إعراب لما ذكرت لك.
واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء لأن الأسماء هي الأولى، وهي أشد تمكّنا، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون، وإنما هي من الأسماء. ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلاماً، والاسم قد يستغني عن الفعل، تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا.
واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ووافقه في البناء أجرى لفظه مجرى ما يستثقلون ومنعوه ما يكون لما يستخفون وذلك نحو أبيض وأسود وأحمر وأصفر، فهذا بناء أذهب وأعلم فيكون في موضع الجرّ مفتوحاً، استثقلوه حين قارب في الكلام ووافق في البناء.
وأما مضارعته في الصفة فإنك لو قلت: أتأتني اليوم قوي، وألا بارداً ومررت بجميل، كان ضعيفاً، ولم يكن في حسن أتاني رجل قوي وألا ماء بارداً، ومررت برجل جميل. أفلا ترى أن هذا يقبح ههنا كما أن الفعل المضارع لا يتكلم به إلا ومعه الاسم؛ لأن الاسم قبل الصفة، كما أنه قبل الفعل. ومع هذا أنك ترى الصفة تجري في معنى يفعل، يعني هذا رجل ضارب زيداً، وتنصب كما ينصب الفعل. وسترى ذلك إن شاء الله.
فإن كان اسماً كان أخفّ عليهم، وذلك نحو أفكل وأكلب، ينصرفان في النكرة.
ومضارعة أفعل الذي يكون صفة للاسم أنه يكون وهو اسم صفة كما يكون الفعل صفة، وأما يشكر فإنه لا يكون صفة وهو اسم، وإنما يكون صفة وهو فعل.
واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة، وهي أشد تمكناً؛ لأن النكرة أول، ثم يدخل عليها ما تعرّف به. فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة.
واعلم أن الواحد أشد تمكناً من الجميع، لأن الواحد الأول، ومن ثم لم يصرفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد، نحو مساجد ومفاتيح.
واعلم أن المذكر أخفّ عليهم من المؤنث لأن المذكر أول، وهو أشد تمكناً، وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن " الشيء " يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى، والشيء ذكر، فالتنوين علامة للأمكن عندهم والأخف عليهم، وتركه علامة لما يستثقلون. وسوف يبيّن ما ينصرف وما لا ينصرف إن شاء الله.
وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف انجرّ؛ لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف. ودخل فيها الجر كما يدخل في المنصرف، ولا يكون ذلك في الأفعال، وأمنوا التنوين. فجميع ما يترك صرفه مضارع به الفعل، لأنه إنما فعل ذلك به لأنه ليس له تمكن غيره، كما أنّ الفعل ليس له تمكن الاسم.

واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم، لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع، فحذفوا كما حذفوا الحركة ونون الاثنين والجميع. وذلك قولك لم يرم ولم يغز ولم يخش. وهو في الرفع ساكن الآخر، تقول: هو يرمي ويغزو ويخشى.
هذا باب المسند والمسند إليهوهما ما لا يغنى واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بداً. فمن ذلك الاسم المتدأ والمبني عليه. وهو قولك عبد الله أخوك، وهذا أخوك.
ومثل ذلك يذهب عبد الله، فلا بدّ للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بدّ من الآخر في الابتداء.
ومما يكون بمنزلة الابتداء قولك: كان عبد الله منطلقاً، وليت زيداً منطلق؛ لأن هذا يحتاج إلى ما بعده كاحتياج المبتدأ إلى ما بعده.
واعلم أن الاسم أول أحواله الابتداء، وإنما يدخل الناصب والرافع سوى الابتداء والجار على المبتدأ. ألا ترى أن ما كان مبتدأ قد تدخل عليه هذه الأشياء حتى يكون غير مبتدأ، ولا تصل إلى الابتداء ما دام مع ما ذكرت لك إلا أن تدعه. وذلك أنك إذا قلت عبد الله منطلق إن شئت أدخلت رأيت عليه فقلت رأيت عبد الله منطلقاً، أو قلت كان عبد الله منطلقاً، أو مررت بعبد الله منطلقاً، فالمبتدأ أول جزء كما كان الواحد أول العدد، والنكرة قبل المعرفة.
هذا باب اللفظ للمعانياعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. وسترى ذلك إن شاء الله تعالى.
فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة. وأشباه هذا كثير.
هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراضاعلم أنهم مما يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام غير ذلك، ويحذفون ويعوّضون، ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل حتى يصير ساقطاً. وسترى ذلك إن شاء الله.
فما حذف وأصله في الكلام غير ذلك. لم يك ولا أدر، وأشباه ذلك. وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء فإنهم يقولون يدع ولا يقولون ودع، استغنوا عنها بترك. وأشباه ذلك كثير.
والعوض قولهم: زنادقة وزناديق، وفرازنة وفرازين، حذفوا الياء وعوّضوها الهاء. وقولهم أسطاع يسطيع وإنما هي أطاع يطيع، زادوا السين عوضاً من ذهاب حركة العين من أفعل. وقولهم اللهم، حذفوا " يا " وألحقوا الميم عوضاً.
هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالةفمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.
وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر " ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس.
هذا باب ما يحتمل الشعر اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبّهونه بما قد حذف واستعمل محذوفاً، كما قال العجّاج:
قواطناً مكة من ورق الحمى
يريد الحمام. وقال خفاف بن ندبة السلمىّ:
كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت بالثتين عصف الإثمد
وكما قال:
دار لسعدى إذه من هواكا
وقال:
فطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا
وكما قال النجاشي:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
وكما قال مالك بن خريم الهمداني:
فإن يك غثا أو سميناً فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعاً
وقال الأعشى:
وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه ... ويعدن أعداء بعيد وداد
وربما مدوا مثل مساجد ومنابر، فيقولون مساجيد ومنابير، شبّهوه بما جمع على غير واحده في الكلام، كما قال الفرزدق:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير تنقاد الصياريف
وقد يبلغون بالمعتلّ الأصل فيقولون رداد في رادّ، وضننوا في ضنّوا، ومررتم بجواري قبل. قال قعنب بن أم صاحب:
مهلاً أعاذل قد جرّبت من خلقي ... أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا

ومن العرب من يثقّل الكلمة إذا وقف عليها ولا يثقلها في الوصل، فإذا كان في الشعر فهم يجرونه في الوصل على حاله في الوقف نحو: سبسبّا وكلكلاّ لأنهم قد يثقلونه في الوقف، فأثبتوه في الوصل كما أثبتوا الحذف في قوله لنفسه مقنعاً، وإنما حذفه في الوقف. قال رؤبة:
ضخم يحب الخلق الأضخما
يروي بكسر الهمزة وفتحها. وقال بعضهم: " الضّخمّا " بكسر الضاد.
وقال أيضاً ي مثله، وهو الشماخ:
له زجل كأنه صوت حادٍ ... إذا طلب الوسيقة أو زمير
وقال حنظلة بن فاتك:
وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يكن لفسيل النخل بعده آبر
وقال رجل من باهلة:
أو معبر الظهر ينبي عن وليته ... ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمروا
وقال الأعشى:
وما له من مجدٍ تليدٍ وما له ... من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا
وقال:
بيناه في دار صدقٍ قد أقام بها ... حيناً يعللنا وما نعلله
ويحتملون قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه، لأنه مستقيم ليس فيه نقيض فمن ذلك قوله:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
وإنما الكلام: وقل ما يدوم وصال.
وجعلوا ما لا يجري في الكلام إلا ظرفاً بمنزلة غيره من الأسماء، وذلك قول المرار بن سلامة العجلي:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا
وقال الأعشى:
وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال خطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين
فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غير، ومعنى الكاف معنى مثل.
وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً. وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ههنا، لأن هذا موضع جمل، وسنبين ذلك فيما نستقبل إن شاء الله.
هذا باب الفاعل الذي لم يتعده فعله
إلى مفعولوالمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل ولا يتعدى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر ذلك العمل، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وما أجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت لك ولا الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين، التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل ما جرى مجراها وليس بفعل.
هذا باب
الفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول آخروالمفعول الذي لم يتعد إليه فاعل ولم يتعده فعله إلى مفعول آخر.
والفاعل والمفعول في هذا سواء، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل، لأنك لم تشغل الفعل بغيره وفرغته، كما فعلت ذلك بالفاعل.
فأما الفاعل الذي لا يتعداه فعله فقولك: ذهب زيدٌ وجلس عمروٌ.
والمفعول الذي لم يتعده فعله ولم يتعد إليه فعل فاعل فقولك: ضرب زيد ويضرب عمرو. فالأسماء المحدث عنها، والأمثلة دليلة على ما مضى وما لم يمض من المحدث به عن الأسماء، وهو الذهاب والجلوس والضرب، وليست الأمثلة بالأحداث ولا ما يكون منه الأحداث وهي الأسماء.
هذا باب
الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولوذلك قولك: ضرب عبد الله زيداً. فعبد الله ارتفع ههنا كما ارتفع في ذهب، وشغلت ضرب به كما شغلت به ذهب، وانتصب زيد لأنه مفعول تعدي إليه فعل الفاعل. فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول، وذلك قولك: ضرب زيداً عبد الله؛ لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ. فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً، وهو عربي جيد كثير، كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أغنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم.

واعلم أن الفعل الذي لا يتعدى الفاعل يتعدى إلى اسم الحدثان الذي أخذ منه؛ لأنه إنما يذكر ليدل على الحدث. ألا ترى أن قولك قد ذهب بمنزلة قولك قد كان منه ذهاب. وإذا قلت ضرب عبد الله لم يستبن أن المفعول زيد أو عمرو، ولا يدل على صنفٍ كما أن ذهب قد دل على صنف، وهو الذهاب، وذلك قولك ذهب عبد الله الذهاب الشديد، وقعد قعدة سوء، وقعد قعدتين، لما عمل في الحدث عمل في المرة منه والمرتين وما يكون ضرباً منه. فمن ذلك: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء، ورجع القهقري، لأنه ضرب من فعله الذي أخذ منه.
ويتعدى إلى الزمان، نحو قولك ذهب لأنه بني لما مضى منه وما لم يمض، فإذا قال ذهب فهو دليل على أن الحدث فيما مضى من الزمان، وإذا قال سيذهب فإنه دليل على أنه يكون فيما يستقبل من الزمان، ففيه بيان ما مضى وما لم يمض منه، كما أن فيه استدلالاً على وقوع الحدث. وذلك قولك قعد شهرين، وسيقعد شهرين، وتقول: ذهبت أمس، وسأذهب غداً، فإن شئت لم تجعلهما ظرفاً، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان كما جاز في كل شيء من أسماء الحدث.
ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسماً للمكان وإلى المكان؛ لأنه إذا قال ذهب أو قعد فقد علم أن للحدث مكاناً وإن لم يذكره كما علم أنه قد كان ذهاب، وذلك قولك ذهبت المذهب البعيد، وجلست مجلساً حسناً، وقعدت مقعداً كريماً، وقعدت المكان الذي رأيت، وذهبت وجهاً من الوجوه. وقد قال بعضهم ذهب الشام، يشبهه بالمبهم، إذ كان مكاناً يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ؛ لأنه ليس في ذهب دليل على الشام، وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت. ومثل ذلك قول ساعدة بن جوية:
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
ويتعدى إلى ما كان وقتاً في الأمكنة كما يتعدى إلى ما كان وقتاً في الأزمنة لأنه وقت يقع في المكان، ولا يختص به مكان واحد، كما في الزمن كان مثله؛ لأنك قد تفعل بالأماكن ما تفعل بالأزمنة وإن كان الأزمنة أقوى في ذلك. وكذلك ينبغي أن يكون إذ صار فيما هو أبعد نحو ذهبت الشام، وهو قولك ذهبت فرسخين، وسرت الميلين، كما تقول ذهبت شهرين وسرت اليومين. وإنما جعل في الزمان أقوى لأن الفعل بنى لما مضى منه وما لم يمض، ففيه بيان متى وقع، كما أن فيه بيان أنه قد وقع المصدر وهو الحدث. والأماكن لم يبن لها فعل، وليست بمصادر أخذ منها الأمثلة، والأماكن إلى الأناسي ونحوهم أقرب. ألا ترى أنهم يخصونها بأسماء كزيد وعمرو، وفي قولهم مكة وعمان ونحوها، ويكون منها خلق لا تكون لكل مكان ولا فيه، كالجبل والوادي، والبحر. والدهر ليس كذلك. والأماكن لها جثة، وإنما الدهر مضى الليل والنهار، فهو إلى الفعل أقرب.
هذا باب الفاعل
الذي يتعداه فعله إلى مفعولين فإن شئت اقتصرتعلى المفعول الأول وإن شئت تعدى إلى الثاني كما تعدى إلى الأول.
وذلك قولك: أعطى عبد الله زيداً درهماً، وكسوت بشراً الثياب الجياد. ومن ذلك: اخترت الرجال عبد الله، ومثل ذلك قوله عز وجل: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً " ، وسميته زيداً، وكسيت زيداً أبا عبد الله، ودعوته زيداً إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولاً واحداً. ومنه قول الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحروف الإضافة، فتقول: اخترت فلاناً من الرجال، وسميته بفلان، كما تقول: عرفته بهذه العلامة وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل. ومثل ذلك قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
يريد: على حب العراق.
وكما تقول: نبئت زيداً يقول ذاك، أي عن زيد. وليست عن وعلى ههنا بمنزلة الباء في قوله: " كفى بالله شهيداً " ، وليس بزيد؛ لأن عن وعلى لا يفعل بها ذاك، ولا بمن في الواجب.

وليست أستغفر الله ذنباً وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعاً، وإنما يتكلم بها بعضهم. فأما سميت وكنيت فإنما دخلتها الباء على حد ما دخلت في عرفت، تقول عرفته زيداً ثم تقول عرفته بزيد، فهو سوى ذلك المعنى، فإنما تدخل في سميت وكنيت على حد ما دخلت في عرفته بزيد. فهذه الحروف كان أصلها في الاستعمال أن توصل بحرف الإضافة.
وليس كل الفعل يفعل به ذها، كما أنه ليس كل فعل يتعدى الفاعل ولا يتعدى إلى مفعولين. ومنه قول الفرزدق:
منا الذي اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
وقال الفرزدق أيضاً:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... كراماً مواليها لئيماً صميمها
هذا باب الفاعل
الذي يتعداه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر
على أحد المفعولين دون الآخروذلك قولك: حسب عبد الله زيداً بكراً، وظن عمرو وخالداً أباك، وخال عبد الله زيداً أخاك. ومثل ذلك: رأى عبد الله زيداً صاحبنا، ووجد عبد الله زيداً ذا الحفاظ.
وإنما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين ههنا أنك إنما أردت أن تبين ما استقر عندك من حال المفعول الأول، يقيناً كان أو شكاً، وذكرت الأول لتعلم الذي تضيف إليه ما استقر له عندك من هو. فإنما ذكرت ظننت ونحوه لتجعل خبر المفعول الأول يقيناً أو شكاً، ولم ترد أن تجعل الأول فيه الشك أو تقيم عليه في اليقين.
ومثل ذلك: علمت زيداً الظريف، وزعم عبد الله زيداً أخاك.
وإن قلت رأيت فأردت رؤية العين، أو وجدت فأردت وجدان الضالة، فهو بمنزلة ضربت ولكنك إنما تريد بوجدت علمت، وبرأيت ذلك أيضاً. ألا ترى أنه يجوز للأعمى أن يقول: رأيت زيداً الصالح.
وقد يكون علمت بمنزلة عرفت لا تريد إلا علم الأول. فمن ذلك قوله تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " ، وقال سبحانه: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " فهي ههنا بمنزلة عرفت كما كانت رأيت على وجهين.
وأما ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه لأنك قد تقول ظننت، فتقصر، كما تقول ذهبت، ثم تعمله في الظن كما تعمل ذهبت في الذهاب. فذاك ههنا هو الظن، كأنك قلت: ظننت ذاك الظن. وكذلك خلت وحسبت.
ويدلك على أنه الظن أنك لو قلت خلت زيداً وأرى زيداً لم يجز.
وتقول: ظننت به، جعلته موضع ظنك كما قلت نزلت به ونزلت عليه. ولو كانت الباء زائدة بمنزلتها في قوله عز وجل: " كفى بالله " لم يجز السكت عليها، فكأنك قلت: ظننت في الدار. ومثله شككت فيه.
هذا باب
الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولينولا يجوز أن تقتصر على مفعول منهم واحد دون الثلاثة، لأن المفعول ههنا كالفاعل في الباب الأول الذي قبله في المعنى.
وذلك قولك: أرى الله بشراً زيداً أباك، ونبأت زيداً عمراً أبا فلان، وأعلم الله زيداً عمراً خيراً منك.
واعلم أن هذه الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي، تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل، وذلك قولك: أعطى عبد الله زيداً المال إعطاء حميلاً، وسرقت عبد الله الثوب الليلة، لا تجعله ظرفاً، ولكن كما تقول: يا سارق الليلة زيداً الثوب، لم تجعلها ظرفاً.
وتقول: أعملت هذا زيداً قائماً العلم اليقين إعلاماً، وأدخل الله عمراً المدخل الكريم إدخالاً؛ لأنها لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى.
هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعولوذلك قولك: كسى عبد الله الثوب، وأعطى عبد الله المال. رفعت عبد الله ههنا كما رفعته في ضرب حين قلت ضرب عبد الله، وشغلت به كسى وأعطى كما شغلت به ضرب. وانتصب الثوب والمال لأنهما مفعولان تعدى إليهما مفعول هو بمنزلة الفاعل.
وإن شئت قدمت وأخرت فقلت كسى الثوب زيد، وأعطى المال عبد الله كما قلت ضرب زيداً عبد الله. فأمره في هذا كأمر الفاعل.
واعلم أن المفعول الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول، يتعدى إلى كل شيء تعدى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول، وذلك قولك: ضرب زيد الضرب الشديد، وضرب عبد الله اليومين اللذين تعلم، لا تجعله ظرفاً، ولكن كما تقول: يا مضروب الليلة الضرب الشديد، وأقعد عبد الله المقعد الكريم.

فجميع ما تعدى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول يتعدى إليه فعل المفعول الذي لا يتعداه فعله.
واعلم أن المفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل في التعدي والاقتصار بمنزلة إذا تعدى إليه فعل الفاعل؛ لأن معناه متعدياً إليه فعل الفاعل وغير متعد إليه فعله سواء. ألا ترى أنك تقول ضربت زيداً، فلا تجاوز هذا المفعول، وتقول ضرب زيد فلا يتعداه فعله، لأن المعنى واحد.
وتقول: كسوت زيداً ثوباً فتجاوز إلى مفعول آخر، وتقول: كسى زيد ثوباً، فلا تجاوز الثوب، لأن الأول بمنزلة المنصوب، لأن المعنى واحد وإن كان لفظه لفظ الفاعل.
هذا باب المفعول
الذي يتعداه فعله إلى مفعولين،
وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر.
وذلك قولك: نبئت زيداً أبا فلان. لما كان الفاعل يتعدى إلى ثلاثة تعدى المفعول إلى اثنين. وتقول أرى عبد الله أبا فلان، لأنك لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل وبنيته له لتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين.
واعلم أن الأفعال إذا انتهت ههنا فلم تجاوز، تعدت إلى جميع ما تعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى المفعول. وذلك قولك: أعطى عبد الله الثوب إعطاء جميلاً، ونبئت زيداً أبا فلان تنبيئاً حسناً، وسرق عبد الله الثوب الليلة، لا تجعله ظرفاً ولكن على قولك يا مسروق الليلة الثوب، صير فعل المفعول والفاعل حيث انتهى فعلهما بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى فاعله ولا مفعوله، ولم يكونا ليكونا بأضعف من الفعل الذي لا يتعدى.
هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينتصب وهو حال
وقع فيه الفعل وليس بمفعولكالثوب في قولك كسوت الثوب، وفي قولك كسوت زيداً الثوب، لأن الثوب ليس بحال وقع فيها الفعل ولكنه مفعول كالأول. ألا ترى أنه يكون معرفة ويكون معناه ثانياً كمعناه أولاً إذا قلت كسوت الثوب، وكمعناه إذا كان بمنزل الفاعل إذا قلت كسى الثوب.
وذلك قولك: ضربت عبد الله قائماً، وذهب زيد راكباً. فلو كان بمنزلة المفعول الذي يتعدى إليه فعل الفاعل نحو عبد الله وزيد ما جاز في ذهبت، ولجاز أن تقول ضربت زيداً أباك، وضربت زيداً القائم، لا تريد بالأب ولا بالقائم الصفة " ولا البدل " ، فالاسم الأول المفعول في ضربت قد حال بينه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته، كما حال الفاعل بينه وبين الفعل في ذهب أن يكون فاعلاً، وكما حالت الأسماء المجرورة بين ما بعدها وبين الجار في قولك: لي مثله رجلاً، ولي ملؤه عسلاً، وكذلك ويحه فارساً؛ وكما منعت النون في عشرين أن يكون ما بعدها جراً إذا قلت: له عشرون درهماً. فعمل الفعل هنا فيما يكون حالاً كعمل مثله فيما بعده، ألا ترى أنه لا يكون إلا نكرة كما أن هذا لا يكون إلا نكرة، ولو كان هذا بمنزلة الثوب وزيد في كسوت لما جاز ذهبت راكباً، لأنه لا يتعدى إلى مفعول كزيد وعمرو. وإنما جاز هذا لأنه حال، وليس معناه كمعنى الثوب وزيد، فعمل كعمل غير الفعل ولم يكن أضعف منه، إذ كان يتعدى إلى ما ذكرت من الأزمنة والمصادر ونحوه.
هذا باب
الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول
واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحدفمن ثم ذكر على حدته ولم يذكر مع الأول، ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل كما لم يجز في ظننت الاقتصار على المفعول الأول، لأن حالك في الاحتياج إلى الآخر ههنا كحالك في الاحتياج إليه ثمة. وسنبين لك إن شاء الله.
وذلك قولك: كان ويكون، وصار، وما دام، وليس وما كان نحوهن من الفعل مما لا يستغنى عن الخبر. تقول: كان عبد الله أخاك، فإنما أردت أن تخبر عن الأخوة، وأدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى. وذكرت الأول كما ذكرت المفعول الأول في ظننت. وإن شئت قلت: كان أخاك عبد الله، فقدمت وأخرت كما فعلت ذلك في ضرب لأنه فعل مثله وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في ضرب، إلا أن اسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد.
وتقول: كناهم، كما تقول ضربناهم وتقول: إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم، كما تقول إذا لم نضربهم فمن يضربهم. قال أبو الأسود الدؤلي:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فهو كائن ومكون، كما تقول ضارب ومضروب.

وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر على الفاعل فيه تقول: قد كان عبد الله، أي قد خلق عبد الله. وقد كان الأمر، أي وقع الأمر. وقد دام فلان، أي ثبت. كما تقول رأيت زيداً تريد رؤية العين، وكما تقول أنا وجدته تريد وجدان الضالة، وكما يكون أصبح وأمسى مرة بمنزلة كان، ومرة بمنزلة قولك استيقظوا وناموا.
فأما ليس فإنه لا يكون فيها ذلك، لأنها وضعت موضعاً واحدا، ومن ثم لم تصرف تصرف الفعل الآخر.
فمما جاء على وقع قوله، وهو مقاس العائذي:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
"
أي إذا وقع " . وقال الآخر، عمرو بن شأس:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
إذا كانت الحو الطوال كأنما ... كساها السلاح الأرجوان المضلعا
أضمر لعلم المخاطب بما يعنى، وهو اليوم. وسمعت بعض العرب يقول أشنعا ويرفع ما قبله، كأنه قال: إذا وقع يوم ذو كواكب أشنعا.
واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة فالذي تشغل به كان المعرفة، لأنه حد الكلام، لأنهما شيء واحد، وليس بمنزلة قولك: ضرب رجل زيداً لأنهما شيئان مختلفان، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت عبد الله منطلق. تبتدئ بالأعرف ثم تذكر الخبر، وذلك قولك: كان زيد حليماً، وكان حليماً زيد، لا عليك أقدمت أم أخرت، إلا أنه على ما وصفت لك في قولك: ضرب زيداً عبد الله. فإذا قلت: كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك فإنما ينتظر الخبر. فإذا قلت: حليماً فقد أعلمته مثل ما علمت. فإذا قلت كان حليماً فإنما ينتظر أن تعرفه صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل وإن كان مؤخراً في اللفظ. فإن قلت: كان حليم أو رجل فقد بدأت بنكرة، ولا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور، وليس هذا بالذي ينزل به المخاطب منزلتك في المعرفة، فكرهوا أن يقربوا باب لبس.
وقد تقول: كان زيد الطويل منطلقاً، إذا خفت التباس الزيدين، وتقول: أسفيها كان زيد أم حليماً، وأرجلاً كان زيد أم صبياً، تجعلها لزيد، لأنه إنما ينبغي لك أن تسأله عن خبر من هو معروف عنده كما حدثته عن خبر من هو معروف عندك فالمعروف هو المبدوء به.
ولا يبدأ بما يكون فيه اللبس، وهو النكرة. ألا ترى أنك لو قلت: كان إنسان حليماً أو كان رجل منطلقاً، كنت تلبس، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا إنسان هكذا، فكرهوا أن يبدءوا بما فيه اللبس ويجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبس.
وقد يجوز في الشعر وفي ضعف من الكلام. حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب، وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيداً وجعلته خبراً أنه صاحب الصفة على ضعف من الكلام، وذلك قول خداش بن زهير:
فإنك لا تبالي بعد حول ... أظبي كان أمك أم حمار
وقال حسان بن ثابت:
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
ألا من مبلغ حسان عني ... أسحر كان طبك أم جنون
وقال الفرزدق:
أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ... تميماً بجوف الشام أم متساكر
فهذا إنشاء بعضهم. وأكثرهم ينصب السكران ويرفع الآخر على قطع وابتداء.
وإذا كان معرفة فأنت بالخيار: أيهما ما جعلته فاعلاً رفعته ونصبت الآخر، كما فعلت ذلك في ضرب، وذلك قولك: كان أخوك زيداً، وكان زيد صاحبك، وكان هذا زيداً، وكان المتكلم أخاك.
وتقول: من كان أخاك، ومن كان أخوك، كما تقول: من ضرب أباك إذا جعلت من الفاعل، ومن ضرب أبوك إذا جعلت الأب الفاعل. وكذلك أيهم كان أخاك وأيهم كان أخوك.
وتقول: ما كان أخاك إلا زيد كقولك ما ضرب أخاك إلا زيد. ومثل ذلك قوله عز وجل: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا " : " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا " . وقال الشاعر:
وقد علم الأقوام ما كان داءها ... بثهلان إلا الخزي ممن يقودها
وإن شئت رفعت الأول كما تقول: ما ضرب أخوك إلا زيداً. و " قد " قرأ بعض القراء ما ذكرنا بالرفع.

ومثل قولهم: من كان أخاك، قول العرب ما جاءت حاجتك، كأنه قال: ما صارت حاجتك، ولكنه أدخل التأنيث على ما، حيث كانت الحاجة، كما قال بعض العرب: من كانت أمك، حيث أوقع من على مؤنث. وإنما صير جاء بمنزلة كان في هذا الحرف وحده لأنه كان بمنزلة المثل، كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم: " عسى الغوير أبؤساً " ، ولا يقال: عسيت أخانا. وكما جعلوا لدن مع غدوة منونة في قولهم لدن غدوة. ومن كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام، وسترى مثل ذلك إن شاء الله.
ومن يقول من العرب: ما جاءت حاجتك، كثير، كما يقول من كانت أمك. ولم يقولوا ما جاء حاجتك كما قالوا من كان أمك، لأنه بمنزلة المثل فألزموه التاء، كما اتفقوا على لعمر كان في اليمين.
وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: ما جاءت حاجتك؛ فيرفع.
ومثل قولهم ما جاءت حاجتك إذ صارت تقع على مؤنث، قراءة بعض القراء: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " و " تلتقطه بعض السيارة " . وربما قالوا في بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنث البعض لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه، لأنه لو قال: ذهبت عبد أمك لم يحسن.
ومما جاء مثله في الشعر قول الشاعر، الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
لأن صدر القناة من مؤنث. ومثله قول جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
لأن " بعض " ههنا سنون. ومثله قول جرير أيضاً:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
ومثله قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وقال العجاج:
طول الليالي أسرعت في نقضى
وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق به: اجتمعت أهل اليمامة، لأنه يقول في كلامه: اجتمعت اليمامة، يعني أهل اليمامة، فأنث الفعل في اللفظ إذ جعله في اللفظ لليمامة، فترك اللفظ يكون على ما يكون عليه في سعة الكلام.
ومثل " في هذا " يا طلحة أقبل، لأن أكثر ما يدعو طلحة بالترخيم فترك الحاء على حالها. ويا تيم تيم عدي أقبل. وقال الشاعر جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
وسترى هذا مبيناً في مواضعه إن شاء الله.
وترك التاء في جميع هذا " الحد والوجه. وسترى ما " إثبات التاء فيه حسن إن شاء الله " من هذا النحو، لكثرته في كلامهم. وسيبين في بابه " .
فإن قلت: من ضربت عبد أمك، أو هذه عبد زينب لم يجز، لأنه ليس منها ولا بها، ولا يجوز أن تلفظ بها و " أنت " تريد العبد.
هذا باب تخبر فيه عن النكرة بنكرةوذلك قولك: ما كان أحد مثلك، وما كان أحد خيراً منك، وما كان أحد مجترئاً عليك.
وإنما حسن الإخبار ههنا عن النكرة حيث أردت أن تنفي أن يكون في مثل حاله شيء أو فوقه، ولأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا.
وإذا قلت كان رجل ذاهباً فليس في هذا شيء تعلمه كان جهله. ولو قلت كان رجل من آل فلان فارساً حسن؛ لأنه قد يحتاج إلى أن تعلمه أن ذاك في آل فلان وقد يجهله. ولو قلت كان رجل في قوم عاقلاً لم يحسن؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل وأن يكون من قوم. فعلى هذا النحو يحسن ويقبح.
ولا يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب، لو قلت كان أحد من آل فلان لم يجز، لأنه إنما وقع في كلامهم نفياً عاماً. يقول الرجل: أتاني رجل، يريد واحداً في العدد لا اثنين فيقال: ما أتاك رجل، أي أتاك أكثر من ذلك، أو يقول أتاني رجل لا امرأة فيقال: ما أتاك رجل، أي امرأة أتتك. ويقول: أتاني اليوم رجل، أي في قوته ونفاذه، فتقول: ما أتاك رجل، أي أتاك الضعفاء. فإذا قال: ما أتاك أحد صار نفياً " عاماً " لهذا كله، فإنما مجراه في الكلام هذا. ولو قال: ما كان مثلك أحداً، أو ما كان زيد أحداً كان ناقضاً؛ لأنه قد علم أنه لا يكون زيد ولا مثله إلا من الناس. ولو قلت ما كان مثلك اليوم أحد فإنه يكون أن لا يكون في اليوم إنسان على حاله، إلا أن تقول: ما كان زيد أحداً، أي من الأحدين. وما كان مثلك أحد على وجه تصغيره، فتصير كأنك قلت: ما ضرب زيد أحداً وما قتل مثلك أحداً.

والتقديم والتأخير في هذا بمنزلته في المعرفة وما ذكرت لك من الفعل. وحسنت النكرة " ههنا " في هذا الباب لأنك لم تجعل الأعرف في موضع الأنكر، وهما متكافئان كما تكافأت المعرفتان، ولأن المخاطب قد يحتاج إلى علم ما ذكرت لك وقد عرف من تعنى بذلك كمعرفتك.
وتقول: ما كان فيها أحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك فيها زيد قائم، أجريت الصفة على الاسم. فإن جعلته على قولك فيها زيد قائم " نصبت " ، تقول: ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن. وإذا أردت أن يكون مستقراً تكتفي به فكلما قدمته كان أحسن، لأنه إذا كان عاملاً في شيء قدمته كما تقدم أظن وأحسب، وإذا ألغيت أخرته كما تؤخرهما، لأنهما ليسا يعملان شيئاً.
والتقديم ههنا والتأخير " فيما يكون ظرفاً أو يكون اسماً، في العناية والاهتمام، مثله فيما ذكرت لك في باب الفاعل والمفعول. وجميع ما ذكرت لك من التقديم والتأخير " والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير، فمن ذلك قوله عز وجل: " ولم يكن له كفواً أحد " . وأهل الجفاء من العرب يقولون: ولم يكن كفواً له أحد، كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة. وقال الشاعر:
لتقربن قرباً جلذياً ... ما دام فيهن فصل حيا
فقد دجا الليل فهيا هيا
هذا باب
ما أجري مجرى ليس في بعض المواضعبلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله وذلك الحرف " ما " . تقول: ما عبد الله أخاك، وما زيد منطلقاً.
وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، أي لا يعلمونها في شيء وهو القياس، لأنه ليس بفعل وليس ما كليس، ولا يكون فيها إضمار.
وأما أهل الحجاز فيشبهونها بليس إذ كان معناها كمعناها، كما شبهوا بها لات في بعض المواضع، وذلك مع الحين خاصة، لا تكون لات إلا مع الحين، تضمر فيها مرفوعاً وتنصب الحين لأنه مفعول به، ولم تمكن تمكنها ولم تستعمل إلا مضمراً فيها، لأنها ليس كليس في المخاطبة والإخبار عن غائب، تقول لست " ولست " وليسوا، وعبد الله ليس ذاهباً، فتبنى على المبتدأ وتضمر فيه، ولا يكون هذا في لات لا تقول: عبد الله لات منطلقاً، ولا قومك لاتوا منطلقين.
ونظير لات في أنه لا يكون إلا مضمراً فيه: ليس ولا يكون في الاستثنار، إذا قلت أتوني ليس زيداً ولا يكون بشراً.
وزعموا أن بعضهم قرأ: " ولات حين مناص " وهي قليلة، كما قال بعضهم في قول سعد بن مالك القيسي:
من فر عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
جعلها بمنزلة ليس، فهي بمنزلة لات في هذا الموضع في الرفع.
ولا يجاوز بها هذا الحين رفعت أو نصبت، ولا تمكن في الكلام كتمكن ليس، وإنما هي مع الحين كما أن لدن إنما ينصب بها مع غدوة، وكما أن التاء لا تجر في القسم ولا في غيره إلا في الله، إذا قلت تالله لأفعلن.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " ما هذا بشراً " في لغة أهل الحجاز. وبنو تميم يرفعونها إلا من درى كيف هي في المصحف. فإذا قلت: ما منطلق عبد الله، أو ما مسئ من أعتب، رفعت. ولا يجوز أن يكون مقدماً مثله مؤخراً، كما أنه لا يجوز أن تقول: إن أخوك عبد الله على حد قولك: إن عبد الله أخوك، لأنها ليست بفعل، وإنما جعلت بمنزلته فكما لم تتصرف إن كالفعل كذلك لم يجز فيها كل ما يجوز فيه ولم تقو قوته فكذلك ما.
وتقول: ما زيد إلا منطلق، تستوي فيه اللغتان. ومثله قوله عز وجل: " ما أنتم إلا بشر مثلنا " لما تقو ما حيث نقضت معنى ليس كما لو تقو حين قدمت الخبر. فمعنى ليس النفي كما أن معنى كان الواجب، وكل واحد منهما، يعني وكان وليس، إذا جردته فهذا معناه. فإن قلت ما كان، أدخلت عليها ما ينفى به. فإن قلت ليس زيد إلا ذاهباً أدخلت ما يوجب كما أدخلت ما ينفي. فلم تقو ما في باب قلب المعنى كما لم تقو في تقديم الخبر.
وزعموا أن بعضهم قال، وهو الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذا ما مثلهم بشر
وهذا لا يكاد يعرف، كما أن " لات حين مناص " كذلك. ورب شيء هكذا، وهو كقول بعضهم: هذه ملحفة جديدة، في القلة.

وتقول: ما عبد الله خارجاً ولا معن ذاهب، ترفعه على أن لا تشرك الاسم الآخر في ما ولكن تبتدئه، كما تقول: ما كان عبد الله منطلقاً ولا زيد ذاهب، إذا لم تجعله على كان وجعلته غير ذاهب الآن. وكذلك ليس. وإن شئت جعلتها لا التي يكون فيها الاشتراك فتنصب كما تقوم في كان: ما كان زيد ذاهباً ولا عمرو منطلقاً. وذلك قولك: ليس زيد ذاهباً ولا أخوك منطلقاً، وكذلك ما زيد ذاهباً ولا معن خارجاً.
وليس قولهم لا يكون في ما إلا الرفع بشيء، لأنهم يحتجون بأنك لا تستطيع أن تقول ولا ليس ولا ما، فأنت تقول ليس زيد ولا أخوه ذاهبين وما عمرو ولا خالد منطلقين، فتشركه مع الأول في ليس وفي ما. فما يجوز في كان، إلا أنك إن حملته على الأول أو ابتدأت فالمعنى أنك تنفي شيئاً غير كائن في حال حديثك. وكان " الابتداء " في كان أوضح، لأن المعنى يكون على ما مضى وعلى ما هو الآن. وليس يمتنع أن يراد به الأول كما أردت في كان.
ومثل ذلك قولك إن زيداً ظريف وعمرو وعمراً، فالمعنى في الحديث واحد وما يراد من الإعمال مختلف " في كان وليس وما " .
وتقول: ما زيد كريماً ولا عاقلاً أبوه، تجعله كأنه للأول بمنزلة كريم لأنه ملتبس به، إذا قلت أبوه تجريه عليه كما أجريت عليه الكريم، لأنك لو قلت: ما زيد عاقلاً أبوه نصبت وكان كلاماً.
وتقول: ما زيد ذاهباً ولا عاقل عمرو، لأنك لو قلت ما زيد عاقلاً عمرو لم يكن كلاماً، لأنه ليس من سببه، فترفعه على الابتداء والقطع من الأول، كأنك قلت: وما عاقل عمرو. ولو جعلته من سببه لكان فيه له إضمار كالهاء في الأب ونحوها، ولم يجز نصبه على ما، لأنك لو ذكرت ما ثم قدمت الخبر لم يكن إلا رفعاً. وإن شئت قلت: ما زيد ذهباً ولا كريم أخوه، إن ابتدأته ولم تجعله على ما، كما فعلت ذلك حين بدأت بالاسم.
ولكن ليس وكان يجوز فيهما النصب وإن قدمت الخبر ولم يكن ملتبساً لأنك لو ذكرتهما كان الخبر فيهما مقدماً مثله مؤخراً، وذلك قولك: ما كان زيد ذاهباً ولا قائماً عمرو.
وتقول ما زيد ذاهباً ولا محسن زيد، الرفع أجود وإن كنت تريد الأول، لأنك لو قلت ما زيد منطلقاً زيد لم يكن حد الكلام، وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك ما زيد منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره وإنما ينبغي لك أن تضمره. ألا ترى أنك لو قلت ما زيد منطلقاً أبو زيد لم يكن كقولك ما زيد منطلقاً أبوه، لأنك قد استغنيت عن الإظهار، فلما كان هذا كذلك أجري مجرى الأجنبي واستؤنف على حاله حيث كان هذا ضعيفاً فيه. وقد يجوز أن تنصب. قال الشاعر، وهو سواد ابن عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعاد الإظهار. وقال الجعدي:
إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها ... سواقط من حر وقد كان أظهرا
والرفع الوجه. وقال الفرزدق:
لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسئ معن ولا متيسر
وإذا قلت: ما زيد منطلقاً أبو عمرو، وأبو عمرو أبوه، لم يجز، لأنك لم تعرفه به ولم تذكر له إضماراً ولا إظهاراً فيه، فهذا لا يجوز لأنك لم نجعل له فيه سبباً.
وتقول: ما أبو زينب ذاهباً ولا مقيمة أمها ترفع، لأنك لو قلت: ما أبو زينب مقيمةً أمها لم يجز، لأنها ليست من سببه وإنما عملت ما فيه لا في زينب. ومن ذلك قول الشاعر، وهو الأعور الشني:
هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها
لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي. وقد جره قوم فجعلوه المأمور للمنهي، والمنهى هو الأمور لأنه من الأمور وهو بعضها، فأجراه وأنثه كما قال جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
ومثل ذلك قول الشاعر، النابغة الجعدي:
فليس بمعروف لنا أن نردها ... صحاحاً ولا مستنكر أن تعقرا
كأنه قال: ليس بمعروف لنا ردها صحاحاً ولا مستنكر عقرها، والعقر ليس للرد. وقد يجوز أن يجر ويحمله على الرد ويؤنث لأنه من الخيل، كما قال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها من الرياح النواسم
كأنه قال: تسفهتها الرياح، وكأنه قال: ليس بآتيتك منهيها وليس بمعروفةٍ ردها، حين كان من الخيل والخيل مؤنثة فأنث.

ومثل هذا قوله تعالى جده: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى. هذا مثله في أنه تكلم به مذكراً ثم أنث، كما جمع ههنا، وهو في قوله ليس بآتيتك منهيها، كأنه قال: ليس بآتيتك الأمور. وفي ليس بمعرفة ردها، كأنه قال: ليس بمعرفة خيلنا صحاحاً.
وإن شئت نصبت فقلت: ولا مستنكراً أن تعقرا ولا قاصراً عنك مأمورها، على قولك: ليس زيد ذاهباً ولا عمرو ومنطلقاً، أو ولا منطلقاً عمرو.
وتقول: ما كل سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمة، وإن شئت نصبت شحمةً. وبيضاء في موضع جر، كأنك أظهرت كل فقلت ولا كل بيضاءً. قال الشاعر أبو داود:
أكل امرئٍ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فاستغنيت عن تثنية كل لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب. وجاز كما جاز في قولك: ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه، وإن شئت قلت: ولا مثل أخيه. فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه. وتفريقه أن تقول: ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكره ذاك. ومثل ذلك ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك. فلما جاز في هذا جاز في ذلك.
هذا باب
ما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبلهوذلك قولك: ليس زيد بجبان ولا بخيلاً، وما زيد بأخيك ولا صاحبك. والوجه فيه الجر لأنك تريد أن تشرك بين الخبرين، وليس ينقض إجراؤه عليك المعنى. وأن يكون آخره على أوله أولى، ليكون حالهما في الباء سواءً كحالهما في غير الباء، مع قربه منه.
وقد حملهم قرب الجوار على أن جروا: هذا جحر ضبٍ خربٍ، ونحوه، فكيف ما يصح معناه.
ومما جاء من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
لأن الباء دخلت على شيء لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى ولم يحتج إليها وكان نصباً. ألا ترى أنهم يقولون حسبك هذا وبحسبك هذا، فلم تغير الباء معنى. وجرى هذا مجراه قبل أن تدخل الباء، لأن بحسبك في موضع ابتداءٍ. ومثل ذلك قول لبيد:
فإن لم تجد من دون عدنان والداً ... ودون معدٍ فلتزعك العواذل
والجر الوجه.
ولو قلت: ما زيد على قومنا ولا عندنا كان النصب ليس غير، لأنه لا يجوز حمله على على. ألا ترى أنك لو قلت: ولا على عندنا لم يكن، لأن عندنا لا تستعمل إلا ظرفاً، وإنما أزدت أن تخبر أنه ليس عندكم.
وتقول: أخذتنا بالجود وفوقه، لأنه ليس من كلامهم وبفوقه.
ومثل ودون معدٍ قول الشاعر، وهو كعب بن جعيل:
ألا حي ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا
وقال العجاج:
كشحا طوى من بلد مختاراً ... من يأسه اليائس أو حذارا
وتقول: ما زيد كعمرو ولا شبيهاً به، وما عمرو كخالدٍ ولا مفلحاً، النصب في هذا جيد، لأنك إنما تريد ما هو مثل فلان ولا مفلحاً. هذا وجه الكلام. فإن أردت أن تقول ولا بمنزلة من يشبهه جررت، وذلك قولك ما أنت كزيد ولا شبيهٍ به، فإنما أردت ولا كشبيهٍ به.
وإذا قلت ما أنت بزيد ولا قريباً منه فإنه ليس ههنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تجئ بها، وأنت إذا ذكرت الكاف تمثل. وتكون قريباً ههنا إن شئت ظرفاً. فإن لم تجعل قريباً ظرفاً جاز فيه الجر على الباء والنصب على الموضع.
هذا باب
الإضمار في ليس وكان كالإضمار في إنإذا قلت: إنه من يأتينا نأته، وإنه أمة الله ذاهبة.
فمن ذلك قول بعض العرب: ليس خلق الله مثله. فلولا أن فيه إضماراً لم يجز أن تذكر الفعل ولم تعمله في اسم، ولكن فيه الإضمار مثل ما في إنه.
وسوف نبين حال هذا في الإضمار وكيف هو إن شاء الله. قال الشاعر، وهو حميد الأرقط:
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى تلقى المساكين
فلو كان كل على ليس ولا إضمار فيه لم يكن إلا الرفع في كل، ولكنه انتصب على تلقى. ولا يجوز أن تحمل المساكين على ليس وقد قدمت فجعلت الذي يعمل فيه الفعل الآخر يلي الأول، وهذا لا يحسن. لو قلت كانت زيداً الحمى تأخذ أو تأخذ الحمى لم يجز، وكان قبيحاً.
ومثل ذلك في الإضمار قول بعض الشعراء، العجير، سمعناه ممن يوثق بعربيته:

إذا مت كان الناس صنفان: شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع
أضمر فيها. وقال بعضهم: كان أنت خير منه كأنه قال إنه أنت خير منه. ومثله: كاد تزيغ قلوب فريق منهم، وجاز هذا التفسير لأن معناه كادت قلوب فريق منهم تزيغ، كما قلت: ما كان الطيب إلا المسك على إعمال ما كان الأمر الطيب إلا المسك، فجاز هذا إذ كان معناه ما الطيب إلا المسك.
وقال هشام أخو ذي الرمة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
ولا يجوز ذا في ما في لغة أهل الحجاز؛ لأنه لا يكون فيه إضمار.
ولا يجوز أن تقول: ما زيداً عبد الله إضماراً، وما زيداً أنا قاتلاً، لأنه لا يستقيم كما لم يستقيم في كان وليس، أن تقدم ما يعمل فيه الآخر. فإن رفعت الخبر حسن حمله على اللغة التميمية، كما قلت: أما زيداً فأنا ضاربٌ، كأنك لم تذكر أما وكأنك لم تذكر ما، وكأنك قلت: زيداً أنا ضاربٌ.
وقال مزاحم العقيلي:
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى منى أنا عارف
وقال بعضهم:
وما كل من وافى منى أنا عارف
لزم اللغة الحجازية فرفع، كأنه قال: ليس عبد الله أنا عارف، فأضمر الهاء في عارف. وكان الوجه عارفه حيث لم يعمل عارف في كل، وكان هذا أحسن من التقديم والتأخير، لأنهم قد يدعون هذه الهاء في كلامهم وفي الشعر كثيراً، وذلك ليس في شيء من كلامهم ولا يكاد يكون في شعر. وسترى ذلك إن شاء الله.
هذا باب
ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل
ولم يتمكن تمكنهوذلك قولك ما أحسن عبد الله. زعم الخليل أنه بمنزلة قولك:شيء أحسن عبد الله، ودخله معنى التعجب. وهذا تمثيل ولم يتكلم به.
ولا يجوز أن تقدم عبد الله وتؤخر ما ولا تزيل شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه ما يحسن، ولا شيئاً مما يكون في الأفعال سوى هذا.
وبناؤه أبداً من فعل وفعل وفعل وأفعل، هذا؛ لأنهم لم يريدوا أن يتصرف، فجعلوا له مثالاً واحداً يجري عليه، فشبه هذا بما ليس من الفعل نحو لات وما. وإن كان من حسن وكرم وأعطى، كما قالوا أجدل فجعلوه اسماً وإن كان من الجدل وأجري مجرى أفكل.
ونظير جعلهم ما وحدها اسماً قول العرب: إني مما أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعل ما وحدها اسماً.
ومثل ذلك غسلته غسلاً نعماً، أي نعم الغسل.
وتقول: ما كان أحسن زيداً، فتذكر كان لتدل أنه فيما مضى.
هذا باب الفاعلين والمفعولين
اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلكوهو قولك: ضربت وضربني زيد، وضربني وضربت زيداً، تحمل الاسم على الفعل الذي يليه. فالعامل في اللفظ أحد الفعلين، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع إلا أنه لا يعمل في اسم واحد نصب ورفع.
وإنما كان الذي يليه أولى لقرب جواره وأنه لا ينقض معنى، وأن المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع بزيد، كما كان خشنت بصدره وصدر زيدٍ، وجه الكلام، حيث كان الجر في الأول وكانت الباء أقرب إلى الاسم من الفعل ولا تنقض معنىً، سووا بينهما في الجر كما يستويان في النصب.
ومما يقوى ترك نحو هذا لعلم المخاطب، قوله عز وجل: " والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " فلم يعمل الآخر فيما عمل فيه الأول استغناءً عنه ومثل ذلك: ونخلع ونترك من يفجرك.
وجاء في الشعر من الاستغناء أشد من هذا، وذلك قول قيس بن الخطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف
وقال ضابيء البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وقال أبن أحمر:
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطوى رماني
فوضع في موضع الخبر لفظ الواحد لأنه قد علم أن المخاطب سيستدل به على أن الآخرين في هذه الصفة. والأول أجود لأنه لم يضع واحداً في موضع جمع، ولا جمعاً في موضع واحد.
ومثله قول الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبي فكان وكنت غير غدور

ترك أن يكون للأول خبر حين استغنى بالآخر لعلم المخاطب أن الأول قد دخل في ذلك. ولو تحمل الكلام على الآخر لقلت: ضربت وضربوني قومك، وإنما كلامهم: ضربت وضربني قومك. وإذا قلت ضربني، لم يكن سبيل للأول، لأنك لا تقول ضربني وأنت تجعل المضمر جميعاً، ولو أعملت الأول لقلت مررت ومر بي بزيد. وإنما قبح هذا أنهم قد جعلوا الأقرب أولى إذا لم ينقض معنىً. قال الشاعر، وهو الفرزدق:
ولكن نصفاً لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم
وقال طفيل الغنوي:
وكمتاً مدماةً كأن متونها ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب
وقال رجل من باهلة:
ولقد أرى تغنى به سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه
فالفعل الأول في كل هذا معمل في المعنى وغير معمل في اللفظ، والآخر معمل في اللفظ والمعنى.
فإن قلت: ضربت وضربوني قومك نصبت، إلا في قول من قال: أكلوني البراغيث، أو تحمله على البدل فتجعله بدلاً من المضمر، كأنك قلت: ضربت وضربني ناس بنو فلان.
وعلى هذا الحد تقول: ضربت وضربني عبد الله، تضمر في ضربني كما أضمرت في ضربوني.
فإن قلت: ضربني وضربتهم قومك رفعت لأنك شغلت الآخر فأضمرت فيه، كأنك قلت ضربني قومك وضربتهم على التقديم والتأخير، إلا أن تجعل ههنا البدل كما جعلته في الرفع. فإن فعلت ذلك لم يكن بد من ضربوني لأنك تضمر فيه الجمع. قال عمر بن أبي ربيعة:
إذا هي لم تستك بعود أراكة ... تنخل، فاستاكت به، عود إسحل
لأنه أضمر في آخر الكلام. وقال المرار الأسدي:
فرد على الفؤاد هوى عميداً ... وسوئل لو يبين لنا سؤالا
وقد نغني بها ونرى عصوراً ... بها يقتدننا الخرد الخدالا
حدثنا به أبو الخطاب عن شاعره.
وإذا قلت: ضربوني وضربتهم قومك جعلت القوم بدلاً من هم؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل ههنا جماعة وضمير الجماعة الواو.
وكذلك تقول: ضربوني وضربت قومك، إذا أعملت الآخر فلا بد في الأول من ضمير الفاعل لئلا يخلو من فاعل. وإنما قلت: ضربت وضربني قومك فلم تجعل في الأول الهاء والميم، لأن الفعل قد يكون بغير مفعول ولا يكون الفعل بغير فاعل.
وقال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
فإنما رفع لأنه لم يجعل القليل مطلوباً، وإنما كان المطلوب عنده الملك وجعل القليل كافياً، ولو لم يرد ونصب فسد المعنى.
وقد يجوز ضربت وضربني زيداً؛ لأن بعضهم قد يقول: متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً، والوجه متى رأيت أو قلت زيد منطلقٌ.
ومثل ذلك في الجواز ضربني وضربت قومك، والوجه أن تقول: ضربوني وضربت قومك، فتحمله على الآخر. فإن قلت: ضربني وضربت قومك فجائز وهو قبيح، أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أحسن الفتيان وأجمله وأكرم بنيه وأنبله.
ولا بد من هذا، لأنه لا يخلو الفعل من مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء، كأنك قلت إذا مثلته: ضربني من ثم وضربت قومك. وترك ذلك أجود وأحسن، للتبيان الذي يجيء بعده، فأضمر من لذلك.
قال الأخفش: فهذا رديء في القياس يدخل فيه أن تقول: أصحابك جلس، تضمر شيئاً يكون في اللفظ واحداً. فقولهم: هو أظرف الفتيان وأجمله لا يقاس عليه، ألا ترى أنك لو قلت وأنت تريد الجماعة: هذا غلام القوم وصاحبه لم يحسن.
هذا بابما يكون فيه الاسم مبنياً على الفعل قدم أو أخر
وما يكون فيه الفعل مبنياً على الاسم
فإذا بنيت الاسم عليه قلت: ضربت زيداً، وهو الحد، لأنك تريد أن تعمله وتحمل عليه الاسم، كما كان الحد ضرب زيد عمراً، حيث كان زيد أول ما تشغل به الفعل. وكذلك هذا إذا كان يعمل فيه. وإن قدمت الاسم فهو عربيٌ جيد كما كان ذلك عربياً جيداً، وذلك قولك: زيداً ضربت، والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء، مثله في ضرب زيد عمراً وضرب عمراً وزيد.
فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت: زيد ضربته، فلزمته الهاء. وإنما تريد بقولك مبنى عليه الفعل أنه في موضع منطلق إذا قلت: عبد الله منطلق، فهو في موضع هذا الذي بني على الأول وارتفع به، فإنما قلت عبد الله فنسبته له ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء.

ومثل ذلك قوله جل ثناؤه: " وأما ثمود فهديناهم " وإنما حسن أن يبنى الفعل على الاسم حيث كان معملاً في المضمر وشغلته به، ولولا ذلك لم يحسن؛ لأنك لم تشغله بشيء.
وإن شئت قلت: زيداً ضربته، وإنما نصبه على إضمار فعل هذا يفسره، كأنك قلت: ضربت زيداً ضربته، إلا أنهم لا يظهرون هذا الفعل هنا للاستغناء بتفسيره. فالاسم ها هنا مبني على هذا المضمر.
ومثل ترك إظهار الفعل ها هنا ترك الإظهار في الموضع الذي تقدم فيه الإضمار، وستراه إن شاء الله.
وقد قرأ بعضهم: " وأما ثمود فهديناهم " . وأنشدوا هذا البيت على وجهين: على النصب والرفع، قال بشر بن أبي خازم:
فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما
ومنه قول ذي الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلال بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
فالنصب عربيٌ كثيرٌ والرفع أجود، لأنه إذا أراد الإعمال فأقرب إلى ذلك أن يقول: ضربت زيداً وزيداً ضربت، ولا يعمل الفعل في مضمر، ولا يتناول به هذا المتناول البعيد. وكل هذا من كلامهم. ومثل هذا: زيداً أعطيت وأعطيت زيداً وزيدٌ أعطيته؛ لأن أعطيت بمنزلة ضربت. وقد بين المفعول الذي هو بمنزلة الفاعل في أول الكتاب.
فإن قلت: زيد مررت به فهو من النصب أبعد من ذلك، لأن المضمر قد خرج من الفعل وأضيف الفعل إليه بالباء، ولم يوصل إليه الفعل في اللفظ، فصار كقولك: زيد لقيت أخاه. وإن شئت قلت: زيداً مررت به تريد أن تفسر به مضمراً، كأنك قلت إذا مثلت ذلك: جعلت زيداً على طريقي مررت به، ولكنك لا تظهر هذا الأول لما ذكرت لك.
وإذا قلت: زيد لقيت أخاه فهو كذلك، وإن شئت نصبت، لأنه إذا وقع على شيء من سببه فكأنه قد وقع به. والدليل على ذلك أن الرجل يقول أهنت زيداً بإهانتك أخاه وأكرمته بإكرامك أخاه. وهذا النحو في الكلام كثير، يقول الرجل إنما أعطيت زيداً، وإنما يريد لمكان زيد أعطيت فلاناً. وإذا نصبت زيداً لقيت أخاه، فكأنه قال: لا بست زيداً لقيت أخاه. وهذا تمثيل ولا يتكلم به، فجرى هذا على ما جرى عليه قولك أكرمت زيداً، وإنما وصلت الأثرة إلى غيره.
والرفع في هذا أحسن وأجود، لأن أقرب إلى ذلك أن تقول: مررت بزيد ولقيت أخا عمرو.
ومثل هذا في البناء على الفعل وبناء الفعل عليه أيهم وذلك قولهم: أيهم تر يأتك، وأيهم تره يأتك. والنصب على ما ذكرت لك، لأنه كأنه قال: أيهم تر تره يأتك، فهو مثل زيد في هذا الباب. وقد يفارقه في أشياء كثيرةٍ ستبين إن شاء الله.
هذا باب ما يجري مما يكون ظرفاً هذا المجرى وذلك قولك يوم الجمعة ألقاك فيه، وأقل يوم لا ألقاك فيه، وأقل يوم لا أصوم فيه، وخطيئة يوم لا أصيد فيه، ومكانكم قمت فيه. فصارت هذه الأحرف ترتفع بالابتداء كارتفاع عبد الله، وصار ما بعدها مبنياً عليها كبناء الفعل على الاسم الأول، فكأنك قلت: يوم الجمعة مبارك ومكانكم حسن، وصار الفعل في موضع هذا.
وإنما صار هذا كهذا حين صار في الآخر إضمار اليوم والمكان، فخرج من أن يكون ظرفاً كما يخرج إذا قلت: يوم الجمعة مبارك، فإذا قلت: يوم الجمعة صمته فصمته في موضع مبارك حيث كان المضمر هو الأول كما كان المبارك هو الأول.
ويدخل النصب فيه كما دخل في الاسم الأول، ويجوز في ذلك يوم الجمعة آتيك فيه وأصوم فيه، كما جاز في قولك: عبد الله مررت به كأنه قال: ألقاك يوم الجمعة، فنصبه لأنه ظرف ثم فسر فقال ألقاك فيه. وإن شاء نصبه على الفعل نفسه كما أعمل فيه الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول، كل ذلك عربي جيد. أو نصبه لأنه ظرف لفعل أضمره، وكأنه قال: يوم الجمعة ألقاك.
والنصب في: يوم الجمعة صمته ويوم الجمعة سرته، مثله في قولك: عبد الله ضربته، إلا أنه إن شاء نصبه بأنه ظرف، وإن شاء أعمل فيه الفعل كما أعمله في عبد الله، لأنه يكون ظرفاً وغير ظرف.
ولا يحسن في الكلام أن يجعل الفعل مبنياً على الاسم ولا يذكر علامة إضمار الأول حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول ومن حال بناء الاسم عليه ويشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه، ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام. قال الشاعر، وهو أبو النجم العجلي:
قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنباً كله لم أصنع

فهذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يسكر البيت ولا يخل به ترك إظهار الهاء. وكأنه قال: كله غير مصنوع. وقال امرؤ القيس:
فأقبلت زحفاً على الركبتين ... فثوب لبست وثوب أجر
وقال النمر بن تولب:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
سمعناه من العرب ينشدونه. يريدون: نساء فيه ونسر فيه.
وزعموا أن بعض العرب يقول: شهرٌ ثرى، وشهرٌ ترى، وشهرٌ مرعى. يريد: ترى فيه. وقال:
ثلاث كلهن قتلت عمداً ... فأخزى الله رابعة تعود
فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف النصب، وإنما شبهوه بقولهم: الذي رأيت فلان، حيث لم يذكروا الهاء. وهو في هذا أحسن، لأن رأيت تمام الاسم، به يتم، وليس بخبر ولا صفةٍ، فكرهوا طوله حيث كان بمنزلة اسم واحد، كما كرهوا طول اشهيباب فقالوا: اشهباب. وهو في الوصف أمثل منه في الخبر وهو على ذلك ضعيف، ليس كحسنه بالهاء، لأنه في موضع ما هو من الاسم وما يجري عليه، وليس بمنقطع منه خبراً مبنياً عليه ولا مبتدأ، فضارع ما يكون من تمام الاسم وإن لم يكن تماماً له ولا منه في البناء. وذلك قولك: هذا رجل ضربته، والناس رجلان: رجل أكرمته ورجل أهنته، كأنه قال: هذا رجل مضروب، والناس رجلان: رجل مكرم ورجل مهان. فإن حذفت الهاء جاز وكان أقوى مما يكون خبراً. ومما جاء في الشعر من ذلك قول جرير:
أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح
يريد الهاء. وقال الشاعر، الحرث بن كلدة:
فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
يريد: أصابوه، ولا سبيل إلى النصب وإن تركت الهاء لأنه وصف، كما لم يكن النصب فيما أتممت به الاسم، يعني الصلة. فمن ثم كان أقوى مما يكون في موضع المبني على المبتدإ، لأنه لا ينصب به. وإنما منعهم أن ينصبوا بالفعل الاسم إذا كان صفةً له أن الصفة تمام الاسم، ألا ترى أن قولك مررت بزيد الأحمر كقولك مررت بزيد، وذلك أنك لو احتجت إلى أن تنعت فقلت: مررت بزيد وأنت تريد الأحمر وهو لا يعرف حتى تقول الأحمر، لم يكن تم الاسم، فهو يجري منعوتاً مجرى مررت بزيد إذا كان يعرف وحده، فصار الأحمر كأنه من صلته.
باب ما يختار فيه إعمال الفعل ممايكون في المبتدإ مبنياً عليه الفعل وذلك قولك: رأيت زيداً وعمراً كلمته ورأيت عبد الله وزيداً مررت به، ولقيت قيساً وبكراً أخذت أباه، ولقيت خالداً وزيداً اشتريت له ثوباً.
وإنما اختير النصب ههنا لأن الاسم الأول مبني على الفعل، فكان بناء الآخر على الفعل أحسن عندهم إذ كان يبنى على الفعل وليس قبله اسم مبني على الفعل، ليجري الآخر على ما جرى عليه الذي يليه قبله، إذ كان لا ينقض المعنى لو بنيته على الفعل. وهذا أولى أن يحمل عليه ما قرب جواره منه، إذ كانوا يقولون: ضربوني وضربت قومك، لأنه يليه، فكان أن يكون الكلام على وجهٍ واحدٍ - إذا كان لا يمتنع الآخر من أن يكون مبنياً على ما بني عليه الأول - أقرب في المأخذ.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً " . وقوله عز وجل: " وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً. وكلا ضربنا له الأمثال " . ومثله: " فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة " . وهذا في القرآن كثير.
ومثل ذلك: كنت أخاك وزيداً كنت له أخاً، لأن كنت أخاك بمنزلة ضربت أخاك. وتقول: لست أخاك وزيداً أعنتك عليه، لأنها فعل وتصرف في معناها كتصرف كان. وقال الشاعر، وهو الربيع بن ضبع الفزاري:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقد يبتد أفيحمل على مثل ما يحمل عليه وليس قبله منصوب، وهو عربي جيد. وذلك قولك: لقيت زيداً وعمرو كلمته، كأنك قلت: لقيت زيداً وعمرو أفضل منه. فهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلاً. فإذا جاز أن يكون في المبتدإ بهذه المنزلة جاز أن يكون بين الكلامين. وأقرب منه إلى الرفع: عبد الله لقيت وعمرو لقيت أخاه، وخالداً رأيت وزيد كلمت أباه. هو ها هنا إلى الرفع أقرب، كما كان في الابتداء من النصب أبعد.

وأما قوله عز وجل: " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " ، فإنما وجهوه على أنه يغشى طائفةً منكم وطائفة في هذه الحال، كأنه قال: إذ طائفة في هذه الحال، فإنما جعله وقتاً ولم يرد أن يجعلها واو عطف، وإنما هي واو الابتداء.
ومما يختار فيه النصب لنصب الأول قوله: ما لقيت زيداً ولكن عمراً مررت به، وما رأيت زيداً بل خالداً لقيت أباه، تجريه على قولك: لقيت زيداً وعمراً لم ألقه، يكون الآخر في أنه يدخله في الفعل بمنزلة هذا حيث لم يدخله، لأن بل ولكن لا تعملان شيئاً وتشركان الآخر مع الأول، لأنهما كالواو وثم والفاء، فأجرهما مجراهن فيما كان النصب فيه الوجه وفيما جاز فيه الرفع.
هذا باب يحمل فيه الاسمعلى اسم بني عليه الفعل مرةً ويحمل مرةً أخرى على اسم مبني على الفعل أي ذلك فعلت جاز. فإن حملته على الاسم الذي بني عليه الفعل كان بمنزلته إذا بنيت عليه الفعل مبتدأ، يجوز فيه ما يجوز فيه، إذا قلت: زيد لقيته، وإن حملته على الذي بني على الفعل اختير فيه النصب كما اختير فيما قبله، وجاز فيه ما جاز في الذي قبله.
وذلك قولك: عمرو ولقيته وزيد كلمته، إن حملت الكلام على الأول. وإن حملته على الآخر قلت: عمرو لقيته وزيداً كلمته.
ومثل ذلك قولك: زيد لقيت أباه وعمراً مررت به، إن حملته على الأب. وإن حملته على الأول رفعت.
والدليل على أن الرفع والنصب جائز كلاهما، أنك تقول: زيد لقيت أباه وعمراً، إن أردت أنك لقيت عمراً والأب. وإن زعمت أنك لقيت أبا عمرو ولم تلقه رفعت.
ومثل ذلك: زيد لقيته وعمرو، إن شئت رفعت وإن شئت قلت: زيد لقيته وعمراً. وتقول أيضاً: زيد ألقاه وعمراً وعمر. فهذا يقوى أنك بالخيار في الوجهين.
وتقول: زيد ضربني وعمرو مررت به، إن حملته على زيد فهو مرفوع لأنه مبتدأ والفعل مبني عليه، وإن حملته على المنصوب قلت زيد ضربني وعمراً مررت به لأن هذا الإضمار بمنزلة الهاء في ضربته. فإن قلت: ضربني زيد وعمراً مررت به، فالوجه النصب لأن زيداً ليس مبنياً عليه الفعل مبتدأ، وإنما هو ههنا بمنزلة التاء في ضربته، وذكرت المفعول الذي يجوز فيه النصب في الابتداء، فحملته على مثل ما حملت ما قبله وكان الوجه، إذ كان ذلك يكون فيه في الابتداء.
وإذا قلت: مررت يزيد وعمراً مررت به، نصبت وكان الوجه، لأنك بدأت بالفعل ولم تبتدئ اسماً تبنيه عليه، ولكنك قلت: فعلت ثم بنيت عليه المفعول وإن كان الفعل لا يصل إليه إلا بحرف الإضافة، فكأنك قلت: مررت زيداً. ولولا أنه كذلك ما كان وجه الكلام زيداً مررت به، وقمت وعمراً مررت به. ونحو ذلك قولك: خشنت بصدره فالصدر في موضع نصب وقد عملت الباء. و " كفى بالله شهيداً بيني وبينكم " إنما هي كفى الله، ولكنك لما أدخلت الباء عملت، والموضع موضع نصب وفي معنى النصب. وهذا قو الخليل رحمه الله.
وإذا قلت: عبد الله مررت به أجريت الاسم بعده مجراه بعد: زيد لقيته، لأن مررت بعبد الله يجري مجرى لقيت عبد الله. وتقول: هذا ضارب عبد الله وزيداً يمر به إن حملته على المنصوب، فإن حملته على المبتدإ وهو هذا رفعت. فإن ألقيت النون وأنت تريد معناها فهو بتلك المنزلة، وذلك قولك: هذا ضارب زيد غداً وعمراً سيضربه. ولولا أنه كذلك لما قلت: أزيداً أنت ضاربه وما زيداً أنا ضاربه. فهذا نحو مررت بزيد، لأن معناه منوناً وغير منون سواء، كما أنك إذا قلت: مررت بزيد فكأنك قلت: مررت زيداً.
وتقول: ضربت زيداً وعمراً أنا ضاربه، يختار هذا كما يختار في الاستفهام.

ومما يختار فيه النصب قول الرجل: من رأيت وأيهم رأيت، فتقول: زيداً رأيته، تنزله منزلة قولك: كلمت عمراً وزيداً لقيته. ألا ترى أن الرجل يقول: من رأيت فتقول: زيداً على كلامه فيصير هذا بمنزلة قولك رأيت زيداً وعمراً، يجري على الفعل كما يجري الآخر على الأول بالواو. ومثل ذلك قولك: أرأيت زيداً، فتقول لا ولكن عمراً مررت به. ألا ترى أنه لو قال لا ولكن عمراً، لجرى على أرأيت. فإن قال: من رأيته وأيهم رأيته فأجبته قلت زيد رأيته، إلا في قول من قال زيداً رأيته في الابتداء، لأن هذا كقولك: أيهم منطلق ومن رسول؟ فيقول فلان. وإن قال: أعبد الله مررت به أم زيداً قلت: زيداً مررت به، كما فعلت ذلك في الأول. فإن قلت لا بل زيداً فانصب أيضاً كما تقول زيداً إذا قال من رأيت؟ لأن مررت به تفسيره لقيته ونحوها. فإنما تحمل الاسم على ما يحمل السائل، كأنهم قالوا: أيهم أتيت؟ فقلت زيداً.
ولو قلت: مررت بعمرو وزيداً لكان عربياً، فكيف هذا؟ لأنه فعل والمجرور في موضع مفعول منصوب، ومعناه أتيت ونحوها، تحمل الاسم إذا كان العامل الأول فعلاً وكان المجرور في موضع المنصوب على فعل لا ينقض المعنى. كما قال جرير:
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظورة بن سيار
ومثله قول العجاج:
يذهبن في نجد وغوراً غائرا
كأنه قال: ويسلكن غوراً غائراً، لأن معنى يذهبن فيه يسلكن.
ولا يجوز أن تضمر فعلاً لا يصل إلا بحرف جر، لأن حرف الجر لا يضمر، وسترى بيان ذلك. ولو جاز ذلك لقلت زيد تريد مر بزيد.
ومثل هذا وحوراً عيناً في قراءة أبي بن كعب.
فإن قلت: لقيت زيداً وأما عمرو فقد مررت به، ولقيت زيداً وإذا عبد الله يضربه عمرو فالرفع، إلا في قول من قال: زيداً رأيته وزيداً مررت به، لأن أما وإذا يقطع بهما الكلام، وهما من حروف الابتداء يصرفان الكلام إلى الابتداء إلا أن يدخل عليهما ما ينصب، ولا يحمل بواحد منهما آخر على أول كما يحمل بثم والفاء، ألا ترى أنهم قرءوا: " وأما ثمود فهديناهم " وقبله نصب، وذلك لأنها تصرف الكلام إلى الابتداء، إلا أن يوقع بعدها فعل، نحو أما زيداً فضربت.
ولو قلت: إن زيداً فيها أو أن فيها زيداً وعمرو أدخلته أو دخلت به، رفعته إلا في قول من قال: زيداً أدخلته وزيداً دخلت به، لأن إن ليس بفعل وإنما هو مشبه به. ألا ترى أنه لا يضمر فيه فاعل ولا يؤخر فيه الاسم، وإنما هو بمنزلة الفعل كما أن عشرين درهماً وثلاثين رجلاً بمنزلة ضاربين عبد الله وليس بفعل ولا فاعل.
وكذلك ما أحسن عبد الله وزيد قد رأيناه، فإنما أجريته - يعني أحسن - في الموضع مجرى الفعل في عمله، وليس كالفعل ولم يجيء على أمثلته ولا على إضماره، ولا تقديمه ولا تأخيره ولا تصرفه، وإنما هو بمنزلة لدن غدوةً وكم رجلاً، فقد عملا عمل الفعل وليسا بفعل ولا فاعل.
ومما يختار فيه النصب لنصب الأول ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر بمنزلة الواو والفاء وثم قولك: لقيت القوم كلهم حتى عبد الله لقيته، وضربت القوم حتى زيداً ضربت أباه، وأتيت القوم أجمعين حتى زيداً مررت به، ومررت بالقوم حتى زيداً مررت به. فحتى تجري مجرى الواو وثم، وليست بمنزلة أما لأنها إنما تكون على الكلام الذي قبلها ولا تبتدأ وتقول: رأيت القوم حتى عبد الله، وتسكت، فإنما معناه أنك قد رأيت عبد الله مع القوم كما كان رأيت القوم وعبد الله على ذلك. وكذلك ضربت القوم حتى زيداً أنا ضاربه.
وتقول: هذا ضارب القوم حتى زيداً يضربه، إذا أردت معنى التنوين، فهي كالواو إلا أنك تجر بها إذا كانت غايةً والمجرور مفعول كما أنك إذا قلت هذا ضارب زيد غداً تجر بكف التنوين. وهو مفعول بمنزلته منصوباً منوناً ما قبله.
ولو قلت: هلك القوم حتى زيداً أهلكته، اختير النصب، ليبنى على الفعل كما بني ما قبله مرفوعاً كان أو منصوباً، كما فعل ذلك بعد ما بني على الفعل وهو مجرور.
فإن قلت: إنما هو لنصب اللفظ، فلا تنصب بعد مررت بزيد وانصب بعد إن فيها زيداً. وإن كان الأول لأنه في معنى الحديث مفعول، فلا ترفع بعد عبد الله إذا قلت عبد الله ضربته إذا كان بعده: وزيداً مررت به.

وقد يحسن الجر في هذا كله، وهو عربي. وذلك قولك لقيت القوم حتى عبد الله لقيته، فإنما جاء بلقيته توكيداً بعد أن جعله غايةً، كما تقول مررت بزيد وعبد الله مررت به. قال الشاعر وهو ابن مروان النحوي:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله، ألقاها
والرفع جائز كما جاز في الواو وثم، وذلك قولك لقيت القوم حتى عبد الله لقيته، كأنك لقيت القوم حتى زيد ملقى، وسرحت القوم حتى زيد مسرح، وهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلاً، فإذا كان في الابتداء زيد لقيته بمنزلة زيد منطلق جاز ههنا الرفع.
باب ما يختار فيه النصب وليس قبله منصوببني على الفعل، وهو باب الاستفهام وذلك أن من الحروف حروفاً لا يذكر بعدها إلا الفعل ولا يكون الذي يليها غيره، مظهراً أو مضمراً.
فما لا يليه الفعل إلا مظهراً: قد، وسوف، ولما، ونحوهن. فإن اضطر شاعر فقدم الاسم وقد أوقع الفعل على شيء من سببه لم يكن حد الإعراب إلا النصب، وذلك نحو لم زيدا أضربه، " إذا اضطر شاعر فقدم لم يكن إلا النصب في زيد ليس غير، ولو كان في شعر " ، لأنه يضمر الفعل إذا كان ليس مما يليه الاسم، كما فعلوا ذلك في مواضع ستراها إن شاء الله.
وأما ما يجوز فيه الفعل مضمراً ومظهراً، مقدماً ومؤخراً، ولا يستقيم أن يبتدأ بعده الأسماء، فهلا ولولا ولوما وألا، لو قلت: هلا زيداً ضربت ولولا زيداً ضربت وألا زيداً قتلت جاز. ولو قلت: ألا زيداً وهلا زيداً على إضمار الفعل ولا تذكره جاز. وإنما جاز ذلك لأن فيه معنى التحضيض والأمر، فجاز فيه ما يجوز في ذلك.
ولو قلت: سوف زيدا أضرب لم يحسن، أو قد زيدا لقيت لم يحسن، لأنها إنما وضعت للأفعال، إلا أنه جاز في تلك الأحرف التأخير والإضمار، لما فابتدءوا بعدها الأسماء والأصل غير ذلك، ألا ترى أنهم يقولون: هل زيد منطلق، وهل زيد في الدار، " وكيف زيد آخذ " . فإن قلت: هل زيداً رأيت وهل زيد ذهب قبح ولم يجز إلا في الشعر، لأنه لما اجتمع الاسم والفعل حملوه على الأصل فإن اضطر شاعر فقدم الاسم نصب كما كنت فاعلاً ذلك بقد ونحوها. وهو في هذه أحسن، لأنه يبتدأ بعدها الأسماء. وإنما فعلوا ذلك بالاستفهام لأنه كالأمر في أنه غير واجب، وأنه يريد " به " من المخاطب أمراً لم يستقر عند السائل. ألا ترى أن جوابه جزم فلهذا اختير النصب وكرهوا تقديم الاسم، لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء، وجوابها كجوابه وقد يصير معنى حديثها إليه. وهي غير واجبة كالجزاء، فقبح تقديم الاسم " لهذا " . ألا ترى أنك إذا قلت: أين عبد الله آته، فكأنك قلت: حيثما يكن آته.
وأما الألف فتقديم الاسم فيها قبل الفعل جائز كما جاز ذلك في هلا، " وذلك " لأنها حرف الاستفهام الذي لا يزول " عنه " إلى غيره، وليس للاستفهام في الأصل غيره. وإنما تركوا الألف في من، ومتى، وهل، وهنحوهن حيث أمنوا الالتباس، ألا ترى أنك تدخلهاعلى من إذا تمت بصلتها، كقول الله عز وجل: " أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي أمناً يوم القيامة " . وتقول: أم هل، فإنما هي بمنزلة قد، ولكنهم تركوا الألف استغناء، إذ كان هذا " الكلام " لا يقع إلا في الاستفهام. وسوف تراه إن شاء الله متبينا أيضاً. فهي ههنا بمنزلة إن في باب الجزاء، فجاز تقديم الاسم فيها، كما جاز في قولك: إن شاء الله أمكنني من فلان فعلت " كذا وكذا " . ويختار فيها النصب، لأنك تضمر الفعل فيها، لأن الفعل أولى إذا اجتمع هو والاسم. وكذلك كنت فاعلاً في إن، لأنها إنما هي للفعل. وسترى بيان ذلك إن شاء الله.
فالألف إذا كان معها فعل، بمنزلة لولا وهلا، إلا أنك إن شئت رفعت فيها، وهو في الألف أمثل منه في متى ونحوها، لأنه ق صار فيها مع أنك تبتدي بعدها الأسماء أنك تقدم الاسم قبل الفعل، والرفع فيها على الجواز.
ولا يجوز ذلك في هلا ولولا، لأنه لا يبتدأ بعدهما الأسماء. وليس جواز الرفع في الألف مثل جواز الرفع في ضربت زيدا وعمراً كلمته، لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى، وإنما اختير هذا على الجواز، وليكون معنى واحداً، فهذا أقوى. والذي يشبهه من حروف الاستفهام الألف.

"
واعلم أ، حروف الاستفهام كلها يقبح أن يصير بعدها الاسم إذا كان الفعل بعد الاسم: لو قلت: هل زيد قام وأين زيد ضربته، لم يجز إلا في الشعر، فإذا جاء في الشعر نصبته، إلا الألف فإنه يجوز فيها الرفع والنصب، لأن الألف قد يبتدأ بعدها الاسم. فإن جئت في سائر حروف الاستفهام باسم وبعد ذلك الاسم اسم من فعل نحو ضارب، جاز في الكلام، ولا يجوز فيه النصب إلا في الشعر، لو قلت: هل زيد أنا ضاربه لكان جيدا في الكلام، لأن ضارباً اسم وإن كان في معنى الفعل. ويجوز النصب في الشعر " .
هذا باب ما ينصب في الألفتقول: أعبد الله ضربته، وأزيداً مررت به، وأعمرا قتلت أخاه، وأعمراً اشتريت له ثوباً. ففي كل هذا قد أضمرت بين الألف والاسم فعلاً هذا تفسيره، كما فعلت ذلك فيما نصبته في هذه الأحرف في غير الاستفهام. قال جرير:
أثعلبة الفوارس أم رياحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
فإذا أوقعت عليه " الفعل " أو على شيء من سببه نصبته، وتفسيره ههنا هو التفسير الذي فسر في الابتداء: أنك تضمر فعلاً هذا تفسيره. إلا أن النصب هو الذي يختار ههنا، وهو حد الكلام. وأما الانتصاب ثم وها هنا فمن وجه واحد. ومثل ذلك أعبد الله كنت مثله، لأن كنت فعل والمثل مضاف إليه وهو منصوب. ومثله أزيداً لست مثله، لأنه فعل، فصار بمنزلة قولك أزيداً لقيت أخاه. وهو قول الخليل.
ومثل ذلك: ما أدرى أزيداً مررت به أم عمراً، وما أبالي أعبد الله لقيت أخاه أم عمرا، لأنه حرف الاستفهام، وهي تلك الألف التي في قولك أزيداً لقيته أم عمراً.
وتقول: أعبد الله ضرب أخوه زيداً، لا يكون إلا الرفع، لأن الذي من سبب عبد الله " مرفوع " فاعل، والذي ليس من سببه مفعول، فيرتفع إذا ارتفع الذي من سببه، كما ينتصب إذا انتصب، ويكون المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب، فإنما جعل هذا المظهر بينا ما هو مثله. فإن جعلت زيداً الفاعل قلت: أعبد الله ضرب أخاه زيد.
وتقول: أعبد الله ضرب أخوه غلامه إذا جعلت الغلام في موضع زيد حين قلت أعبد الله ضرب أخوه زيداً، فيصير هذا تفسيراً لشيء رفع عبد الله لأنه يكون موقعاً الفعل بما يكون من سببه كما يوقعه بما ليس من سببه، كأنه قال في التمثيل وإن كان لا يتكلم به: أعبد الله أهان غلامه أو عاقب غلامه، أو صار في هذه الحال " عند السائل وإن لم يكن " ثم فسر.
وإن جعلت الغلام في موضع زيد حين رفعت زيداً نصبت فقلت: أعبد الله ضرب أخاه غلامه، كأنه جعله تفسيراً لفعل غلامه أوقعه عليه، لأنه قد يوقع الفعل عليه ما هو من سببه كما يوقعه هو على ما هو من سببه، وذلك قولك: أعبد الله ضرب أباه، وأعبد الله ضربه أبوه، فجرى مجرى أعبد الله هو ضرب زيداً، وأعبد ضربه زيد، كأنه في التمثيل تفسير لقوله: أعبد الله أهان أباه غلامه، وأعبد الله ضرب أخاه غلامه. ولا عليك أقدمت الأخ أم أخرته، أم قدمت الغلام أم أخرته، أيهما ما جعلته كزيد مفعولاً فالأول رفع. وإن جعلته كزيد فاعلاً فالأول نصب.
وتقول: آلسوط ضرب به زيد، وهو كقولك: آلسوط ضربت به. وكذلك آلخوان أكل اللحم عليه، و " كذلك " أزيداً سميت به أو سمي به عمرو، لأن هذا في موضع نصب، وإنما تعتبره أنك لو قلت: آلسوط ضربت فكان هذا كلاماً، أو آلخوان أكلت، لم يكن إلا نصباً، " كما أنك لو قلت: أزيداً مررت فكان كلاماً لم يكن إلا نصباً " . فمن ثم جعل هذا الفعل الذي لا يظهر تفسيره تفسير ما ينصب.
فاعتبر ما أشكل عليك من هذا بذا. فإن قلت: أزيد ذهب به أو أزيد انطلق به، لم يكن إلا رفعاً، لأنك لو لم تقل " به " فكان كلاماً لم يكن إلا رفعاً، كما قلت: أزيد ذهب أخوه، لأنك لو قلت: أزيد ذهب لم يكن إلا رفعاً.
وتقول: أزيداً ضربت أخاه، لأنك لو ألقيت الأخ قلت: أزيداً ضربت. فاعتبر هذا بهذا، ثم أجعل كل واحد جئت به تفسير " ما هو " مثله.
واليوم والظروف بمنزلة زيد وعبد الله، إذا لم يكن ظروفاً، وذلك " قولك " : أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله، كقولك: أعمراً تكلم فيه عبد الله، وأيوم الجمعة ينطلق فيه، كقولك: أزيد يذهب به.

وتقول: أأنت عبد الله ضربته، تجريه هاهنا مجرى أنا زيد ضربته، لأن الذي يلي حرف الاستفهام أنت ثم ابتدأت هذا وليس قبله حرف استفهام ولا شيء هو بالفعل وتقديمه أولى. إلا أنك إن شئت نصبته كما تنصب زيداً ضربته، فهو عربي جيد، وأمره " ها " هنا على قولك: زيد ضربته.
فإن قلت: أكل يوم زيداً تضربه فهو نصب، كقولك: أزيداً تضربه كل يوم، لأن الظرف لا يفصل في قولك: ما اليوم زيد ذاهباً، وإن اليوم عمراً منطلق، فلا يحجز هاهنا كما لا يحجز ثمة.
وتقول: أعبد الله أخوه تضربه، كما تقول: أأنت زيد ضربته، لأن الاسم هاهنا بمنزلة مبتدأ ليس قبله شيء. وإن نصبته على قولك: زيدا تضربه قلت: أزيداً أخاه تضربه، لأنك نصبت الذي من سببه بفعل هذا تفسيره.
ومن " قال: زيدا ضربته " قال: أزيداً أخاه تضربه، فإنما نصب زيداً لأن ألف الاستفهام وقعت عليه، والذي من سببه منصوب. وقد يجوز الرفع في أعبد الله مررت به، على ما ذكرت لك، وأعبد الله ضربت أخاه. " وأما قولك: أزيدا مررتبه فبمنزلة قولك: أزيدا ضربته " . والرفع في هذا أقوى منه في أعبد الله ضربته، وهو أيضاً قد يجوز إذا جاز هذا كما كان " ذلك فيما " قبله من الابتداء، وما جاء بعد ما بني على الفعل. وذلك أنه ابتدأ عبد الله وجعل الفعل في موضع المبني عليه، فكأنه قال: أعبد الله أخوك. فمن زعم أنه إذا قال: ازيداً مررت به إنما ينصبه بهذا الفعل فهو ينبغي له أن يجره، لأنه لا يصل إلا بحرف إضافة.
وإذا أعملت العرب شيئاً مضمراً لم يخرج عن عمله مظهراً في الجر والنصب والرفع؛ تقول: وبلد، تريد: ورب بلد. وتقول: زيدا تريد: عليك زيدا. وتقول: الهلال، تريد: هذا الهلال، فكله يعمل عمله مظهراً.
ومما يقبح بعده ابتداء الأسماء ويكون الاسم بعده إذا أوقعت الفعل على شيء من سببه نصباً في القياس: إذا، وحيث. تقول: إذا عب الله تلقاه فأكرمه، وحيث زيدا تجده فأكرمه؛ لأنهما يكونان في معنى حروف المجازاة. ويقبح إن ابتدأت الاسم بعدهما إذا كان بعده الفعل. لو قلت: اجلس حيث زيد جلس وإذا زيد يجلس كان أقبح من قولك: إذا جلس زيد وإذا يجلس، وحيث " يجلس، وحيث " جلس. والرفع بعدهما جائز، لأنك قد تبتدئ الأسماء بعدهما فتقول: اجلس حيث عبد الله جالس، واجلس إذا عبد الله جلس.
ولإذا مواضع آخر يحسن ابتداء الاسم بعدها فيه. تقول: نظرت فإذا زيد يضربه عمرو، لأنك لو قلت: نظرت فإذا زيد يذهب، لحسن. وأما إذ فيحسن ابتداء الاسم بعدها. تقول: جئت إذ عبد الله قائم، و " جئت " إذ عبد الله يقوم، إلا أنها في فعل قبيحة، نحو قولك: جئت إذ عبد الله قام. ولكن " إذ " إنما يقع في الكلام الواجب، فاجتمع فيها هذا وأنك تبتدئ الاسم بعدها، فحسن الرفع.
ومما ينتصب أوله لأن آخره ملتبس بالأول، قوله: أزيداً ضربت عمراً وأخاه، وأزيدا ضربت رجلا يحبه، وأزيدا ضربت جاريتين يحبهما، فإنما نصبت الأول لأن الآخر ملتبس به، إذ كانت صفته ملتبسة به. وإذا أردت أن تعلم التباسه به فأدخله في الباب الذي تقدم فيه الصفة، فما حسن تقديم صفته فهو ملتبس بالأول، وما لا يحسن فليس ملتبسا به. ألا ترى أنك تقول: مررت برجل منطلقة جاريتان يحبهما، ومررت برجل منطلق زيد وأخوه؛ لأنك لما أشركت بينهما في الفعل صار زيد ملتبسا بالأخ فالتبس برجل، ولو قلت: أزيدا ضربت عمرا وضربت أخاه لم يكن كلاما، لأن عمرا ليس فيه من سبب الأول شيء ولا ملتبسا به. ألا ترى أنك لو قلت: مررت برجل قائم عمرو وقائم أخوه لم يجز، لأن أحدهما ملتبس بالأول والآخر ليس ملتبساً.
هذا باب ما جرى في الاستفهام..من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل كما يجري في غيره مجرى الفعل وذلك قولك: أزيداً أنت ضاربه، وأزيدا أنت ضارب له، وأعمراً أنت مكرم أخاه، وأزيدا أنت نازل عليه. كأنك قلت: أنت ضارب، وأنت مكرم، وأنت نازل، كما كان ذلك في الفعل، لأنه يجري مجراه ويعمل في المعرفة كلها والنكرة، مقدماً ومؤخراً، ومظهراً ومضمراً.
وكذلك: آلدار أنت نازل فيها.

وتقول: أعمراً أنت واجد عليه، وأخالدا أنت عالم به، وأزيدا أنت راغب فيه، لأنك لو ألقيت عليه وبه وفيه مما ها هنا لتعتبر، لم يكن ليكون إلا مما ينتصب، كأنه قال: أعبد الله أنت ترغب فيه، وأعبد الله أنت تعلم به، وأعبد الله أنت تجد عليه، فإنما استفهمته عن علمه به ورغبته فيه في حال مسألتك.
ولو قال: آلدار أنت نازل فيها، فجعل نازلاً اسماً رفع، كأنه قال: آلدار أنت رجل فيها.
ولو قال: أزيد أنت ضاربه فجعله بمنزلة قولك: " أزيداً " أنت أخوه جاز. ومثل ذلك في النصب: أزيدا أنت محبوس عليه، وأزيداً أنت مكابر عليه. وإن لم يرد به الفعل وأراد به وجه الاسم رفع.
وكذلك جميع هذا، فمفعول مثل يفعل، وفاعل مثل يفعل.
ومما يجري مجرى فاعل من أسماء الفاعلين فواعل، أجروه مجرى فاعله حيث كانوا جمعوه وكسروه عليه، كما فعلوا ذلك بفاعلين وفاعلات. فمن ذلك قولهم: هن حواج بيت الله. وقال أبو كبير الهذلي:
مما حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مهبل
وقال العجاج:
أوالفا مكة من ورق الحمى
وقد جعل بعضهم فعالاً بمنزلة فواعل، فقالوا: قطان مكة، وسكان البلد الحرام، لأنه جمع كفواعل.
وأجروا اسم الفاعل، إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر، مجراه إذا كان على بناء فاعل، لأنه يريد به ما أراد بفاعل من إيقاع الفعل، إلا أنه يريد أن يحدث عن المبالغة. فما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى: فعول، وفعال ومفعال، وفعل. وقد جاء: فعيل كرحيم وعليم وقدير وسميع وبصير، يجوز فيهن ما جاز في فاعل من التقديم والتأخير، والإضمار والإظهار. لو قلت: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل، على: وضروب سوق الإبل جاز، كما تقول: " هذا " ضارب زيد وعمرا، تضمر وضارب عمرا.
ومما جاز فيه مقدماً ومؤخراً على نحو ما جاء في فاعل، قول ذي الرمة:
هجوم عليها نفسه غير أنه ... متى يرم في عينيه بالشبح ينهض
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
قلى دينه واهتاج للشوق إنها ... على الشوق إخوان العزاء هيوج
وقال القلاخ:
أخا الحرب لباسا إليها جلالها ... وليس بولاج الخوالف أعقلا
وسمعنا من يقول: " أما العسل فأنا شراب " . وقال:
بكيت أخا اللأواء يحمد يومه ... كريم، رؤوس الدارعين ضروب
وقال أبو طالب بن عبد المطلب:
ضروب بنصل السيف سوق سمانها ... إذا عدموا زاداً فإنك عاقر
وقد جاء في فعل وليس في كثرة ذلك، قال، وهو عمرو بن أحمر:
أو مسحل شنج عضادة سمحج ... بسراته ندب لها وكلوم
وقل: " إنه لمنحار بوائكها " .
وفعل أقل من فعيل بكثير.
وأجروه حين بنوه للجمع كما أجرى في الواحد ليكون كفواعل حين أجري مثل فاعل، من ذلك قول طرفة:
ثم زادوا أنهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فجر
ومما جاء على فعل قوله:
حذر أمورا لا تخاف وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار
ومن هذا الباب قول رؤبة:
برأس دماغ رؤوس العز
ومنه قول ساعدة بن جوية:
حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتت طراباً وبات الليل لم ينم
وقال الكميت:
شم مهاوين أبدان الجزور مخا ... ميص العشيات لا خور ولا قزم
ومنه قدير وعليم ورحيم، لأنه يريد المبالغة " في الفعل " .
وليس " هذا " بمنزلة قولك حسن وجه الأخ، لأن هذا لا يقلب ولا يضمر، وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام أو نكرة، ولا تعني به أنك أوقعت فعلاً سلف منك إلى أحد.
ولا يحسن أن تفصل بينهما فتقول: هو كريم فيها حسب الأب.
ومما أجري مجرى الفعل من المصادر قول الشاعر:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب
كأنه قال: أندل. وقال المرار الأسدي:
أعلاقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس
وقال:
بضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل

وتقول: أعبد الله أنت رسول له ورسوله، لأنك لا تريد بفعول ههنا ما تريد به في ضروب، لأنك لا تريد أن توقع منه فعلاً عليه، فإنما هو بمنزلة " قولك " : أعبد الله أنت عجوز له. وتقول: أعبد الله أنت له عديل وأعبد الله أنت له جليس، لأنك لا تريد به مبالغة في فعل، ولم تقل: مجالس فيكون كفاعل، فإنما هذا اسم بمنزلة قولك: أزيد أنت وصيف له أو غلام له. وكذلك: آلبصرة أنت عليها أمير.
فأما الأصل الأكثر الذي جرى مجرى الفعل في من الأسماء ففاعل. وإنما جاز في التي بنيت للمبالغة لأنها بنيت للفاعل من لفظه والمعنى واحد، وليست بالأبنية التي هي في الأصل أن تجرى مجرى الفعل، يدلك على ذلك أنها قليلة. فإذا لم يكن فيها مبالغة الفعل فإنما هي بمنزلة غلام وعبد، لأن الاسم على فعل يفعل فاعل، وعلى فعل يفعل مفعول. فإذا لم يكن واحد منهما ولا الذي لمبالغة الفاعل لم يكن فيه إلا الرفع.
وتقول: أكل يوم أنت فيه أمير، ترفعه لأنه ليس بفاعل، وقد خرج " كل " من أن يكون ظرفاً، فصار بمنزلة عبد الله ألا ترى أنك إذا قلت: أكل يوم ينطلق فيه، صار كقولك: أزيد يذهب به ولو جاز أن تنصب كل يوم وأنت تريد بالأمير الاسم لقلت: أعبد الله عليه ثوب لأنك تقول: أكل يوم لك ثوب، فيكون نصباً. فإن قلت: أكل يوم لك فيه ثوب فنصبت، وقد جعلته خارجاً من أن يكون ظرفاً، فإنه ينبغي أن تنصب: أعبد الله عليه ثوب. وهذا لا يكون، لأن الظرف هنا لم ينصبه فعل، إنما عليه ظرف للثوب، وكذلك فيه.
هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغىفهي ظننت، وحسبت، وخلت، وأريت ورأيت، وزعمت، وما يتصرف من أفعالهن.
فإذا جاءت مستعملة فهي بمنزلة رأيت وضربت وأعطيت في الإعمال والبناء على الأول، في الخبر والاستفهام وفي كل شيء. وذلك قولك: أظن زيداً منطلقاً، وأظن عمراً ذاهباً، وزيداً أظن أخاك، وعمراً زعمت أباك.
وتقول: زيد أظنه ذاهباً. ومن قال: عبد الله ضربته نصب " فقال " : عبد الله أظنه ذاهباً.
وتقول: أظن عمراً منطلقاً وبكراً أظنه خارجاً، كما قلت: ضربت زيداً وعمراً كلمه، وإن شئت رفعت على الرفع في هذا.
فإن ألغيت قلت: عبد الله أظن ذاهب، وهذا إخال أخوك، وفيها أرى أبوك. وكلما أردت الإلغاء فالتأخير أقوى. وكل عربي " جيد " .
وقال اللعين يهجو العجاج:
أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور
أنشدناه يونس مرفوعاً عنهم. وإنما كان التأخير أقوى لأنه " إنما " يجيء بالشك بعدما يمضي كلامه على اليقين، أو بعدما ما بتبدئ وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك، كما تقول: عبد الله صاحب ذاك بلغني، وكما قال: من يقول ذاك تدري، فأخر ما لم يعمل فيأوله كلامه. وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مضى كلامه على اليقين، وفيما يدري.
فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخر، كما قال: زيداً رأيت، ورأيت زيداً.
وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أعملت، وذلك قولك: زيداً أخاك أظن، فهذا ضعيف كما يضعف زيداً قائماً ضربت؛ لأن الحد أن يكون الفعل مبتدا إذا عمل.
ومما جاء في الشعر معملاً في زعمت زعمت قول أبي ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجل فيكم ... فإني شربت الحلم بعدك بالجهل
وقال النابغة الجعدي:
عددت قشيراً إذ عددت فلم أسأ ... بذاك ولم أزعمك عن ذاك معزلا
وتقول: أين ترى عبد الله قائماً، وهل ترى زيداً ذاهباً، لأن هل وأين كأنك لم تذكرهما، لأن ما بعدهما ابتداء، كأنك قلت: أترى زيداً ذاهباً، وأتظن عمراً منطلقاً.
فإن قلت: أين، وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة " فيها " إذا استغنى بها الابتداء، قلت: أين ترى زيد، وأين ترى زيداً.
واعلم أن " قلت " إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها، وإنما تحكى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً، نحو قلت: زيد منطلق لأنه يحسن أن تقول: زيد منطلق، ولا تدخل " قلت " . وما لم يكن هكذا أسقط القول عنه.
وتقول: قال زيد إن عمراً خير الناس. وتصديق ذلك قوله جل ثناؤه: " وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك " ، ولولا ذلك لقال: " إن " الله " " .

وكذلك " جميع " ما تصرف من فعله، إلا " تقول " في الاستفهام، شبهوها بتظن، ولم يجعلوا كيظن وأظن في الاستفهام، لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن ظن غيره ولا يستفهم هو إلا عن ظنه، فإنما جعلت كتظن، كما أن ما كليس في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها، وإذا تغيرت عن ذلك أو قدم الخبر رجعت إلى القياس، وصارت اللغات فيها كلغة تميم.
ولم تجعل " قلت " كظننت لأنها إنما أصلها عندهم أن يكون ما بعدها محكياً، فلم تدخل في باب ظننت بأكثر من هذا، كما أن " ما " لم تقو قوة ليس، ولم تقع في كل مواضعها؛ لأن أصلها " عندهم " أن يكون ما بعدها مبتدأ.
وسأفسر لك إن شاء الله ما يكون بمنزلة الحرف في شيء ثم لا يكون معه على أكثر أحواله، وقد بين بعضه فيما مضى.
وذلك قولك: متى تقول زيداً منطلقاً، وأتقول عمراً ذاهباً، وأكل يوم تقول عمراً منطلقاً، لا يفصل بها كما لا يفصل بها في: أكل يوم زيداً تضربه. فإن قلت: أأنت تقول زيد منطلق رفعت، لأنه فصل بينه وبين حرف الاستفهام، كما فصل في قولك: أأنت زيد مررت به، فصارت بمنزلة أخواتها، وصارت على الأصل. قال الكميت:
أجهالاً تقول بني لؤي ... لعمر أبيك أم متجاهلينا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا
وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية.
وزعم أبو الخطاب - وسألته عنه غير مرة - أنا ناساً من العرب يوقف بعربيتهم، وهم بنو سليم، يجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت.
وأعلم أن المصدر قد يلغى كما يلغى الفعل، وذلك قولك: متى زيد ظنك ذاهب، وزيد ظني أخوك، وزيد ذاهب ظني. فإن ابتدأ فقلت: ظني زيد ذاهب كان قبيحاً، " لا يجوز البتة، كما ضعف أظن زيد ذاهب. وهو في متى وأين أحسن، إذا قلت: متى ظنك زيد ذاهب " ، ومتى تظن عمرو منطلق؛ لأن قبله كلاماً. وإنما ضعف هذا في الابتداء كما يضعف: غير شك زيد ذاهب، وحقاً عمرو منطلق.
وإن شئت قلت: متى ظنك زيداً أميراً، كقولك: متى ضربك عمراً.
وقد يجوز أن تقول: عبد الله أظنه منطلق، تجعل هذه الهاء على ذاك، كأنك قلت: زيد منطلق أظن ذاك، لا تجعل الهاء لعبد الله، ولكنك تجعلها ذاك المصدر، كأنه قال: أظن ذاك الظن، أو أظن ظني. فإنما يضعف هذا إذا ألغيت، لأن الظن يلغى في مواضع أظن حتى يكون بدلاً من اللفظ به، فكره إظهار المصدر ههنا، كما قبح أ، يظهر ما انتصب عليه سقياً. " وسترى ذلك إن شاء الله مبيناً " .
ولفظك بذاك أحسن من لفظ بظني. فإذا قلت: أظن ذاك عاقل، كان أحسن من قولك: زيد أظن ظني عاقل ذاك أحسن، لأنه ليس بمصدر، وهو اسم مبهم يقع على كل شيء. ألا ترى أنك لو قلت: زيد ظني منطلق، لم يحسن ولم يجز أن تضع ذاك موضع ظني. وترك ذاك في أظن إذا كان لغواً أقوى منه إذا وقع على المصدر " لأن ذاك إذا كان مصدراً فإنك لا تجيء به، لأن المصدر يقبح أن تجيء به ههنا، فإذا قبح المصدر فمجيئك بذاك أقبح لأنه مصدر " . وإذا ألغيت فقلت: عبد الله أظن منطلق، فهذا أجمل من قولك: أظنه. وأظن بغير هاء أحسن لئلا يلتبس بالاسم، وليكون أبين في أنه ليس يعمل.
فأما ظننت أنه منطلق فاستغنى بخبر أن، تقول: أظن أنه فاعل كذا وكذا، فتستغنى. وإنما يقتصر على هذا إذا علم أنه مستغن بخبر أنه.
وقد يجوز أن تقول: ظننت زيداً، إذا قال: من تظن، أي من تتهم؟ فتقول: ظننت زيداً، كأنه قال: اتهمت زيداً. وعلى هذا قيل: ظنين " أي متهم " . ولم يجعلوا ذاك في حسبت وخلت وأرى؛ لأن من كلامهم أن يدخلوا المعنى في الشيء لا يدخل في مثله.
وسألته عن أيهم، لم لم يقولوا: أيهم مررت به؟ فقال: لأن أيهم " هو " حرف الاستفهام، لا تدخل عليه الألف وإنما تركت الألف استغناء فصارت بمنزلة الابتداء. ألا ترى أن حد الكلام أن تؤخر الفعل فتقول: أيهم رأيت، كما تفعل ذلك بالألف، فهي نفسها بمنزلة الابتداء.
وإن قلت: أيهم زيداً ضرب قبح، كما يقبح في متى ونحوها، وصار أن يليها الفعل هو الأصل، لأنها من حروف الاستفهام، ولا يحتاج إلى الألف، فصارت كأين.
وكذلك من وما، لأنهما يجريان معها ولا يفارقانها. تقول: من أمة الله ضربها، وما أمة الله أتاها، نصب في كل ذا، لأنه أن يلي هذه الحروف الفعل أولى، كما أنه لو اضطر شاعر في متى وأخواتها نصب. فقال: متى زيداً رأيته.
باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعاً
لأنك تبتدئه لتنبه المخاطب، ثم تستفهم بعد ذلك وذلك قولك: زيد كم مرة رأيته، وعبد الله هل لقيته، وعمرو هلا لقيته، وكذلك سائر حروف الاستفهام؛ فالعامل فيه الابتداء، كما أنك لو قلت: أرأيت زيداً هل لقيته، كان علمت هو العامل، فكذلك هذا. فما بعد المبتدأ من هذا الكلام في موضع خبره.
فإن قلت: زيد كم مرة رأيت، فهو ضعيف، إلا أن تدخل الهاء، كما ضعف في قوله: " كله لم أصنع " .
ولا يجوز أن تقول: زيداً هل رأيت، إلا أن تردي معنى الهاء مع ضعفه فترفع، لأنك قد فصلت بين المبتدأ وبين الفعل، فصار الاسم مبتدأ والفعل بعد حرف الاستفهام. ولو حسن هذا أو جاز لقلت: " قد علمت زيد كم ضرب، ولقلت: أرأيت زيد كم مرة ضرب على الفعل الآخر. فكما لا تجد بداً من إعمال الفعل " الأول " كذلك لا تجد بداً من إعمال الابتداء، لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعدما تفرغ من الابتداء. ولو أرادوا الإعمال لما ابتدءوا بالاسم، ألا ترى أنك تقول: زيد هذا أعمرو ضربه أم بشر، ولا تقول: عمراً أضربت. فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك. فحرف الاستفهام لا يفصل به بين العامل والمعمول، ثم يكون على حاله إذا جاءت الألف أولاً، وإنما يدخل على الخبر.
ومما لا يكون إلا رفعاً قولك: أأخواك اللذان رأيت؛ لأن رأيت صلة للذين وبه يتم اسماً، فكأنك قلت: أأخواك صاحبانا. ولو كان شيء من هذا ينصب شيئاً في الاستفهام لقلت في الخبر: زيداً الذي رأيت، فنصبت كما تقول: زيداً رأيت.
وإذا كان الفعل في موضع الصفة فهو كذلك، وذلك قولك: أزيد أنت رجل تضربه، وأكل يوم ثوب تلبسه. فإذا كان وصفاً فأحسنه أن يكون فيه الهاء، لأنه ليس بموضع إعمال، ولكنه يجوز فيه كما جاز في الوصل، لأنه في موضع ما يكون من الاسم. ولم تكن لتقول: أزيداً أنت رجل تضربه، وأنت إذا جعلته وصفاً للمفعول لم تنصبه، لأنه ليس بمبني على الفعل، ولكن الفعل في موضع الوصف كما كان في موضع الخبر.
فمن ذلك قول الشاعر:
أكل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
وقال زيد الخير:
أفي كل عام مأتم تبعثونه ... على محمر ثوبتموه وما رضا
وقال جرير فيما ليس فيه الهاء:
أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح
وقال آخر:
فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا
ومما لا يكون فيه إلا الرفع قوله: أعبد الله أنت الضاربه؛ لأنك إنما تريد معنى أنت الذي ضربه. وهذا لا يجري مجرى يفعل. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: ما زيداً أنا الضارب ولا زيداً أنت الضارب، " وإنما تقول: الضارب زيداً، على مثل قولك الحسن وجهاً " . ألا ترى أنك لا تقول: أنت المائة الواهب كما تقول: أنت زيداً ضارب.
وتقول: هذا ضارب كما ترى، فيجيء على معنى هذا يضرب وهو يعمل في حال حديثك، وتقول: هذا ضارب فيجيء على مغنى هذا سيضرب. وإذا قلت: هذا الضارب فإنما تعرفه على معنى الذي ضرب فلا يكون إلا رفعاً، كما أنك لو قلت: أزيد أنت ضاربه إذا لم ترد بضاربه الفعل وصار معرفة " رفعت " ، فكذلك هذا الذي لا يجيء إلا على هذا المعنى فإنما يكون بمنزلة الفعل نكرة.
وأصل وقوع الفعل صفة للنكرة، كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة. ألا ترى أنك لو قلت: أكل يوم زيداً تضربه لم يكن إلا نصباً، لأنه ليس بوصف. فإذا كان وصفاً فليس بمبني عليه الأول، كما أنه لا يكون الاسم مبنياً عليه في الخبر، فلا يكون ضارب بمنزلة يفعل وتفعل إلا نكرة.
وتقول: أذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى، كأنه قال: أذكر نتاجها أحب إليك أم أنثى. فأن تلد اسم، وتلد به يتم الاسم كما يتم الذي بالفعل، فلا عمل له " هنا " كما ليس يكون لصلة الذي عمل.
وتقول: أزيد أني ضربه عمرو أمثل أم بشر، كأنه قال: أزيد ضرب عمرو إياه أمثل أم بشر، فالمصدر مبتدأ وأمثل مبني عليه، ولم ينزل منزلة يفعل، فكأنه قال: أزيد ضاربه خير أم بشر. وذلك لأنك ابتدأته وبنيت عليه فجعلته اسماً، ولم يلتبس زيد بالفعل إذ كان صلة له، كما لم يلتبس به الضاربه حين قلت: زيد أنت الضاربه، إلا أن الضاربه في معنى الذي ضربه، والفعل تمام هذه الأسماء، " فالفعل لا يلتبس بالأول إذا كان هكذا " .

وتقول: أأن تلد ناقتك ذكراً أحب إليك أم أنثى، لأنك حملته على الفعل الذي هو صلة أن، فصار في صلته، فصار كقولك: الذي رأيت أخاه زيد. ولا يجوز أن تبتدئ بالأخ قبل الذي وتعمل فيه رأيت " أخاه زيد " . فكذلك لا يجوز النصب في قولك: أذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى. وذلك أنك لو قلت: أخاه الذي رأيت زيد لم يجز، وأنت تريد: الذي رأيت أخاه زيد.
ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعاً " قولك " : أعبد الله أنت أكرم عليه أم زيد، وأعبد الله أنت له أصدق أم بشر، كأنك قلت: أعبد الله أنت أخوه أم بشر، لأن أفعل ليس بفعل، ولا اسم يجري مجرى الفعل، وإنما هو بمنزلة حسن وشديد ونحو ذلك. ومثله: أعبد الله أنت له خير أم بشر.
وتقول: أزيد أنت له أشد ضرباً أم عمرو، فإنما انتصاب الضرب كانتصاب زيد في قولك: ما أحسن زيداً، وانتصاب وجه في قولك: حسن وجه الأخ. فالمصدر هنا كغيره من الأسماء، كقولك: أزيد أنت له أطلق وجهاً أم فلان. وليس له سبيل إلى الإعمال، وليس له وجه في ذلك.
ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعاً قولك: أعبد الله إن تره تضربه، وكذلك إن طرحت الهاء مع قبحه فقلت: أبعد الله إن تر تضرب، فليس للآخر سبيل على الاسم، لأنه مجزوم، وهو جواب الفعل الأول، وليس للفعل الأول سبيل، لأنه مع إن بمنزلة قولك: أعبد الله حين يأتيني أضرب فليس لعبد الله في يأتيني حظ، لأنه بمنزلة قولك: أعبد الله يوم الجمعة أضرب. ومثل ذلك: زيد حين أضرب يأتيني؛ لأن المعتمد على زيد آخر الكلام وهو يأتيني. وكذلك إذا قلت: زيداً إذا أتاني أضرب، وإنما هو بمنزلة حين.
فإن لم تجزم الآخر نصبت، وذلك قولك: أزيداً إن رأيت تضرب. وأحسنه أن تدخل في رأيت الهاء، لأنه غير مستعمل، فصارت حروف الجزاء في هذا بمنزلة قولك: زيد كم مرة رأيته. فإذا قلت: إن تر زيداً تضرب، فليس إلا هذا، صار بمنزلة قولك: حين ترى زيداً يأتيك، لأنه صار في موضع المضمر حين قلت: زيد حين تضربه يكون كذا وكذا. ولو جاز أن تجعل زيداً مبتدأ على هذا الفعل لقلت: القتال زيداً حين تأتي، تريد القتال حين تأتي زيداً.
وتقول في الخبر وغيره: إن زيداً تره تضرب، تنصب زيداً، لأن الفعل أن يلي إن أولي، كما كان ذلك في حروف الاستفهام، وهي أبعد من الرفع لأنه لا يبنى فيها الاسم على مبتدأ.
وإنما أجازوا تقديم الاسم في إن لأنها أم الجزاء ولا تزول عنه، فصار ذلك فيها كما صار في ألف الاستفهام ما لم يجز في الحروف الأخر.
وقال النمر بن تولب:
لا تجزعي إن منفساً أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وإن اضطر شاعر فأجري إذا مجرى إن فجازى بها قال: أزيد إذا تر تضرب، إن جعل تضرب جواباً. وإن رفعها نصب، لأنه لم يجعلها جواباً. وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ. والاسم ههنا مبتدأ إذا جزمت، نحو قولهم: أيهم يأتك تضرب، إذا جزمت، لأنك جئت بتضرب مجزوماً بعد أن عمل الابتداء في أيهم ولا سبيل له عليه. وكذلك هذا حيث جئت به مجزوماً بعد أن عمل فيه الابتداء. وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة حين وسائر الظروف.
وإن قلت: زيد إذا يأتيني أضرب، تريد معنى الهاء ولا تريد زيداً أضرب إذا يأتيني، ولكنك تضع أضرب ههنا مثل أضرب إذا جزمت وإن لم يكن مجزوماً؛ لأن المعنى معنى المجازاة في قولك: أزيد إن يأتك أضرب ولا تريد به أضرب زيداً، فيكون على أول الكلام، كما لم ترد بهذا أول الكلام، رفعت. وكذلك حين، إذا قلت: أزيد حين يأتيك تضرب.
وإنما رفعت الأول في هذا كله لأنك جعلت تضرب وأضرب جواباً، فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه، ولم يرجع إلى الأول. وإنما ترده إلى الأول فيمن قال: إن تأتني آتيك، وهو قبيح وإنما يجوز في الشعر.
وإذا قلت: أزيد إن يأتك تضرب فليس تكون الهاء إلا لزيد، ويكون الفعل الآخر جواباً للأول. ويدلك على أنها لا تكون إلا لزيد أنك لو قلت: أزيد إن تأتك أمة الله تضربها لم يجز، لأنك ابتدأ زيداً ولا بد من خبر، ولا يكون ما بعده خبراً له حتى يكون فيه ضميره.

وإذا قلت: زيداً لم أضرب، أو زيداً لن أضرب، لم يكن فيه إلا النصب، لأنك لم توقع بعد لم ولن شيئاً يجوز لك أن تقدمه قبلهما فيكون على غير حاله بعدهما " كما كان ذلك في الجزاء " . ولن أضرب نفي لقوله: سأضرب، كما أن " لا تضرب نفي لقوله: اضرب " ، ولم أضرب نفي لضربت.
وتقول: كل رجل يأتيك فاضرب، " نصب " لأن يأتيك ههنا صفة، فكأنك قلت: كل رجل صالح اضرب.
فإن قلت: أيهم جاءك فاضرب، رفعته لأنه جعل جاءك في موضع الخبر، وذلك لأن قوله: فاضرب في موضع الجواب، وأي من حروف المجازاة وكل رجل ليست من حروف المجازاة. ومثله: زيد إن أتاك فاضرب، إلا أن تريد أول الكلام، فتنصب ويكون على حد قولك: زيداً إن أتاك تضرب، وأيهم يأتك تضرب، إذا كان بمنزلة الذي.
وتقول: زيداً إذا أتاك فاضرب. فإن وضعته في موضع زيد عن يأتك تضرب رفعت، فارفع إذا كانت تضرب جواباً ليأتك، وكذلك حين. والنصب في زيد أحسن إذا كانت الهاء يضعف تركها ويقبح.
فأعمله في الأول، وليس هذا في القياس لأنها تكون بمنزلة حين، وإذا وحين لا يكون واحداً منهما خبراً لزيد. ألا ترى أنك لا تقول: زيد حين يأتيني؛ لأن حين لا تكون ظرفاً لزيد.
وتقول: الحر حين تأتيني، فيكون ظرفاً، لما فيه من معنى الفعل. وجميع ظروف الزمان لا تكون ظروفاً للجثث.
فإن قلت: زيداً يوم الجمعة أضرب، لم يكن فيه إلا النصب، لأنه ليس ههنا معنى جزاء، ولا يجوز الرفع إلا على قوله:
كله لم أصنع
ألا ترى أنك لو قلت: زيد يوم الجمعة فأنا أضربه لم يكن، " ولو قلت: زيد إذا جاءني فأنا أضربه كان جيداً " . فهذا يدلك على أنه يكون على غير قوله زيداً أضرب حين يأتيك.
هذا باب الأمر والنهيوالأمر والنهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبنى عليه الفعل ويبنى على الفعل، كما اختير ذلك في باب الاستفهام؛ لأن الأمر والنهي إنما هما للفعل، كما أن حروف الاستفهام بالفعل أولى، وكان الأصل فيها أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم، فهكذا الأمر والنهي، لأنهما لا يقعان إلا بالفعل، مظهراً أو مضمراً.
وهما أقوى في هذا من الاستفهام؛ لأن حروف الاستفهام قد يستفهم بها وليس بعدها إلا الأسماء نحو قولك: أزيد أخوك، ومتى زيد منطلق، وهل عمرو ظريف. والأمر والنهي لا يكونان إلا بفعل، وذلك قولك: زيداً اضربه، وعمراً امرر به، وخالداً اضرب أباه، وزيداً اشتر له ثوباً. ومثل ذلك: أما زيداً فاقتله، وأما عمراً فاشتر له ثوباً، وأما خالداً فلا تشتم أباه، وأما بكراً فلا تمرر به. ومنه: زيداً ليضربه عمرو، وبشراً ليقتل أباه بكر، لأنه أمر للغائب بمنزلة افعل للمخاطب.
وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم، وذلك قولك: عبد الله اضربه، ابتدأت عبد الله فرفعته بالابتداء، ونبهت المخاطب له لتعرفه باسمه، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر. ومثل ذلك: أما زيد فاقتله. فإذا قلت: زيد فاضربه، لم يستقم أن تحمله على الابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: زيد فمنطلق لم يستقم، فهو دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ. فإن شئت نصبته على شيء هذا تفسيره، كما كان ذلك في الاستفهام، وإن شئت على عليك، كأنك قلت: عليك زيداً فاقتله.
وقد يحسن ويستقيم أن تقول: عبد الله فاضربه، إذا كان مبيناً على مبتدأ مظهر أو مضمر. فأما في المظهر فقولك: هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر " هذا " ويعمل كعمله إذا أظهرته، وذلك قولك: الهلال والله فانظر إليه، كأنك قلت: هذا الهلال، ثم جئت بالأمر.
ومما يدلك على حسن الفاء ههنا أنك لو قلت: هذا زيد فحسن جميل، كان " كلاماً " جيداً. ومن ذلك قول الشاعر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده.
وتقول: هذا الرجل فاضربه، إذا جعلته وصفاً ولم تجعله خبراً. وكذلك: هذا زيد فاضربه، إذا كان معطوفاً على " هذا " أو بدلاً.

وتقول: اللذين يأتيانك فاضربهما، تنصبه كما تنصب زيداً، وإن شئت رفعته على أن يكون مبنياً على مظهر أو مضمر. وإن شئت كان مبتدأ، لأنه يستقيم أن تجعل خبره من غير الأفعال بالفاء. ألا ترى أنك لو قلت: الذي يأتيني فله درهم، والذي يأتيني فمكرم محموم، كان حسناً. ولو قلت: زيد فله درهم لم يجز. وإنما جاز ذلك لأن قوله: الذي يأتيني فله درهم، في معنى الجزاء، فدخلت الفاء في خبره كما تدخل في خبر الجزاء.
ومن ذلك قوله عز وجل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
ومن ذلك قولهم: كل رجل يأتيك فهو صالح، وكل رجل جاء فله درهمان؛ لأن معنى الحديث الجزاء.
وأما قول عدي بن زيد:
أرواح مودع أم بكور ... أنت فانظر لأي ذاك تصير
فإنه على أن يكون في الذي يرفع على حالة المنصوب في النصب. يعني أن الذي من سببه مرفوع فترفعه بفعل هذا يفسره، كما كان المنصوب ما هو من سببه ينتصب، فيكون ما سقط على سببيه تفسيره في الذي ينصب على أنه شيء هذا تفسيره. يقول: ترفع " أنت " على فعل مضمر، لأن الذي من سببه مرفوع، وهو الاسم المضمر الذي في انظر.
وقد يجوز " أن يكون " أنت على قوله: أنت الهالك، كما يقال: إذا ذكر إنسان لشيء، قال الناس: زيد. وقال الناس: أنت. ولا يكون على أن تضمر هذا، لأنك لا تشير للمخاطب إلى نفسه ولا تحتاج إلى ذلك وإنما تشير له إلى غيره. ألا ترى أنك لو أشرت له إلى شخصه فقلت: هذا أنت، لم يستقم.
ويجوز هذا أيضاً على قولك: شاهداك، أي ما ثبت لك شاهداك. قال الله تعالى جده: " طاعة وقول معروف " . فهو مثله. فإما أن يكون أضمر الاسم وجعل هذا خبره كأنه قال: أمرى طاعة " وقول معروف " ، أو يكون أضمر الخبر فقال: طاعة وقول معروف أمثل.
واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي، وإنما قيل: " دعاء " لأنه استعظم أن يقال: أمر أو نهي. وذلك قولك: اللهم زيداً فاغفر ذنبه، وزيداً فأصلح شأنه، وعمراً ليجزه الله خيراً. وتقول: زيداً قطع الله يده، وزيداً أمر الله عليه العيش، لأن " معناه معنى " زيداً ليقطع الله يده.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
أميران كانا آخياني كلاهما ... فكلاً جزاه الله عني بما فعل
ويجوز فيه من الرفع ما جاز في الأمر والنهي، ويقبح فيه ما يقبح في الأمر والنهي.
وتقول: أما زيداً فجدعاً له، وأما عمراً فسقياً له؛ لأنك لو أظهرت الذي انتصب عليه سقياً وجدعاً لنصبت زيداً وعمراً، فإضماره بمنزلة إظهاره، كما تقول: أما زيداً فضرباً.
وتقول: أما زيد فسلام عليه، وأما الكافر فلعنة الله عليه؛ لأن هذا ارتفع بالابتداء.
وأما قوله عز وجل: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " . وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ، فإن هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون " . ثم قال بعد: " فيها أنهار من ماء " ، فيها كذا وكذا. فغنما وضع المثل للحديث الذي بعده، فذكر أخباراً وأحاديث، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، أو مما يقص عليهكم مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار " ونحوه " . والله تعالى أعلم.
وكذلك " الزانية والزاني " ، " كأنه " لما قال جل ثناؤه: " سورة أنزلناها فرضناها " . قال: في الفرائض الزانية والزاني، " أو الزانية والزاني في الفرائض " . ثم قال: فاجلدوا، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع، كما قال:
وقائلة: خولان، فانكح فتاتهم
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر. وكذلك: " والسارق والسارقة " " كأنه قال: و " فيما فرض عليكم " السارق والسارقة، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم " . فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. ويحمل على نحو من هذا " ومثل ذلك " : " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " .
وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد، إذا كنت تخبر " بأشياء " أو توصي. ثم تقول: زيد، فيمن أوصي به فاحسن إليه وأكرمه.
وقد قرأ أناس: " والسارق والسارقة " و " الزانية والزاني " ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة. ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع.
وإنما كان الوجه في الأمر والنهي النصب لأن حد الكلام تقديم الفعل، وهو فيه أوجب، إذ كان ذلك يكون في ألف الاستفهام، لأنهما لا يكونان إلا بفعل.

وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف، لأنها حروف تحدث قبل الفعل. وقد يصير معنى حديثهن إلى الجزاء، والجزاء لا يكون إلا خبراً، وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر، وهي غير واجبة كحروف الجزاء فأجريت مجراها. والأمر ليس يحدث له حرف سوى الفعل، فيضارع حروف الجزاء، فيقبح حذف الفعل منه كما يقبح حذف الفعل بعد حروف الجزاء. وإنما يقبح حذف الفعل وإضماره بعد حروف الاستفهام لمضارعتها حروف الجزاء.
وإنما قلت: زيداً اضربه، واضربه مشغولة بالهاء، لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بالفعل، فلا يستغنى عن الإضمار إن لم يظهر.
باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام و حروف الأمر والنهي وهي حروف النفي، شبهوها بحروف الاستفهام حيث قدم الاسم قبل الفعل، لأنهن غير واجبات، كما أن الألف وحروف الجزاء غير واجبة، وكما أن الأمر والنهي غير واجبين.
وسهل تقديم الأسماء فيها لأنها نفي لواجب، وليست كحروف الاستفهام والجزاء، وإنما هي مضارعة، وإنما تجيء لخلاف قوله: قد كان.
وذلك قولك: ما زيداً ضربته ولا زيداً قتلته، وما عمراً لقيت أباه ولا عمراً مررت به ولا بشراً اشتريت له ثوباً. وكذلك إذا قلت: ما زيداً أنا ضاربه، إذا لم تجعله اسماً معروفاً. قال هدبة بن الخشرم العذري:
فلا ذا جلال هبنه لجلاله ... ولا ذاع ضياع هن يتركن للفقر
وقال زهير:
لا الدار غيرها بعدي الأنيس ولا ... بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم
وقال جرير:
فلا حسباً فخرت به لتيم ... ولا جداً إذا ازدحم الجدود
وإن شئت رفعت، والرفع فيه أقوى إذ كان يكون في ألف الاستفهام، لأنهن نفي واجب يبتدأ بعدهن ويبنى على المبتدأ بعدهن، ولم يبلغن أن يكن مثل ما شبهن به.
فإن جعلت " ما " بمنزلة ليس في لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع، لأنك تجيء بالفعل بعد أن يعمل فيه ما هو بمنزلة فعل يرفع، كأنك قلت: ليس زيد ضربته.
وقد أنشد بعضهم هذا البيت رفعاً، " قول مزاحم العقيلي " :
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافي منى أنا عارف
فإن شئت حملته على ليس، وإن شئت حملته على " كله لم أصنع " . فهذا أبعد الوجهين.
وقد زعم بعضهم أن ليس تجعل كما، وذلك قليل لا يكاد يعرف، فهذا يجوز أن يكون منه: ليس خلق الله أشعر منه، وليس قالها زيد. قال حميد الأرقط:
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقي المساكين
وقال هشام أخو ذي الرمة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
هذا كله سمع من العرب. والوجه والحد أن تحمله على أن في ليس إضماراً وهذا مبتدأ، كقوله: إنه أمة الله ذاهبة. إلا أنهم زعموا أن بعضهم قال: ليس الطيب إلا المسك، وما كان الطيب إلا المسك.
فإن قلت: ما أنا زيد لقيته، رفعت إلا في قول من نصب زيداً لقيته لأنك قد فصلت كما فصلت في قولك: أنت زيد لقيته. " وإن كانت ما التي هي بمنزلة ليس، فكذلك، كأنك قلت: لست زيد لقيته " ، لأنك شغلت الفعل " بأنا " ، وهذا مبتدأ بعد اسم، وهذا الكلام في موضع خبره، وهو فيه أقوى لأنه عامل في الاسم الذي بعده. وألف الاستفهام، وما في لغة بني تميم، يفصلن فلا يعملن. فإذا اجتمع أنك تفصل وتعمل الحرف فهو أقوى. وكذلك: إني زيد لقيته، وأنا عمرو ضربته، وليتني عبد الله مررت به، لأنه إنما هو اسم مبتدأ " ثم ابتدئ بعده " ، أو اسم قد عمل فيه عامل ثم ابتدئ بعده الكلام في موضع خبره.
فأما قوله عز وجل: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " ، فإنما هو على قوله: زيداً ضربته، وهو عربي كثير. وقد قرأ بعضهم: " وأما ثمود فهديناهم " ، إلا أن القراءة لا تخالف؛ لأن القراءة السنة.
وتقول: كنت عبد الله لقيته، لأنه ليس من الحروف التي ينصب ما بعدها كحروف الاستفهام وحروف الجزاء ولا ما شبه بها، وليس بفعل ذكرته ليعمل في شيء فينصبه أو يرفعه، ثم يضم إلى الكلام الأول الاسم بما يشرك " به " ، كقولك: زيداً ضربت وعمراً مررت به، ولكنه شيء عمل في الاسم، ثم وضعت هذا في موضع خبره، مانعاً له أن ينصب، كقولك: كان عبد الله أبوه منطلق. ولو قلت: كنت أخاك وزيداً مررت به نصبت، لأنه قد أنفذ إلى مفعول ونصب ثم ضممت إليه اسماً وفعلاً.

وإذا قلت: كنت زيد مررت به، فقد صار هذا في موضع أخاك ومنع الفعل أن يعمل.
وكذلك: حسبتني عبد الله مررت به، لأن هذا المضمر المنصوب بمنزلة المرفوع في كنت؛ لأنه يحتاج إلى الخبر كاحتياج الاسم في كنت، وكاحتياج المبتدأ، فإنما هذا في موضع خبره، كما كان في موضع خبر كان، فإنما أراد أن يقول: كنت هذه حالي، وحسبتني هذه حالي، كما قال: لقيت عبد الله وزيد يضربه عمرو، فإنما قال: لقيت عبد الله وزيد هذه حاله، ولم يعطفه على الحديث الأول ليكون في مثل معناه، ولم يرد أن يقول: فعلت وفعل، وكذلك لم يرده في الأول. ألا ترى أنه لم ينفذ الفعل في كنت إلى المفعول الذي به يستغنى الكلام كاستغناء كنت بمفعوله. فإنما هذه في موضع الإخبار، وبها يستغنى الكلام.
وإذا قلت: زيداً ضربت وعمراً مررت به، فليس الثاني في موضع خبر، ولا تريد أن يستغنى به شيء لا يتم غلا به، فإنما حاله كحال الأول " في أنه مفعول " ، وهذا " الثاني " لا يمنع الأول مفعوله أن ينصبه لأنه ليس في موضع خبره، فكيف يختار فيه النصب، وقد حال بينه وبين مفعوله، وكان في موضعه، إلا أن تنصبه على قولك: زيداً ضربته.
ومثل ذلك: قد علمت لعبد الله تضربه، فدخول اللام يدلك أنه إنما أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء، لأنها ليست مما يضم به الشيء إلى الشيء كحروف الاشتراك، فكذلك ترك الواو في الأول هو كدخول اللام هنا. وإن شاء نصب، كما قال الشاعر، وهو المرار الأسدي:
فلو أنها إياك عضتك مثلها ... جررت على ما شئت نحراً وكلكلا
هذا باب من الفعل يستعمل في الاسمثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر فيعمل فيه كما عمل في الأول وذلك قولك: رأيت قومك أكثرهم، ورأيت بني زيد ثلثيهم، ورأيت بني عمك ناساً منهم، ورأيت عبد الله شخصه، وصرفت وجوهها أولها. فهذا يجيء على وجهين: على أنه أراد: رأيت أكثر قومك، و " رأيت " ثلثي قومك، وصرفت وجوه أولها، ولكنه ثنى الاسم توكيداً، كما قال جل ثناؤه: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " وأشباه ذلك. فمن ذلك قوله عز وجل: " يسألونك عن الشر الحرام قتال فيه " . وقال الشاعر:
وذكر تقتد برد مائها ... وعتك البول على أنسائها
ويكون على الوجه الآخر الذي أذكره لك، وهو أن يتكلم فيقول: رأيت قومك، ثم يبدو له أن يبين ما الذي رأى منهم، فيقول: ثلثيهم أو ناساً منهم.
ولا يجوز أن تقول: رأيت زيداً أباه، والأب غير زيد، لأنك لا تبينه بغيره ولا بشيء ليس منه. وكذلك لا تثني الاسم توكيداً وليس بالأول ولا شيء منه، فإنما تثنيه وتؤكده مثنى بما هو منه أو هو هو. وإنما يجوز رأيت زيداً أباه ورأيت عمراً، أن يكون أراد أن يقول: رأيت عمراً أو رأيت أبا زيد، فغلط أو نسي، ثم استدرك كلامه بعد؛ " وإما أن يكون أضرب عن ذلك فنحاه وجعل عمراً مكانه " .
فأما الأول فجيد عربي، مثله قوله عز وجل: " ولله على الناس حج البيت من استطاع عليه سبيلا " لأنهم من الناس. ومثله إلا أنهم أعادوا حرف الجر: " قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين اشتضعفوا لمن آمن منهم " .
ومن هذا الباب " قولك " : بعت متاعك أسفله قبل أعلاه، واشتريت متاعك أسفله أسرع من اشترائي أعلاه، واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض، وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها، وضربت الناس بعضهم قائماً وبعضهم قاعداً، فهذا لا يكون فيه إلا النصب؛ لأن ما ذكرت بعده ليس مبنياً عليه فيكون مبتدأ، وإنما هو من نعت الفعل، زعمت أن بيعه أسفله كان قبل بيعه أعلاه، وأن الشراء كان في بعض أعجل من بعض، وسقيه الصغار كان أحسن من سقيه الكبار، ولم تجعله خبراً لما قبله.
ومن ذلك قولك: مررت بمتاعك بعضه مرفوعاً وبعضه مطروحاًن فهذا لا يكون مرفوعاً؛ لأنك حملت النعت على المرور فجعلته حالاً " للمرور " ولم تجعله مبنياً على المبتدأ. وإن لم تجعله حالاً للمرور جاز الرفع.
ومن هذا الباب: ألزمت الناس بعضهم بعضاً، وخوفت الناس ضعيفهم قويهم. فهذا معناه في الحديث المعنى " الذي " في قولك: خاف الناس ضعيفهم قويهم، ولزم الناس بعضهم بعضاً، فلما قلت: أزلمت وخوفت صار مفعولاً، وأجريت الثاني على ما جرى عليه الأول وهو فاعل، فصار فعلاً تعدى إلى مفعولين.

وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، على قولك: دفع الناس بعضهم بعضاً. ودخول الباء ههنا بمنزلة قولك: ألزمت، كأنك قلت في التمثيل: أدفعت، كما أنك تقول: ذهبت به " من عندنا " وأذهبته من عندنا، وأخرجته " معك " وخرجت به معك. وكذلك ميزت متاعك بعضه من بعض، وأوصلت القوم بعضهم إلى بعض، فجعلته مفعولاً على حد ما جعلت الذي قبله وصار قوله إلى بعض ومن بعض، في موضع مفعول منصوب.
ومن ذلك: فضلت متاعك أسفله على أعلاه، " فإنما جعله مفعولاً من قوله: خرج متاعك أسفله على أعلاه " ، كأنه قال في التمثيل: فضل متاعك أسفله على أعلاه، " فعلى أعلاه في موضع نصب " .
ومثل ذلك: صككت الحجرين أحدهما بالآخر، على أنه مفعول، من اصطك الحجران أحدهما بالآخر. ومثل ذلك " قوله عز وجل " : " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض " .
وهذا ما يجرى منه مجروراً كما يجرى منصوباً، وذلك قولك: عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض، إذا جعلت الناس مفعولين كان بمنزلة قولك: عجبت من إذهاب الناس بعضهم بعضاً، لأنك إذا قلت: أفعلت، استغنيت عن الباء، وإذا قلت: فعلت احتجت إليها، وجرى في الجر على قولك: دفعت الناس بعضهم ببعض. وإن جعلت الناس فاعلين قلت: عجبت من دفع الناس بعضهم بعضاً، جرى في الجر على حد مجراه في الرفع، كما جرى في الأول على مجراه في النصب، وهو قولك: دفع الناس بعضهم بعضاً.
وكذلك جميع ما ذكرنا إذا أعملت فيه المصدر فجرى مجراه في الفعل.
و " من " ذلك قولك: عجبت من موافقة الناس أسودهم أحمرهم، جرى على قولك: وافق الناس أسودهم أحمرهم. وتقول: سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض، جرى على قولك: أنيابه بعضها فوق بعض. وتقول: عجبت من إيقاع أنيابه فوق بعض، على حد قولك: أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض.
هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب، واختيار النصب، واختيار الرفع.
تقول: رأيت متاعك بعضه فوق بعض، إذا جعلت فوقاً في موضع الاسم المبني على المبتدأ وجعلت الأول مبتدأ، كأنك قلت: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، ففوق في موضع أحسن.
وإن جعلته حالاً بمنزلة قولك: مررت بمتاعك بعضه مطروحاً وبعضه مرفوعاً، نصبته لأنه لم تبن عليه شيئاً فتبتدئه. وإن شئت قلت: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، فيكون بمنزلة قولك: رأيت بعض متاعك الجيد، فوصلته إلى مفعولين لأنك أبدلت، فصرت كأنك قلت: رأيت بعض متاعك. والرفع في هذا أعرف، لأنهم شبهوه بقولك: رأيت زيداً أبوه أفضل منه، لأنه اسم هو للأول ومن سببه، " كما أن هذا له ومن سببه " ، والآخر هو المبتدأ الأول، كما أن الآخر ههنا هو المبتدأ الأول. وإن نصبت فهو عربي جيد.
ومما جاء في الرفع قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " .
ومما جاء في النصب أنا سمعنا من يوثق بعربيته يقول: خلق الله الزرافة يديها طول من رجليها.
وحدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت، وهو لعبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وقال رجل من بجيلة أو خثعم:
ذريني إن أمرك لن يطاعا ... وما الفيتني حلمي مضاعا
وقال آخر في البدل:
إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا
فهذا عربي حسن، والأول أعرف وأكثر.
وتقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض، فله ثلاثة اوجه في النصب: إن شئت جعلت فوق في موضع الحال، كأنه قال: علمت متاعك وهو بعضه على بعض أي في هذه الحال، كما جعلت ذلك في رأيت في رؤية العين. وإن شئت نصبته على ما نصبت عليه رأيته زيداً وجهه أحسن من وجه فلان، " تريد رؤية القلب " .
وإن شئت نصبته على أنك إذا قلت: جعلت متاعك يدخله معنى ألقيت، فيصير كأنك قلت: ألقيت متاعك بعضه فوق بعض؛ لأن ألقيت كقولك: أسقطت متاعك بعضه على بعض، وهو مفعول من قولك: سقط متاعك بعضه على بعض، فجرى كما جرى صككت الحجرين أحدهما بالآخر. فقولك " بالآخر " ليس في موضع اسم هو الأول، ولكنه في موضع الاسم الآخر في قولك: صك الحجران أحدهما الآخر، ولكنك أوصلت الفعل بالباء، كما أن مررت بزيد الاسم منه في موضع اسم منصوب.
ومثل هذا: طرحت المتاع بعضه على بعض، لأن معناه أسقطت فأجري مجراه وإن لم يكن من لفظه فاعل. وتصديق ذلك قوله عز وجل: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض " .

والوجه الثالث: أن تجعله مثل: ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض. والرفع فيه أيضاً عربي كثير. تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض، فوجه الرفع فيه على ما كان في رأيت.
وتقول: أبكيت قومك بعضهم على بعض، وحزنت قومك بعضهم على بعض، فأجريت هذا على حد الفاعل إذا قلت: بكى قومك بعضهم على بعض، " وحزن قومك بعضهم على بعض " ، فالوجه هنا النصب؛ لأنك إذا قلت: أحزنت قومك بعضهم على بعض، وأبكيت قومك بعضهم على بعض، لم ترد أن تقول: بعضهم على بعض في عون، ولا أن أجسادهم بعضها على بعض، فيكون الرفع الوجه؛ ولكنك أجريته على قولك: بكى قومك بعضها بعضاً، فإنما أوصلت الفعل إلى الاسم بحرف جر، والكلام في موضع اسم منصوب، كما تقول: مررت على زيد ومعناه مررت زيداً.
فإن قيل: حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض، " وأبكيت قومك بعضهم أكرم من بعض " ، كان الرفعة الوجه؛ لأن الآخر هو الأول ولم تجعله في موضع مفعول هو غير الأول. وإن شئت نصبته على قولك: حزنت قومك بعضهم قائماً وبعضهم قاعداً على الحال، لأنك قد تقول: رأيت قومك أكثرهم وحزنت قومك بعضهم، فإذا جاز هذا أتبعته ما يكون حالاً. وإن كان مما يتعدى إلى مفعولين أنفذته إليه، لأنه كأنه لم تذكر قبله شيئاً كأنه رأيت قومك، وحزنت قومك. إلا أن أعربه وأكثره إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ. وإن أجريته على النصب فهو عربي جيد.
هذا باب من الفعل
يبدل فيه الآخر من الأول ويجرى على الاسم
كما يجرى أجمعون على الاسم، وينصب بالفعل لأنه مفعولفالبدل أن تقول: ضرب عبد الله ظهره وبطنه، وضرب زيد الظهر والبطن، وقلب عمرو ظهره وبطنه، ومطرنا سهلنا وجبلنا، ومطرنا السهل والجبل. ون شئت كان على الاسم بمنزلة أجمعين توكيدا.
وإن شئت نصبت، تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل، وقلب زيد ظهره وبطنه. فالمعنى أنهم مطروا في السهل والجبل، وقلب على الظهر والبطن. ولكنهم أجازوا هذا، كما أجازوا " قولهم " : دخلت البيت، وإنما معناه دخلت في البيت. والعامل فيه الفعل، وليس المنتصب ههنا بمنزلة الظرف؛ لأنك لو قلت: " قلب " هو ظهره وبطنه وأنت تعني على ظهره لم يجز.
ولم يجيزوه في غير السهل والجبل، والظهر والبطن، كما لم يجز دخلت عبد الله، فجاز هذا في هذا وحده، كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن، في مثل: دخلت البيت. واختصت بهذا، كما أن لدن مع غدوة لها حال ليست في غيرها من الأسماء، وكما أن عسى لها في قولهم: " عسى الغوير أبؤساً " حال لا تكون في سائر الأشياء.
ونظير هذا أيضاً في أنهم حذفوا حرف الجر ليس إلا، قولهم: نبئت زيداً قال ذاك، إنما يريد عن زيد، إلا أن معنى الأول معنى الأماكن.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم يقولون: مطرنا الزرع والضرع.
وإن شئت رفعت على البدل وعلى أن تصيره بمنزلة أجمعين تأكيداً.
فإن قلت: ضرب زيد اليد والرجل، جاز " على " أن يكون بدلا، وأن يكون توكيدا. وإن نصبته لم يحسن؛ لأن الفعل إنما أنفذ في هذه الأسماء خاصة إلى المنصوب إذا حذفت منه حرف الجر، إلا أن تسمع العرب تقول في غيره، وقد سمعناهم يقولون: مطرتهم ظهراً وبطناً.
وتقول: مطر قومك الليل والنهار، على الظرف وعلى الوجه الآخر. وإن شئت رفعته على سعة الكلام، كما قال: صيد عليه الليل والنهار، وهو نهاره صائم وليله قائم، وكما قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
فكأنه في كل هذا جعل الليل بعض الاسم. وقال آخر:
أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في قعر منحوت من الساج
فكأنه جعل النهار في قيد والليل في بطن منحوت، أو جعله الاسم أو بعضه.
وإن شئت قلت: ضرب عبد الله ظهره، ومطر قومك سهلهم، على قولك: رأيت القوم أكثرهم، ورأيت عمراً شخصه، كما قال:
فكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد
"
يريد: كأن حاجبيه، فأبدل حاجبيه من الهاء التي في كأنه، وما زائدة " .
وقال الجعدي:
ملك الخورنق والسدير وداته ... ما بين حمير أهلها وأوال
"
يريد: ما بين أهل حمير، فأبدل الأهل من حمير " .
ومثل ذلك قولهم: صرفت وجوهها أولها. و " مثله " : ما لي بهم علم أمرهم.
وأما قول جرير:

مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلاً وصدورا
فإنما هو على قوله: ذهب قدماً، وذهب أخراً.
وقال عمرو بن عمار النهدي:
طويل متل العنق أشرف كاهلاً ... أشق رحيب الجوف معتدل الجرم
كأنه قال: ذهب صعداً، فإنما خبر أن الذهاب كان على هذه الحال.
ومثله: " قول رجل من عمان " :
إذا أكلت سمكاً وفرضاً ... ذهبت طولاً وذهبت عرضا
فإنما شبه هذا الضرب من المصادر.
وليس هذا مثل قول عامر بن الطفيل:
فلأبغينكم قناً وعوارضاً ... ولأقبلن الخيل لابة ضرغد
لأن قناً وعوارض مكانان، وإنما يريد: بقناً وعوارض، ولكن الشاعر شبهه بدخلت البيت، وقلب زيد الظهر والبطن.
هذا باب من
اسم الفاعل " الذي " جرى مجرى الفعل المضارعفي المفعول في المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في يفعل كان نكرة منوناً وذلك قولك: هذا ضارب زيداً غداً. فمعنا وعمله مثل هذا يضرب زيداً " غداً " . فإذا حدثت عن فعل في حين وقوعه غير منقطع كان كذلك. وتقول: هذا ضارب عبد الله الساعة، فمعناه وعمله مثل " هذا " يضرب زيداً الساعة. وكان " زيد " ضارباً أباك، فإنما تحدث أيضاً عن اتصال فعل في حال وقوعه. وكان موافقاً زيداً، فمعناه وعمله كقولك: كان يضرب أباك، ويوافق زيداً. فهذا جرى مجرى الفعل المضارع في العمل والمعنى منوناً.
ومما جاء في الشعر: منوناً " من هذا الباب قوله " :
إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي
وقال " عمر " بن أبي ربيعة:
ومن مالي عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا
وقال الأخوص الرياحي:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعباً إلا ببين غرابها
واعلم أن العرب يستخفون فيحذفون التنوين والنون، ولا يتغير من المعنى، ولا يجعله معرفة. فمن ذلك " قوله عز وجل " : " كل نفس ذائقة الموت " و " إنا مرسلو الناقة " و " لو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم " و " غير محلى الصيد " . فالمعنى معنى " ولا آمين البيت الحرام " .
"
و " يزيد هذا عندك بياناً قوله تعالى جده: " هدياً بالغ الكعبة " و " عارض ممطرنا " . فلو لم يكن هذا في معنى النكرة والتنوين لم توصف به النكرة.
وستراه مفصلاً أيضاً في بابه، مع غير هذا من الحجج إن شاء الله.
وقال الخليل: هو كائن أخيك، على الاستخفاف، والمعنى: هو كائن أخاك.
ومما جاء في الشعر غير منون قول الفرزدق:
أتاني على القعساء عادل وطبه ... برجلي لئيم واست عبد تعادله
يريد: عادلاً وطبه. وقال الزبرقان بن بدر:
مستحقبي حلق الماذي يحفزه ... بالمشرفي وغاب فوقه حصد
وقال السليك بن السلكة:
تراها من يبيس الماء شهباً ... مخالظ درة منها غرار
"
يريد: عرف الخيل " .
ومما يزيد هذا الباب إيضاحاً " أنه " على معنى المنون قول النابغة:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
"
فوصف به النكرة " . وقال المرار الأسدي:
سل الهموم بكل معطي رأسه ... ناج مخالط صهبة متعيس
فهو على المعنى لا على الأصل، والأصل التنوين؛ لأن هذا الموضع لا يقع فيه معرفة. ولو كان الأصل ههنا ترك التنوين لما دخله التنوين ولا كان ذلك نكرة، وذلك أنه لا يجري مجرى المضارع فيما ذكرت لك.
وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت، " لأبي الأسود الدؤلي " :
فألفيته غير مستعب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
لم يحذف التنوين استخفافاً ليعاقب المجرور، ولكنه حذفه لالتقاء الساكنين، " كما قال: رمى القوم " . وهذا اضطرار، وهو مشبه بذلك الذي ذكرت " لك " .
وتقول في هذا الباب: هذا ضارب زيد وعمرو، إذا أشركت بين الآخر والأول في الجار؛ لأنه ليس في العربية شيء يعمل في حرف فيمتنع أن يشرك بينه وبين مثله. وإن شئت نصبت على المعنى وتضمر له ناصباً، فتقول: هذا ضارب زيد وعمراً، كأنه قال: ويضرب عمراً، أو وضارب عمراً.
ومما جاء على المعنى قول جرير:
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيار

وقال كعب بن جعيل " التغلبي " :
أعني بخوار العنان تخاله ... إذا راح يردى بالمدجج أحردا
وأبيض مصقول السطام مهنداً ... وذا حلق من نسج داود مسردا
فحمله على المعنى، كأنه قال: وأعطني أبيض مصقول السطام، وقال: هات مثل أسرة منظور " بن سيار " .
والنصب في الأول أقوى وأحسن، لأنك أدخلت الجر على الحرف الناصب ولم تجيء ههنا إلا بما أصله الجر ولم تدخله على ناصب ولا رافع. وهو على ذلك عربي جيد. والجر أجود. وقال " رجل من قيس عيلان " :
بينا نحن نطلبه أتانا ... معلق وفضة وزناد راع
وزعم عيسى أنهم ينشدون هذا البيت:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق
فإذا أخبر أن الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوين البتة، لأنه إنما أجري مجرى الفعل المضارع له، كما أشبهه الفعل المضارع في الإعراب، فكل واحد منهما داخل على صاحبه، فلما أراد سوى ذلك المعنى جرى مجرى الأسماء التي من غير ذلك الفعل، لأنه إنما شبه بما ضارعه من الفعل كما شبه به في الإعراب. وذلك قولك: هذا ضارب عبد الله وأخيه. وجه الكلام وحده الجر، لأنه ليس موضعاً للتنوين. وكذلك قولك: هذا ضارب زيد فيها وأخيه، وهذا قاتل عمرو أمس وعبد الله، وهذا ضارب عبد الله ضرباً شديداً وعمرو.
ولو قلت: هذا ضارب عبد الله وزيداً، جاز على إضمار فعل، أي وضرب زيداً. وإنما جاز هذا الإضمار لأن معنى الحديث في قولك هذا ضارب زيد: هذا ضرب زيداً، وإن كان لا يعمل عمله، فحمل على المعنى، كما قال جل ثناؤه: " ولحم طير مما يشتهون. وحور عين " لما كان المعنى في الحديث على قوله: لهم فيها، حمله على شيء لا ينقض الأول في المعنى. وقد قرأه الحسن. ومثله قول الشاعر:
يهدي الخميس نجاداً في مطالعها ... إما المصاع وإما ضربة رغب
حمله على شيء لو كان عليه الأول لم ينقض المعنى.
ومثله قول كعب بن زهير:
فلم يجد إلا مناخ مطية ... تجافى بها زور نبيل وكلكل
ومفحصها عنها الحصى بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهن مفصل
ومسر ظماء واترتهن بعدما ... مضت هجعة من آخر الليل ذبل
كأنه قال: وثم سمر " ظماء " . وقال:
بادت وغير آيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله ... فبدا وغير ساره المعزاء
لأن قوله " إلا رواكد " هي في معنى الحديث: بها رواكد، فحمله على شيء لو كان عليه الأول لن ينقض الحديث. والجر في هذا أقوى، يعني هذا ضارب زيد وعمرو وعمراً بالنصب. وقد فعل لأنه اسم وإن كان قد جرى مجرى الفعل بعينه. والنصب في الفصل أقوى، إذا قلت: هذا ضارب زيد فيها وعمراً، وكلما طال الكلام كان أقوى؛ وذلك أنك لا تفصل بين الجار وبين ما يعمل فيه، فكذلك صار هذا أقوى.
فمن ذلك قوله جل ثناؤه: " وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً " .
وكذلك إن جئت باسم الفاعل الذي تعدى فعله إلى مفعولين وذلك قولك: هذا معطى زيد درهما وعمرو، إذا لم تجره على الدرهم، والنصب على ما نصبت عليه ما قبله. وتقول: هذا معطى زيد وعبد الله. والنصب إذا ذكرت الدرهم أقوى، لأنك " قد " فصلت بينهما.
وإن لم ترد بالاسم الذي يتعدى فعله إلى مفعولين أن يكون الفعل قد وقع أجريته مجرى الفعل الذي يتعدى إلى مفعول في التنوين وترك التنوين وأنت تريد معناه، و " في " النصب والجر وجميع أحواله، فإذا نونت فقلت: هذا معط زيداً درهماً لا تبالي أيهما قدمت، لأنه يعمل عمل الفعل. وإن لم تنون لم يجز هذا معطي درهماً زيد، لأنك لا تفصل بين الجار والمجرور، لأنه داخل في الاسم فإذا نونت انفصل كانفصاله في الفعل. فلا يجوز إلا " في قوله " هذا معطى زيداً، كما قال تعالى جده: " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " .
باب جرى مجرى الفاعل الذي يتعداه فعله
إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنىوذلك قولك:
يا سارق الليل أهل الدار

"
و " تقول على هذا الحد: سرقت الليل أهل الدار، فتجري الليلة على الفعل في سعة الكلام، كما قال: صيد عليه يومان، وولد له ستون عاماً. فاللفظ يجري على قوله: هذا معطى زيد درهماً، والمعنى إنما هو في الليلة، وصيد عليه في اليومين، غير أنهم أوقعوا الفعل عليه لسعة الكلام.
وكذلك لو قلت: هذا مخرج اليوم الدرهم وصائد اليوم الوحش.
ومثل ما أجري مجرى هذا في سعة الكلام والاستخفاف قوله عز وجل: " بل مكر الليل والنهار " . فالليل والنهار لا يمكران، ولكن المكر فيهما.
فإن نونت فقلت: يا سارقاً الليلة أهل الدار، كان حد الكلام أن يكون أهل الدار على سارق منصوباً، ويكون الليلة ظرفاً، لأن هذا موضع انفصال. وإن شئت أجريته على الفعل على سعة الكلام.
ولا يجوز: يا سارق الليلة أهل الدار إلا في شعر، كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور. فإذا كان منوناً فهو بمنزلة الفعل الناصب، تكون الأسماء فيه منفصلة. قال الشاعر، وهو الشماخ:
رب ابن عم لسليمى مشمعل ... طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
"
هذا على: يا سارق الليلة أهل الدار " . وقال الأخطل:
وكرار خلف المحجرين وجواده ... إذا لم يحام دون أنثى حليلها
فإن قلت: كرار وطباخ، صار بمنزلة طبخت وكررت، تجريها مجرى السارق حين نونت، على سعة الكلام.
وقال " رجل من بني عامر " :
ويوم شهدناه سليماً وعامراً ... قليل سوى الطعن النهال نوافله
"
وكما قال: ثماني حجج حججتهن بيت الله " .
ومما جاء في الشعر قد فصل بينه وبين المجرور قول عمرو بن قميئة.
لما رأت ساتسدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
وقال أبو حية النميري:
كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يزيل
وهذا لا يكون فيه إلا هذا، لأنه ليس في معنى فعل ولا اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل.
ومما جاء مفصولاً بينه وبين المجرور قول الأعشى:
ولا نقاتل بالعص ... ي ولا نرامي بالحجاره
إلا علالة أو بدا ... هة قارح نهد الجزاره
وقال ذو الرمة:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
فهذا قبيح.
ويجوز في الشعر على هذا: مررت بخير وأفضل من ثم.
وقالت درنا بنت عبعبة، من بني قيس بن ثعلبة:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما
وقال الفرزدق:
يا من رأى عارضاً أسر به ... بين ذراعي وجبهة الأسد
وأما قوله عز وجل: " فبما نقضهم ميثاقهم " فإنما جاء لأنه ليس ل " ما " معنى سوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد، فمن ثم جاء ذلك، إذ لم ترد به أكثر من هذا، وكانا حرفين أحدهما في الآخر عامل. ولو كان اسماً أو ظرفاً أو فعلاً لم يجز.
وأما قوله: أدخل فوه الحجر، فهذا جرى على سعة الكلام " والجيد أدخل فاه الحجر " ، وكما قال: أدخلت في رأسي القلنسوة " والجيد أدخلت في القلنسوة رأسي " . وليس مثل اليوم والليلة لأنهما ظرفان، فهو مخالف له في هذا، موافق " له " في السعة. قال الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع
فوجه الكلام فيه هذا، كراهية الانفصال.
وإذا لم يكن في الجر فحد الكلام أن يكون الناصب مبدوءاً به.
هذا باب صار الفاعل فيه بمنزلة
الذي فعل في المعنى، وما يعمل فيهوذلك قولك: هذا الضارب زيداً، فصار في معنى " هذا " الذي ضرب زيداً، وعمل عمله، لأن الألف واللام منعتا الإضافة وصارتا بمنزلة التنوين. وكذلك: هذا الضارب الرجل، وهو وجه الكلام.
وقد قال قوم من العرب ترضى عربيتهم: هذا الضارب الرجل، شبهوه بالحسن الوجه، وإن كان ليس مثله في المعنى ولا في أحواله إلا أنه اسم، وقد يجر كما يجر وينصب أيضاً كما ينصب، وسيبين ذلك في بابه " إن شاء الله " .
وقد يشبهون الشيء بالشيء وليس مثله في جميع أحواله، وسترى ذلك في كلامهم كثيراً. وقال المرار الأسدي:
أنا ابن التارك البكري بشر ... عليه الطير ترقبه وقوعا
سمعناه ممن يرويه عن العبر، وأجرى بشراً على مجرى المجرور، لأنه جعله بمنزلة ما يكف منه التنوين.

ومثل ذلك في الإجراء على ما قبله: هو الضارب زيداً والرجل، لا يكون فيه إلا النصب، لأنه عمل فيهما عمل المنون، ولا يكون: هو الضارب عمرو كما لا يكون: هو الحسن وجه. ومن قال: هذا الضارب الرجل، قال: هو الضارب الرجل وعبد الله.
ومن ذلك إنشاد بعض العرب قول الأعشى:
الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذاً تزجى بينها أطفالها
وإذا ثنيت أو جمعت فأثبت النون قلت: هذان الضاربان زيداً وهؤلاء الضاربون الرجل، لا يكون فيه غير هذا، لأن النون ثابتة.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " . وقال ابن مقبل:
يا عين بكي حنيفاً رأس حيهم ... الكاسرين القنا في عورة الدبر
فإن كففت النون جررت وصار الاسم داخلاً في الجار، " و " بدلاً من النون، لأن النون لا تعاقب الألف واللام ولم تدخل على الاسم بعد أن ثبتت فيه الألف واللام؛ لأنه لا يكون واحداً معروفاً ثم يثنى؛ فالتنوين قبل الألف واللام، لأن المعرفة بعد النكرة، فالنون مكفوفة والمعنى معنى ثبات النون، كما كان ذلك في الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع، وذلك قولك: هما الضارب زيد، والضاربو عمرو.
وقال الفرزدق:
أسيد ذو خريطة نهاراً ... من المتلقطي قرد القمام
وقال رجل من بني ضبة:
الفراجي باب الأمير المبهم
وقال رجل من الأنصار:
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا نطف
لم يحذف النون للإضافة، ولا ليعاقب الاسم النون، ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين حيث طال الكلام وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر. وقال الأخطل:
أبني كليب إن عمي اللذا ... سلبا الملوك وفككا الأغلالا
لأن معناه " معنى " الذين فعلوا وهو مع المفعول بمنزلة اسم مفرد لم يعمل في شيء، كما أن الذين فعلوا مع صلته بمنزلة اسم.
وقال أشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القول كل القوم يا أم خالد
وإذا قلت: هم الضاربوك وهما الضارباك، فالوجه فيه الجر، لأنك إذا كففت النون من هذه الأسماء في المظر كان الوجه الجر، إلا في قول من قال: " الحافظو عورة العشيرة " .
ولا يكون في قولهم: هم ضاربوك، أن تكون الكف في موضع النصب، لأنك لو كففت النون في الإظهار لم يكن إلا جراً، ولا يجوز في الإظهار: هم ضاربوا زيداً، لأنها ليست في معنى الذي، " لأنها " ليست فيها الألف واللام كما كانت في الذي.
واعلم أن حذف النون والتنوين لازم مع علامة المضمر غير المنفصل، لأنه لا يتكلم به مفرداً حتى يكون متصلاً بفعل قبله أو باسم فيه ضمير، فصار كأنه النون والتنوين في الاسم، لأنهما لا يكونان إلا زوائد ولا يكونان إلا في أواخر الحروف. والمظهر وإن كان يعاقب النون والتنوين فإنه ليس كعلامة المضمر المتصل؛ لأنه اسم ينفصل ويبتدأ، وليس كعلامة الإضمار لأنها في اللفظ كالنون والتنوين، فهي أقرب إليها من المظهر، اجتمع فيها هذا والمعاقبة.
وقد جاء في الشعر، وزعموا أنه مصنوع:
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما
وقال:
ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه
باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع
في عمله ومعناهوذلك قولك: عجبت من ضرب زيدا، " فمعناه أنه يضرب زيداً. وتقول: عجبت من ضرب زيداً " بكر، ومن ضرب زيد عمراً، إذا كان هو الفاعل، كأنه قال: عجبت من أنه يضرب زيد عمراً، ويضرب عمراً زيد.
وإنما خالف هذا الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع في أن فيه فاعلاً ومفعولاً، لأنك إذا قلت: هذا ضارب فقد جئت بالفاعل وذكرته، وإذا قلت: عجبت من ضرب فإنك لم تذكر الفاعل، فالمصدر ليس بالفاعل وإن كان فيه دليل على الفاعل، " فلذلك احتجت فيه إلى فاعل ومفعول ولم تحتج حين قلت: هذا ضارب زيداً إلى فاعل ظاهر، لأن المضمر في ضارب هو الفاعل " .
فمما جاء من هذا قوله عز وجل: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة " . وقال:
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد
وقال:
أخذت بسجلهم فنفحت فيه ... محافطة لهن إخا الذمام
وقال:

يضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل
وإن شئت حذفت التنوين كما حذفت في الفاعل، وكان المعنى على حاله، إلا أنك تجر الذي يلي المصدر، فاعلاً كان أو مفعولاً، لأنه اسم قد كففت عنه التنوين، كما فعلت ذلك بفاعل، ويصير المجرور بدلاً من التنوين معاقباً له. وذلك قولك: عجبت من ضربه زيداً، إن كان فاعلاً؛ ومن ضربه زيد، إن كان المضمر مفعولا.
وتقول: عجبت من كسوة زيد أبوه، وعجبت من كسوة زيد أباه، إذا حذفت التنوين.
ومما جاء لا ينون قول لبيد:
عهدي بها الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام
ومنه قولهم: " سمع أذني زيداً يقول ذاك " . قال رؤبة:
ورأي عيني الفتى أخاكا ... يعطي الجزيل فعليك ذاكا
وتقول: عجبت من ضرب زيد وعمرو، إذا أشركت بينهما كما فعلت ذلك في الفاعل. ومن قال هذا ضارب زيد وعمراً قال: عجبت له من ضرب زيد وعمراً، كأنه أضمر: ويضرب عمراً، " أو وضرب عمراً " . قال رؤبة:
قد كنت داينت بها حساناً ... مخافة الإفلاس والليانا
يحسن بيع الأصل والقيانا
وتقول: عجبت من الضرب زيداً، كما قلت: عجبت من الضارب زيداً، يكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وقال الشاعر:
ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل
وقال المرار " الأسدي " :
لقد علمت أولى المغيرة أنني ... لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
ومن قال: هذا الضارب الرجل لم يقل: عجبت له من الضرب الرجل؛ لأن الضارب الرجل مشبه بالحسن الوجه، لأنه وصف للاسم كما أن الحسن وصف، وليس هو بحد الكلام مع ذلك.
وقد ينبغي في قياس من قال: الضارب الرجل أن يقول: الضارب أخي الرجل، كما يقول: الحسن الأخ والحسن وجه الأخ. وكان الخليل يراه.
وإن شئت قلت: هذا ضرب عبد الله، كما تقول: هذا ضارب عبد الله، فيما انقطع من الأفعال.
وتقول: عجبت من ضرب اليوم زيداً، كما قال:
يا سارق الليل أهل الدار
وليس مثل:
لله در اليوم من لامها
لأنهم لم يجعلوه فعلاً أو فعل شيئاً في اليوم، إنما هو بمنزلة: لله بلادك.
ويجوز: عجبت له من ضرب أخيه، يكون المصدر مضافاً فعل أو لم يفعل، ويكون منوناً وليس بمنزلة ضارب.
باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيهولم تقوم أن تعمل عمل الفاعل لأنها ليست في معنى الفعل المضارع، فإنما شبهت بالفاعل فيما عملت فيه. وما تعمل فيه معلوم، إنما تعمل فيما كان من سببها معرفاً بالألف واللام أو نكرة، لا تجاوز هذا؛ لأنه ليس بفعل ولا اسم هو في معناه.
والإضافة فيه أحسن وأكثر، لأنه ليس كما جرى مجرى الفعل ولا في معناه، فكان أحسن عندهم أن يتباعد منه في اللفظ، كما أنه ليس مثله في المعنى وفي قوته في الأشياء. والتنوين عربي جيد. ومع هذا إنهم لو تركوا التنوين أو النون لم يكن أبداً إلا نكرة على حاله منوناً. فلما كان ترك التنوين فيه والنون لا يجاوز به معنى النون والتنوين، كان تركهما أخف عليهم، فهذا يقوي " أن " الإضافة " أحسن " ، مع التفسير الأول.
فالمضاف قولك: هذا حسن الوجه، وهذه حسنة الوجه. فالصفة تقع على الاسم الأول ثم توصلها إلى الوجه وإلى كل شيء من سببه على ما ذكرت لك، كما تقول: هذا ضارب الرجل، وهذه ضاربة الرجل؛ إلا أن الحسن في المعنى للوجه والضرب ههنا للأول.
ومن ذلك قولهم: هو أحمر بين العينين، وهو جيد وجه الدار.
ومما جاء منوناً قول زهير:
أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم تنصب له الشبك
وقال العجاج:
محتبك ضخم شئون الرأس
وقال أيضاً النابغة:
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
وهو في الشعر كثير.
واعلم أن كينونة الألف واللام في الاسم الآخر أكثر وأحسن من أن لا تكون فيه الألف واللام، لأن الأول في الألف واللام وفي غيرهما ههنا على حالة واحدة، وليس كالفاعل، فكان إدخالهما أحسن وأكثر، كما كان ترك التنوين أكثر، وكان الألف واللام أولى لأن معناه حسن وجهه. فكما لا يكون هذا إلا معرفة اختاروا في ذلك المعرفة. والأخرى عربية، كما أن التنوين " والنون " عربي مطرد.
فمن ذلك قوله: " " هو " حديث عهد بالوجع " . وقال عمرو بن شأس:

ألكنى إلى قومي السلام رسالة ... بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً
ولا سيئي زي إذا ما تلبسوا ... إلى حاجة يوماً مخيسة بزلا
وقال حميد الأرقط:
لاحق بطن بقراً سمين
ومما جاء منوناً قول أبي زبيد " يصف الأسد " :
كأن أثواب نقاد قدرن له ... يعلو بخملتها كهباء هدابا
وقال أيضاً:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... محطوطة جدلت، شنباء أنيابا
وقال عيد بن زيد:
من حبيب أو أخي ثقة ... أو عدو شاحط دارا
وقد جاء في الشعر حسنة وجهها، شبهوه بحسنة الوجه، وذلك رديء " لأنه بالهاء معرفة كما كان بالألف واللام، وهو من سبب الأول كما أنه من سببه بالألف واللام " . قال الشماخ:
أمن دمنتين عرس الركب فيهما ... بحقل الرخامى قد عفا طللاهما
أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
واعلم أنه ليس في العربية مضاف يدخل عليه الألف واللام غير المضاف إلى المعرفة في هذا الباب، وذلك قولك: هذا الحسن الوجه، أدخلوا الألف واللام على حسن الوجه، لأنه مضاف إلى معرفة لا يكون بها معرفة أبداً، فاحتاج إلى ذلك حيث منع ما يكون في مثله البتة، ولا يجاوز به معنى التنوين. فأما النكرة فلا يكون فيها إلا الحسن وجهاً، تكون الألف واللام بدلاً من التنوين، لأنك لو قلت: حديث عهد، أو كريم أب، لم تخلل بالأول في شيء فتحتمل له الألف واللام، لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه. قال رؤبة:
الحزن باباً والعقور كلباً
وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوماً من العرب ينشدون هذا البيت للحارث ابن ظالم:
فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعرى رقاباً
فإنما أدخلت الألف واللام في الحسن ثم أعملته، كما قال: الضارب زيداً.
وعلى هذا الوجه تقول: هو الحسن الوجه، وهي عربية جيدة. قال الشاعر:
فما قولي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقد يجوز في هذا أن تقول: هو الحسن الوجه، على " قوله " : هو الضارب الرجل. فالجر في هذا الباب من وجهين: " من الباب الذي هو له وهو الإضافة، ومن إعمال الفعل ثم يستخف فيضاف " .
فإذا ثنيت أو جمعت فأثبت النون فليس إلا النصب، وذلك قولهم: هم الطيبون الأخبار، وهما الحسنان الوجه. ومن ذلك قوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً " .
وقالت خرنق، " من بني قيس " :
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
فإن كففت النون جررت، كان المعمول فيه نكرة أو فيه ألف ولام، كما قلت: هؤلاء الضاربو زيد، وذلك قولهم: هم الطيبو أخبار. وإن شئت نصبت على قوله: الحافظو عورة العشيرة وتقول فيما لا يقع إلا منوناً عملاً في نكرة " وإنما وقع منوناً " لأنه فصل فيه بين العامل والمعمول فالفصل لازم له أبداً مظهراً أو مضمراً، وذلك قولك: هو خير منك أباً، و " هو " أحسن منك وجهاً. ولا يكون المعمول فيه إلا من سببه. وإن شئت قلت: هو خير عملاً وأنت تنوي " منك " . وإن شئت أخرت الفصل في اللفظ وأصله التقديم، لأنه لا يمنعه تأخيره عمله مقدماً، كما قال: ضرب زيد عمرو، فعمرو مؤخر في اللفظ مبدوء به في المعنى،وهذا مبدوء به في أنه يثبت التنوين ثم يعمل. ولا يعمل إلا في نكرة، كما أنه لا يكون إلا نكرة، ولا يقوى قوة الصفة المشبهة، فألزم فيه وفيما يعمل فيه وجهاً واحداً. ويعمل في الجمع كقولهم: هو خير منك أعمالاً. فإن أضفت فقلت: " هذا " أول رجل، اجتمع فيه لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد " وهو يريد الجمع " ؛ وذلك لأنه أراد أن يقول: أول الرجال، فحذف استخفافاً واختصاراً، كما قالوا: كل رجل، يريدون كل الرجال. فكما استخفوا بحذف الألف واللام استخفوا بترك بناء الجميع واستغنوا عن الألف واللام، وعن قولهم: خير الرجال وأول الرجال.
ومثل ذلك في ترك الألف واللام وبناء الجميع، قولهم: عشرون درهماً، إنما أرادوا عشرين من الدراهم، فاختصروا واستخفوا. ولم يكن دخول الألف واللام يغير العشرين عن نكرته، فاستخفوا بتركما لم يحتج إليه.

ولم تقو هذه الأحرف قوة الصفة المشبهة. ألا ترى أنك تؤنثها وتذكرها وتجمعها كالفاعل، تقول: مررت برجل حسن الوجه أبوه، " كما تقول: مررت برجل حسن أبوه، وهو " مثل قولك: مررت برجل ضارب أبوه. فإن جئت بخير منك، أو عشرين، رفعت، لأنها ملحقة بالأسماء " لا تعمل عمل الفعل " ، فلم تقو قوة المشبهة، كما لم تقو المشبهة قوة ما جرى مجرى الفعل.
وتقول: هو خير رجل في الناس وأفره عبد في الناس؛ لأن الفارة هو العبد، ولم تلق أفره ولا خيراً على غيره ثم تختص شيئاً،فالمعنى مختلف. وليس هنا فصل ولم يلزم إلا ترك التنوين، كما أن عشرين وخيراً منك لم يلزم فيه إلا التنوين. ولم يدخلوا الألف واللام، كما لم يدخلوه في الأول، وتفسيره تفسير الأول. وإنما أرادوا: أفره العبيد وخير الأعمال.
وإنما أثبتوا الألف واللام في قولهم: أفضل الناس، لأن الأول قد يصير به معرفة، فأثبتوا الألف واللام وبناء الجميع ولم ينون، وفرقوا بترك النون والتنوين بين معنيين.
وقد جاء من الفعل ما قد أنفذ إلى مفعول ولم يقو قوة غيره مما قد تعدى إلى مفعول، وذلك قولك: امتلأت ماء وتفقأت شحماً، ولا تقول: امتلأته ولا تفقأته. ولا يعمل في غيره من المعارف، ولا يقدم المفعول فيه فتقول: ماء امتلأت، كما لا يقدم المفعول فيه في الصفة المشبهة، ولا في هذه الأسماء، لأنها ليست كالفاعل. وذلك لأنه فعل لا يتعدى إلى مفعول، وإنما هو بمنزلة الانفعال، لا يتعدى إلى مفعول، نحو كسرته فانكسر، ودفعته فاندفع. فهذا النحو إنما يكون في نفسه ولا يقع على شيء، فصار امتلأت من هذا الضرب، كأنك قلت: ملأني فامتلأت. ومثله: دحرجته فتدحرج. وإنما أصله امتلأت من الماء، وتفقأت من الشحم، فحذف هذا استخفافاً، وكان الفعل أجدر أن يتعدى إن كان هذا ينفذ، وهو - في أنهم ضعفوه - مثله.
وتقول: هو أشجع الناس رجلاً، وهما خير الناس اثنين. فالمجرور هنا بمنزلة التنوين، وانتصب الرجل والاثنان، كما انتصب الوجه في قولك: هو أحسن منه وجهاً. ولا يكون إلا نكرة. والرجل هو الاسم المبتدأ والاثنان كذلك. إنما معناه هو خير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس. وأن شئت لم تجعله الأول. فتقول: هو أكثر الناس مالاً.
ومما أجرى هذا المجرى أسماء العدد: تقول فيما كان لأدنى العدة بالإضافة إلى ما يبنى لجمع أدنى العدد، إلى أدنى العقود، وتدخل في المضاف إليه الألف واللام، لأنه يكون الأول به معرفة. وذلك قولك: ثلاثة أبواب وأربعة أنفس وأربعة أثواب. وكذلك تقول: فيما بينك وبين العشرة؛ وإذا أدخلت الألف واللام قلت: خمسة الأثواب، وستة الجمال. فلا يكون هذا أبداً إلا غير منون يلزمه أمر واحد، لما ذكرت لك. فإذا زدت على العشرة شيئاً من أسماء أدنى العدد فإنه يجعل مع الأول اسماً واحداً استخفافاً، ويكون في موضع " اسم " منون. وذلك قولك: أحد عشر درهماً، واثنا عشر درهماً، وإحدى عشر جارية. فعلى هذا يجرى من الواحد إلى التسعة. فإذا ضاعفت أدنى العقود كان له اسم من لفظه ولا يثنى العقد. ويجرى ذلك الاسم مجرى الواحد الذي لحقته الزيادة للجمع كما لحقته الزيادة للتثنية ويكون حرف الإعراب الواو والياء وبعدهما النون؛ وذلك قولك: عشرون درهماً. فإن أردت أن تثلث أدنى العقود كان له اسم من لفظ الثلاثة يجرى مجرى الاسم الذي كان للتثنية، وذلك قولك: ثلاثون عبداً. وكذلك إلى أن تتسعه، وتكون النون لازمة له، كما كان ترك التنوين لازماً للثلاثة إلى العشرة. وإنما فعلوا هذا بهذه الأسماء وألزموها وجهاً واحداً لأنها ليست كالصفة في معنى الفعل، ولا التي شبهت بها، فلم تقوى تلك القوة، ولم يجز حين جاوزت أدنى العقود فيما تبين به من أي صنف العدد إلا أن يكون لفظه واحداً، ولا تكون فيه الألف واللام، لما ذكرت لك.
وكذلك هو إلى التسعين فيما يعمل فيه ويبين به من أي صنف العدد. فإذا بلغت العدد " الذي يليه " تركت التنوين والنون وأضفت، وجعلت الذي يعمل فيه ويبين به العدد من أي صنف هو واحداً، كما فعلت فيما نونت فيه، إلا أنك تدخل فيه الألف واللام، لأن الأول يكون به معرفة ولا يكون المنون به معرفة. وذلك قولك: مائة درهم ومائة الدرهم.وذلك إن ضاعفته قلت: مائتا درهم ومائتا الدينار.
وكذلك العقد الذي بعده، واحداً كان أو مثنى، وذلك قولك: ألف درهم وألفا درهم.

وقد جاء في الشعر بعض هذا منوناً. قال الربيع بن ضبع الفزاري:
عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد أودى المسرة والفناء
وقال:
أنعت عيراً من حمير خنزره ... في كل عير مائتان كمرة
وأما ثلثمائة إلى تسعمائة فكان ينبغي أن تكون في القياس مئين أو مئات، ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر، حيث جعلوا ما يبين به العدد واحداً، لأنه اسم لعدد كما أن عشرين اسم لعدد. وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحداً والمعنى جميع، حتى قال بعضهم في الشعر " من ذلك " مالا يستعمل في الكلام. وقال علقمة بن عبدة:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
وقال:
لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا
فاختص " التثليث " بهذا الباب إلى تسعمائة.
كما أن لدن في غدوة حال ليست في غيرها تنصب بها، كأنه ألحق التنوين في لغة من قال: لد. وذلك قولك: " من " لدن غدوة. وقال بعضهم: لداً غدوة كأنه أسكن الدال ثم فتحها، كما قال: اضرب زيداً، ففتح الباء لما جاء بالنون الخفيفة. والجر في غدوة هو الوجه والقياس. وتكون النون في نفس الحرف بمنزلة نون من وعن؛ فقد يشذ الشيء من كلامهم عن نظائره، ويستخفون الشيء في موضع " و " لا يستخفونه في غيره. وذلك قولهم: ماشعرت به شعرة، وليت شعري. ويقولون: العمر والعمر، لا يقولون في اليمين إلا بالفتح، يقولون كلهم: لعمرك. وسترى أشباه هذا أيضاً في كلامهم إن شاء الله.
ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجميع:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
ومثل ذلك " في الكلام " قوله تبارك وتعالى: " فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً " ، وقررنا به عيناً، وإن شئت قلت: أعيناً وأنفساً، كما قلت: ثلثمائة وثلاث مئين ومئات، ولم يدخلوا الألف واللام، كما لم يدخلوا في امتلأت ماءً.
باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنىلاتساعهم في الكلام، والإيجاز والاختصار فمن ذلك أن تقول على قول السائل: كم صيد عليه؟ وكم غير ظرف لما ذكرت لك من الاتساع والإيجاز، فتقول: صيد عليه يومان. وإنما المعنى صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع واختصر. ولذلك أيضاً وضع السائل كم غير ظرف.
ومن ذلك أن تقول: كم ولد له؟ فيقول: ستون عاماً. فالمعنى ولد له الأولاد ولد له الولد ستين عاماً، ولكنه اتسع وأوجز.
ومن ذلك أن تقول: كم سير عليه؛ وكم غير ظرف، فيقول: يوم الجمعة ويومان. فكم هاهنا بمنزلة قوله: ما صيد عليه، وما ولد له من الدهر والأيام؟ فليس كم ظرفاً كما أن " ما " ليس بظرف.
ومن ذلك أن يقول: كم ضرب به؟ فنقول: ضرب به ضربتان، وضرب به ضرب كثير.
ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى جده: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " إنما يريد: أهل القرية، فاختصر، وعمل الفعل في القرية كم كان عاملاً في الأهل لو كان هاهنا.
ومثله: " بل مكر الليل والنهار " ، وإنما المعنى: بل مكر كم في الليل والنهار. وقال عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله " ، وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.
ومثله في الاتساع " قوله عز وجل " : " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً " ، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى.
ومثل ذلك " من كلامهم " : بنو فلان يطؤهم الطريق، يريد: يطؤهم أهل الطريق. وقالوا: صدنا قنوين، وإنما يريد صدنا بقنوين، أو صدنا وحش قنوين، وإنما قنوان اسم أرض.
ومثله في السعة: أنت أكرم على من أضربك، وأنت أنكد من أن تتركه. إنما يريد: أنت أكرم على من صاحب الضرب، وأنت أنكد من صاحب تركه؛ لأن قولك: أن أضربك وأن تتركه، هو الضرب والترك، لأن أن اسم، وتتركه " وأضربك " من صلته، كما تقول: يسوءني أن أضربك، أي يسوءني ضربك، وليس يريد: أنت أكرم على من الضرب، ولكن أكرم على من صاحب الضرب.
وقال الجعدي:
كأن عذيرهم بجنوب سلى ... نعام قاق في بلد قفار
العذير: الصوت. ومن ذلك قول عامر بن الطفيل:
فلأبغينكم قناً وعوارضاً ... ولأقبلن الخيل لابة ضرغد

إنما يريد: عذير نعام. وقناً وعوارض، يريد بقناً وعوارض، ولكنه حذف وأوصل الفعل.
"
ومن ذلك قول ساعدة:
لدن بهز الكفيعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
يريد: في الطريق " .
ومن ذلك قولهم: أكلت أرض كذا وكذا وأكلت بلدة كذا وكذا، إنما أراد أصاب من خيرها وأكل من ذلك وشرب. وهذا الكلام كثير، منه ما مضى، وهو أكثر من أحصيه. ومنه ما ستراه أيضاً فيما يستقبل إن شاء الله.
ومنه قولهم: " هذه الظهر أو العصر أو المغرب " ، إنما يريد صلاة هذا الوقت. و " اجتمع القيظ " ، يريد: اجتمع الناس في القيظ. وقال الحطيئة:
وشر المنايا ميت بين أهله ... كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره
يريد: منية ميت.
وقال النابغة الجعدي:
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب.
باب وقوع الأسماء ظروفاً
وتصحيح اللفظ على المعنىفمن ذلك قولك: متى يسار عليه؟ وهو يجعله ظرفاً. فيقول: اليوم أو غداً، أو بعد غد أو يوم الجمعة. وتقول: متى سير عليه؟ فيقول: أمس أو أول من أمس، فيكون ظرفاً، على أنه كان السير في ساعة دون سائر ساعات اليوم، أو حين دون سائر أحيان اليوم. ويكون أيضاً على أنه يكون السير في اليوم كله، لأنك قد تقول: سير عليه في اليوم ويسار عليه في يوم الجمعة، والسير كان فيه كله.
وقد تقول: سير عليه اليوم، فترفع وأنت تعني في بعضه، كما تقول في سعة الكلام: الليلة الهلال، وإنما الهلال في بعض الليلة، وإنما أراد الليلة ليلة الهلال، ولكنه اتسع وأوجز. وكذلك أيضاً هذا كله، " كأنه قال: سير عليه سير اليوم.والرفع في جميع هذا عربي كثير في جميع لغات العرب، على ما ذكرت لك من سعة الكلام والإيجاز، يكون على كم غير ظرف وعلى متى غير ظرف " . كأنه قال: أي الأحيان سير عليه أو يسار عليه.
ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلاً في الظرف كله، قولك: سير عليه الليل والنهار، والدهر، والأبد. وهذا جواب لقوله: كم سير عليه؟ إذا جعله ظرفاً، لأنه يريد: في كم سير عليه. فتقول مجيباً له: الليل ولنهار " والدهر " والأبد، علة معنى في الليل والنهار وفي الأبد.
ويدلك على أنه لا يكون أن يجعل العمل فيه في يوم دون الأيام وفي ساعة دون الساعات، أنك لا تقول: لقيته الدهر " والأبد، وأنت تريد يوماً منه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءهفي ساعة دون الساعات، وكذلك النهار، إلا أن تريد سير عليه الدهر أجمع والليل " كله، على التكثير. وإن لم تجعله ظرفاً فهو عربي كثير في كلامهم. وإنما جاء هذا على جواب كم، لأنه جعله على عدة الأيام والليالي، فجرى على جواب ما هو للعدد، كأنه قال: سير عليه عدة الأيام، أو عدة الليالي.
ومن ذلك، " مما يكون متصلاً " ، قولك: سير عليه يومين، " أو ثلاثة أيام، لأنه عدد. ألا ترى أنه لا يجوز أن تجعله ظرفاً وتجعل اللقاء في أحدهما دون الآخر. ولو قلت: سير عليه المؤمنين " ، وأنت تعني أن السير كان في أحدهما، ولم يجز. هذا على أن تجعل كم ظرفاً وغير ظرف.
وأما متى فإنما تريد " بها " أن يوقت لك وقتاً ولا تريد بها عدداً، فإنما الجواب " فيه " : اليوم أو يوم كذا، أو شهر كذا أو سنة كذا، أو الآن، أو حينئذ وأشباه هذا.
ومما أجرى مجرى " الأبد " والدهر والليل والنهار: المحرم وصفر " وجمادى " ، وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة أيام، كأنهم قالوا: سير عليه الثلاثون يوماً. ولو قلت: شهر رمضان أو شهر ذي الحجة لكان بمنزلة يوم الجمعة والبارحة والليلة، ولصار جواب متى. وجميع ما ذكرت لك مما يكون على متى، يكون مجرى على كم ظرفاً وغير ظرف.
وبعض ما يكون في كم لا يكون في متى، نحو الليل " والنهار " والدهر؛ لأن كم " هو " الأول فجعل الآخر تبعاً له. ولا يكون الدهر والليل والنهار إلا على العدة، جواباً لكم.
وتقول: سير عليه الليل، تعني ليل ليلتك، وتجري على الأصل. كما تقول في الدهر: سير عليه الدهر، وإنما تعني بعض الدهر، ولكنه يكثر. كما يقول الرجل: جاءني أهل الدنيا، وعسى أن لا يكون جاءه إلا خمسة، فاستكثرهم.

وكذلك شهرا ربيع، حين ثنيت جاء على العدد عندهم، لا يجوز أن تقول: يضرب شهري ربيع، وأنت تريد في أحدهما، كما لا يجوز لك في اليومين وأشباههما. فليس لك في هذه الأشياء إلا أن تجريها على ما أجروها، ولا يجوز لك أن تريد بالحرف إلا ما أرادوا.
وتقول: ذهبت الشتاء ويضرب الشتاء. وسمعنا العرب الفصحاء يقولون: انطلقت الصيف، أجروه على جواب متى، لأنه أراد أن يقول في ذلك الوقت، ولم يرد العدد وجواب كم.
وقال ابن الرقاع:
فقصرن الشتاء بعد عليه ... وهو للذود أن يقسمن جار
فهذا يكون على متى ويكون على كم، ظرفين وغير ظرفين.
واعلم أن الظروف من الأماكن مثل الظروف من الليالي والأيام، في الاختصار وسعة الكلام.
فمن ذلك أن يقول: كم سير عليه من الأرض؟ فتقول: فرسخان أو ميلان أو بريدان، كما قالت: يومان. وكذلك لو قال: كم صيد عليه من الأرض؟ يجري " على " هذا المجرى. وإن شئت نصبت وجعلت كم ظرفاً، كما فعلت ذلك في اليومين، " فلا يكون ظرفاً وغير ظرف إلا على كم، لأنه عدد كما كان ذلك في اليومين " .
ونظير متى من الأماكن: " أين " . ولا يكون أين إلا للأماكن، كما لا يكون متى إلا للأيام والليالي. فإن قلت: أين سير عليه؟ قال: سير عليه مكان كذا وكذا، وسير عليه المكان الذي تعلم، فهو بمنزلة قوله: يوم كذا وكذا، واليوم الذي تعلم. فأجر " كم " في الأماكن مجراها في الأيام والليالي، وأجر أين في الأماكن مجرى متى في الأيام.
ويقال: أين سير عليه؟ فتقول: خلف دارك وفوق دارك. فإن لم تجعله ظرفاً وجعلته على سعة الكلام رفعته على " أن " كم غير ظرف، وعلى " أن " أين غير ظرف، كما فعلت ذلك في متى.
وتقول سير عليه ليل طويل وسير عليه نهار طويل، وإن لم تذكر الصفة وأردت هذا المعنى رفعت، إلا أن الصفة تبين بها معنى الرفع وتوضحه، وإن شئت نصبت على نصب الليل والنهار ورمضان.
وتقول: سير عليه يوم فترفعه على حد قولك: يومان " وتنصبه عليه " . وإن شئت قلت: سير عليه يوم أتانا فيه فلان، كأنه قال: متى سير عليه؟ فيقول: يوماً كنت فيه عندنا. فهذا يحسن فيه على متى، ويصير بمنزلة يوم كذا وكذا؛ لأنك قد وقته وعرفته بشيء.
وتقول: سير عليه غدوة يا فتى وبكرة، فترفع على مثل ما رفعت ما ذكرنا. والنصب فيه على ذلك، لأنك قد تجريه وإن لم يتصرف مجرى يوم الجمعة، تقول: موعدك غدوة أو بكرة فترفع على مثل ما رفعت ما ذكرنا، والنصب فيه على ذلك.
وتقول: ما لقيته مذ غدوة أو بكرة، وكذلك: غداة أمس وصباح يوم الجمعة والعشية وعشية يوم الجمعة ومساء ليلة الجمعة. وتقول: سير عليه حينئذ ويومئذ، والنصب على ما ذكرت لك.
وكذلك: نصف النهار، لأنك قد تقول في هذا: بعد نصف النهار، وموعدك نصف النهار.
وكذلك، سواء النهار، لأنك تقول: هذا سواء النهار، إذا أردت وسطه، كما تقول: هذا نصف النهار.
وأما سراة اليوم فبمنزلة أول اليوم.
وتقول: سير عليه ضحوة من الضحوات، إذا لم تعن ضحوة يومك، لأنها بمنزلة قولك: ساعة من الساعات. وكذلك قولك: سير عليه عتمة من الليل، لأنك تقول: أتانا بعد ما ذهبت عتمة من الليل.
وتقول: قد مضى لذلك ضحوة وضحوةً، والنصب فيه وجهه على ما مضى.
وتقول في الأماكن: سير عليه ذات اليمين وذات الشمال، لأنك تقول: داره ذات اليمين وذات الشمال. والنصب على ما ذكرت لك.
وتقول: سير عليه أيمن وأشمل، وسير عليه اليمين والشمال، لأنه يتمكن. تقول: على اليمين وعلى الشمال، ودارك اليمين ودارك الشمال. وقال أبو النجم:
يأتى لها من أيمن وأشمل
وإن شئت جعلته ظرفاً كما قال عمرو بن كلثوم:
وكان الكأس مجراها اليمينا
ومثل ذات اليمين وذات الشمال: شرقي الدار وغربي الدار، تجعله ظرفاً وغير ظرف. قال جرير:
هبت جنوباً فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا
وقال بعضهم: داره شرقي المسجد.
ومثل: مجراها اليمينا. قوله: البقول يمينها وشمالها.
هذا بابما يكون فيه المصدر حيناً لسعة الكلام
والاختصاروذلك قولك: متى سير عليه؟ فيقول الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلانس، وصلاة العصر. فإنما هو: زمن مقدم الحاج، وحين خفوق النجم، ولكنه على سعة الكلام والاختصار.
وإن قال: كم سير عليه، فكذلك.

وإن رفعته أجمع كان عربياً كثيراص. وينتصب على أن تجعل كم ظرفاً. وليس هذا في سعة الكلام والاختصار بأبعد من: صيد عليه يومان، وولد له ستون عاماً.
وتقول: سير عليه فرسخان يومين، لأنك شغلت الفعل بالفرسخين، فصار كقولك: سير عليه بعيرك يومين. وإن شئت قلت: سير عليه فرسخين يومان، أيهما رفعته صار الآخر ظرفاً. وإن شئت نصبته على الفعل في سعة الكلام لا على الظرف، كما جاز: يا ضارب اليوم زيداً، أو يا سائر اليوم فرسخين.
وتقول: صيد عليه يوم الجمعة غدوة يا فتى، وإن شئت جعلته ظرفاً؛ لأنك كأنك قلت: السير في يوم الجمعة في هذه الساعة. وإن شئت قلت: سير عليه الجمعة غدوة، كما تقول: سير عليه يوم الجمعة صباحاً، أي سير عليه يوم الجمعة في هذه الساعة. وإنما المعنى كان ابتداء السير في هذه الساعة.
ومثل ذلك: ما لقيته مذ يوم الجمعة صباحاً، أي في هذه الساعة، وإنما معناه أنه في هذه الساعة وقع اللقاء، كما كان ذلك في: سير عليه يوم الجمعة غدوة.
وتقول: سير عليه يوم الجمعة غدوة، تجعل غدوة بدلاً من اليوم، كما تقول: ضرب القوم بعضهم.
وتقول: إذا كان غد فأتى، وإذا كان يوم الجمعة فالقني؛ فالفعل لغد واليوم، كقولك: إذا غد فأتى. وإن شئت قلت: إذا كان غداً فأتى، وهي لغة بني تميم، والمعنى أنه لقي رجلاً فقال له: إذا كان ما نحن عليه من السلامة أو كان ما نحن عليه من البلاء في غد فأتى، ولكنهم أضمروا استخفافاً، لكثرة كان في كلامهم، لأنه الأصل لما مضى وما سيقع. وحذفوا كما قالوا: حينئذ الآن، وإنما يريد: حينئذ واسمع إلى الآن، فحذف واسمع، كما قال: تالله ما رأيت كاليوم زجلاً، أي كرجل أراه اليوم رجلاً.
وإنما أضمروا ما كان يقع مظهراً استخفافاً، ولأن المخاطب يعلم ما يعني، فجرى بمنزلة المثل، كما تقول: لا عليك، وقد عرف المخاطب ما تعني، أنه لا بأس عليك، ولا ضر عليك، ولكنه حذف لكثرة هذا في كلامهم. ولا يكون هذا في غير عليك.
وقد تقول: إذا كان غداً فأتني، كأنه ذكر أمراً إما خصومةً وإما صلحاً، فقال: إذا كان غداً فأتني.
فهذا جائزٌ في كل فعل، لأنك إنما أضمرت بعد ما ذكرت مظهراً، والأول محذوفٌ منه لفظ المظهر، وأضمروا استخفافاً.
فإن قلت: إذا كان الليل فأتني، لم يجز ذلك، لأن الليل لا يكون ظرفاً إلا أن تعني الليل كله على ما ذكرت لك من التكثير؛ فإن وجهته على إضمار شيء قد ذكرت على ذلك الحد جاز، وكذلك: أخوات الليل.
ومما لا يسن فيه إلا النصب قولهم: سير عليه سحر، لا يكون فيه إلا أن يكون ظرفاً، لأنهم إنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر، بالألف واللام، يقولون: هذا السحر، وبأعلى السحر، وإن السحر خير لك من أول الليل. إلا أن تجعله نكرةً فتقول: سير عليه سحر من الأسحار، لأنه يتمكن في الموضع. وكذاتحقيره إذا عنيت سحر ليلتك، تقول: سير عليه سحيراً. ومثله: سير عليه ضحىً، إذا عنيت ضحى يومك، لأنهما لا يتمكنان من الجر في هذا المعنى، لا تقول: موعدك ضحىً ولا عند ضحىً ولا موعدك سحير، إلا أن تنصب.
ومثل ذلك: صيد عليه صباحاً، ومساءً، وعشيةً، وعشاءً، إذا أردت عشاء يومك ومساء ليلتك؛ لأنهم لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفاً. ولو قلت: موعدك مساءٌ، أو أتانا عند عشاءٍ، لم يحسن.
ومثل ذلك: سير عليه ذات مرةٍ، نصبٌ، لا يجوز إلا هذا. ألا ترى أنك لا تقول: إن ذات مرة كان موعدهم، ولا تقول: إنما لك ذات مرة، كما تقول: إنما لك يوم.
وكذلك: إنما يسار عليه بعيدات بين، لأنه بمنزلة ذات مرة.
ومثل ذلك: سير عليه بكراً. ألا ترى أنه لايجوز: موعدك بكراً، ولا مذ بكر. فالبكر لا يتمكن في يومك، كما لم يتمكن مرة وبعيدات بين.
وكذلك: ضحوة في يومك الذي أنت فيه، يجري مجرى عشية يومك الذي أنت فيه. وكذلك: سير " عليه " عتمة، إذاأردت عتمة ليلتك، كما تقول: صباحاً ومساءً وبكراً.
وكذلك: سير عليه ذات يومٍ، وسير عليه ذات ليلةٍ، بمنزلة ذات مرةٍ.
وكذلك: سير عليه ليلاً ونهاراً، إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك، لأنه إنما يجرى على قولك:سير عليه بصراً، وسير عليه ظلاماً، إلا أن تريد " معنى " سير عليه ليلُ طويلُ ونهارُ طويلُ، فهو على ذلك الحد غير متمكن، وفي هذا الحال متمكنُ،كما أن السحر بالألف واللام متصرفُ في المواصع التي ذكرت، وبغير الألف واللام غير متمكن فيها.

وذو صباحٍ بمنزلة ذات مرةٍ. تقول: سير عليه ذا صباحٍ، أخبرنا بذلك يونس عن العرب، إلا أنه قد جاء في لغةٍ لخثعم مفارقاً لذات مرةٍ وذات ليلةٍ. وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها.
وقال رجل من خثعم:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء ما يسود من يسود
فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع.
وجميع ما ذكرنا من غير المتمكن إذا ابتدأت اسماً لم يجز أن تبنيه عليه وترفع إلا أن تجعله ظرفاً، وذلك قولك: موعدك سحيراً، وموعدك صباحاً. ومثل ذلك: إنه ليسار عليه صباح مساء، إنما معناه صباحاً ومساءً، وليس يريد بقوله صباحاً ومساءً صباحاً واحداً ومساءً واحداً، ولكنه يريد صباح أيامه ومساءها. فليس يجوز هذه الأسماء التي لم تتمكن من المصادر التي وضعت للحين وغيرها من الأسماء أن تجري مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم ونحوهما.
ومما يختار فيه أن يكون ظرفاً ويقبح أن يكون غير ظرف، صفة الأحيان، تقول: سير عليه طويلاً، وسير عليه حديثاً، وسير عليه كثيراً، وسير عليه قليلاً، وسير عليه قديماً. وإنما نصب صفة الأحيان على الظرف ولم يجز الرفع لأن الصفة لا تقع مواقع الاسم، كما أنه لا يكون إلا حالا قوله: ألا ماء ولو بارداً، لأنه لو قال: ولو أتاني باردٌ، كان قبيحاً. ولو قلت: آتيك بجيدٍ، كان قبيحاً حتى تقول: بدرهم جيد، وتقول: أتيك به جيداً. فكما لا تقوى الصفة في هذا إلا حالاً أو تجري على اسم، كذلك هذه الصفة لا تجوز إلا ظرفاً أو تجري على اسم. فإن قلت: دهر طويل، أي شيء كثير أو قليل، حسن.
وقد يحسن أن تقول: سير عليه قريب؛ لأنك تقول: لقيته مذ قريب. والنصب عربي جيد كثير.
وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم، فإذا كان كذلك حسن. فمن ذلك: الأبرق والأبطح وأشباههما، ومن ذلك ملىٌ من النهار والليل، تقول: سير عليه ملىٌ، والنصب فيه كالنصب في قريبٍ.
ومما يبين لك أن الصفة لا يقوى فيها إلا هذا، أن سائلاً لو سألك فقال: هل سير عليه؟ لقلت: نعم سير عليه شديداً، وسير عليه حسناً. فالنصب في هذا على أنه حال. وهو وجه الكلام، لأنه وصف السير. ولا يكون فيه الرفع لأنه لا يقع موقع ما كان اسماً. ولم يكن ظرفاً، لأنه ليس بحين يقع فيه الأمر. إلا أن تقول: سير عليه سير حسنٌ، أو سير عليه سير شديد. فإن قلت: سير عليه طويل من الدهر وشديدٌ من السير، فأطلت الكلام ووصفت، كان أحسن وأقوى وجاز، ولا يبلغ في الحسن الأسماء. وإنما جاز حين وصفت وأطلت، لأنه ضارع الأسماء، لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء.
هذا باب ما يكون من المصادر مفعولاً
فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به، وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره.
وإنما يجيء ذلك على أن تبين أي فعل فعلت أو توكيداً.
فمن ذلك قولك على قول السائل: أي سير سير عليه؟ فتقول: سير عليه سير شديد، وضرب به ضربٌ ضعيفٌ. فأجريته مفعولاً، والفعل له.
فإن قلت: ضرب به ضرباً ضعيفاً، فقد شغلت الفعل بغيره عنه. ومثله: سير عليه سيراً شديداً. وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تذكر الصفة، تقول: سير عليه سيرٌ وضرب به ضربٌ، كأنك قلت: سير عليه ضربٌ من السير، أو سير عليه شيء من السير.
وكذلك جميع المصادر ترتفع على أفعالها إذا لم تشغل الفعل بغيرها.
وتقول: سير عليه أيما سير سيراً شديداً، كأنك قلت: سير عليه بعيرك سيراً شديداً.
وتقول: سير عليه سيرتان أيما سير، كأنك قلت: سير عليه بعيرك أيما سير، فجرى مجرى ضرب زيد أيما ضرب، وضرب عمرو ضرباً شديداً.
وتقول على قول السائل: كم ضربةً ضرب به، وليس في هذا إضمار شيء سوى كم والمفعول كم، فتقول: ضرب به ضربتان، وسير عليه سيرتان، لأنه أراد أن يبين له العدة، فجرى على سعة الكلام والاختصار، وإن كانت الضربتان لا تضربان، وإنما المعنى: كم ضرب الذي وقع به الضرب من ضربةٍ، فأجابه على هذا المعنى، ولكنه اتسع واختصر.
وكذلك هذه المصادر التي عملت فيها أفعالها إنما يسأل عن هذا المعنى، وكلنه يتسع ويخزل الذي يقع به الفعل اختصاراً واتساعاً. وقد علم أن الضرب لا يضرب.
ومن ذلك: سير عليه خرجتان، وصيد عليه مرتان. وليس ذلك بأبعد من قولك: ولد له ستون عاماً.
وسمعت من أثق به من العرب يقول: بسط عليه مرتان، وإنما يريد: بسط عليه العذاب مرتين.

وتقول: سير عليه طوران: طور كذا وطور كذا، والنصب ضعيف جداً إذا ثنيت كقولك: طورٌ كذا وطورٌ كذا. وقد يكون في هذا النصب إذا أضمرت.
وقد تقول: سير عليه مرتين، تجعله على الدهر، أي ظرفاً. وتقول: سير عليه طورين، وتقول: ضرب به ضربتين، أي قدر ضربتين من الساعات، كما تقول: سير عليه ترويحتين. فهذا على الأحيان.
ومثل ذلك: انتظر به نحر جزورين، إنما جعله على الساعات، كما قال: مقدم الحاج وخفوق النجم، فكذلك جعله ظرفاً. وقد يجوز فيه الرفع إذا شغلت به الفعل.
وإن جعلت المرتين، وما أشبههما مثل السير رفعت ونصبت إذا أضمرت.
ومما يجيء توكيداً وينصب قوله: سير عليه سيراً، وانطلق به انطلاقاً، وضرب به ضرباً، فينصب على وجهين: أحدهما على أنه حال، على حد قولك: ذهب به مشياً وقتل به صبراً. وإن وصفته على هذا الحد كان نصباً، تقول: سير به سيراً عنيفاً، كما تقول: ذهب به مشياً عنيفاً.
وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر، ويكون بدلاً من اللفظ بالفعل فتقول: سير عليه سيراً وضرب به ضرباً، كأنك قلت بعد ما قلت: سير عليه وضرب به: يسيرون سيراً ويضربون ضرباً، وينطلقون انطلاقاً، ولكنه صار المصدر بدلاً من اللفظ بالفعل، نحو يضربون وينطلقون، وجرى على قوله: إنما أنت سيراً سيراً، وعلى قوله: الحذر الحذر. وإن أنت قلت على هذا المعنى: سير عليه وضرب به الضرب جاز، على قوله: الحذر الحذر، وعلى ما جاء فيه الألف واللام نحو العراك وكان بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو عربي جيد حسن.
ومثله: سير عليه سير البريد، وإن وصفت على هذه الحال لم يغيره الوصف كما لم يغير الوصف ما كان حالاً.
ولا يجوز أن تدخل الألف واللام في السير إذا كان حالاً، كما لم يجز أن تقول: ذهب به المشي العنيف وأنت تريد أن تجعله حالاً. قال الراعي:
نظارةً حين تعلو الشمس راكبها ... طرحاً بعيني لياحٍ فيه تحديد
فأكد بقوله طرحاً وشدد، لأنه يعلم المخاطب حين قال: نظارةً أنها تطرح.
وإن شئت قلت: سير عليه السير، كما قلت: سير عليه سير شديد. وإن وصفته كان أقوى وأبين، كما كان ذلك في قوله: سير عليه ليل طويل ونهار طويل.
وجميع ما يكون بدلاً من اللفظ بالفعل لا يكون إلا على فعل قد عمل في الاسم، لأنك لا تلفظ بالفعل فارغاً، فمن ثم لم يكن فيه الرفع في كلامهم، لأنه إنما يعمل فيه ما هو بمنزلة اللفظ به إلا أنه صار كأنه فعل قد لفظ به، فأولى ما عمل فيه ما هو بمنزلة اللفظ به.
ومما يسبق فيه الرفع لأنه يراد به أن يكون في موضع غير المصدر قوله: قد خيف منه خوفٌ، وقد قيل في ذلك قول. إنما يريد: قد خيف منه أمر أو شيء، وقد قيل في ذلك خيرٌ أو شرٌ. ومثل هذا في المعنى كان منه كونٌ، أي كان من ذلك أمرٌ. وإن حملته عليه السير والضرب في التوكيد، حالاً وقع فيه الفعل، أو بدلاً من اللفظ بالفعل، نصبت.
وإن كان المفعل مصدراً أجري مجرى ما ذكرنا من الضرب والسير وسائر المصادر التي ذكرنا؛ وذلك قولك: إن في ألف درهم لمضرباً، أي إن فيها لضرباً؛ فإذا قلت: ضرب به ضرباً، قلت: ضرب به مضرباً، وإن رفعت رفعت.
ومثل ذلك: سرح به مسرحاً، أي تسريحاً. فالمسرح والتسريح بمنزلة الضرب والمضرب. قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا
أي تسريحي القوافي.
وكذلك تجري المعصية مجرى العصيان، والموجدة بمنزلة المصدر لو كان الوجد يتكلم به.
قال الشاعر، وهو ابن أحمر:
تداركن حيا من نمير بن عامرٍ ... أسارى تسام الذل قتلاً ومحربا
فإن قلت: ذهب به مذهبٌ، أو سلك به مسلك، رفعت لأن المفعل ههنا ليس بمنزلة الذهاب والسلوك، وإنما هو الوجه الذي يسلك فيه والمكان الذي يذهب إليه، وإنما هو بمنزلة قولك: ذهب به السوق وسلك به الطريق.
وكذلك المفعل إذا كان حيناً، نحو قولهم: أتت الناقة على مضربها، أي على زمان ضرابها. وكذلك مبعث الجيوش، تقول: سير عليه مبعث الجيوش، ومضرب الشول. قال حميد بن ثور:
وما هي إلا في إزار وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما
فصير مغاراً وقتاً، وهو ظرفٌ.
هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل
الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره

لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض، فلا يكون إلا مبتدأً لا يعمل فيه شيء قبله، لأن ألف الاستفهام تمنعه من ذلك.
وهو قولك: قد علمت أعبد الله ثم أم زيد، وقد عرفت أبو من زيد، وقد عرفت أيهم أبوه، وأما ترى أي برقٍ ها هنا. فهذا في موضع مفعول، كما أنك إذا قلت: عبد الله هلرأيته، فهذا الكلام في موضع المبنى على المبتدأ الذي يعمل فيه فيرفعه.
ومثل ذلك: ليت شعري أعبد الله ثم أم زيد، وليت شعري هل رأيته، فهذا في موضع خبر ليت. فإنما أدخلت هذه الأشياء على قولك: أزيد ثم أم عمرو وأيهم أبوك، لما احتجت إليه من المعاني. وسنذكر ذلك في باب التسوية.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً " ، وقوله تعالى: " فلينظر أيها أزكى طعاماً " .
ومن ذلك: قد علمت لعبد الله خير منك. فهذه اللام تمنع العمل، كما تمنع ألف الاستفهام، لأنها إنما هي لام الابتداء، وإنما أدخلت عليه علمت لتؤكد وتجعله يقيناً قد علمته، ولا تحيل على علم غيرك. كما أنك إذا قلت: قد علمت أزيد ثم أم عمرو، أردت أن تخبر أنك قد علمت أيهما ثم، وأردت أن تسوي علم المخاطب فيهما كما استوى علمك في المسألة حين قلت: أزيد ثم أم عمرو. ومثل ذلك قوله عز وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ " .
ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت عملت كما تعمل عرفت ورأيت، وذلك قولك: قد عملت زيداً خيراً منك، كما قال تعالى جده: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " وكما قال جل ثناؤه: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " كقولك: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وقال سبحانه: " والله يعلم المفسد من الصالح " .
وتقول: قد عرفت زيداً أبو من هو، وعلمت عمراً أأبوك هو أم أبو غيرك، فأعملت الفعل في الاسم الأول لأنه ليس بالمدخل عليه حرف الاستفهام، كما أنك إذا قلت: عبد الله أأبوك هو أم أبو غيرك، أو زيد أبو من هو، فالعامل في هذا الابتداء ثم استفهمت بعده.
ومما يقوي النصب قولك: قد علمته أبو من هو، وقد عرفتك أي رجل أنت. وتقول: قد دريت عبد الله أبو من هو، كما قلت ذلك في علمت. ولم يؤخذ ذلك إلا من العرب. ومن ذلك: قد ظننت زيداً أبو من هو.
وإن شئت قلت: قد علمت زيد أبو من هو، كما تقول ذاك فيما لا يتعدى إلى مفعولٍ، وذلك قولك: اذهب فانظر زيد أبو من هو، ولا تقول: نظرت زيداً. واذهب فسل زيد أبو من هو، وإنما المعنى: اذهب فسل عن زيد، ولو قلت: اسأل زيداً، على هذا الحد لم يجز.
ومثل ذلك: دريت في أكثر كلامهم؛ لأن أكثرهم يقول: ما دريت به، مثل: ما شعرت به.
ومثل ذلك: ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو.
ولا بد من هو لأن حرف الاستفهام لا يستغنى بما قبله، إنما يستغنى بما بعده، فإنما جئت بالفعل قبل مبتدإٍ قد وضع الاستفهام في موضع المبنى عليه الذي يرفعه، فأدخلته عليه كما أدخلته على قولك: قد عرفت لزيد خير منك.
وإنما جاز هذا فيه مع الاستفهام لأنه في المعنى مستفهم عنه، كما جاز لك أن تقول: إن زيداً فيها وعمرو. ومثله: " أن الله بريء من المشركين ورسوله " . فابتدأ لأن معنى الحديث حين قال: إن زيداً منطلق: زيد منطلق، ولكنه أكد بإن، كما أكد فأظهر زيداً وأضمره.
والرفع قول يونس.
فإن قلت: قد عرفت أبو من زيد لم يجز إلا الرفع، لأنك بدأت بما لا يكون إلا استفهاماً وابتدأته ثم بنيت عليه، فهو بمنزلة قولك: قد علمت أأبوك زيد أم أبو عمرو.
فإن قلت: قد عرفت أبا من زيد مكني، انتصب على مكنى، كأنك قلت: أبا من زيدٌ مكنى، ثم أدخلت عرفت عليها. ومثله قولك: قد علمت أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو، ثم أدخلت عليه علمت كما أدخلته حين لم يكن ما بعده إلا مبتدأ، فلا ينتصب إلا بهذا الفعل الآخر، كما لم يكن في الأول إلا مبتدأ.
وإذا قلت: قد عرفت زيداً أبو من هو، قلت: قد عرفت زيداً أبا من هو مكنى. ومن رفع زيد ثمة رفع زيداً ها هنا. ونصب الآخر كما نصبه حين قال: قد عرفت أبا من أنت مكنى، وكأنه قال: زيد أبا من هو مكنى. ثم أدخل الفعل عليه، وكأنه قال: زيد أأبا بشرٍ يكنى أم أبا عمرو ثم أدخل الفعل عليه، وعمل الفعل الآخر حين كان بعد ألف الاستفهام.
وتقول: قد عرفت زيداً أبو أيهم يكنى به، وعلمت بشراً أيهم يكنى به، ترفعه كما ترفع أيهم ضربته.

وتقول: أرأيتك زيداً أبو من هو، وأرأيتك عمراً أعندك هو أم عند فلان، لا يحسن فيه إلا النصب في زيد. ألا ترى أنك لو قلت: أرأيت أبو من أنت، أو أرأيت أزيدٌ ثم أم فلانٌ، لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وهو الفعل الذي لا يستغنى السكوت على مفعوله الأول، فدخول هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة أخبرني في الاستغناء، فعلى هذا أجرى وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني.
وتقول: قد عرفت أي يوم الجمعة، فتنصب على أنه ظرف، لا على عرفت. وإن لم تجعله ظرفاً رفعت.
وبعض العرب يقول: لقد علمت أي حين عقبتي، وبعضهم يقول: لقد عملت أي حين عقبتي. وأما قوله:
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حالٍ دهارير
فإنما هو بمنزلة قولك: والدهر دهارير كل حال وكل مرة، أي في كل حال وفي كل مرة، فانتصب لأنه ظرف، كما تقول: القتال كل مرة، وكل أحوال الدهر.
باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء
لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادثوموضعها من الكلام الأمر والنهي، فمنها ما يتعدى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما لا يتعدى المأمور، ومنها ما يتعدى المنهي إلى منهي عنه، ومنها ما لا يتعدى المنهي.
أما ما يتعدى فقولك: رويد زيداً، فإنما هو اسم لقولك: أرود زيداً. ومنها هلم زيداً، إنما تريد هات زيداً. ومنها قول العرب: حيهل الثريد. وزعم أبو الخطاب أن بعض العرب يقول: حيهل الصلاة، فهذا اسم ائت الصلاة، أي ائتوا الثريد وأتوا الصلاة.
ومنه قوله:
تراكها من إبل تراكها
فهذا اسم لقوله له: اتركها. وقال:
مناعها من إبل مناعها
وهذا اسم لقوله له: امنعها.
وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي إلى مأمور به ولا إلى منهى عنه، فنحو قولك: مه مه، وصه صه، وآه وإيه، وما أشبه ذلك.
واعلم أن هذه الحروف التي هي أسماء للفعل لا تظهر فيها علامة المضمر، وذلك أنها أسماء، وليست على الأمثلة التي أخذت من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يستقبل وفي يومك، ولكن المأمور والمنهي مضمران في النية. وإنما كان من أصل هذا في الأمر والنهي وكانا أولى به، لأنهما لا يكونان إلا بفعل، فكان الموضع الذي لا يكون إلا فعلاً أغلب عليه.
وهي أسماء الفعل، وأجريت مجرى ما فيه الألف واللام، نحو: النجاء، لئلا يخالف لفظ ما بعدها لفظ ما بعد الأمر والنهي. ولم تصرف تصرف المصادر، لأنها ليست بمصادر، وإنما سمي بها الأمر والنهي، فعملت عملهما ولم تجاوز، فهي تقوم مقام فعلهما.
هذا باب متصرف رويدتقول: رويد زيداً، وإنما تريد أرود زيداً.
قال الهذلي:
رويد عليا جد ما ثدى أمهم ... إلينا ولكن بغضهم متماين
وسمعنا من العرب من يقول: والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر. يريد: أرود الشعر، كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر.
فقد تبين لك أن رويد في موضع الفعل.
ويكون رويد أيضاً صفةً، كقولك: ساروا سيراً رويداً. ويقولون أيضاً: ساروا رويداً، فيحذفون السير ويجعلونه حالاً به وصف كلامه، واجتزأ بما في صدر حديثه من قول ساروا، عن ذكر السير.
ومن ذلك قول العرب: ضعه رويداً، أي وضعاً رويداً. ومن ذلك قولك للرجل تراه يعالج شيئاً: رويداً، إنما تريد: علاجاً رويداً. فهذا على وجه الحال إلا أن يظهر الموصوف فيكون على الحال وعلى غير الحال.
واعلم أن رويداً تلحقها الكاف وهي في موضع افعل، وذلك كقولك: رويدك زيداً، ورويد كم زيداً. وهذه الكاف التي لحقت رويداً إنما لحقت لتبين المخاطب المخصوص، لأن رويد تقع للواحد والجميع، والذكر والأنثى، فإنما أدخل الكاف حين خاف التباس من يعني بمن لا يعنى، وإنما حذفها في الأول استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني غيره.

فلحاق الكاف كقولك: يا فلان، للرجل حتى يقبل عليك. وتركها كقولك للرجل: أنت تفعل، إذا كان مقبلاً عليك بوجهه منصتاً لك. فتركت يا فلان حين قلت: أنت تفعل؛ استغناء بإقباله عليك. وقد تقول أيضاً: رويدك، لمن لا يخاف أن يلتبس بسواه، توكيداً، كما تقول للمقبل عليك المنصت لك: أنت تفعل ذاك يا فلان، توكيداً. وذا بمنزلة قول العرب: هاء وهاءك وها وهاك، وبمنزلة قولك: حيهل وحيهلك، وكقولهم: النجاءك. فهذه الكاف لم تجيء علماً للمأمورين والمنبهين المضمرين، ولو كانت علماً للمضمرين لكانت خطأ، لأن المضمرين ها هنا فاعلون، وعلامة المضمرين الفاعلين الواو كقولك: افعلوا. وإنما جاءت هذه الكاف توكيداً وتخصيصاً، ولو كانت اسماً لكان النجاءك محالاً، لأنه لا يضاف الاسم الذي فيه الألف واللام.
وينبغي لمن زعم أنهن أسماء أن يزعم أن كاف ذاك اسم، فإذا قال ذلك لم يكن له بد من أن يزعم أنها مجرورة أو منصوبة، فإن كانت منصوبةً انبغى له أن يقول: ذاك نفسك زيدٌ، إذا أراد الكاف، وينبغي له أن يقول: إن كانت مجرورة ذاك نفسك زيدٌ، وينبغي له أن يقول: إن تاء أنت اسم؛ وإنما تاء أنت بمنزلة الكاف.
ومما يدلك على أنه ليس باسم قول العرب: أرأيتك فلاناً ما حاله، فالتاء علامة المضمر المخاطب المرفوع، ولو لم تلحق الكاف كنت مستغنياً كاستغنائك حين كان المخاطب مقبلاً عليك عن قولك: يا زيد، ولحاق الكاف كقولك: يا زيد، لمن لو لم تقل له يا زيد استغنيت. فإنما جاءت الكاف في أرأيت والنداء في هذا الموضع توكيداً. وما يجيء في الكلام توكيداً لو طرح كان مستغنىً عنه، كثير.
وحدثنا من لا نتهم أنه سمع من العرب من يقول: رويد نفسه، جعله مصدراً كقوله: " فضرب الرقاب " . وكقوله:
عذير الحي
ونظير الكاف في رويد في المعنى لا في اللفظ لك التي تجيء بعد هلم، في قولك: هلم لك، فالكاف ههنا اسم مجرور باللام، والمعنى في التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التي في رويد وأشباهها كأنه قال: هلم، ثم قال: إرادتي بهذا لك، فهو بمنزلة سقيا لك. وإن شئت قلت: هلم لي، بمنزلة هات لي، وهلم ذاك لك، بمنزلة أدن ذاك منك.
وتقول فيما يكون معطوفاً على الاسم المضمر في النية وما يكون صفة له في النية، كما تقول في المظهر.
أما المعطوف فكقولك: رويدكم أنتم وعبد الله، كأنك قلت: افعلوا أنتم وعبد الله، لأن المضمر في النية مرفوع، فهو يجري مجرى المضمر الذي يبين علامته في الفعل. فإن قلت: رويدكم وعبد الله، فهو أيضاً رفع وفيه قبح، لأنك لو قلت: اذهب وعبد الله كان فيه قبح، فإذا قلت: اذهب أنت وعبدالله، حسن. ومثل ذلك في القرآن: " فاذهب أنت وربك فقاتلا " ، و " اسكن أنت وزوجك الجنة " .
وتقول: رويدكم أنتم أنفسكم، فيحسن الكلام، كأنك قلت: افعلوا أنتم أنفسكم. فإن قلت: رويدكم أنفسكم، رفعت وفيها قبح، لأن قولك: افعلوا أنفسكم فيها قبح، فإذا قلت: أنتم أنفسكم حسن الكلام.
وتقول: رويدكم أجمعون، ورويدكم أنتم أجمعون، كل حسن لأنه يحسن في المضمر الذي له علامة في الفعل. ألا ترى أنك تقول: قوموا أجمعون، وقوموا أنتم أجمعون.
وكذلك: رويد إذا لم تلحق فيها الكاف، تجري هذا المجرى. وكذلك الحروف التي هي أسماء للفعل جميعاً، تجري هذا المجرى، لحقتها الكاف أو لم تلحقها، إلا أن هلم إذا لحقتها لك، فإن شئت حملت أجمعين ونفسك على الكاف المجرورة، فتقول: هلم لكم أجمعين وهلم لكم أنفسكم. ولا يجوز أن تعطف على الكاف المجرورة الاسم، لأنك لا تعطف المظهر على المضمر المجرور. ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول: هذا لك نفسك ولكم أجمعين، ولا يجوز أن تقول: هذا لك وأخيك. وإن شئت حملت المعطوف والصفة على المضمر المرفوع في النية، فتقول: هلم لك أنت وأخوك، وهلم لكم أجمعون. كأنك قلت: تعالوا أنتم أجمعون، وتعال أنت وأخوك. فإن لم تلحق لك جرت مجرى رويد.
هذا باب من
الفعل سمي الفعل فيه بأسماء مضافةليست من أمثلة الفعل الحادث، ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التي كانت للفعل، نحو رويد وحيهل، ومجراهن واحد وموضعهن من الكلام الأمر والنهي إذا كانت للمخاطب المأمور والمنهي.
وإنما استوت هي ورويد وما أشبه رويد كما استوى المفرد والمضاف إذا كانا اسمين، نحو عبد الله وزيد، مجراهما في العربية سواء.

ومنها ما يتعدى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما يتعدى المنهي إلى المنهي عنه، ومنها ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي.
فأما ما يتعدى المأمور إلى مأمور به فهو قولك: عليك زيداً، ودونك زيداً، وعندك زيداً، تأمره به. حدثنا بذلك أبو الخطاب.
وأما ما تعدى المنهي إلى منهي عنه فقولك: حذرك زيداً، وحذارك زيداً، سمعناهما من العرب.
وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي فقولك: مكانك وبعدك، إذا قلت: تأخر أو حذرته شيئاً خلفه. كذلك عندك، إذا كنت تحذره من بين يديه شيئاً أو تأمره أن يتقدم. وكذلك فرطك إذا كنت تحذره من بين يديه شيئاً أو تأمره أن يتقدم. ومثلها أمامك إذا كنت تحذره أو تبصره شيئاً. وإليك إذا قلت: تنح. ووراءك إذا قلت: افطن لما خلفك.
وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له: إليك، فيقول: إلى. كأنه قيل له: تنح. فقال: أتنحى. ولا يقال إذا قيل لأحدهم: دونك: دوني ولا علي. هذا النحو إنما سمعناه في هذا الحرف وحده، وليس لها قوة الفعل فتقاس.
واعلم أن هذه الأسماء المضافة بمنزلة الأسماء المفردة في العطف والصفات، وفيما قبح فيها وحسن، لأن الفاعل المأمور والفاعل المنهي في هذا الباب مضمران في النية.
ولا يجوز أن تقول: رويده زيداً ودونه عمراً وأنت تريد غير المخاطب، لأنه ليس بفعل ولا يتصرف تصرفه. وحدثني من سمعه أن يعضهم قال: عليه رجلاً ليسني. وهذا قليل شبهوه بالفعل.
وقد يجوز أن تقول: عليكم أنفسكم، وأجمعين، فتحمله على المضمر المجرور الذي ذكرته للمخاطب، كما حملته على لك حين ذكرتها بعد هلم، ولم تحمل على المضمر الفاعل في النية، فجاز ذلك.
ويدلك على أنك إذا قلت: عليك فقد أضمرت فاعلاً في النية، وإنما الكاف للمخاطبة، قولك: على زيدا، وإنما أدخلت الياء على مثل قولك للمأمور: أولني زيداً. فلو قلت: أنت نفسك لم يكن إلا رفعاً، ولو قال: أنا نفسي لم يكن إلا جراً. ألا ترى أن الياء والكاف إنما جاءتا لتفصلا بين المأمور والأمر في المخاطبة. وإذا قال: عليك زيداً فكأنه قال له: ائت زيداً. ألا ترى أن للمأمور اسمين: اسماً للمخاطبة مجروراً، واسمه الفاعل المضمر في النية، كما كان له اسم مضمر في النية حين قلت: على. فإذا قلت: عليك فله اسمان: مجرور ومرفوع. ولا يحسن أن تقول: عليك وأحيك، كما لا يحسن أن تقول: هلم لك وأخيك.
وكذلك: حذرك، يدلك على أن حذرك بمنزلة عليك، قولك: تحذيري زيداً، إذا أردت حذرني زيداً. فالمصدر وغيره في هذا الباب سواء.
ومن جعل رويداً مصدراً، قال: رويدك نفسك، إذا أراد أن يحمل نفسك على الكاف، كما قال: عليك نفسك حين حمل الكلام على الكاف. وهي مثل: حذرك سواء، إذا جعلته مصدراً؛ لأن الحذر مصدر وهو مضاف إلى الكاف. فإن حملت نفسك على الكاف جررت، وإن حملته على المضمر في النية رفعت. وكذلك: رويدكم، إذا أردت الكاف تقول: رويدكم أجمعين.
وأما قول العرب: رويدك نفسك، فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله إذا أمرت به، كأنك قلت: رويدك عبد الله، إذا أردت: أرود عبد الله.
وأما حيهلك وهاءك وأخواتها، فليس فيها إلا ما ذكرنا، لأنهن لم يجعلن مصادر.
واعلم أن ناساً من العرب يجعلون هلم بمنزلة الأمثلة التي أخذت من الفعل، يقولون: هلم وهلمى وهلماً وهلموا.
واعلم أنك لا تقول: دوني، كما قلت: على، لأنه ليس كل فعل يجيء بمنزلة أولني قد تعدى إلى مفعولين، فإنما على بمنزلة أولني، ودونك بمنزلة خذ. لا تقول: آخذني درهماً ولا خذني درهماً.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول: عليه زيداً، تريد به الأمر، كما أردت ذلك في الفعل حين قلت: ليضرب زيداً، لأن عليه ليس من الفعل، وكذلك حذره زيداً قبيحةٌ، لأنها ليست من أمثلة الفعل. فإنما جاء تحذيري زيداً لأن المصدر يتصرف مع الفعل، فيصير حذرك في موضع احذر، وتحذيري في موضع حذرني؛ فالمصدر أبداً في موضع فعله. ودونك لم يؤخذ من فعل، ولا عندك ينتهي فيها حيث انتهت العرب.
واعلم أنه يقبح: زيداً عليك، وزيداً حذرك، لأنه ليس من أمثلة الفعل، فقبح أن يجري ما ليس من الأمثلة مجراها، إلا أن تقول: زيداً، فتنصب بإضمارك الفعل ثم تذكر عليك بعد ذلك، فليس يقوى هذا قوة الفعل، لأنه ليس بفعل، ولا يتصرف تصرف الفاعل الذي في معنى يفعل.
هذا باب
ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل
المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن عن لفظك بالفعلوذلك قولك: زيداً، وعمراً، ورأسه. وذلك أنك رأيت رجلاً يضرب أو يشتم أو يقتل، فاكتفيت بما هو فيه من عمله أن تلفظ له بعمله فقلت: زيداً، أي أوقع عملك بزيدٍ. أو رأيت رجلاً يقول: أضرب شر الناس، فقلت: زيداً. أو رأيت رجلاً يحدث حديثاً فقطعه فقلت: حديثك. أو قدم رجل من سفر فقلت: حديثك. استغنيت عن الفعل بعلمه أنه مستخبرٌ، فعلى هذا يجوز هذا وما أشبهه.
وأما النهي فإنه التحذير، كقولك: الأسد الأسد، والجدار الجدار، والصبي الصبي، وإنما نهيته أن يقرب الجدار المخوف المائل، أو يقرب الأسد، أو يوطئ الصبي. وإن شاء أظهر في هذه الأشياء ما أضمر من الفعل، فقال: اضرب زيداً، وأشتم عمراً، ولا توطئ الصبي، وأحذر الجدار، ولا تقرب الأسد. ومنه أيضاً قوله: الطريق الطريق، إن شاء قال: خل الطريق، أو تنح عن الطريق. قال جرير:
خل الطريق لمن يبني المنار به ... وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر
ولا يجوز أن تضمر تنح عن الطريق، لأن الجار لا يضمر، وذلك أن المجرور داخل في الجار غير منفصل، فصار كأنه شيء من الاسم لأنه معاقب للتنوين، ولكنك إن أضمرت أضمرت ما هو في معناه مما يصل بغير حرف إضافةٍ، كما فعلت فيما مضى.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: زيد، وأنت تريد أن تقول: ليضرب زيد، أو ليضرب زيد إذا كان فاعلاً، ولا زيداً، وأنت تريد ليضرب عمرو زيداً. ولا يجوز: زيد عمراً، إذا كنت لا تخاطب زيداً، إذا أردت ليضرب زيدٌ عمراً وأنت تخاطبني، فإنما تريد أن أبلغه أنا عنك أنك قد أمرته أن يضرب عمراً، وزيد وعمرو غائبان، فلا يكون أن تضمر فعل الغائب. وكذلك لا يجوز زيداً، وأنت تريد أن أبلغه أنا عنك أن يضرب زيداً؛ لأنك إذا أضمرت فعل الغائب ظن السامع الشاهد إذا قلت: زيداً أنك تأمره هو بزيد، فكرهوا الالتباس هنا ككراهيتهم فيما لم يؤخذ من الفعل نحو قولك: عليك، أن يقولوا عليه زيداً، لئلا يشبه ما لم يؤخذ من أمثلة الفعل بالفعل. وكرهوا هذا في الالتباس وضعف حيث لم يخاطب المأمور، كما كره وضعف أن يشبه عليك ورويد بالفعل.
وهذه حجج سمعت من العرب وممن يوثق به، يزعم أنه سمعها من العرب. من ذلك قول العرب في مثل من أمثالهم: " اللهم ضبعاً وذئباً " إذا كان يدعو بذلك على غم رجل. وإذا سألتهم ما يعنون قالوا: اللهم أجمع أو اجعل فيها ضبعاً وذئباً. وكلهم يفسر ما ينوي. وإنما سهل تفسيره عندهم لأن المضمر قد استعمل في هذا الموضع عندهم بإظهار.
حدثنا أبو الخطاب أنه سمع بعض العرب وقيل له: لم أفسدتم مكانكم هذا؟ فقال: الصبيان بأبي. كأنه حذر أن يلام فقال: لم الصبيان.
وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له: أما بمكان كذا وكذا وجد؟ وهو موضع يمسك الماء. فقال: بلى، وجاذاً. أي فأعرف بها وجاذاً. ومن ذلك قول الشاعر، وهو المسكين:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
كأنه يريد: الزم أخاك.
ومن ذلك قولك: زيداً وعمراً، كأنك تريد: اضرب زيداً وعمراً، كما قلت: زيداً وعمراً رأيت.
ومنه قول العرب: " أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك " ، و " الظباء على البقر " . يقول: عليك أمر مبكياتك، وخل الظباء على البقر.
هذا باب
ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره
في غير الأمر والنهيوذلك قولك، إذا رأيت رجلاً متوجهاً وجهة الحاج، قاصداً في هيئة الحاج، فقلت: مكة ورب الكعبة. حيث زكنت أنه يريد مكة، كأنك قلت: يريد مكة والله.
ويجوز أن تقول: مكة والله، على قولك: أراد مكة والله، كأنك أخبرت بهذه الصفة عنه أنه كان فيها أمس، فقلت: مكة والله، أي أراد مكة إذ ذاك.
ومن ذلك قوله عز وجل: " بل ملة إبراهيم حنيفاً " ، أي بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، كأنه قيل لهم: اتبعوا، حين قيل لهم: " كونوا هوداً أو نصارى " .
أو رأيت رجلاً يسدد سهماً قبل القرطاس فقلت: القرطاس والله، أي يصيب القرطاس. وإذا سمعت وقع السهم في القرطاس قلت: القرطاس والله، أي أصاب القرطاس.
ولو رأيت ناساً ينظرون الهلال وأنت منهم بعيد فكبروا لقلت: الهلال ورب الكعبة، أي أبصروا الهلال. أو رأيت ضرباً فقلت على وجه التفاؤل: عبد الله، أي يقع بعبد الله أو بعبد الله يكون.

ومثل ذلك أن ترىرجلاً يريد أن يوقع فعلاً، أو رأيته في حال رجل قد أوقع فعلاً، أو أخبرت عنه بفعل، فتقول: زيداً. تريد: اضرب زيداً، أو أتضرب زيداً.
ومنه أن ترى الرجل أن تخبر عنه أنه قد أتى أمراً قد فعله فتقول: أكل هذا بخلاً، أي أتفعل كل هذا بخلاً. وإن شئت رفعته فلم تحمله على الفعل، ولكنك تجعله مبتدأ.
وإنما أضمرت الفعل ها هنا وأنت مخاطب لأن المخاطب المخبر لست تجعل له فعلاً آخر يعمل في المخبر عنه. وأنت في الأمر للغائب قد جعلت له فعلاً آخر يعمل، كأنك قلت: قل له ليضرب زيداً، أو قل له: اضرب زيداً، أو مره أن يضرب زيداً، فضعف عندهم مع ما يدخل من اللبس في أمر واحدٍ أن يضمر فيه فعلان لشيئين.
هذا باب
ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرفٍ
وذلك قولك: " الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ " ، و " المرء مقتول بما قتل به إن خنجراً فخنجرٌ وإن سيفاً فسيفٌ " .
وإن شئت أظهرت الفعل فقلت: إن كان خنجراً فخنجر وإن كان شراً فشرٌ. ومن العرب من يقول: إن خنجراً فخنجراً، وإن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، كأنه قال: إن كان الذي عمل خيراً جزى خيراً، وإن كان شراً جزي شراً. وإن كان الذي قتل به خنجراً كان الذي يقتل به خنجراً.
والرفع أكثر وأحسن في الآخر؛ لأنك إذا أدخلت الفاء في جواب الجزاء استأنفت ما بعدها وحسن أن تقع بعدها الأسماء.
وإنما أجازوا النصب حيث كان النصب فيما هو جوابه، لأنه يجزم كما يجزم، ولأنه لا يستقيم واحد منهما إلا بالآخر، فشبهوا الجواب بخبر الابتداء وإن لم يكن مثله في كل حالةٍ، كما يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله ولا قريباً منه. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، وسنذكره أيضاً إن شاء الله.
وإذا أضمرت فأن تضمر الناصب أحسن، لأنك إذا أضمرت الرافع أضمرت له أيضاً خبراً، او شيئاً يكون في موضع خبره. فكلما كثر الإضمار كان أضعف.
وإن أضمرت الرافع كما أضمرت الناصب فهو عربي حسن، وذلك قولك: إن خير فخير، وإن خنجر فخنجر، كأنه قال: إن كان معه خنجر حيث قتل فالذي يقتل به خنجر، وإن كان في أعمالهم خير فالذي يجزون به خير. ويجوز أن تجعل إن كان خير على: إن وقع خير، كأنه قال: إن كان خير فالذي يجزون به خير.
وزعم يونس أن العرب تنشد هذا البيت لهدبة بن خشرم:
فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر لصبر
والنصب فيه جيد بالغ على التفسير الأول، والرفع على قوله: وإن وقع صبر أو إن كان فينا صبر فإنا نصبر. وأما قول الشاعر، لنعمان بن المنذر:
قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من شيءٍ إذا قبلا
فالنصب فيه على التفسير الأول، والرفع يجوز على قوله إن كان فيه حق وإن كان فيه باطل، كما جاز ذلك في: إن كان في أعمالهم خير. ويجوز أيضاً على قوله: إن وقع حق وإن وقع كذب.
ومن ذلك قوله عز وجل: " وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ " . ومثل ذلك قول العرب في مثل من أمثالهم: " إن لا حظية فلا ألية " أي إن لا تكن له في الناس حظية فإني غير أليةٍ، كأنها قالت في المعنى: إن كنت ممن لا يحظى عنده فإني غير ألية. ولو عنت بالحظية نفسها لم يكن إلا نصباً إذا جعلت الحظية على التفسير الأول.
ومثل ذلك: قد مررت برجل إن طويلاً وإن قصيراً، وامرر بأيهم أفضل إن زيداً وإن عمراً، وقد مررت برجل قبل إن زيداً وإن عمراً لا يكون في هذا إلا النصب، لأنه لا يجوز أن تحمل الطويل والقصير على غير الأول، ولا زيداً ولا عمراً. وأما إن حق وإن كذب فقد تستطيع أن لا تحمله على الأول، فتقول: إن كان فيه حق أو كان فيه كذب، أو إن وقع حق أو باطل. ولا يستقيم في ذا أن تريد غير الأول إذا ذكرته، ولا تستطيع أن تقول: إن كان فيه طويل أو كان فيه زيد، ولا يجوز على إن وقع.
وقال ليلى الأخيلية:
لا تقربن الدهر آل مطرفٍ ... إن ظالماً أبداً وإن مظلوما
وقال ابن همام السلولي:
وأحضرت عذري، عليه السهو ... د، إن عاذرا لي وإن تاركا
فنصبه لأنه عني الأمير المخاطب. ولو قال: إن عاذر لي وإن تارك، يريد: إن كان لي في الناس عاذر أو غير عاذر، جاز.
وقال النابغة الذبياني:
حدبت على بطون ضنة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوما

ومن ذلك أيضاً قولك: مررت برجل صالحٍ، وإن لا صالحاً فطالحٌ. ومن العرب من يقول: إن لا صالحاً فطالحاً، كأنه يقول: إن لا يكن صالحاً فقد مررت به أو لقيته طالحاً.
وزعم يونس أن من العرب من يقول: إن لا صالحٍ فطالحٍ، على: إن لا أكن مررت بصالحٍ فبطالحٍ وهذا قبيح ضعيف، لأنك تضمر بعد إن لا فعلاً آخر فيه حذف غير الذي تضمر بعد إن لا في قولك: إن لا يكن صالحاً فطالحٌ. ولا يجوز أن يضمر الجار، ولكنهم لما ذكروه في أول كلامهم شبهوه بغيره من الفعل. وكان هذا عندهم أقوى إذا أضمرت رب ونحوها في قولهم:
وبلدةٍ ليس بها أنيس
ومن ثم قال يونس: امرر على أيهم أفضل إن زيداً وإن عمرو. يعني: إن مررت بزيد أو مررت بعمرو.
واعلم أنه لا ينتصب شيء بعد إن ولا يرتفع إلا بفعل؛ لأن إن من الحروف التي يبنى عليها الفعل، وهي إن المجازاة، وليست من الحروف التي يبتدأ بعدها الأسماء ليبنى عليها الأسماء. فإنما أراد بقوله: إن زيد وإن عمرو، إن مررت بزيد أو مررت بعمرو، فجرى الكلام على فعل آخر، وانجر الاسم بالباء لأنه لا يصل إليه الفعل إلا بالباء، كما أنه حين نصبه كان محمولاً على كان أخر لا على الفعل الأول. ومن رأى الجر في هذا قال: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، يريد: إن كنت مررت بزيدٍ أو كنت مررت بعمرو.
ولو قلت: عندنا أيهم أفضل أو عندنا رجل، ثم قلت: إن زيداً وإن عمراً، كان نصبه على كان، وإن رفعته رفعته على كان، كأنك قلت: إن كان عندنا زيدٌ أو كان عندنا عمروٌ. ولا يكون رفعه على عندنا، من قبل أن عندنا ليس بفعل، ولا يجوز بعد إن عندنا أن تبنى الأسماء على الأسماء، ولا الأسماء تبنى على عندنا، كما لم يجز لك أن تبني بعد إن الأسماء على الأسماء.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول: عبد الله المقتول، وأنت تريد: كن عبد الله المقتول، لأنه ليس فعلاً يصل من شيء إلى شيء، ولأنك لست تشير له إلى أحد.
ومن ذلك قول العرب:
من بد شولاً فإلى إتلائها
نصب لأنه أراد زماناً. والشول لا يكون زماناً ولا مكاناً فيجوز فيها وكقولك: من لد صلاة العصر إلى وقت كذا، وكقولك: من لد حائط إلى مكان كذا، فلما أراد الزمان حمل الشول على شيء يحسن أن يكون زماناً إذا عمل في الشول، ولم يحسن إلا ذا كما لم يحسن ابتداء الأسماء بعد إن حتى أضمرت ما يحسن أن يكون بعدها عاملاً في الأسماء. فكذلك هذا، كأنك قلت: من لد أن كانت شولاً فإلى إتلائها.
وقد جره قوم على سعة الكلام وجعلوه بمنزلة المصدر حين جعلوه على الحين، وإنما يريد حين كذا وكذا، وإن لم يكن في قوة المصادر لأنه لا يتصرف تصرفها.
واعلم أنه ليس كل حرف يظهر بعده الفعل يحذف فيه الفعل، ولكنك تضمر بعد ما أضمرت فيه العرب من الحروف والمواضع، وتظهر ما أظهروا، وتجري هذه الأشياء التي هي على ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام ومما هو في الكلام على ما أجروا، فليس كل حرف يحذف منه شيء ويثبت فيه، نحو: يك ويكن، ولم أبل وأبال، لم يحملهم ذاك على أن يفعلوه بمثله، ولا يحملهم إذا كانوا يثبتون فيقولون: في مر أومر، أن يقولوا: في خذ أوخذ، وفي كل أوكل.
فقف على هذه الأشياء حيث وقفوا ثم فسر.
وأما قول الشاعر:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر
فهذا على إما، وليس على إن الجزاء، كقولك: إن حقاً وإن كذباً. فهذا على إما محمولٌ. ألا ترى أنك تدخل الفاء، ولو كانت على إن الجزاء، وقد استقبلت الكلام، لاحتجت إلى الجواب. فليس قوله: فإن جزعاً كقوله: إن حقاً وإن كذباً، ولكنه على قوله تعالى: " فإما منا بعد وإما فداءً " .
ولو قلت: فإن جزعٌ وإن إجمال صبر، كان جائزاً، كأنك قلت: فإما أمرى جزعٌ وإما إجمال صبرٍ، لأنك لو صححتها فقلت: إما جاز ذلك فيها. ولا يجوز طرح ما من إما إلا في الشعر. قال النمر بن تولب:
سقته الرواعد من صيفٍ ... وإن من خريفٍ فلن يعدما

وإنما يريد: وإما من خريف. ومن أجز ذلك في الكلام دخل عليه أن يقول: مررت برجل إن صالحٍ أن طالحٍ، يريد إما. وإن أراد إن الجزاء فهو جائزٌ، لأنه يضمر فيها الفعل، وإما يجري ما بعدها ههنا على الابتداء وعلى الكلام الأول، ألا ترى أنك تقول: قد كان ذلك صلاحاً أو فساداً. ولو قلت: قد كان ذلك إن صلاحاً وإن فساداً كان النصب على كان أخرى، ويجوز الرفع على ما ذكرنا.
ومما ينتصب على إضمار الفعل المستعمل إظهاره، قولك: هلا خيراً من ذلك، وألا خيراً من ذلك، أو غير ذلك. كأنك قلت: ألا تفعل خيراً من ذلك، أو ألا تفعل غير ذلك، وهلا تأتي خيراً من ذلك. وربما عرضت هذا على نفسك فكنت فيه كالمخاطب، كقولك: هلا أفعل، وألا أفعل.
وإن شئت رفعته؛ فقد سمعنا رفع بعضه من العرب، وممن سمعه من العرب. فجاز إضمار ما يرفع كما جاز إضمار ما ينصب.
ومن ذلك قولك: أو فرقاً خيراً من حبٍ، أي أو أفرقك فرقاً خيراً من حبٍ. وإنما حمله على الفعل لأنه سئل عن فعله فأجابه على الفعل الذي هو عليه. ولو رفع جاز، كأنه قال: أو أمري فرق خير من حب.
وإنما انتصب هذا النحو على أنه يكون الرجل في فعل فيريد أن ينقله أو ينتقل هو إلى فعل آخر. فمن ثم نصب أو فرقاً؛ لأنه أجاب على أفرقك وترك الحب.
ومما ينتصب على إضمار الفعل المستعمل إظهاره قولك: ألا طعام ولو تمراً، كأنك قلت: ولو كان تمراً، وأتني بدابة ولو حماراً. وإن شئت قلت: ألا طعام ولو تمر، كأنك قلت: ولو يكون عندنا تمرٌ، ولو سقط إلينا تمرٌ.
وأحسن ما يضمر منه أحسنه في الإظهار. ولو قلت: ولو حمارٍ، فجررت كان بمنزلة في إن. ومثله قول بعضهم إذا قلت: جئتك بدرهمٍ: فهلا دينارٍ. وهو بمنزلة إن في هذا الموضع يبنى عليها الأفعال والرفع قبيح في: فهلا دينار، وفي: ولو حمار؛ لأنك لو لم تحمله على إضمار يكون ففعل المخاطب أولى به. والرفع في هذا وفي: ولو حمارٌ، بعيد، كأنه يقول: ولو يكون مما يأتيني به حمارٌ.
ولو بمنزلة إن، لا يكون بعدها إلا الأفعال؛ فإن سقط بعدها اسم ففيه فعل مضمر في هذا الموضع تبنى عليه الأسماء. فلو قلت: ألا ماء ولو بارداً، لم يحسنإلا النصب، لأن بارداً صفة. ولو قلت: ائتني بباردٍ كان قبيحاً، ولو قلت: ائتني بتمرٍ كان حسناً، ألا ترى كيف قبح أن يضع الصفة موضع الاسم.
ومن ذلك قول العرب: ادفع الشر ولو إصبعاً، كأنه قال: ولو دفعته إصبعاً، ولو كان إصبعاً. ولا يحسن أن تحمله على ما يرفع لأنك إن لم تحمله على إضمار يكون ففعل المخاطب المذكور أولى وأقرب، فالرفع في هذا وفي ائتني بدابة ولو حمار، بعيد، كأنه يقول: ولو يكون مما تأتيني به حمارٌ، ولو يكون مما تدفع به إصبعٌ.
ومما ينتصب على إضمار الفعل المستعمل إظهاره، أن ترى الرجل قد قدم من سفر فتقول: خير مقدم. أو يقول الرجل: رأيت فيما يرى النائم كذا وكذا، فتقول: خيراً وما شر، وخيراً لنا وشراً لعدونا. وإن شئت قلت: خير مقدم، وخير لنا وشر لعدونا.
أما النصب فكأنه بناه على قوله قدمت، فقال: قدمت خير مقدم، وإن لم يسمع منه هذا اللفظ، فإن قدومه ورؤيته إياه بمنزلة قوله: قدمت. وكذلك إن قيل: قدم فلان، وكذلك إذا قال: رأيت فيما يرى النائم كذا وكذا، فتقول: خيراً لنا وشراً لعدونا. فإذا نصب فعلى الفعل.
وأما الرفع فعلى أنه مبتدأ أو مبنيٌ على مبتدأ ولم يرد أن يحمله على الفعل، ولكنه قال: هذا خير مقدم، وهذا خير لنا وشر لعدونا، وهذا خير وما سر. ومن ثم قالوا: مصاحب معان، ومبرور مأجور، كأنه قال: أنت مصاحب، وأنت مبرور.
فإذا رفعت هذه الأشياء فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت، وهو الفعل والذي أظهرت الاسم.
وأما قولهم: راشداً مهدياً، فإنهم أضمروا اذهب راشداً مهدياً. وإن شئت رفعت كما رفعت مصاحب معان، ولكنه كثر النصب في كلامهم، لأن راشداً مهدياً بمنزلة ما صار بدلاً من اللفظ بالفعل، كأنه لفظ برشدت وهديت. وسترى بيان ذلك إن شاء الله. ومثله: هنيئاً مريئاً.
وإن شئت نصبت فقلت: مبروراً مأجوراً، ومصاحباً معاناً. حدثنا بذلك عن العرب عيسى ويونس وغيرهما، كأنه قال: رجعت مبروراً، واذهب مصاحباً.

ومما ينتصب أيضاً على إضمار الفعل المستعمل إظهاره، قول العرب: حدث فلان بكذا وكذا، فتقول: صادقاً والله. أو أنشدك شعراً فتقول: صادقاً والله، أي قاله صادقاً. لأنك إذا أنشدك فكأنه قد قال كذا.
ومن ذلك أيضاً أن ترى رجلاً قد أوقع أمراً أو تعرض له فتقول: متعرضاً لعنن لم تعنه، أي دنا من هذا الأمر متعرضاً لعنن لم يعنه. وترك ذكر الفعل لما يرى من الحال.
ومثله: بيع الملطى لا عهد ولا عقد، وذلك إن كنت في حال مساومةٍ وحال بيعٍ، فتدع أبايعك استغناءً لما فيه من الحال. ومثله:
مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثرب
كأنه قال: واعدتني مواعيد عرقوب أخاه، ولكنه ترك واعدتني استغناءً بما هو فيه من ذكر الخلف، واكتفاءً بعلم من يعنى بما كان بينهما قبل ذلك.
ومن العرب من يقول: متعرض، ومنهم من يقول: صادق والله. وكل عربي.
ومثله: غضب الخيل على اللجم، كأنه قال: غضبت، أو رآه غضبان فقال: غضب الخيل، فكأنه بمنزلة قوله: غضبت غضب الخيل على اللجم. ومن العرب من يرفع فيقول: غضب الخيل على اللجم، فرفعه كما رفع بعضهم: الظباء على البقر.
ومثله أن تسمع الرجل ذكر رجلاً فتقول: أهل ذاك وأهله، أي ذكرت أهله، لأنك في ذكره، تحمله على المعنى. وإن شاء رفع على هو. ونصبه وتفسيره تفسير خير مقدم.
هذا باب
ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهارهاستغناءً عنه
وسأمثله لك مظهراً لتعلم ما أرادوا، إن شاء الله تعالى.
هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير وذلك قولك إذا كنت تحذر: إياك. كأنك قلت: إياك بح، وإياك باعد، وإياك اتق، وما أشبه ذا. ومن ذلك أن تقول: نفسك يا فلان، أي اتق نفسك، إلا أن هذا لا يجوز فيه إظهار ما أضمرت، ولكن ذكرته لأمثل لك ما لا يظهر إضماره.
ومن ذلك أيضاً قولك: إياك والأسد، وإياي والشر، كأنه قال: إياك فاتقين والأسد، وكأنه قال: إياي لأتقين والشر. فإياك متقى والأسد والشر متقيان، فكلاهما مفعول ومفعول منه.
ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب. ومثله: إياك، وإياه، وإياي، وإياه، كأنه قال: إياك باعد، وإياه، أو نح.
وزعم أن بعضهم يقال له: إياك، فيقول: إياي، كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر.
وحذفوا الفعل من إياك لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، فصار بدلاً من الفعل، وحذفوا كحذفهم: حينئذٍ الآن، فكأنه قال: احذر الأسد، ولكن لا بد من الواو لأنه اسم مضموم إلى آخر.
ومن ذلك: رأسه والحائط، كأنه قال: خل أو دع رأسه والحائط، فالرأس مفعول والحائط مفهول معه، فانتصبا جميعاً.
ومن ذلك قولهم: شأنك والحج، كأنه قال: عليك شأنك مع الحج. ومن ذلك: امرأ ونفسه، كأنه قال: دع امرأ مع نفسه، فصارت الواو في معنى مع كما صارت في معنى مع في قولهم: ما صنعت وأخاك. وإن شئت لم يكن فيه ذلك المعنى، فهو عربي جيد، كأنه قال: عليك رأسك وعليك الحائط، وكأنه قال: دع امرأ ودع نفسه؛ فليس ينقض هذا ما أردت في معنى مع من الحديث.
ومثل ذلك: أهلك والليل، كأنه قال: بادر أهلك قبل الليل، وإنما المعنى أن يحذره أن يدركه الليل. والليل محذر منه، كما كان الأسد محتفظاً منه.
ومن ذلك قولهم: ماز رأسك والسيف، كما تقول: رأسك والحائط وهو يحذره، كأنه قال: اتق رأسك والحائط.
وإنما حذفوا الفعل في هذه الأشياء حين ثنوا لكثرتها في كلامهم، واستغناءً بما يرون من الحال، ولما جرى من الذكر، وصار المفعول الأول بدلاً من اللفظ بالفعل، حين صار عندهم مثل: إياك ولم يكن مثل: إياك لو أفردته، لأنه لم يكثر في كلامهم كثرة إياك، فشبهت بإياك حيث طال الكلام وكان كثيراً في الكلام.
فلو قلت: نفسك، أو رأسك، أو الجدار، كان إظهار الفعل جائزاً نحو قولك: اتق رأسك، واحفظ نفسك، واتق الجدار. فلما ثنيت صار بمنزلة إياك، وإياك بدل من اللفظ بالفعل، كما كانت المصادر كذلك، نحو: الحذر الحذر.
ومما جعل بدلاً من اللفظ بالفعل قولهم: الحذر الحذر، والنجاء النجاء، وضرباً ضرباً. فإنما انتصب هذا على الزم الحذر، وعليك النجاء، ولكنهم حذفوا لأنه صار بمنزلة افعل. ودخول الزم وعليك على افعل محال.
ومن ثم قالوا، وهو لعمرو بن معد يكرب:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وقال الكميت:

نعاء جذاماً غير موت ولا قتل ... ولكن فراقاً للدعائم والأصل
وقال ذو الإصبع العدواني:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
فلم يجز إظهار الفعل وقبح، كما كان ذلك محالاً.
هذا بابما يكون معطوفاً في هذا الباب
على الفاعل المضمرفي النية ويكون معطوفاً على المفعول، وما يكون صفة المرفوع المضمر في النية ويكون على المفعول وذلك قولك: إياك أنت نفسك أن تفعل، وإياك نفسك أن تفعل. فإن عنيت الفاعل المضمر في النية قلت: إياك أنت نفسك، كأنك قلت: إياك نح أنت نفسك، وحملته على الاسم المضمر في نح. فإن قلت: إياك نفسك تريد الاسم المضمر الفاعل فهو قبيح، وهو على قبحه رفع، ويدلك على قبحه أنك لو قلت: اذهب نفسك، كان قبيحاً حتى تقول: أنت نفسك. فمن ثم كان نصباً، لأنك إذا وصفت بنفسك المضمر المنصوب بغير أنت جاز، تقول: رأيتك نفسك ولا تقول: انطلقت نفسك. وإذا عطفت قلت: إياك وزيداً والأسد، وكذلك: رأسك ورجليك والضرب. وإنما أمرته أن يتقيهما جميعاً والضرب.
وإن حملت الثاني على الاسم المرفوع المضمر فهو قبيح، لأنك لو قلت: اذهب وزيد كان قبيحاً، حتى تقول: اذهب أنت وزيد. فإن قلت إياك أنت وزيدٌ فأنت بالخيار، إن شئت قلت ذاك أنت وزيد جاز، فإن قلت: رأيتك قلت ذاك وزيداً فالنصب أحسن، لأن المنصوب يعطف على المنصوب المضمر، ولا يعطف على المرفوع المضمر إلا في الشعر، وذلك قبيح.
أنشدنا يونس لجرير:
إياك أنت وعبد المسيح ... أن تقربا قبلة المسجد
أنشدناه منصوباً، وزعم أن العرب كذا تنشده.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: إياك زيداً، كما أنه لا يجوز أن تقول: رأسك الجدار، حتى تقول: من الجدار أو والجدار. وكذلك أن تفعل، إذا أردت إياك والفعل. فإذا قلت: إياك أن تفعل، تريد إياك أعظ مخافة أن تفعل، أومن أجل أن تفعل جاز، لأنك لا تريد أن تضمه إلى الاسم الأول، كأنك قلت: إياك نح لمكان كذا وكذا.
ولو قلت: إياك الأسد، تريد من الأسد، لم يجز كما جاز في أن، إلا أنهم زعموا أن ابن أبي إسحاق أجاز هذا البيت في شعر:
إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاءٌ وللشر جالب
كأنه قال: إياك، ثم أضمر بعد إياك فعلاً آخر، فقال: اتق المراء.
وقال الخليل: لو أن رجلاً قال: إياك نفسك لم أعنفه، لأن هذه الكاف مجرورة.
وحدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابياً يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب.
هذا باب يحذف منه الفعل لكثرته في كلامهمحتى صار بمنزلة المثل وذلك قولك: " هذا ولا زعماتك " . أي: ولا أتوهم زعماتك. ومن ذلك قول الشاعر، وهو ذو الرمة، وذكر الديار والمنازل:
ديار مية إذا مي مساعفة ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
كأنه قال: أذكر ديار مية. ولكنه لا يذكر أذكر لكثرة ذلك في كلامهم، واستعمالهم إياه، ولما كان فيه من ذكر الديار قبل ذلك، ولم يذكر: ولا أتوهم زعماتك لكثرة استعمالهم إياه، ولاستدلاله مما يرى من حاله أنه ينهاه عن زعمه.
ومن ذلك قول العرب: " كليهما وتمراً " ، فذا مثل قد كثر في كلامهم واستعمل، وترك ذكر الفعل لما كان قبل ذلك من الكلام، كأنه قال: أعطني كليهما وتمراً.
ومن ذلك قولهم: " كل شيء ولا هذا " و " كل شيء ولا شتيمة حر " ، أي ائت كل شيء ولا ترتكب شتيمة حر، فحذف لكثرة استعمالهم إياه، فأجري مجرى: ولا زعماتك. ومن العرب من يقول: " كلاهما وتمراً " ، كأنه قال: كلاهما لي ثابتان وزدني تمراً. و " كل شيء ولا شتيمة حر " . كأنه قال: كل شيء أمم ولا شتيمة حر، وترك ذكر الفعل بعد لا، لما ذكرت لك، ولأنه يستدل بقوله: كل شيء، أنه ينهاه.
ومن العرب من يرفع الديار، كأنه يقول: تلك ديار فلانة.
وقال الشاعر:
اعتاد قلبك من سلمى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكل حيران سار ماؤه خضل
كأنه قال: وذاك ربع، أو هو ربع، " رفعه على ذا وما أشبهه، سمعناه ممن يرويه عن العرب " .
ومثله " لعمر بن أبي ربيعة " :
هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا ... كما عرفت بجفن الصيقل الخللا
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم ... بالكانسية نرعى اللهو والغزلا

فإذا رفعت فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت.
ومما ينتصب في هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهاره: " انتهوا خيراً لكم " ، و " وراءك أوسع لك " ، وحسبك خيراً لك، إذا كنت تأمر. ومن ذلك قول " الشاعر، وهو " ابن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما أسهلا
وإنما نصبت خيراً لك وأوسع لك، لأنك حين قلت: " انته " فأنت تريد أن تخرجه من أمر وتدخله في آخر.
وقال الخليل: كأنك تحمله على ذلك المعنى، كأنك قلت: انته وادخل فيما هو خير لك، فنصبته لأنك قد عرفت أنك إذا قلت له: انته، أنك تحمله على أمر آخر، فلذلك انتصب، وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، ولعلم المخاطب أنه محمول على أمر حين قال له: انته، فصار بدلاً من قوله: ائت خيراً " لك " ، وادخل فيما هو خير لك.
ونظير ذلك من الكلام قوله: انته يا فلان أمراً قاصداً. فإنما قلت: انته وائت أمراً قاصداً، إلا أن هذا يجوز لك فيه إظهار الفعل، فإنما ذكرت لك ذا لأمثل لك الأول به، لأنه قد كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل، فحذف كحذفهم: ما أريت كاليوم رجلاً.
ومثل ذلك قول القطامي:
فكرت تبتغيه فوافقته ... على دمه ومصرعه السباعا
ومثله قوله، " وهو ابن الرقيات " :
لن تراها ولو تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا
وإنما نصب هذا لأنه حين قال وافقته " و " قال: لن تراها، فقد علم أن الطيب والسباع قد دخلا في الرؤية والموافقة، وإنهما قد اشتملا على ما بعدهما في المعنى.
ومثل ذلك قول ابن قميئة:
تذكر أرضاً بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها
لأن الأخوال والأعمام قد دخلوا في التذكر.
ومثل ذلك فيما زعم الخليل:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تغربت عنها أم عمار
قال الخليل رحمه الله: لما قال هيجني عرف أنه قد كان ثم تذكر لتذكرة الحمام وتهييجه، فألقى ذلك الذي قد عرف منه على أم عمار، كأنه قال: هيجني فذكرني أم عمار.
ومثل ذلك أيضاً قول الخليل رحمه الله، وهو قول أبي عمرو: ألا رجل إما زيداً وإما عمراً، لأنه حين قال: ألا رجل، فهو متمن شيئاً يسأله ويريده، فكأنه قال: اللهم اجعله زيداً أو عمراً، أو وفق لي زيداً أو عمراً.
وإن شاء أظهر فيه وفي جميع هذا الذي مثل به، وإن شاء اكتفي فلم يذكر الفعل؛ لأنه قد عرف أنه متمن سائل شيئاً وطالبه.
ومثل ذلك قول الشاعر، " وهو عبد بني عبس " :
قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
وذات قرنين ضموزاً ضرزما
فإنما نصب الأفعوان والشجاع لأنه قد علم أن القدم ههنا مسالمة كما أنها مسالمة، فحمل الكلام على أنها مسالمة.
ومثل هذا البيت إنشاد بعضهم، لأوس بن حجر:
تواهق رجلاها يداها ورأسه ... لها قتب خلف الحقيبة رادف
وإنشاد بعضهم للحارق بن نهيك:
ليبك يزيد ضارع لخصومةومختبط مما تطيح الطوائح لما قال: ليبك يزيد، كان فيه معنى ليبك يزيد، كما كان في القدم أنها مسالمة، كأنه قال: ليبكه ضارع.
ومن ذلك قول عبد العزيز " الكلابي " :
وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجنات وعيناً سلسيلا
لأن الوجدان مشتمل في المعنى على الجزاء، فحمل الآخر على المعنى. ولو نصب الجزاء كما نصب السباع لجاز. وقال:
أسقى الإله عدوات الوادي ... وجوفه كل ملث غادي
كل أجش حالك السواد
كأنه قال: سقاها كل أجش، كما حمل ضارع لخصومة على ليبك يزيد، لأنه فيه معنى سقاها كل أجش.
ولا يجوز أن تقول: ينتهي خيراً له، ولا أأنتهي خيراً لي؛ لأنك إذا نهيت فأنت تزيجه إلا أمر، وإذا أخبرت أو استفهمت فأنت لست تريد شيئاً من ذلك، إنما تعلم خبراً أو تسترشد مخبراً، وليس بمنزلة وافقته على دمه ومصرعه السباعا؛ لأن السباع داخل في معنى وافقته، كأنه قال: وافقت السباع على مصرعه، " والخير والشر لا يكون محمولاً على ينتهي وشبهه، لا تستطيع أن تقول: انتهيت خيراً، كما تقول: قد أصبت خيراً " .
وقد يجوز أن تقول: ألا رجل إما زيد وإما عمرو، كأنه قيل له: من هذا المتمني؟ فقال: زيد أو عمرو.

ومثل: ليبك يزيد قراءة بعضهم: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " ، رفع الشركاء على " مثل " ما رفع عليه ضارع.
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل
المتروك إظهاره في غير الأمر والنهيوذلك قولك: أخذته بدرهم فصاعدا، وأخذته بدرهم فزائداً. حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء، لو قلت: أخذته بصاعد كان قبيحاً، لأنه صفة ولا تكون في موضع الاسم، كأنه قال: أخذته بدرهم فزاد الثمن صاعداً، أو فذهب صاعداً.
ولا يجوز أن تقول: وصاعد، لأنك لا تريد أن تخبر أن الدرهم مع صاعد ثمن لشيء، كقولك: بدرهم وزيادة، ولكنك أخبرت بأدنى الثمن فجلته أولاً، ثم قروت شيئاً بعد شيء لأثمان شتى. فالواو لم ترد فيها هذا المعنى، ولم تلزم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو، لم يكن في هذا دليل أنك مررت بعمرو بعد زيد. وصاعد بدل من زاد ويزيد.
وثم بمنزلة الفاء، تقول: ثم صاعداً، إلا أن الفاء أكثر في كلامهم.
ومما ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره قولك: يا عبد الله، والنداء كله. وأما يا زيد فله علة ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم هذا في الكلام، وصار يا بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: يا، أريد عبد الله، فحذف أريد وصارت يا بدلاً منها، لأنك إذا قلت: يا فلان، علم أنك تريده.
ومما يدلك على أنه ينتصب على الفعل وأن يا صارت بدلاً من اللفظ بالفعل، قول العرب: يا إياك، إنما قلت: يا إياك أعنى، ولكنهم حذفوا الفعل وصار يا وأيا وأي بدلاً من اللفظ بالفعل.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع بعض العرب يقول: يا أنت. فزعم أنهم جعلوه موضع المفرد. وإن شئت قلت: يا فكان بمنزلة يا زيد، ثم تقول: إياك. أي إياك أعني. هذا قول الخليل رحمه الله في الوجهين.
ومن ذلك قول العرب: من أنت زيداً، فزعم يونس أنه على قوله: من أنت تذكر زيداً، ولكنه كثر في كلامهم واستعمل واستغنوا عن إظهاره، فإنه قد علم أن زيداً ليس خبراً " ولا مبتدأ " ، ولا مبنياً على مبتدأ، فلا بد من أن يكون على الفعل، كأنه قال: من أنت، معرفاً ذا الاسم، ولم يحمل زيداً على من ولا أنت. ولا يكون من أنت زيداً إلا جواباً، كأنه لما قال: أنا زيد، قال: فمن أنت ذاكراً زيداً.
وبعضهم يرفع، وذلك قليل، كأنه قال: من أنت كلامك أو ذكرك زيد. وإنما قل الرفع لأن إعمالهم الفعل أحسن من أن يكون خبراً لمصدر ليس له، ولكنه يجوز على سعة الكلام، وصار كالمثل الجاري، حتى إنهم ليسألون الرجل عن غيره فيقولون للمسؤول: من أنت زيداً، كأنه يكلم الذي قال: أنا زيد، أي أنت عندي بمنزلة الذي قال: أنا زيد، فقيل له: من أنت زيداً، كما تقول للرجل: " أطري إنك ناعلة واجمعي " . أي أنت عندي بمنزلة التي يقال لها هذا.
سمعنا رجلاً منهم يذكر رجلاً، فقال لرجل ساكت لم يذكر ذلك الرجل: من أنت فلاناً.
ومن ذلك قول العرب: أما أنت منطلقاً انطلقت معك، وأما زيد ذاهباً ذهبت معه.
وقال الشاعر، وهو عباس بن مرداس:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
فإنما هي " أن " ضمت إليها " ما " وهي ما التوكيد، ولزمت كراهية أن يجحفوا بها لتكون عوضاً من ذهاب الفعل، كما كانت الهاء والألف عوضاً في الزنادقة واليماني من الياء.
ومثل أن في لزوم " ما " قولهم إما لا، فألزموها ما عوضاً. وهذا أحرى أن يلزموا فيه إذ كانوا يقولون: آثراً ما، فيلزمون ما، شبهوها بما يلزم من النونات في لأفعلن، واللام في إن كان ليفعل، وإن كان ليس مثله، وإنما هو شاذ كنحو ما شبه بما ليس مثله، فلما كان قبيحاً عندهم أن يذكروا الاسم بعد أن ويبتدئوه بعدها كقبح كي عبد الله يقول ذاك، حملوه على الفعل حتى صار كأنهم قالوا: إذ صرت منطلقاً فأنا أنطلق " معك " ، لأنها في معنى إذ في هذا الموضع وإذ في معناها أيضاً في هذا الموضع، إلا أن إذ، لا يحذف معها الفعل.

و " أما " لا يذكر بعدها الفعل المضمر، لأنه من المضمر المتروك إظهاره، حتى صار ساقطاً بمنزلة تركهم ذلك في النداء وفي من أنت زيداً. فإن أظهرت الفعل قلت: إما كنت منطلقاً انطلقت، إنما تريد: إن كنت منطلقاً انطلقت، فحذف الفعل لا يجوز ههنا كما لم يجز ثم إظهاره؛ لأن أما كثرت في كلامهم واستعملت حتى صارت كالمثل المستعمل.
وليس كل حرف هكذا، كما أنه ليس كل حرف بمنزلة لم أبل ولم يك، ولكنهم حذفوا هذا لكثرته وللاستخفاف، فكذلك حذفوا الفعل من أما.
ومثل ذلك قولهم: إما لا، فكأنه يقول: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره، ولكنهم حذفوا " ذا " لكثرة استعمالهم إياه وتصرفهم حتى استغنوا عنه بهذا.
ومن ذلك قولهم: مرحباً، وأهلاً، وإن تأتني فأهل الليل والنهار.
وزعم الخليل رحمه الله حين مثله، أنه بمنزلة رجل رأيته قد سدد سهمه فقلت: القرطاس، أي أصبت القرطاس، أي أنت عندي ممن سيصيبه. وإن أثبت سهمه قلت: القرطاس، أي قد استحق وقوعه بالقرطاس. فإنما رأيت رجلاً قاصداً إلى مكان أو طالباً أمراً فقلت: مرحباً وأهلاً، أي أدركت ذلك وأصبت، فحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه، وكأنه صار بدلاً من رحبت بلادك وأهلت، كما كان الحذر بدلاً من احذر. ويقول الراد: وبك وأهلاً وسهلاً، وبك أهلاً. فإذا قال: وبك وأهلاً، فكأنه قد لفظ بمرحباً بك وأهلاً. وإذا قال: وبك أهلاً فهو يقول: ولك الأهل إذا كان عندك الرحب والسعة. فإذا رددت فإنما تقول: أنت عندي ممن يقال له هذا لو جئتني. وإنما جئت ببك لنبين من تعني بعد ما قلت: مرحباً، كما قلت: لك، بعد سقيا. ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمره هو ما أظهر. وقال طفيل الغنوي:
وبالسهب ميمون القبة قوله ... لملتمس المعروف: أهل ومرحب
أي هذا أهل ومرحب. وقال أبو الأسود:
إذا جئت واباً له قال: مرحباً ... ألا مرحب واديك غير مضيق
فاعرف فيما ذكرت لك أن الفعل يجري في الأسماء على ثلاثة مجار: فعل مظهر لا يحسن إضماره، وفعل مضمر مستعمل إظهاره، وفعل مضمر متروك إظهاره.
فأما الفعل الذي لا يحسن إضماره فإنه أن تنتهي إلى رجل لم يكن في ذكر ضرب ولم يخطر بباله، فتقول: زيداً. فلا بد له من أن تقول له: اضرب زيداً، وتقول له: قد ضربت زيداً. أو يكون موضعاً يقبح أن يعرى من الفعل نحو أن وقد وما أشبه ذلك.
وأما الموضع الذي يضمر فيه وإظهاره مستعمل، فنحو قولك: زيداً، لرجل في ذكر ضرب، تريد: اضرب زيداً.
وأما الموضع الذي لا يستعمل فيه الفعل المتروك إظهاره فمن الباب الذي ذكر فيه إياك إلى الباب الذي آخره ذكر مرحباً وأهلاً. وسترى ذلك فيما يستقبل إن شاء الله.
باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسملأنه مفعول معه ومفعول به، كما انتصب نفسه في قولك: امرأ ونفسه. وذلك قولك: ما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، إنما أردت: ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها. فالفصيل مفعول معه، والأب كذلك، والواو لم تغير المعنى، ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها.
ومثل ذلك: ما زلت وزيداً " حتى فعل " ، أي ما زلت بزيد حتى فعل، فهو مفعول به. وما زلت أسير والنيل، أي مع النيل، واستوى الماء والخشبة، أي بالخشبة. وجاء البرد والطيالسة، أي مع الطيالسة. وقال:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
وقال:
وكان وإياها كحران لم يفق ... عن الماء إذا لاقاه حتى تقددا
ويدلك على أن الاسم ليس على الفعل في صنعت، أنك لو قلت: اقعد وأخوك كان قبيحاً حتى تقول: أنت، لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر. فإذا قلت: ما صنعت أنت، ولو تركت هي، فأنت بالخيار إن شئت حملت الآخر على ما حملت عليه الأول، وإن شئت حملته على المعنى الأول.
باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأولإلا أنها تعطف الاسم هنا على ما لا يكون ما بعده إلا رفعاً على كل حال.
وذلك قولك: أنت وشأنك، وكل رجل وضيعته، وما أنت وعبد الله وكيف أنت وقصعة من ثريد، وما شأنك وشأن زيد. وقال " المخبل " :
يا زبرقان أخا بني خلف ... ما أنت ويب أبيك والفخر
وقال جميل:
وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا ... تهام فما النجدي والمتغور
وقال:

وكنت هناك أنت كريم قيس ... فما القيسي بعدك والفخار
وإنما فرق بين هذا وبين الباب الأول لأنه اسم، والأول فعل فأعمل، كأنك قلت في الأول: ما صنعت أخاك، وهذا محال، ولكن أردت أن أمثل لك.
ولو قلت: ما صنعت مع أخيك وما زلت بعبد الله، لكان مع أخيك وبعبد الله في موضع نصب. ولو قلت: أنت وشأنك كنت كأنك قلت: أنت وشأنك مقرونان، وكل امرئ وضيعته مقرونان؛ لأن الواو في معنى مع عنا، يعمل فيما بعدها ما عمل فيما قبلها من الابتداء والمبتدأ.
ومثله: أنت أعلم ومالك، فإنما أردت: أنت أعلم مع مالك. وأنت أعلم وعبد الله، أي أنت علم مع عبد الله. وإن شئت كان على الوجه الآخر، كأنك قلت: أنت وعبد الله أعلم من غيركما. فإن قلت: أنت أعلم وعبد الله في الوجه الآخر فإنها أيضاً تعمل فيما بعدها الابتداء، كما أعملت في ما صنعت وأخاك، " صنعت " . فعلى أي الوجهين وجهته صار على المبتدأ، لأن الواو في المعنيين جميعاً يعمل فيما بعدها ما عمل في الاسم الذي تعطفه عليه.
وكذلك: ما أنت وعبد الله، وكيف أنت وعبد الله، كأنك قلت: ما أنت وما عبد الله، وأنت تريد أن تحقر أمره أو ترفع أمره.
و " كذلك " : كيف أنت وعبد الله، وأنت تريد أن تسأل عن شأنهما، لأنك إنما تعطف بالواو إذا أردت معنى مع على كيف، وكيف بمنزلة الابتداء، كأنك قلت: وكيف عبد الله، فعملت كما عمل الابتداء لأنها ليست بفعل، ولأن ما بعدها لا يكون إلا رفعاً. يدلك على ذلك قول الشاعر، " وهو زياد الأعجم، ويقال غيره " :
تكلفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق
ألا ترى أنه يريد معنى مع، والاسم يعمل فيه ما.
ومثل ذلك قول العرب: إنك ما وخيراً، تريد: إنك مع خير. وقال، وهو لأبي عنترة العبسي:
فمن يك سائلاً عني فإني ... وجروة لا ترود ولا تعار
فهذا كله ينتصب انتصاب إني وزيداً منطلقان، ومعناهن مع، لأن إني ها هنا بمنزلة الابتداء ليست بفعل ولا اسم بمنزلة الفعل.
وكيف أنت وزيد، وأنت وشأنك، مثالهما واحد، لأن الابتداء وكيف وما وأنت، يعملن فيما كان معناه مع بالرفع فيحسن، ويحمل على " المبتدأ كما يحمل على " الابتداء. ألا ترى أنك تقول: ما أنت وما زيد فيحسن، ولو قلت: ما صنعت وما زيد، لم يحسن ولم يستقم إذا أردت معنى ما صنعت وزيداً، ولم يكن لتعمل ما أنت وكيف أنت، عمل صنعت، وليستا بفعل، ولم نرهم أعملوا شيئاً من هذا كذا. فإذا نصبت فكأنك قلت: ما صنعت زيداً مثل ضربت زيداً ورأيت. ولم نر شيئاً من هذا ليس بفعل فعل به هذا فتجريه مجرى الفعل.
وزعموا أن ناساً يقولون: كيف أنت وزيداً، وما أنت وزيداً. وهو قليل في كلام العرب، ولم يحملوا الكلام على ما ولا كيف، ولكنهم حملوه على الفعل، على شيء لو ظهر حتى يلفظوا به لم ينقض ما أرادوا من المعنى حين حملوا الكلام على ما وكيف، كأنه قال: كيف تكون وقصعة من ثريد، وما كنت وزيداً؛ لأن كنت وتكون يقعان ها هنا كثيراً ولا ينقضان ما تريد من معنى الحديث. فمضى صدر الكلام وكأنه قد تكلم بها " وإن كان لم يلفظ بها، لوقوعها ههنا كثيراً " . ومن ثم أنشد بعضهم:
فما أنا والسير في متلف ... يبرح بالذكر الضابط
لأنهم يقولون: " ما كنت " هنا كثيراً ولا ينقض هذا المعنى. وفي " كيف " معنى يكون، فجرى " ما أنت " مجرى " ما كنت " ، كما أن كيف على معنى يكون.
وإذا قال: أنت وشأنك فإنما أجرى كلامه على ما هو فيه الآن، لا يريد كان ولا يكون. وإن كان حمله على هذا ودعاه إليه شيء قد كان بلغه فإنما ابتدأ وحمله على ما هو فيه الآن، وجرى على ما يبنى على المبتدأ. ولذلك لم يستعملوا ههنا الفعل من كان ويكون، لما أرادوا من الإجراء على ما ذكرت لك.
وزعم أبو الخطاب أنه سمع بعض العرب الموثوق بهم ينشد " هذا البيت نصباً " :
أتوعدني بقومك يا ابن حجل ... أشابات يخالون العبادا
بما جمت من حضن وعمرو ... وما حضن وعمرو والجيادا
وزعموا أنالراعي كان ينشد هذا البيت نصباً:
أزمان قومي والجماعة كالذي ... منع الرحالة أن تميل مميلا

كأنه قال: أزمان كان قومي والجماعة، فحملوه على كان. أنها تقع في هذا الموضع كثيراً، ولا تنقض ما أرادوا من المعنى حين يحملون الكلام على ما يرفع، فكأنه إذا قال: أزمان قومي، كان معناه: أزمان كانوا قومي والجماعة كالذي، وما كان حضن وعمرو والجيادا. ولو لم يقل: أزمان كن قومي لكان معناه إذا قال: أزمان قومي، أزمان كان قومي؛ لأنه أمر قد مضى.
وأما أنت وشأنك، وكل امرئ وضيعته، وأنت أعلم وربك، وأشبه ذلك، فكله رفع لا يكون فيه النصب، لأنك إنما تريد أن تخبر بالحال التي فيها المحدث عنه في حال حديثك، فقلت: أنت الآن كذلك، ولم ترد أن تجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يستقبل، وليس موضعاً يستعمل فيه الفعل.
وأما الاستفهام فإنهم أجازوا فيه النصب، لأنهم يستعملون الفعل في ذلك الموضع كثيراً، يقولون: ما كنت؟ وكيف تكون؟ إذا أرادوا معنى مع ومن ثم قالوا: أزمان قومي والجماعة، لأنه موضع يدخل فيه الفعل كثيراً، يقولون: أزمان كان وحين كان.
وهذا مشبه بقول صرمة الأنصاري:
بداء لي أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا
فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيراً.
ومثله " قول الأخوص " :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
فحملوه على ليسوا بمصلحين، ولست بمدرك.
ومثله لعامر بن جوين الطائي:
فلم أر مثلها خباسة واحد ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
فحملوه على أن، لأن الشعراء قد يستعملون أن ههنا مضطرين كثيراً.
باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام
إذا حمل آخره على أولهوذلك قولك: مالك وزيداً، وما شأنك وعمراً. فإنما حد الكلام ههنا: ما شأنك وشأن عمرو. فإن حملت الكلام على الكاف المضمرة فهو قبيح، وإن حملته على الشأن لم يجز لأن الشأن ليس يلتبس بعبد الله، إنما يلتبس به الرجل المضمر في الشأن. فلما كان ذلك قبيحاً حملوه على الفعل، فقالوا: ما شأنك وزيداً، أي ما شأنك وتناولك زيداً. قال المسكين الدارمي:
فما لك والتلدد حول نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال
وقال:
وما لكم والفرط لا تقربوه ... وقد خلته أدنى مرد لعاقل
ويدلك أيضاً على قبحه إذا حمل على الشأن، أنك إذا قلت: ما شأنك وما عبد الله، لم يكن كحسن ما جرم وما ذاك السويق، لأنك توهم أن الشأن هو الذي يلتبس بزيد، " وإنما يلتبس شأن الرجل بشأن زيد " . ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم.
فإذا أظهر الاسم فقال: ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجر، لأنه قد حسن أن تحمل الكلام على عبد الله، لأن المظهر المجرور يحمل عليه المجرور.
وسمعنا بعد العرب يقول: ما شأن عبد الله والعبر يشتمها. وسمعنا أيضاً من العرب الموثوق بهم من يقول: ما شأن قيس والبر تسرقه. لما أظهروا الاسم حسن عندهم أن يحملوا عليه الكلام الآخر.
فإذا أضمرت فكأنك قلت: ما شأنك وملابسة زيداً، أو وملابستك زيداً، فكان أن يكون زيد على فعل وتكون الملابسة على الشأن، لأن الشأن معه ملابسة له، أحسن من أن يجروا المظهر على المضمر.
فإن أظهرت " الاسم في الجر " عمل عمل كيف في الرفع.
ومن قال: ما أنت وزيداً، قال: ما شأن عبد الله وزيداً. كأنه قال: ما كان شأن عبد الله وزيداً، وحمله على كان لأن كان تقع ههنا.
والرفع أجود وأكثر " في: ما أنت وزيد " ، والجر في قولك: ما شأن عبد الله وزيد، أحسن وأجود، كأنه قال: ما شأن عبد الله وشأن زيد ومن نصب في: ما أنت وزيداً أيضاً قال: ما لزيد وأخاه، كأنه قال: ما لزيد وأخاه، كأنه قال: ما كان شأن زيد وأخاه؛ لأنه يقع في هذا المعنى ههنا، فكأنه قد كان تكلم به.
ومن ثم قالوا: حسبك وزيداً؛ لما كان فيه معنى كفاك، وقبح أن يحملوه على المضمر، نووا الفعل، كأنه قال: حسبك ويحسب أخاك درهم.
وكذلك: كفيك، " وقدك، وقطك " .
وأما ويلاً له وأخاه، وويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه، كأنك قلت: ألزمه الله ويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه، فلما كان كذلك - وإن كان لا يظهر - حمله على المعنى.

وإن قلت: ويل له وأباه نصبت لأن فيه ذلك المعنى، كما أن حسبك يرتفع بالابتداء وفيه معنى كفاك. وهو نحو مررت به وأباه، وإن كان أقوى، لأنك ذكرت الفعل، كأنك قلت: ولقيت أباه.
وأما هذا لك وأباك، فقبيح " أن تنصبالأب " ، لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً في معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل.
باب ما ينصب من المصادر
على إضمار الفعل غير المستعمل وإظهارهوذلك قولك: سقياً ورعياً، ونحو قولك: خيبة، ودفراً، وجدعاً وعقراً، وبؤساً، وأفة وتفة، وبعداً وسحقاً. ومن ذلك قولك: تعساً وتباً، وجوعاً " وجوساً " . ونحو قول ابن ميادة:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجارية بهراً لهم بعدها بهرا
أي تباً.
"
وقال:
ثم قالوا تحبها قلت بهراً ... عدد النجم والحصى والتراب
كأنه قال: جهداً، أي جهدي ذلك " .
وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه، على إضمار الفعل، كأنك قلت: سقاك الله سقياً، ورعاك " الله " رعياً، وخيبك الله خيبة. فكل هذا وأشباهه على هذا ينتصب.
وإنما اختزل الفعل ها هنا لأنهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، كما جعل الحذر بدلاً من احذر. وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله ورعاك " الله " ، ومن خيبك الله.
وما جاء منه لا يظهر له فعل فهو على هذا المثال نصب، كأنك جعلت بهراً بدلاً من بهرك الله، فهذا تمثيل ولا يتكلم به.
ومما يدلك أيضاً على أنه على الفعل نصب، أنك لم تذكر شيئاً من هذه المصادر لتبني عليه كلاماً كما يبنى على عبد الله إذا ابتدأته، وأنك لم تجعله مبنياً على اسم مضمر في نيتك، ولكنه على دعائك له أو عليه.
وأما ذكرهم " لك " بعد سقياً فإنما هو ليبينوا المعنى بالدعاء. وربما تركوه استغناء، إذا عرف الداعي أنه قد علم من يعني. وربما جاء به على العلم توكيداً، فهذا بمنزلة قولك: " بك " بعد قولك: مرحباً، يجريان مجرى واحداً فيما وصفت لك.
وقد رفعت الشعراء بعض هذا فجعلوه مبتدأ وجعلوا ما بعده مبنياً عليه.
قال أبو زبيد:
أقام وأقوى ذات يوم وخيبة ... لأول من يلقى وشر ميسر
وهذا شبيه رفعه ببيت سمعناه ممن يوثق بعربيته، يرويه لقومه، قال:
عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم ... يقول الخنا أو تعتريك زنابره
فلم يحمل الكلام على اذعرين، ولكنه قال: إنما عذرك إياي من مولى هذا أمره.
ومثله قول الشاعر:
أهاجيتم حسان عند ذكائه ... فغي لأولاد الحماس طويل
وفيه المعنى الذي يكون في المنصوب، كما أن قولك: رحمة الله عليه، فيه معنى الدعاء، كأنه قال: رحمه الله.
هذا باب
ما جرى من الأسماء مجرى المصادر
التي يدعى بهاوذلك قولك: ترباً، وجندلاً، وما أشبه هذا. فإن أدخلت " لك " فقلت: ترباً لك. فإن تفسيراً ههنا كتفسيرها في الباب الأول، كأنه قال: ألزمك الله وأطعمك الله ترباً وجندلاً، وما أشبه " من الفعل " ، واختزل الفعل ها هنا لأنهم جعلوه بدلاً من قولك: تربت يداك " وجندلت " .
وقد رفعه بعض العرب فجعله مبتدأ مبنياً عليه ما بعده، قال الشاعر:
لقد ألب الواشون ألباً لبينهم ... فترب لأفواه الوشاة وجندل
وفيه ذلك المعنى الذي في المنصوب كما كان ذلك في الأول. ومن ذلك قول العرب: فاها لفيك، وإنما تريد: فا الداهية كأنه قال: ترباً لفيك فصار بدلاً من اللفظ بالفعل وأضمر له كما أضمر للترب والجندل، فصار بدلاً من اللفظ بقوله: دهاك الله. وقال أبو سدرة " الهجمي " :
تحسب هواس، وأقبل، أنني ... بها مفتد من واحد لا أغامره
فقلت له: فاها لفيك فإنها ... قلوص امرئ قاريك ما أنت حاذره
ويدلك على أنه يريد به الداهية قوله، وهو عامر ابن الأحوص:
وداهية من دواهي المنو ... ن ترهبها الناس لا فالها
فجعل للداهية فما، حدثنا بذلك من يوثق به.
وهذا باب
ما أجري مجرى المصادر المدعو بها
من الصفاتوذلك قولك: هنيئاً مرياً " كأنك قلت: ثبت لك هنيئاً مريئاً، وهنأه ذلك هنيئاً " . وإنما نصبته لأنه ذكر " لك " خيرا أصابه رجل فقلت: هنيئاً مريئاً، كأنك قلت: ثبت ذلك له هنيئاً مريئاً أو هنأه ذلك هنيئاً، فاختزل الفعل، لأنه صار بدلاً من اللفظ بقولك: هنأك.

ويدلك على أنه على إضمار هنأك ذلك هنيئاً، قول الشاعر، وهو الأخطل:
إلى إمام تغادينا فواضله ... أظفره الله فليهنئ له الظفر
كأنه إذا قال: هنيئاً له الظفر، فقد قال: ليهنئ له الظفر، وإذا قال: ليهنئ له الظفر، فقد قال: هنيئاً له الظفر، فكل واحد منهما بدل من صاحبه، فلذلك اختزلوا الفعل هنا، كما اختزلوه في قولهم: الحذر. فالظفر والهنئ عمل فيهما الفعل، والظفر بمنزلة الاسم في قوله: هنأه ذلك حين مثل. وكذلك قول الشاعر:
هنيئاً لأرباب البيوت بيوتهم ... وللعزب المسكين ما يتلمس
باب ما جرى من المصادر المضافة مجرى
المصادر المفردة المدعو بهاوإنما أضيفت ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام إذا قلت: سقياً لك، لتبين من تعني.
وذلك: ويلك، وويحك، وويسك، وويبك. ولا يجوز: سقيك، إنما تجرىي ذا كما أجرت العرب.
ومثل ذلك: عددتك وكلتك " ووزنتك " ، ولا تقول: وهبتك، لأنهم لم يعدوه. ولكن: وهبت لك.
وهذا حرف لا يتكلم به مفرداً إلا أن يكون على ويلك، وهو قولك: ويلك وعولك، ولا يجوز: عولك.
هذا باب
ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره
من المصادر في غير الدعاءمن ذلك قولك: حمداً وشكراً لا كفراً وعجباً، وأفعل ذلك وكرامة ومسرة ونعمة عين، وحباً ونعام عين، ولا أفعل ذاك ولا كيداً ولا هماً، ولأفعلن ذاك ورغماً وهواناً.
فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل، كأنك قلت: أحمد الله حمداً وأشك الله شكراً، وكأنك قلت: أعجب عجباً، وأكرمك كرامة، وأسرك مسرة، ولا أكاد كيداً ولا أهم هماً، وأرغمك رغماً.
وإنما اختزل الفعل ههنا لأنهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل، كما فعلوا ذلك في باب الدعاء. كأن قولك: حمداً في موضع أحمد الله، وقولك: عجباً منه في موضع أعجب منه، وقوله: ولا كيداً في موضع ولا أكاد ولا أهم.
وقد جاء بعض هذا رفعاً يبتدأ ثم يبنى عليه. وزعم يونس أن رؤبة ابن العجاج كان ينشد هذا البيت رفعاً، وهو لبعض مذحج، " وهو هني ابن أحمر الكناني " :
عجب لتلك قضية وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب
وسمعنا بعض العرب الموثوق به، يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه يحمله على مضمر في نيته هو المظهر، كأنه يقول: أمري " وشأني " حمد الله وثناء عليه. ولو نصب لكان الذي في نفسه الفعل، ولم يكن مبتدأ لبيني عليه ولا ليكون مبنياً على شيء هو ما أظهر.
وهذا مثل بيت سمعناه من بعض العرب الموثوق به يرويه:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
لم ترد حن، ولكنها قالت: أمرنا حنان، أو ما يصيبنا حنان. وفي هذا المعنى كله معنى النصب.
ومثله في أنه على الابتداء وليس على فعل قوله عز وجل: " قالوا معذرة إلى ربكم " . لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: " لم تعظون " قوماً " ؟ قالوا: موعظتنا معذرة إلى ربكم.
ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا وكذا، يريد اعتذاراً، لنصب.
ومثل ذلك قول الشاعر:
يشكو إلى جملى طول السرى ... صبر جميل فكلانا مبتلى
والنصب أكثر وأجود؛ لأنه يأمره. ومثل الرفع " فصبر جميل والله المستعان " ، كأنه يقول: الأمر صبر جميل.
والذي يرفع عليه حنان وصبر وما أشبه ذلك لا يستعمل إظهاره، وترك إظهاره كترك إظهار ما ينصب فيه.
ومثله قول بعض العرب: من أنت زيد، أي من أنت كلامك زيد، فتركوا إظهار الرافع كترك إظهار الناصب، ولأن فيه ذلك المعنى وكان بدلاً من اللفظ بالفعل، وسترى مثله إن شاء الله.
هذا باب أيضاً من المصادر ينتصب
بإضمار الفعل المتروك إظهارهولكنها مصادر وضعت موضعاً واحداً لا تتصرف في الكلام تصرف ما ذكرنا من المصادر. وتصرفها أنها تقع في موضع الجر والرفع وتدخلها الألف واللام.
وذلك قولك: سبحان الله، ومعاذ الله وريحانه، وعمرك الله إلا فعلت " وقعدك الله إلا فعلت " ، كأنه حيث قال: سبحان الله قال: تسبيحاً، وحيث قال: وريحانه قال: واسترزاقاً؛ لأن معنى الريحان الرزق. فنصب هذا على أسبح الله تسبيحاً، واسترزق الله استرزاقاً؛ فهذا بمنزلة سبحان الله وريحانه، وخزل الفعل ههنا لأنه بدل من اللفظ بقوله: سبحك واسترزقك.

وكأنه حيث قال: معاذ الله، قال: عياذاً بالله. وعياذاً انتصب على أعوذ بالله عياذاً، ولكنهم لم يظهروا الفعل ههنا كما لم يظهر في الذي قبله.
وكأنه حيث قال: عمرك الله وقعدك الله. قال: عمرتك الله بمنزلة نشدتك الله، فصارت عمرك الله منصوبة بعمرتك الله، كأنك قلت: عمرتك عمراً، ونشدتك نشداً، ولكنهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلاً من اللفظ به.
قال الشاعر:
عمرتك الله إذا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم
فقعدك الله يجري هذا المجرى وإن لم يكن له فعل. وكأن قوله: عمرك الله وقعدك الله بمنزلة نشدك الله وإن لم يتكلم بنشدك الله، ولكن زعم الخليل رحمه الله أن هذا تمثيل يمثل به. قال الشاعر، ابن أحمر:
عمرتك الله الجليل فإنني ... ألوي عليك لو أن لبك يهتدي
والمصدر النشدان والنشدة.
وهذا ذكر معنى " سبحان " ، وإنما ذكر ليبين لك وجه نصبه وما أشبهه.
زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه يقول: " أبرئ " براءة الله من السوء. وزعم أن مثله قول الشاعر، وهو الأعشى:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
أي براءة منه.
وأما ترك التنوين في سبحان فإنما ترك صرفه لأنه صار عندهم معرفة، وانتصابه كانتصاب الحمد لله.
وزعم أبو الخطاب أن مثله قولك للرجل: سلاماً، تريد تسلماً منك، كما قلت: براءة منك، تريد: لا ألتبس بشيء من أمرك. وزعم أن أبا ربيعة كان يقول: إذا لقيت فلاناً فقل " له " سلاماً. فزعم أنه سأله ففسره له بمعنى براءة منك. وزعم أن هذه الآية: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " بمنزلة ذلك، لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: " براءة منكم " وتسلما، لا خير بيننا وبينكم ولا شر.
وزعم أن قول الشاعر، وهو أمية بن أبي الصلت:
سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تغنثك الذموم
على قوله: براءتك ربنا من كل سوء.
فكل هذا ينتصب انتصاب حمداً وشكراً، إلا أن هذا يتصرف وذاك لا يتصرف.
ونظير سبحان الله في البناء من المصادر والمجرى لا في المعنى " غفران " ؛ لأن بعض العرب يقول: غفرانك لا كفرانك، يريد استغفاراً لا كفراً.
ومثل هذا قوله جل ثناؤه: " ويقولون حجراً محجوراً، أي حراماً محرماً،يريدبه البراءة من الأمر ويبعد عن نفسه أمراً، فكأنه قال: أحرم ذلك حراماً محرماً.
ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجراً، أي ستراً وبراءة من هذا. فهذا ينتصب على إضمار الفعل، ولم يرد أن يجعله مبتدأ خبره بعده ولا مبنياً على اسم مضمر.
واعلم أن من العرب من يرفع سلاماً إذا أراد معنى المبارأة، كما رفعوا حنان. سمعنا بعض العرب يقول " لرجل " : لا تكونن مني " في شيء " إلا سلام بسلام، أي أمري وأمرك المبارأة والمتاركة. وتركوا لفظ ما يرفع كما تركوا فيه لفظ ما ينصب، لأن فيه ذلك المعنى، ولأنه بمنزلة لفظك بالفعل.
وقد جاء سبحان منوناً مفرداً في الشعر، قال الشاعر، وهو أمية ابن أبي الصلت:
سبحانه ثم سبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
شبهه بقولهم: حجراً وسلاماً.
وأما سبوحاً قدوساً رب الملائكة والروح، فليس بمنزلة سبحان الله؛ لأن السبوح والقدوس اسم، ولكنه على قوله: أذكر سبوحاً قدوساً. وذاك أنه خطر على باله أو ذكره ذاكر فقال: سبوحاً، أي ذكرت سبوحاً، كما تقول: أهل ذاك، إذا سمعت الرجل ذكر الرجل بثناء أو يذم، كأنه قال: ذكرت أهل ذاك؛ لأنه حيث جرى ذكر الرجل " في منطقه " صار عنده بمنزلة قوله: أذكر فلاناً، أو ذكرت فلاناً. كما أنه حيث أنشد ثم قال: صادقاً، صار الإنشاد عنده بمنزلة قال، ثم قال: صادقاً وأهل ذاك، فحمله على الفعل متابعاً للقائل والذاكر. فكذلك: سبوحاً قدوساً، كأن نفسه " صارت " بمنزلة الرجل الذاكر والمنشد حيث خطر على باله الذكر، ثم قال: سبوحاً قدوساً، أي ذكرت سبوحاً، متابعاً لها فيما ذكرت وخطر على بالها.
وخزلوا الفعل لأن هذا الكلام صار عندهم بدلاً من سبحت، كما كان مرحباً بدلاً من رحبت بلادك وأهلت.

ومن العرب من يرفع فيقول: سبوح قدوس " رب الملائكة والروح " ، كما قال: أهل ذاك وصادق والله. وكل هذا على ما سمعنا العرب تتكلم به رفعاً ونصباً.
ومثل ذلك: خير ما رد في أهل ومال، " وخير ما رد في أهل ومال " أجري مجرى خير مقدم وخير مقدم.
ومما ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره، ولكنه في معنى التعجب، قولك: كرماً وصلفاً، كأنه قال: ألزمك الله وأدام لك كرماً وألزمت صلفاً، ولكنهم خزلوا الفعل ههنا كما خزلوه في الأول، لأنه صار بدلاً من قولك: أكرم به وأصلف به، كما انتصب مرحباً. وقلت " لك " ، كما قلت " بك " بعد مرحباً، لتبين من تعني، فصار بدلاً في اللفظ من رحبت " بلادك.
وسمعت أعرابياً وهو أبو مرهب، يقول: كرماً وطول أنف، أي أكرم بك وأطول بأنفك " .
باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأةمبنياً عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات وذلك قولك: الحمد لله، والعجب لك، والويل لك، والتراب لك، والخيبة لك.
وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر فقوي في الابتداء، بمنزلة عبد الله والرجل الذي تعلم، لأن الابتداء إنما هو خبر، وأحسنه إذا اجتمع نكرة ومعرفة أن يبتدئ بالأعرف؛ وهو أصل الكلام.
ولو قلت: رجل ذاهب لم يحسن حتى تعرفه بشيء فتقول: راكب من بني فلان سائر. وتبيع الدار فتقول: حد منها كذا وحد منها كذا، فأصل الابتداء للمعرفة. فلما أدخلت فيه الألف واللام وكان خبراً حسن الابتداء، وضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون فيه معنى المنصوب.
وليس كل حرف يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف يدخل فيه الألف واللام من هذا الباب. لو قلت: السقي لك والرعي لك، لم يجز.
واعلم أن الحمد لله وإن ابتدأته ففيه معنى المنصوب، وهو بدل من اللفظ بقولك: أحمد الله.
وأما قوله: شيء ما جاء بك، فإنه يحسن وإن لم يكن على فعل مضمر، لأن فيه معنى ما جاء بك إلا شيء. ومثله مثل للعرب: " شر أهر ذا ناب " .
وقد ابتدئ في الكلام على غير ذا المعنى وعلى غير ما فيه معنى المنصوب وليس بالأصل، قالوا في مثل: " أمت في الحجر لا فيك " .
ومن العرب من ينصب بالألف واللام، من ذلك قولك: الحمد لله، فينصبها عامة بني تميم وناس من العرب كثير.
وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون: التراب لك والعجب لك. فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت: حمداً وعجباً، ثم جئت بلك لتبين من تعني، ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدئه.
هذا باب من النكرة
يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماءوذلك قولك: سلام عليك ولبيك، وخير بين يديك، وويل لك، وويح لك، وويس لك، وويلة لك، وعولة لك، وخير له، وشر له، و " لعنة الله على الظالمين " .
فهذه الحروف كلها مبتدأ مبني عليها ما بعدها، والمعنى فيهن أنك ابتدأ شيئاً قد ثبت عندك، ولست في حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيها ذلك المعنى، كما أن حسبك فيها معنى النهي، وكما أن رحمه الله عليه فيه معنى رحمة الله. فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذا ذكرته كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها، كما أنهم لم يجعلوا سقياً ورعياً بمنزلة هذه الحروف، فإنما تجريها كما أجرت العرب، وتضعها في المواضع التي وضعن فيها، ولا تدخلن فيها ما لم يدخلوا من الحروف. ألا أترى أنك لو قلت: طعاماً لك وشراباً لك ومالاً لك، تريد معنى سقياً، أو معنى المرفوع الذي فيه معنى الدعاء لم يجز، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل ما قبله. فهذا يدلك ويبصرك أنه ينبغي لك أن تجري هذا الحروف كما أجرت العرب وأن تعني ما عنوا " بها " . فكما لم يجز أن يكون كل حرف بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته وتزجيته، ولم يجز لك أن تجعل المنصوب بمنزلة المرفوع. إلا أن العرب ربما أجرت الحروف على الوجهين.
==================================
ج2. كتاب : الكتاب سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر


ومثل الرفع: " طوبى لهم وحسن مآب " ، يدلك على رفعها رفع حسن مآب. وأما قوله تعالى جده: " ويل يومئذ للمكذبين " و " ويل للمطففين " ، فإنه لا ينبغي أن تقول إنه دعاء ههنا، لأن الكلام بذلك قبيح، واللفظ " به " قبيح، ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون، فكأنه والله أعلم قيل لهم: ويل للمطففين، وويل " يومئذ " للمكذبين، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكلة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الشر والهلكة ووجب لهم هذا.
ومثل ذلك " قوله تعالى " : " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما.
ومثله: " قاتلهم الله " ، فإنما أجري هذا على كلام العباد وبه أنزل القرآن.
وتقول: ويل له ويل طويل، فإن شئت جعلته بدلاً من المبتدأ الأول، وإن شئت جعلته صفة له، وإن شئت قلت: ويل لك ويلاً طويلاً، تجعل الويل الآخر غير مبدول ولا موصوف به، ولكنك تجعله دائماً، أي ثبت لك الويل دائماً.
ومن هذا الباب: فداء لك أبي وأمي، وحمي لك أبي، ووقاء لك أمي.
ولا تقول: عولة لك إلا أن يكون قبلها ويلة لك، ولا تقول: عول لك حتى تقول: ويل لك؛ لأن ذا يتبع ذا، كما أن ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدأ.
واعلم أن بعض العرب يقول: ويلاً له وويلة له، وعولة لك، ويجريها مجرى خيبة. من ذلك قول الشاعر، وهو جرير:
كسا اللؤم تيماً خضرة في جولدها ... فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر
ويقول الرجل: يا ويلاه! فيقول الآخر: ويلاً كيلاً! كأنه يقول: لك ما دعوت به ويلاً كيلاً. يدلك على ذلك قولهم إذا قال يا ويلاه: نعم ويلاً كيلاً، أي كذلك أمرك، أو لك الويل ويلاً كيلاً. وهذا مشبه بقوله: ويل له ويلاً كيلاً. وربما قالوا: يا ويلاً كيلاً، وإن شاء جعله على قوله: جدعاً وعقراً.
باب منه استكرهه النحويون، وهو قبيحفوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب وذلك قولك: ويح له وتب، وتباً لك وويحاً. فجعلوا التب بمنزلة الويح، وجعلوا ويح بمنزلة التب، فوضعوا كل واحد منهما على غير الموضع الذي وضعته العرب.
ولا بد لويح مع قبحها من أن تحمل على تب، لأنها إذا ابتدأت لم يجز حتى يبنى عليها كلام، وإذا حملتها على النصب كنت تبنيها على شيء مع قبحها. فإذا قلت: ويح له ثم ألحقتها التب فإن النصب فيه أحسن؛ لأن تباً إذا نصبتها فهي مستغنية عن لك، فإنما قطعتها من أول الكلام كأنك قلت: وتباً لك، فأجريتها على ما أجرتها العرب.
فأما النحويون فيجعلونها بمنزلة ويح. ولا تشبهها لأن تباً تستغنى عن لك ولا تستغنى ويح عنها، فإذا قلت: تباً له وويح له فالرفع ليس فيه كلام، ولا يختلف النحويون في نصب التب إذا قلت: ويح له وتباً له. فهذا يدلك على أن النصب في تب فيما ذكرنا أحسن، لأن " له " لم يعمل في التب.
هذا باب ما ينتصب فيه المصدركان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره، لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلاً من اللفظ بالفعل، كما كان الحذر بدلاً من احذر في الأمر وذلك قولك: ما أنت إلا سيراً، وإلا سيراً سيراً، وما أنت إلا الضرب الضرب، وما أنت إلا قتلا قتلا، وما أنت إلا سير البريد " سير البريد " . فكأنه قال في هذا كله: ما أنت إلا تفعل فعلاً، وما أنت إلا تفعل الفعل، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك.
وصار في الاستفهام والخبر بمنزلته في الأمر والنهي لأن الفعل يقع ههنا كما يقع فيهما، وإن كان الأمر والنهي أقوى، لأنهما لا يكونان بغير فعل، فلم يمتنع المصدر ههنا " أن ينتصب " ، لأن العمل يقع ههنا مع المصدر في الاستفهام " والخبر، كما يقع في الأمر والنهي، والآخر غير الأول كما كان ذلك في الأمر والنهي، إذا قلت: ضرباً فالضرب غير المأمور " .
وتقول: زيد سيراً سيراً، وإن زيداً سيراً سيراً، وكذلك في ليت ولعل ولكن وكأن وما أشبه ذلك، " وكذلك إن قلت: أنت الدهر سيراً سيراً " ، وكان عبد الله الدهر سيراً سيراً، وأنت مذ اليوم سيراً سيراً.

واعلم أن السير إذا كنت تخبر عنه في هذا الباب فإنما تخبر بسير متصل بعض ببعض في أي الأحوال كان. وأما قولك: إنما أنت سير فإنما جعلته خبراً لأنت ولم تضمر فعلاً. وسنبين لك وجهه إن شاء الله.
ومن ذلك قولك: ما أنت إلا شرب الإبل، وما أنت إلا ضرب الناس، وما أنت إلا ضرباً الناس. وأما شرب الإبل فلا ينون لأنك لم تشبهه بشرب الإبل، وأن الشرب ليس بفعل يقع منك على الإبل.
ونظير ما انتصب قول الله عز وجل في كتابه: " فإما منا بعد وإما فداء " ، إنما انتصب على: فإما تمنون مناً وإما تفادون فداء، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك.
ومثله قول " الشاعر، وهو " جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا
كأنه نفى قوله: فعياً بهن واجتلابا، أي فأنا أعيا بهن وأجتلبهن اجتلاباً، ولكنه نفى هذا حين قال: " فلا " .
ومثله قولك: ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعاباً وطرداً. فإنما ذكر مسرحه وذكر مسيره، وهما عملان، فجعل المسير إتعاباً وجعل المسرح لا عي فيه، وجعله فعلاً متصلاً إذا سار وإذا سرح.
وإن شئت رفعت هذا كله فجعلت الآخر هو الأول، فجاز على سعة الكلام. من ذلك قول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
فجعلها الإقبال والإدبار، فجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم وليلك قائم.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
جعل دهره الجزع. والنصب جائز على قوله: فلا عياً بهن ولا اجتلابا. وإنما أراد: وما دهري دهر جزع، ولكنه جاز على سعة الكلام، واستخفوا واختصوا كما فعل ذلك فيما مضى.
وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك: أقياماً يا فلان والناس قعود، وأجلوساً والناس يعدون، لا يريد أن يخبر أنه يجلس ولا أنه قد جلس وانقضى جلوسه، ولكنه يخبر أنه في تلك الحال في جلوس وفي قيام.
وقال الراجز، وهو العجاج:
أطرباً وأنت قنسري
وإنما أراد: أتطرب، أي أنت في حال طرب؟ ولم يرد أن يخبر عما مضى ولا عما يستقبل.
ومن ذلك قول بعض العرب: " أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية " ، كأنه إنما أراد: أأغد غدة كغدة البعير وأموت موتاً في بيت سلولية. وهو بمنزلة أطرباً، وتفسيره كتفسيره.
وقال جرير:
أعبداً حل في شعبي غريباً ... ألؤماً لا أبا لك واغتراباً
يقول: أتلؤم لؤماً وأتغترب اغترابا، وحذف الفعلين في هذا الباب، لأنهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو كثير في كلام العرب.
"
وأما عبداً فيكون على ضربين: إن شئت على النداء، وإن شئت على قوله: أتفتخر عبداً، ثم حذف الفعل " .
وكذلك إن أخبرت ولم تستفهم، تقول: سيراً سيراً، عنيت نفسك أو غيرك، وذلك أنك رأيت رجلاً في حال سير أو كنت في حال سير، أو ذكر رجل يسير أو ذكرت أنت بسير، وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما حسن في الاستفهام. لأنك إنما تقول: أطرباً وأسيراً، إذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته فيه.
وعلى هذا يجري هذا الباب إذا كان خبراً أو استفهاماً، إذا رأيت رجلاً في حال سير أو ظننته فيه، فأثبت ذلك له.
وكذلك " أنت " في الاستفهام، إذا قلت: أأنت سيراً. ومعنى هذا الباب أنه فعل متصل في حال ذكرك إياه استفهمت أو أخبرت، وأنك في حال ذكرك شيئاً من هذا الباب تعمل في تثبيته لك أو لغيرك.
ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعني نفسك قول الشاعر:
سماع الله والعلماء أني ... أعوذ بحقو خالك يا ابن عمرو
وذلك أنه جعل نفسه في حال من يسمع، فصار بمنزلة من رآه في حال سير فقال: إسماعا الله، بمنزلة قولك: ما أنت إلا ضرباً الناس، وإلا ضرب الناس، إذا حذفت التنوين تخفيفاً.
هذا باب ما ينتصب من الأسماءالتي أخذت من الأفعال انتصاب الفعل، استفهمت أو لم تستفهم وذلك قولك: أقائماً وقد قعد الناس، وأقاعداً وقد سار الركب. وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم، تقول: قاعداً علم الله وقد سار الركب، وقائماً قد علم الله وقد قعد الناس.

وذلك أنه رأى رجلاً في حال قيام أو حال قعود، فأراد أن ينبهه، فكأنه لفظ بقوله: أتقوم قائماً وأتقعد قاعداً، ولكنه حذف استغناء بما يرى من الحال، وصار الاسم بدلاً من اللفظ بالفعل، فجرى مجرى المصدر في هذا الموضع.
ومثل ذلك: عائذاً بالله من شرهاً، كأنه رأى شيئاً يتقى فصار عند نفسه في حال استعاذة، حتى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود، لأنه يرى نفسه في تلك الحال، فقال: عائذاً " بالله " ، كأنه قال: أعوذ بالله عائذاً بالله، ولكنه حذف الفعل لأنه بدل من قوله: أعوذ بالله، فصار هذا يجري ها هنا مجرى عياذاً بالله. ومنهم من يقول: عائذ بالله من شر فلان.
وإذا ذكرت شيئاً من هذا الباب فالفعل متصل في حال ذكرك وأنت تعمل في تثبيته لك أو لغيرك في حال ذكرك إياه، كما كنت في باب حمداً وسقياً وما أشبهه، إذا ذكرت شيئاً منه في حال تزجيه وإثبات، وأجريت عائذاً " بالله " في الإضمار والبدل مجرى المصدر، كما كان هنيئاً بمنزلة المصدر فيما ذكرت لك.
وقال الشاعر، وهو عبد الله بن الحارث السهمي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألحق عذابك بالقوم الذي طغوا ... وعائذاً بك أن يعلوا فيطغوني
فكأنه قال: وعياذاً بك.
ومثله قوله:
أراك جمعت مسألة وحرصاً ... وعند الحق زحاراً أنانا
كأنه قال: " تزحر " زحيراً و " تئن " أنيناً، " ثم وضعه مكان هذا، أي أنت عند الحق هكذا " .
هذا باب
ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل
مجرى الأسماء التي أخذت من الفعلوذلك قولك: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى.
وإنما هذا أنك رأيت رجلاً في حال تلون وتنقل، فقلت: أتميماً مرة وقيسياً أخرى، كأنك قلت: أتحول تميمياً مرة وقيسياً أخرى. فأنت في هذه الحال تعمل في تثبين هذا له، وهو عندك في تلك الحال في تلوم وتنقل، وليس يسأله مسترشداً عن أمر هو جاهل به ليفهمه إياه ويخبره عنه، ولكنه وبخه بذلك.
وحدثنا بعض العرب، أن رجلاً من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطير " منه " ، فقال: يا بني أسد، أعور وذا ناب! فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحته، ولكنه نبههم، كأنه قال: أتستقبلون أعور وذا ناب! فالاستقبال في حال تنبيهه إياهم كان واقعاً، كما كان التلون والتنقل عندك ثابتين في الحال الأول، وأراد أن يثبت لهم الأعور ليحذوره.
ومثل ذلك قول الشاعر:
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أشباه الإماء العوارك
أي تنقلون، وتلونون مرة كذا ومرة كذا. وقال:
أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي العيادة أولاداً لعلات
وأما قول الشاعر:
أعبداً حل في شعبي غريباً
فيكون على وجهين: على النداء، على أنه رآه في حال افتخار واجتراء، فقال: أعبداً، أي أتفخر عبداً، كما قال: أتميمياً " مرة " .
وإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضاً كما نصب في حال الخبر الاسم الذي أخذ من الفعل، وذلك قولك: تميمياً قد علم الله مرة وقيسياً أخرى. فلم ترد أن تخبر القوم بأمر قد جهلوه، ولكنك أردت أن تشتمه بذلك، فصار بدلاً من اللفظ بقولك: أتتم مرة وتتقيس أخرى، وأتمضون وقد استقبلكم هذا، وتنقلون وتلونون، فصار هذا كهذا، كما كان ترباً وجندلاً بدلاً من اللفظ بتربت وجندلت لو تكلم بهما.
ولو مثلت ما نصبت عليه الأعيار والأعور في البدل من اللفظ لقلت: أتعيرون مرة، وأتعورون إذا أوضحت معناه، لأنك إنما تجريه مجرى ما له فعل من لفظه، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله، ولكنه كان أحسن أن توضحه بما يتكلم به إذا كان لا يغير معنى الحديث. وكذلك هذا النحو ولكنه يترك استغناء بما يحسن من الفعل الذي لا ينقض المعنى.
وأما قوله جل وعز: " بلى قادرين " ، فهو على الفعل الذي أظهر، كأنه قال: بلى نجمعها قادرين. حدثنا بذلك يونس.
وأما قوله، وهو الفرزدق:
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في وزر كلام
فإنما أراد: ولا يخرج فيما أستقبل، كأنه قال: ولا يخرج خروجاً. ألا تراه ذكر " عاهدت " في البيت الذي قبله فقال:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاج قائماً ومقام

ولو حمله على أنه نفى شيئاً هو فيه ولم يرد أن يحمله على عاهدت جاز. وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى فيما نرى، لأنه لم يكن يحمله على عاهدت.
فإذا قلت: ما أنت إلا قائم وقاعد، وأنت تميمي مرة وقيسي أخرى، وإني عائذ بالله، ارتفع. ولو قال: هو أعور وذو ناب، لرفع. هذا كله ليس فيه إلا الرفع، لأنه مبني على الاسم الأول، والآخر هو الأول فجرى عليه.
وزعم يونس أن من العرب من يقول: عائذ بالله، يريد: أنا عائذ بالله، كأنه أمر قد وقع، بمنزلة الحمد لله وما أشبهه.
وزعم الخليل رحمه الله أن رجلاً لو قال: أتميمي، يريد: " أنت " ويضمرها لأصاب.
وإنما كان النصب ها هنا الوجه لأنه موضع يكون الاسم فيه عاقباً للفظ بالفعل، فاختير فيه كما يختار فيما مضى من المصادر التي في غير الأسماء. والرفع جيد لأنه المحدث عنه والمستفهم. ولو قال: أعور وذو ناب، كان مصيباً.
وزعم يونس أنهم يقولون: عائذ بالله. فإن أظهر هذا المضمر لم يكن إلا الرفع، إذ جاز الرفع وأنت تضمر، وجاز لك أن تحمل عليه المصدر، وهو غيره، في قوله: أنت سر سير فلم يجز حيث أظهر الاسم عندهم إلا الرفع، كما أنه لو أظهر الفعل الذي هو بدل منه لم يكن إلا نصباً. فكما لم يجز في الإضمار أن تضمر بعد الرفع ناصباً كذلك لم تضمر بعد الإظهار، وصار المبتدأ والفعل يعمل كل واحد منهما على " حدة في هذا الباب، لا يدخل واحد على " صاحبه.
باب ما يجيء من المصادر مثنى منتصباً
على إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: حنانيك، كأنه قال: تحننا بعد تحنن، " كأنه يسترحمه ليرحمه " ، ولكنهم حذفوا الفعل لأنه صار بدلاً منه.
ولا يكون هذا مثنى إلا في حال إضافة، كما لم يكن سبحان الله ومعاذ الله إلا مضافاً. فحنانيك لا يتصرف، كما لا يتصرف سبحان الله وما أشبه ذلك. قال الشاعر، وهو طرفة بن العبد:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وزعم الخليل رحمه الله أن معنى التثنية أنه أراد تحننا بعد تحنن، كأنه قال: كلما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعن وليكن موصولاً بآخر من رحمتك.
ومثل ذلك: لبيك وسعديك، وسمعنا من العرب من يقول: سبحان الله وحنانيه، كأنه قال: سبحان الله واسترحاماً، كما قال: سبحان الله وريحانه، يريد: واسترزاقه.
وأما قولك: لبيك وسعديك فانتصب " هذا " كما انتصب سبحان الله، وهو أيضاً بمنزلة قولك إذا أخبرت: سمعاً وطاعة. إلا أن لبيك لا يتصرف، كما أن سبحان الله وعمرك الله وقعدك الله لا يتصرف.
ومن العرب من يقول: سمع وطاعة، أي أمرى سمع وطاعة، بمنزلة:
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا
وكما قال: سلام.
والذي يرتفع عليه حنان وسمع وطاعة غير مستعمل،كما أن الذي ينتصب عليه لبيك وسبحان الله غير مستعمل.
وإذا قال: سمعاً وطاعة فهو في تزجية السمع والطاعة، كما قال: حمداً وشكراً، على هذا التفسير.
ومثل ذلك: حذاريك، كأنه قال: ليكن منك حذر بعد حذر، كما أنه أراد بقوله لبيك وسعديك: إجابة بعد إجابة، كأنه قال: كلما أجبتك في أمر فأنا في " الأمر " الآخر مجيب، وكأن هذه التثنية أشد توكيداً.
ومثله إذا أنه قد يكون حالاً وقع عليه الفعل، قول الشاعر، وهو عبد بني الحسحاس:
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبرد لابس
أي مداولتك، ومداولة " لك " . وإن شاء كان حالاً. ومثله أيضاً:
ضرباً هذاذيك وطعناً وخضاً
ومعنى " تثنية " دواليك أنه فعل من اثنين، لأني إذا داولت فمن كل واحد منا فعل. وكذلك هذاذيك، كأنه يقلو: هذا بعد هذ من كل وجه. وإن شاء حمله على أن الفعل وقع هذاً بعد هذا، " فنصبه " على الحال.
وزعم يونس أن لبيك اسم واحد ولكنه جاء على " هذا " اللفظ في الإضافة، كقولك: عليك.
وزعم الخليل أنها تثنية بمنزلة حواليك، لأنا سمعناهم يقولون: حنان. وبعض العرب يقول: " لب " فيجريه مجرى أمس وغاق، ولكن موضعه نصب. وحواليك بمنزلة حنانيك.
ولست تحتاج في هذا الباب إلى أن تفرد، لأنك إذا أظهرت الاسم تبين أنه ليس بمنزلة عليك وإليك؛ لأنك " لا " تقول: لبي زيد وسعدي زيد.
وقد قالوا: حوالك " فأفردوا " ، كما قالوا: حنان. قال الراجز:
أهدموا بيتك لا أبا لكا ... وحسبوا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا
وقال:

دعوت لما نابني مسوراً ... فلبي فلبي يدي مسور
فلو كان بمنزلة على لقال: فلبي يدي مسور، لأنك تقول: على زيد، وإذا أظهرت الاسم.
باب ذكر معنى لبيك وسعديك وما اشتقا منهوإنما ذكر ليبين لك وجه نصبه، كما ذكر معنى سبحان الله.
حدثنا أبو الخطاب أنه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يفارقه ولا يقلع عنه: قد ألب فلان على كذا وكذا. ويقال: قد أسعد فلان فلاناً على أمره وساعده، فالإلباب والمساعدة دنو ومتابعة: إذا ألب على الشيء فهو لا يفارقه، وإذا أسعده فقد تابعه. فكأنه إذا قال الرجل للرجل: يا فلان، فقال: لبيك وسعديك، فقد قال له: قرباً منك ومتابعة لك. فهذا تمثيل وإن كان لا يستعمل في الكلام، كما كان براءة الله تمثيلاً لسبحان الله ولم يستعمل.
وكذلك إذا قال: لبيك وسعديك، يعني بذلك الله عز وجل، فكأنه قال: أي رب لا أنأى عنك في شيء تأمرني به. فإذا فعل ذلك فقد تقرب إلى الله بهواه.
وأما قوله: وسعديك فكأنه يقول: أنا متابع أمرك وأولياءك، غير مخالف. فإذا فعل ذلك فقد تابع وطاوع وأطاع.
وإنما حملنا على تفسير لبيك وسعديك لنوضح به وجه نصبهما؛ لأنهما ليسا بمنزلة سقياً وحمداً وما أشبه هذا. ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سقياً وحمداً: إنما هو سقاك الله سقياً وأحمد الله حمداً، وتقول: حمداً بدل من أحمد الله، وسقياً بدل من سقاك الله. ولا تقدر أن تقول: ألبك لباً وأسعدك سعداً، ولا تقول: سعداً بدل من أسعد، ولا لباً بدل من ألب. فلما لم يكن ذاك فيه التمس له شيء من غير لفظه معناه كبراءة الله، حين ذكرناها لنبين معنى سبحان الله. فالتمست " ذلك " للبيك وسعديك واللفظ الذي اشتقا منه، إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسقي في فعلهما، ولا يتصرفان تصرفهما. فمعناهما القرب والمتابعة، فمثلت بهما النصب في لبيك وسعديك، كما مثلت ببراءة النصب في سبحان الله.
ومثل ذلك تمثيلك: أفة وتفة، إذا سئلت عنهما، بقولك: أنتنا لأن معناهما وحدهما واحد، مثل تمثيلك بهراً بتباً، ودفراً بنتناً.
وأما قولهم: سبح ولبى وأفف، فإنهما أراد أن يخبرك أنه قد لفظ بسبحان الله وبلبيك وبأف، فصار هذا بمنزلة قوله: قد دعدع وقد بأبأ، إذا سمعته يلفظ بدع وبقوله: بأبي. ويدلك على ذلك قولهم: هلل، إذا قال: لا إله إلا الله.
وإنما ذكرت هلل وما أشبهها لتقول قد لفظ بهذا. ولو كان هذا بمنزلة كلمته من الكلام، لكان سبحان " الله " ولب وسعد مصادر مستعملة متصرفة في الجر والرفع والنصب والألف واللام، ولكن سبحت ولبيت، بمنزلة هللت ودعدعت، إذا قال: دع، ولا إله إلا الله.
باب ما ينتصب فيه المصدر المشبه بهعلى إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى.
"
و " قال الشاعر، وهو النابغة الذبياني:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
وقال:
لها بعد إسناد الكليم وهدئه ... ورنة من يبكى إذا كان باكيا
هدير هدير الثور ينفض رأسه ... يذب بروقيه الكلاب الضواريا
فإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلاً منه. ولكنك لما قلت: له صوت، علم أنه قد كان ثم عمل، فصار قولك: له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوت، فحملت الثاني على المعنى.
وهذا شبيه في النصب لا في المعنى بقوله تبارك وتعالى: " وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا " ، لأنه حين قال: " جاعل الليل " ، فقد علم القارئ أنه على معنى جعل، " فصار كأنه قال: وجعل الليل سكناً " ، وحمل الثاني على المعنى. فكذلك " له " صوت، فكأنه قال: فإذا هو يصوت، " فحمله على المعنى فنصبه، كأنه توهم بعد قوله له صوت: يصوت " صوت الحمار أو يبديه، أو يخرجه صوت حمار، ولكنه حذف هذا لأنه صار " له صوت " بدلاً منه.
فإذا قلت: مررت به " فإذا هو " يصوت صوت الحمار فعلى الفعل غير حال. فإن قلت: صوت حمار " فألقيت الألف واللام " فعلى إضمارك فعلاً بعد الفعل المظهر سوى الفعل المظهر، وتجعل صوت حمار مثالاً عليه يخرج الصوت أو حالاً، كما أردت ذلك حين قلت: فإذا له صوت. وإن شئت أوصلت إليه يصوت، فجعلته العامل فيه، كقولك: يذهب ذهاباً.

ومثل ذلك: مررت به فإذا له دفع دفعك الضعيف. ومثل ذلك أيضاً: مررت به فإذا له دق دقك بالمنحاز حب الفلفل.
ويدلك " على أنك " إذا قلت: " فإذا " له صوت صوت حمار، فقد أضمرت فعلاً بعد " له صوت " ، وصوت حمار انتصب على أنه مثال أو حال يخرج عليه الفعل أنك إذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلاً منه احتجت إلى فعل آخر تضمره. فمن ذلك قول الشاعر:
إذا رأتني سقط أبصارها ... دأب بكار شايحت بكارها
ويكون على غير الحال، " وإن شئت بفعل مضمر، كأنك قلت: تدأب، فيكون أيضاً مفعولاً وحالاً، كما يكون غير حال " .
فما لا يكون حالاً ويكون على الفعل، قول الشاعر، وهو رؤبة:
لوحها من بعد بدن وسنق ... تضميرك السابق يطوى للسبق
"
وإن شئت كان على: أضمرها، وإن شئت كان على: لوحها؛ لأن تلويحه تضمير " .
ومثله قوله، وهو العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفاً فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
وقد يجوز أن تضمر فعلاً آخر كما أضمرت بعد " له صوت " ، يدلك على ذلك أنك لو أظهرت فعلاً لا يجوز أن يكون المصدر مفعولاً عليه صار بمنزلة: له صوت، وذلك قوله، وهو أبو كبير الهذلي:
ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق، طي المحمل
صار " ما إن يمس الأرض " بمنزلة له طي، لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان.
وقد يدخل في صوت حمار: إنما أنت شرب الإبل " إذا " مثل " بقوله " : إنما أنت شرباً. فما كان معرفة كان مفعولاً ولم يكن حالاً، وشركته النكرة. وإن شئت جعلته حالاً عليه وقع الأمر، وهو تشبيهه للأول، يدلك على ذلك أنك لو أدخلت " مثل " ههنا كان حسناً وكان نصباً، فإذا أخرجت " مثل " قام المصدر النكرة مقام مثل، لأنه مثله نكرة، فدخول مثل يدلك على أنه تشبيه. فإذا قلت: فإذا هو يصوت صوت حمار، فإن شئت نصبت على أنه مثال وقع عليه الصوت، وإن شئت نصبت على ما فسرنا وكان غير حال، وكأن هذا جواب لقوله: على أي حال وكيف ومثله. وكأنه قيل له: كيف وقع الأمر، أو جعل المخاطب بمنزلة من قال ذلك، فأراد أن يبين كيف وقع الأمر وعلى أي مثال، فانتصب وهو موقوع فيه وعليه، وعمل فيه ما قبله وهو الفعل.
وإذا كان معرفة لم يكن حالاً وكان على فعل مظهر إن جاز أن يعمل فيه، أو على مضمر إن لم يجز المظهر، كما ينتصب " طي المحمل " على غير " يمس " .
وإن شئت قلت: له صوت صوت حمار، وله صوت خوار ثور، وذلك إذا جعلته صفة للصوت ولم ترد فعلاً ولا إضماره.
وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة لنكرة كما لا يكون حالاً. وسترى هذا مبيناً في بابه إن شاء الله.
وزعم الخليل أنه يجز له صوت صوت الحمار على الصفة لأنه تشبيه، فمن ثم جاز أن توصف النكرة به.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد، إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد. وهذا قبيح ضعيف لا يجوز إلا في موضع الاضطرار، ولو جاز هذا لقلت: هذا قصير الطويل، تريد: مثل الطويل. فلم يجز هذا كما قبح أن تكون " المعرفة " حالاً للنكرة إلا في الشعر. وهو في الصفة أقبح، لأنك تنقض ما تكلمت به، فلم يجامعه في الحال، كما فارقه في الصفة. وسيبين لك في بابه إن شاء الله تعالى.
هذا باب يختار فيه الرفعوذلك قولك: له علم علم الفقهاء، وله رأي رأي الأصلاء. وإنما كان الرفع في هذا الوجه لأن هذه خصال تذكرها في الرجل، كالحلم والعلم والفضل، ولم ترد أن تخبر بأنك مررت برجل في حال تعلم ولا تفهم، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها، كقولك: له حسب حسب الصالحين؛ لأن هذه الأشياء وما يشبهها صارت تحلية عند الناس وعلامات. وعلى هذا الوجه رفع الصوت.
وإن شئت نصبت فقلت: له علم علم الفقهاء، كأنك مررت به في حال تعلم وتفقه، وكأنه لم يستكمل أن يقال: له عالم.
وإنما فرق بين هذا وبين الصوت لأن الصوت علاج، وأن العلم صار عندهم بمنزلة اليد والرجل. ويدلك على ذلك قولهم: له شرف، وله دين، وله فهم. ولو أرادوا أنه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال: له دين، لقالوا: يتدين وليس بذلك، ويتشرف وليس له شرف، ويتفهم وليس له فهم. فلما كان هذا اللفظ للذين لم يستكملوا ما كان غير علاج، بعد النصب في قولهم: له علم علم الفقهاء.

وإذا قال: له صوت صوت حمار، فإنما أخبر أنه مر به وهو يصوت صوت حمار.
وإذا قال: له علم علم الفقهاء، فهو يخبر عما قد استقر فيه قبل رؤيته وقبل سمعه منه، أو رآه يتعلم فاستدل بحسن تعلمه على ما عنده من العلم، ولم يرد أن يخبر أنه إنما بدأ في علاج العلم في حال ليقه إياه، لأن هذا ليس مما يثنى به، وإنما الثناء في هذا الموضع أن يخبر بما استقر فيه، ولا يخبر أن أمثل شيء كان منه التعلم في حال لقائه.
هذا باب
ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدرالذي يكون علاجاً وذلك إذا كان الآخر هو الأول.
وذلك نحو قولك: له صوت صوت حسن؛ لأنك إنما أردت الوصف، كأنك قلت: له صوت حسن، وإنما ذكرت الصوت توكيداً ولم ترد أن تحمله على الفعل، لما كان صفة، وكان الآخر هو الأول، كما قلت: ما أنت إلا قائم وقاعد، حملت الآخر على أنت لما كان الآخر هو الأول.
ومثل ذلك: له صوت أيما صوت، وله صوت مثل صوت الحمار لأن أيا والمثل صفة أبدا. وإذا قلت: أيما صوت، فكأنك قلت: له صوت حسن جداً، وهذا صوت شبيه بذلك. فأي ومثل هما الأول.
فالرفع في هذا أحسن، لأنك ذكرت اسماً يحسن أن يكون هذا الكلام منه يحمل عليه، كقولك: هذا رجل مثلك، وهذا رجل حسن، وهذا رجل أيما رجل.
وأما: له صوت صوت حمار، فقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول، وإنما " جاز " رفعه على سعة الكلام، كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلا سير.
فكأن الذين يقولون: صوت حمار اختاروا هذا، كما اختاروا: ما أنت إلا سيراً، إذ لم يكن الآخر هو الأول، فحملوه على فعله كراهة أن يجعلوه من الاسم الذي ليس به، كما كرهوا أن يقولوا: ما أنت إلا سير إذا لم يكن الآخر هو الأول. فحملوه على فعله، فصار له صوت صوت حمار ينتصب على فعل مضمر كانتصاب " تضميرك السابق " على الفعل المضمر.
وإن قلت: له صوت أيما صوت، أو مثل صوت الحمار، أو له صوت صوتاً حسناً، جاز. زعم ذلك الخليل رحمه الله. ويقوي ذلك أن يونس وعيسى جميعاً زعما أن رؤبة كان ينشد هذا البيت نصباً:
فيها ازدهاف أيما ازدهاف
يحمله على الفعل الذي ينصب صوت حمار، لأن ذلك الفعل لو ظهر نصب ما كان صفة وما كان غير صفة، لأنه ليس باسم تحمل عليه الصفات. ألا ترى أنه لو قال: مثل تضميرك، أو مثل دأب بكار، نصب. فلما أضمروه فيما يكون غير الأول أضمروه أيضاً فيما يكون هو الأول، كأنه قال: تزدهف أيما ازدهاف، ولكنه حذفه، لأن له ازدهاف قد صار بدلاً من الفعل.
هذا باب ما الرفع فيه الوجهوذلك قولك؛: هذا صوت صوت حمار، لأنك لم تذكر فاعلاً، ولأن الآخر هو الأول حيث قلت: " هذا " . فالصوت هذا، ثم قلت: هو صوت حمار، لأنك سمعت نهاقاً. فلا شك في رفعه. وإن شبهت أيضاً فهو رفع لأنك لم تذكر فاعلاً يفعله، وإنما ابتدأته كما تبتدئ الأسماء، فقلت: هذا، ثم بنيت عليه شيئاً هو هو، فصار كقوله: هذا رجل رجل حرب.
وإذا قلت: له صوت، فالذي في اللام هو الفاعل وليس الآخر به، فلما بنيت أول الكلام كبناء الأسماء كان آخره أن يجعل كالأسماء أحسن وأجود، فصار كقولك: هذا رأس رأس حمار، وهذا رجل أخو حرب، إذا أردت الشبه.
ومن ذلك: عليه نوح نوح الحمام، على غير صفة، لأن الهاء التي في عليه ليست بفاعل، كما أنك إذا قلت: فيها رجل، فالهاء ليست بفاعل فعل بالرجل شيئاً، فلما جاء على مثال الأسماء كان الرفع الوجه.
وإن قلت: لهن نوح نوح الحمام،فالنصب لأن الهاء هي الفاعلة. يدلك على " ذلك " أن الرفع في هذا وفي عليه أحسن، لأنك إذا قلت: هذا أو عليه، فأنت لا تريد أن تقول مررت بهذه الأسماء تفعل فعلاً، ولكنك جعلت " عليه " موضعاً للنوح و " هذا " مبنى عليه نفسه. ولو نصبت كان وجهاً؛ لأنه إذا قال: هذا صوت أو هذا نوح أو عليه نوح، فقد علم أن مع النوح والصوت فاعلين، فحمله على المعنى، كما قال:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
هذا باب لا يكون فيه إلا الرفعوذلك قولك: له يد الثور، وله رأس رأس الحمار؛ لأن هذا اسم ولا يتوهم على الرجل أنه يصنع يداً ولا رجلاً، وليس بفعل.
هذا باب لا يكون فيه إلا الرفع

وذلك قولك: صوته صوت حمار، وتلويحه تضميرك السابق، ووجدي بها وجد الثكلى؛ لأن هذا ابتداء، فالذي يبنى على الابتداء بمنزلة الابتداء. ألا ترى أنك تقول: زيد أخوك، فارتفاعه كارتفاع زيد أبدا، فلما ابتدأه وكان محتاجاً إلى ما بعده لم يجعل بدلاً من اللفظ بيصوت، وصار كالأسماء. قال الشاعر " وهو مزاحم العقيلي " :
وجدي بها وجد المضل بعيره ... بنخلة لم تعطف عليه العواطف
وكذلك لو قلت: مررت به فصوته صوت حمار. فإن قال: فإذا صوته، يريد الوجه الذي يسكت عليه، دخله نصب، لأنه يضمر بعد ما يستغنى عنه.
باب ما ينتصب من المصادر
لأنه عذر لوقوع الأمرفانتصب لأنه موقوع له، ولأنه تفسير لما قبله لم كان؟ وليس بصفة لما قبله ولا منه، فانتصب كما انتصب درهم في قولك: عشرون درهماً.
وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر، وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان. قال الشاعر، هو " حاتم " بن عبد الله " الطائي:
واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقال الآخر، وهو النابغة الذبياني:
وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... يخال به راعي الحمولة طائرا
حذاراً على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
وقال آخر، وهو الحارث بن هشام:
فصفحت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
وقال الراجز، وهو العجاج:
يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور
والهول من تهول القبور
وفعلت ذاك أجل كذا " وكذا " . فهذا كله ينتصب لأنه مفعول له، كأنه قيل له: لم فعلت كذا " وكذا " فقال: لكذا " وكذا " ، ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في " دأب بكار " ما قبله، حين طرح مثل وكان حالاً. وحسن فيه الألف واللام لأنه ليس بحال، فيكون في موضع فاعل حالاً. ولا يشبه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي ونحوهما؛ لأنه ليس في موضع ابتداء ولا موضعاً يبنى على مبتدأ. فمن خالف باب رحمة الله عليه، وسقيا لك، وحمدا لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
وقع فيه الأمر فانتصب لأنه موقوع فيه الأمروذلك قولك: قتلته صبراً، ولقيته فجاءة ومفاجأةً، وكفاحاً ومكافحةً، ولقيته عياناً، وكلمته مشافهةً، وأتيته ركضاً وعدواً ومشياً، وأخذت ذلك عنه سمعاً وسماعاً. وليس كل مصدر وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب يوضع هذا الموضع؛ لأن المصدر ههنا في موضع فاعل إذا كان حالاً. ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعةً ولا أتانا رجلةً، كما أنه ليس كل مصدر يستعمل في باب سقياً وحمداً.
واطرد في هذا الباب الذي قبله لأن المصدر هناك ليس في موضع فاعل.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو زهير بن أبي سلمى:
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
كأنه يقول: حملنا " وليدنا " لأياً بلأي، كأنه يقول: " حملناه " جهداً بعد جهد. هذا لا يتكلم به ولكنه تمثيل.
ومثله قول الراجز:
ومنهل وردته التقاطاً
"
أي فجاءةً " .
واعلم أن هذا الباب أتاه النصب كما أتى الباب الأول، ولكن هذا جواب لقوله: كيف لقيته؟ كما كان الأول جواباً لقوله: لمه؟
وهذا ما جاء منه في الألف واللاموذلك قولك: أرسلها العراك. قال لبيد بن ربيعة:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال
كأنه قال: اعتراكاً.
وليس كل المصادر في هذا الباب يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل مصدر في باب الحمد لله، والعجب لك، تدخله الألف واللام، وإنما شبه بهذا حيث كان مصدراً وكان غير الاسم الأول.
وهذا ما جاء منه مضافاً معرفةً
وذلك قولك: طلبته جهدك، كأنه قال: اجتهاداً. وكذلك طلبته طاقتك.
وليس كل مصدر يضاف، كما أنه ليس كل مصدر تدخله الألف واللام في هذا الباب. وأما فعلته طاقتي فلا تجعل نكرة، كما أن معاذ الله لا تجعل نكرة. ومثل ذلك: فعله رأى عيني، وسمع أذني قال ذاك.
وإن قلت: سمعاً جاز، إذا لم تختص نفسك، ولكنه كقولك: أخذته عنه سماعاً.
هذا باب ما جعل من الأسماء مصدراً
كالمضاف في الباب الذي يليه وذلك قولك: مررت به وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت برجل وحده.

ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم،وكذلك إلى العشرة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول: مررت بهؤلاء فقط، لم أجاوز هؤلاء. كما أنه إذا قال: وحده فإنما يريد: مررت به فقط لم أجاوزه.
وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول: إن كان جراً فجراً، وإن كان نصباً فنصباً، وإن كان رفعاً فرفعاً.
وزعم الخليل أن الذين يجرونه فكأنهم يريدون أن يعموا، كقولك: مررت بهم كلهم، أي لم أدع منهم أحداً.
وزعم الخليل رحمه الله، حيث مثل نصب وحده وخمستهم، أنه كقولك: أفردتهم إفراداً. فهذا تمثيل، ولكنه لم يستعمل في الكلام.
ومثل خمستهم قول الشماخ:
أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها
كأنه قال: انقضاضهم، " أي " انقضاضاً. ومررت بهم قضهم بقضيضهم، كأنه يقول: مررت بهم انقضاضاً. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به كما كان إفراداً تمثيلاً.
وإنما ذكرنا الإفراد في وحده، والانقضاض في قضهم، لأنه إذا قال: قضهم فهو مشتق من في معنى الانقضاض، لأنه كأنه يقول: انقض آخرهم على أولهم. وكذلك وحده إنما هو من معنى التفرد، فكذلك أيضاً يكون خمستهم نصباً إذا أردت معنى الانفراد، فإن أردت أنك لم تدع منهم أحداً جررت، كما كان ذلك في قضهم.
وبعض العرب يجعل قضهم بمنزلة كلهم، يجريه على الوجوه.
هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدراً
كالمصدر الذي فيه الألف واللام نحو العراكوهو قولك: مررت بهم الجماء الغفير، والناس فيها الجماء الغفير. فهذا ينتصب كانتصاب العراك.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلموا به على نية مالا تدخله الألف واللام، وهذا جعل كقولك: مررت بهم قاطبة ومررت بهم طراً، " أي جميعاً؛ إلا أن هذا نكرة لا يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل المصادر بمنزلة العراك، كأنه قال: مررت بهم جميعاً. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. فصار طراً " وقاطبة بمنزلة سبحان " الله " في بابه، لأنه لا يتصرف كما أن طراً وقاطبة لا يتصرفان، وهما في موضع المصدر، ولا يكونان معرفةً، ولو كانا صفةً لجريا على الاسم أو بنيا على الابتداء فلم يوجد ذا في الصفة. وقد رأينا المصادر قد صنع ذا بها لأنها لا تصرف، فشبه هذا بها.
باب ما ينتصب أنه حال
يقع فيه الأمر وهو اسموذلك قولك: مررت بهم جميعاً، وعمةً وجماعةً، كأنك قلت: مررت بهم قياماً.
وإنما فرقنا بين هذا الباب والباب الأول لأن الجميع وعامةً اسمان متصرفان، تقول: كيف عامتكم؟ وهؤلاء قوم جميع.
فإذا كان الاسم حالاً يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف. لو قلت: ضربته القائم تريد: قائماً كان قبيحاً، ولو قلت: ضربتهم قائميهم تريد: قائمين كان قبيحاً. فلما كان كذلك جعلوا ما أضيف ونصب نحو خمستهم بمنزلة طاقته وجهده " ووحده " ، وجعلوا الجماء الغفير بمنزلة العراك، وجعلوا قاطبة وطرا إذا لم يكونا اسمين بمنزلة الجميع وعامة، كقولك: كفاحاً ومكافحة وفجاءة. فجعلت هذه كالمصادر المعروفة البينة، كما جعلوا عليك ورويدك كالفعل المتمكن، وكما جعلوا سبحان الله ولبيك، بمنزلة حمداً وسقياً. فهذا تفسير الخليل رحمه الله وقوله.
وزعم يونس أن وحده بمنزلة عنده، وأن خمستهم والجماء الغفير وقضهم كقولك: جميعاً " وعامة " ، وكذلك: طرا وقاطبة بمنزلة وحده، وجعل المضاف بمنزلة كلمته فاه إلى فى.
وليس مثله، لأن الآخر هو الأول عند يونس في المسألة الأولى، وفاه إلى فى ههنا غير الأول، وأما طرا وقاطبة فأشبه بذلك، لأنه جيد أن يكون حالاً غير المصدر نكرة، والذي نأخذ به الأول.
وأما كلهم وجميعهم وأجمعون وعامتهم وأنفسهم فلا يكن أبداً إلا صفة. وتقول: هو نسيج وحده، لأنه اسم مضاف إليه بمنزلة نفسه إذا قلت: هذا جحيش وحدة وجعل يونس نصب وحده كأنك قلت: مررت برجل على حياله، فطرحت " على " ، فمن ثم قال: هو مثل عنده. وهو عند الخليل كقولك: مررت به خصوصاً.
ومررت بهم خمستهم مثله، ومثل قولك: مررت بهم عما. ولا يكون مثل جميعاً لما ذكرت لك، وصار وحده بمنزلة خمستهم لأنه مكان قولك: مررت به واحده، " فقام وحده مقام واحده " . فإذا قلت: وحده فكأنك قلت هذا.
هذا بابما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله

وذلك قولك: هذا عبد الله حقا، وهذا زيد الحق لا الباطل، وهذا زيد غير ما تقول.
وزعم الخليل رحمه الله أن قوله: هذا القول لا قولك، إنما نصبه كنصب غير ما تقول لأن " لا قولك " في ذلك المعنى. ألا ترى أنك تقول: هذا القول لا ما تقول، فهذا في موضع نصب. فإذا قلت: لا قولك، فهو في موضع لا ما تقول.
ومثل ذلك في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا وكذا؟ كأنه قال: أحقا لا تفعل كذا وكذا؟ وأصله من الجد كأنه قال: أجدا، ولكنه لا يتصلاف ولا يفارقه الإضافة كما كان ذلك في لبيك ومعاذ الله.
وأما " غير ما تقول " فلا تعرى من أن تكون في هذا الموضع مضافة إلى اسم معروف، نحو قولك؛ لأنه لو قال غير قول، أولا قولاً، لم يكن في هذا بيان، لأنه ليس كل قول باطلا، وإنما يريد أن يحقق الأول بأمر معروف.
ولو قال: هذا الأمر غير قيل باطل كان حسنا، لأنه قد وكد أول كلامه بأمر معروف وقد اختصه، فصار بمنزلة قولك: لا قولك حين جعله مضافاً، لأنك قد اختصصته من جميع القول بإضافتك، وأنه يسوغ أن يكون قوله باطلا ولا يسوغ أن يكون جميع الأقوال باطلا.
ومن ذلك قولك: قد قعد البتة، ولا يستعمل إلا معرفة بالألف واللام، كما أن جهدك وأجدك لا يستعملان إلا معرفة بالإضافة.
وأما الحق والباطل فيكونان معرفة بالألف واللام ونكرة؛ لأنهما لم ينزلا منزلة ما لم يتمكن من المصادر كسبحان وسعديك، ولكنهم أنزلوهما منزلة الظن، وكذلك اليقين لأنك تحقق به كما تفعل ذلك بالحق. فأنزل ما ذكرنا غير هذا بمنزلة عمرك الله وقعدك الله.
هذا بابما يكون المصدر فيه توكيداً لنفسه نصباً
وذلك قولك: له على ألف درهم عرفاً. ومثل ذلك قول الأحوص:
إنى لأمنحك الصدود وإننى ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
وإنما صار توكيداً لنفسه لأنه حين قال: له على، فقد أقر واعترف؛ وحين قال: لأميل، علم أنه بعد حلف؛ ولكنه قال: عرفاً وقسماً وتوكيداً كما " أنه إذا " قال: سير عليه فقد علم أنه كان سير، ثم قال: سيراً توكيداً. واعلم أنه قد تدخل الألف واللام في التوكيد في هذه المصادر المتمكنة التي تكون بدلاً من اللفظ بالفعل: كدخولها في الأمر والنهي والخبر والاستفهام، فأجرها في هذا الباب مجراها هناك.
وكذلك الإضافة بمنزلة الألف واللام.
فأما المضاف فقول الله تبارك وتعالى: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله " وقال الله تبارك وتعالى: " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده " . وقال جل وعز: " الذى أحسن كل شيء خلقه " . وقال جل ثناؤه: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم " . ومن ذلك: الله أكبر دعوة الحق. لأنه لما قال جل وعز: " مر السحاب " ، وقال: " أحسن كل شيء " ، علم أنه خلق وصنع، ولكنه وكد وثبت للعباد. ولما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " حتى انقضى الكلام، علم الخاطبون أن هذا مكتوب عليهم، مثبت عليهم، وقال: كتاب الله، توكيدا كما قال: صنع الله، وكذلك: وعد الله، لأن الكلام الذي قبله وعد وصنع، فكأنه قال جل وعز: وعداً وصنعاً وخلقاً وكتاباً. وكذلك: دعوة الحق؛ لآنه قد علم أن قولك: الله أكبر، دعاء الحق ولكنه توكيد، كأنه قال: دعاء حقا. قال رؤبة:
إن نزارا أصبحت نزارا ... دعوة أبرار دعوا أبرارا
لأن قولك: أصبحت نزاراً، بمنزلة: هم على دعوة بارة.
وقد زعم بعضهم أن كتاب الله " نصب " على قوله: عليكم كتاب الله. وقال: قوم صبغة الله منصوبة على الأمر. وقال بعضهم: لا بل توكيدا. والصبغة: الدين.
وقد يجوز الرفع فيما ذكرنا أجمع على أن يضمر شيئاً هو المظهر، كأنك قلت: ذاك وعد الله، وصبغة الله، أو هو دعوة الحق. على هذا ونحوه رفعه. ومن ذلك قوله جل وعز: " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ " ، كأنه قال: ذاك بلاغ.
واعلم أن، هذا الباب أتاه النصب كمنصوب بما قبله من المصادر في أنه ليس بصفة ولا من اسم قبله، وإنما ذكرته لتؤكد به، ولم تحمله على مضمر يكون ما بعده رفعاً وهو مفعول به.
ومثل نصب هذا الباب قول الشاعر، وهو الراعى:
دأبت إلى أن ينبت الظل بعد ما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح
وجيف المطايا ثم قلت لصحبتى ... ولم ينزلوا أبردتم فتروحوا

لأنه قد عرف أن قوله " دأبت " : سرت، لما ذكر في صدر قصيدته، فصار دأبت بمنزلة أوجفت عنده، فجعل وجيف المطايا توكيداً لأوجفت الذي هو في ضميره.
واعلم أن نصب هذا " الباب " المؤكد به العام منه وما وكد به نفسه، ينصب على إضمار فعل غير كلامك الأول، لإنه ليس في معنى كيف ولا لم، كأنه قال: أحق حقاً، فجعله بدلاً كظنا من أظن، ولا أقول قولك وأقول غير ما تقول، وأتجد جدك، وكتب الله تبارك وتعالى كتابه، وادعوا دعاء حقا، وصبغ الله صبغة، ولكن لا يظهر الفعل لأنه صار بدلاً منه بمنزلة سقيا.
وكذلك توجه سائر الحروف من هذا الباب، كما فعلت ذلك في باب سقياً وحمداً لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حالصار فيه المذكور وذلك قولك: أما سمنا فسمين، وأما علماً فعالم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه بمنزلة قولك: أنت الرجل علماً وديناً، وأنت الرجل فهماً وأدباً، أي أنت الرجل في هذه الحال. وعمل فيه ما قبله وما بعده، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام كما لم يحسن فيما كان حالاً وكان في موضع فاعل حالا. وكذلك هذا، فانتصب المصدر لأنه حال مصير فيه.
ومن ذلك قولك: أما علماً فلا علم له، وأما علماً فلا علم عنده، وأما علماً فلا علم وتضمر له، لأنك إنما تعني رجلاً.
وقد يرفع هذا في لغة بني تميم، والنصب في لغتها أحسن؛ " لأنهم يتوهمون الحال " . فإن أدخلت الألف واللام رفعوا، لأنه يمتنع من أن يكون حالاً.
وتقول: أما العلم فعالم بالعلم، وأما العلم فعالم بالعلم. فالنصب على أنك لم تجعل العلم الثاني العلم الأول الذي لفظت به قبله، كأنك قلت: أما العلم فعالم بالأشياء. وأما الرفع فعلى أنه جعل العلم الآخر هو العلم الأول، فصار كقولك: أما العلم فأنا عالم به، وأما العلم فما أعلمني به. فهذا رفع لأن المضمر هو العلم، فصار كقولك: أما العلم فحسن.
فإن جعلت الهاء غير العلم الأول نصبت، كأنك قلت: أما علماً فما أعلمني بعبد الله.
وإذا قلت: أما الضرب فضارب، فهذا ينتصب على وجهين: على أن يكون الضرب مفعولا كقولك: أما عبد الله فأنا ضارب، ويكون نصباً على قولك: أما علماً فعالم، كأنك قلت: أما ضرباً فضارب، فيصير كقولك: أما ضربا فذو ضرب.
وقد ينصب أهل الحجاز في هذا الباب بالألف واللام، لأنهم قد يتوهمون في هذا الباب غير الحال، وبنو تميم كأنهم لا يتوهمون غيره، فمن ثم لم ينصبوا في الألف واللام، وتركوا القبح. فكأن الذي توهم أهل الحجاز الباب الذي ينتصب لأنه موقوع له، نحو قولك فعلته مخافة ذلك. وذلك قولهم: أما النبل فنبيل، وأما العقل فهو الرجل الكامل، كأنه قال: هو الرجل الكامل العقل والرأي، أي للعقل والرأي، وكأنه أجاب من قال: لمه؟ وعلى هذا الباب فأجر جميع ما أجريته نكرة حالا إذا أدخلت فيه الألف واللام. قال الشاعر:
ألا ليت شعرى هل إلى أم معمر ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
وأما بنو تميم فيرفعون لما ذكرت لك، فيقولون: أما العلم فعالم، كأنه قال: فأنا أو فهو عالم به. وكان إضمار هذا أحسن عندهم من أن يدخلوا فيه مالا يجوز، كما قال سبحانه: " يوماً لا تجزى نفس " ، أضمر " فيه " وقال الشاعر، " عبد الرحمن بن حسان " :
ألا يا ليل ويحك نبئينا ... فأما الجود منك فليس جود
أي فليس لنا منك جود.
ومما ينتصب من الصفات حالاً كما انتصب المصدر الذي يوضع موضعه ولا يكون إلا حالاً، قوله: أما صديقاً مصافياً فليس بصديق مصاف، وأما طاهراً فليس بطاهر، وأما عالماً فعالم. فهذا نصب لأنه جعله كائناً في حال علم وخارجا من حال طهور ومصادقة.
والرفع لا يجوز هنا، لأنك قد أضمرت صاحب الصفة، وحيث قلت أما العلم فعالم فلم تضمر مذكورا قبل كلامك وهو العلم، فمن ثم حسن في هذا الرفع ولم يجز الرفع في الصفة. ولا يكون في الصفة الألف واللام؛ لأنه ليس بمصدر فيكون جواباً لقوله لمه، وإنما المصدر تابع له ووضع في موضعه حالا.
واعلم أن ما ينتصب في هذا الباب فالذي بعده أو قبله من الكلام قد عمل فيه، كما عمل في الحذر ما قبله، إذا قلت: أكرمته حذر أن أعاب، وكما عمل في قوله: أتاه مشياً وماشياً.
باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه
الوجه في جميع اللغات

وزعم يونس أنه قول أبي عمرو. وذلك قولك: أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد، وأما عبدان فذو عبدين.
وإنما اختير الرفع لأن ما ذكرت في هذا الباب أسماء والأسماء لا تجري مجرى المصادر. ألا ترى أنك تقول: هو الرجل علماً وفقهاً، ولا تقول: هو الرجل خيلاً وإبلاً. فلما قبح ذلك جعلوا ما بعده خبراً له، كأنهم قالوا: أما العبيد فأنت فيهم أو أنت منهم ذو عبيد، أي لك من العبيد نصيب، كأنك أردت أن تقول: أما من العبيد أو أما في العبيد فأنت ذو عبيد. إلا أنك أخرت في ومن وأضمرت فيهما أسماءهم.
وأما قوله: أما العبد فأنت ذو عبد، فكأنه قال: أما في العبد فأنت ذو عبد، ولكنه أخر في وأضمر فيه اسمه كما فعل ذلك في العبيد، فلما قبح عندهم أ، يكون بمنزلة المصدر ولم يكن مما يجوز فيه عندهم ذلك حملوه على هذا، فراراً من أن يدخلوا في المصدر ما ليس منه، كما فعلت تميم ذلك في العلم حين رفعوه. وكأنك قلت: أما العبيد فهم لك، وأما العبد فهو لك، لأنك ذلك المعنى تريد.
وسمعنا من العرب من يقول: أما ابن مزنية فأنا ابن مزنية؛ كأنه قال: أما ابن مزنية فأنا ذاك، جعل الآخر هو الأول كماكان قائلاً ذلك في الألف واللام: أما ابن المزنية فأنا ابن المزنية. وإن شئت نصبته على الحال كما قلت: أما صديقاً فأنت صديق وأما صاحبا فأنت صاحب.
وزعم يونس أن قوماً من العرب يقولون: أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد، يجرونه مجرى المصدر سواء. وهو قليل خبيث. وذلك أنهم شبهوه بالمصدر كما شبهوا الجماء الغفير بالمصدر، وشبهوا خمستهم بالمصدر. كأن هؤلاء أجازوا: هو الرجل العبيد والدراهم، أي للعبيد وللدراهم، وهذا لا يتكلم به، وإنما وجهه وصوابه الرفع، وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس، ولا أعلم الخليل خالفهما. وقد حملوه على المصدر، فقال النحويون: أما العلم والعبيد فذو علم وذو عبيد. وهذا قبيح، لأنك لو أفردته كان الرفع الصواب، فخبث إذ أجرى غير المصدر كالمصدر، وشبهوه بما هو في الرداءة مثله، وهو قولهم: ويل لهم وتب.
وأما قوله: أما البصرة فلا بصرة لك، وأما الحارث فلا حارث لك، وأما أبوك فلا أبا لك، فهذا لا يكون فيه أبداً إلا الرفع؛ لأنه اسم " معروف " ومعلوم؛ قد عرف المخاطب منه مثل ما قد عرفت، كأنك قلت: أما الحارث فلا حارث لك بعده أو فلا حارث لك سواه، وكأنه قال: أما البصرة فليست لك، وأما الحارث فليس لك؛ لأن ذلك المعنى تريد.
ولو قال: أما العبيد فأنت ذو عبيد، يريد عبيداً بأعيانهم قد عرفهم المخاطب كمعرفتك، كأنك قلت: أما العبيد الذين تعرف، لم يكن إلا رفعا. وقوله ذو عبيد كأنه قال: أنت فيهم أو منهم ذو عبيد. ولو قال: أما أبوك فلك أب، لكان على قوله: فلك به أب أو فيه أب، وإنما يريد بقوله: فيه أب مجرى الأب على سعة الكلام، وليس إلى النصب ههنا سبيل.
وإنما جاز النصب في العبيد حين لم يجعلهم شيئاً معروفاً بعينه لأنه يشبهه بالمصدر، والمصدر قد تدخله الألف واللام وينتصب على ما ذكرت لك. فإذا أردت شيئاً بعينه وكان هو الذي تلزمه الإشارة، جرى مجرى زيد وعمرو وأبيك.
وأما قول الناس للرجل: أما أن يكون عالما فهو عالم، وأما أن يعلم شيئاً فهو عالم، فقد يجوز أن تقول: أما أن لا يكون يعلم فهو يعلم وأنت تريد " أن " يكون، كما جاءت: " لئلا يعلم أهل الكتاب " في معنى لأن يعلم أهل الكتاب. فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر، لأن أن مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر،كأنك قلت: أما علما وأماكينونة علم فأنت عالم. ألا ترى أنك تقول: أنت الرجل أن تنازل أو " أن " تخاصم، كأنك قلت نزالاً وخصومة، وأنت تريد المصدر الذي في قوله فعل ذاك مخافة ذاك. ألا ترى أنك تقول: سكت عنه أن أجتر مودته، كما تقول: اجترار مودته. ولا تقع أن وصلتها حالاً يكون الأول في حال وقوعه، لأنها إنما تذكر لما لم يقع بعد. فمن ثم أجريت مجرى المصدر الأول الذي هو جواب لمه؟
باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفةولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول به

وبعض العرب يقول: كلمته فوه إلى فى، كأنه يقول: كلمته وفوه إلى فى، أي كلمته وهذه حالة. فالرفع على قوله كلمته وهذه حاله، والنصب على قوله: كلمته في هذه الحال، فانتصب لأنه حال وقع فيه الفعل. وأما بايعته يداً بيد، فليس فيه إلا النصب، لأنه لا يحسن أن تقول: بايعته ويد بيد، ولم يرد أن يخبر أنه بايعه ويده في يده، ولكنه أراد أن يقول: بايعته بالتعجيل، ولا يبالي أقريباً كان أم بعيداً.
وإذا قال: كلمته فوه إلى فى، فإنما يريد أن يخبر عن قربه منه، وأنه شافهه ولم يكن بينهما أحد.
ومثله من المصادر في أن تلزمه الإضافة وما بعدها مما يجوز فيه الابتداء ويكون حالاً، قوله: رجع فلان عوده على بدئه، وانثنى فلان عوده على بدئه، كأنه قال: انثنى عوداً على بدء. ولا يستعمل في الكلام رجع عوداً على بدء، ولكنه مثل به.
ومن رفع فوه إلى فى، أجاز الرفع في قوله: رجع فلان عوده على بدئه.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل قولك: بعت الشاء شاة ودرهماً، وقامرته درهماً في درهم، وبعته دارى ذراعاً بدرهم، وبعت البرقفيز بن بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهماً لكل أربعين درهماً، وبينت له حسابه باباً باباً، وتصدقت بمالي درهماً درهماً.
واعلم أن هذه الأشياء لا ينفرد منها شيء دون ما بعده، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: كلمته فاه حتى تقول إلى فى، لأنك إنما تريد مشافهة، والمشافهة لا تكون إلا من اثنين، فإنما يصح المعنى إذا قلت إلى فى، ولا يجوز أن تقول بايعته يداً، لأنك إنما تريد أن تقول: أخذ مني وأعطاني، فإنما يصح المعنى إذا قلت: بيد لأنهما عملان. ولا يجوز أن تقول: انثنى عوده لأنك إنما تريد أنه لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوع، وإنما أردت أنه رجع في حافرته أي نقض مجيئه برجوع، وقد يكون أن ينقطع مجيئه ثم يرجع فيقول: رجعت عودي على بدئي، أي رجعت كما جئت.. فالمجئ موصول به الرجوع، وهو بدء والرجوع عود.
ولا يجوز أن تقول: بعت داري ذراعا، وأنت تريد بدرهم، فيرى المخاطب أن الدار كلها ذراع. ولا يجوز أن تقول: بعت شائي شاة شاة، وأنت تريد بدرهم، فيرى المخاطب أنك بعتها الأول فالأول على الولاء. ولا يجوز أن تقول: بينت له حسابه باباً، فيرى المخاطب أنك إنما جعلت له حسابه باباً واحداً غير مفسر. ولا يجوز تصدقت بمالي درهماً، فيرى المخاطب أنك تصدقت بدرهم واحد. وكذلك هذا وما أشبهه.
وأما قول الناس: كان البر قفيزين، وكان السمن منوين، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه، ولأن الدرهم هو الذي يسعر عليه، فكأنهم إنما يسألون عن ثمن الدرهم في هذا الموضع، كما يقولون: البربستين، وتركوا ذكر الكر؛ استغناء بما في صدورهم من علمه، وبعلم المخاطب، لأن المخاطب قد علم ما يعني، فكأنه إنما يسأل هنا عن ثمن الكر كما سأل الأول عن ثمن الدرهم. وكذلك هذا وما أشبهه فأجره كما أجرته العرب.
وزعم الخليل أنه يجوز: بعت الشاء شاة ودرهم، إنما يريد شاة بدرهم، ويجعل بدرهم خبراً للشاة وصارت الواو بمنزلة الباء في المعنى، كما كانت في قولك: كل رجل وضيعته، في معنى مع.
وإذا قلت شاة بدرهم، فإن بدرهم ليس مبنياً على اسم قبله ولكنه إنما جاء ليبين به السعر، كما جاءت " لك " في سقياً، لتبين من تعني. فالباء هاهنا بمنزلة إلى في قولك: فاه إلى في، ولم تبن على ما قبلها.
وكذلك ما انتصب في هذا الباب وكان ما بعده مما يجوز أن يبنى على ما قبله في هذا الباب.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: بعت الدار ذراع بدرهم، كما جاز لك في الشاء. وزعم أنه يقول: بعت دارى الذراعان بدرهم، وبعت البر القفيزان بدرهم. ولم يشبه هذا بقوله: فاه إلى في، لأن هذا في بابه بمنزلة المصار التي تكون حالاً يقع فيها الأمر، نحو قولك: لقيته كفاحاً، ونحو قوله: أرسلها العراك، وفعلت ذاك طاقتي.
وليس كل مصدر في هذا الباب تدخله الألف واللام ويكون معرفة بالإضافة، وليس كل المصادر في هذا الباب يكون فيها هذا فالأسماء أبعد.

فلذلك كان الذراع رفعاً لأنه لا يجوز أن " تجعله معرفة وتجعله حالاً يكون فيه الأمر، كما أنه لا يجوز لك أن " تدخل الألف واللام في قولك لقيته قائماً وقاعداً، أن تقولك لقيته القائم والقاعد، ولا " تقول " : ضربته القائم، فلما قبح ذلك في الذراع جعل بمنزلة قولك: لقيته يده فوق رأسه. ومثل ذلك: بعته ربح الدرهم درهم، لا يكون فيه النصب على حال. وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: ربحت الدرهم درهماً، محال، حتى تقول: في الدرهم وللدرهم.
وكذلك وجدنا العرب تقول.
فإن قال قائل: فاحذف حرف الجر وأنوه. قيل له: لا يجوز ذلك كما لا تقول مررت أخاك وأنت تريد بأخيك. فإن قال: لا يجوز حذف الباء من هذا قيل له: فهذا لا يقال أيضاً.
وقال الخليل رحمه الله: كلمني يده في يدي الرفع لا يكون غيره؛ لأن هذا لايكون من صفة الكلام.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلت: رجعت عودك في بدئك مفعولاً بمنزلة قولك: رجعت المال على، أي رددت المال علي، كأنه قال: ثنيت عودى على بدئى.
هذا باب
ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال يقع فيه السعروإن كنت لم تلفظ بفعل، ولكنه حال يقع فيه السعر، فينتصب كما انتصب لو كان حالاً وقع فيه الفعل، لأنه في أنه حال وقع فيه أمر في الموضعين سواء. وذلك قولك: لك الشاء شاة بدرهم شاة بدرهم. وإن شئت ألغيت لك فقلت: لك الشاء شاة بدرهم شاة بدرهم، كما قلت: فيها زيد قائم، رفعت.
وإذا قلت: الشاء لك، فإن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، وصار لك الشاء إذا نصبت بمنزلة وجب الشاء، كما كان فيها زيد قائماً بمنزلة: استقر زيد قائماً.
باب يختار فيه الرفع والنصب، لقبحه
أن يكون صفةوذلك قولك: مررت ببر قبل قفيز بدرهم قفيز بدرهم. وسمعنا العرب الموثوق بهم ينصبونه، سمعناهم يقولون: العجب من بر مررنا به قبل قفيزاً بدرهم " قفيزا بدرهم " ، فحملوه على المعرفة وتركوا النكرة، لقبح النكرة أن تكون موصوفة بما ليس صفة، وإنما هو اسم كالدرهم والحديد. ألا ترى أنك تقول: هذا مالك درهماً، وهذا خاتمك حديداً ولا يحسن أن تجعله صفة، فقد يكون الشيء حسناً إذا كان خبرا وقبيحاً إذا كان صفة. وأما الذين رفعوه فقالوا: مررت ببر قبل قفيز بدرهم، فجعلوا القفيز مبتدأ. وقولك بدرهم مبنياً عليه.
باب ما ينتصب من الصفات كانتصاب الأسماءفي الباب الأول وذلك قولك: أبيعكه الساعة ناجزا بناجز، وسادوك كابراً عن كابر. فهذا كقولك: بعته رأساً برأس.
باب ما ينتصب فيه الصفة لأنه حال
وقع فيه الألف واللامشبهوه بما يشبه من الأسماء بالمصادر، نحو قولك: فاه إلى في، وليس بالفاعل ولا المفعول. فكما شبهوا هذا بقولك عوده على بدئه وليس بمصدر، كذلك شبهوا الصفة بالمصدر، وشذ هذا كما شذت المصادر في بابها حيث كانت حالاً وهي معرفة، وكما شذت الأسماء التي وضعت موضع المصدر.
وما يشبه بالشيء في كلامهم وليس مثله في جميع أحواله كثير، وقد بين فيما مضى وستراه أيضاً إن شاء الله. وهو قولك: دخلوا الأول فالأول، وجرى على قولك واحداً فواحداً ودخلوا رجلا رجلاً.
وإن شئت رفعت فقلت: دخلوا الأول فالأول، جعله بدلا وحمله على الفعل، كأنه قال: دخل الأول فالأول.
وإن شئت قلت: دخلوا رجل فرجل، تجعله بدلاً كما قال عز وجل: " بالناصية. ناصية كاذبة " .
فإن قلت: ادخلوا، فأمرت فالنصب الوجه، ولا يكون بدلاً؛ لأنك لو قلت: ادخل الأول فالأول أو رجل رجل، لم يجز، ولا يكون صفة، لأنه ليس معنى الأول فالأول أنك تريد أن تعرفه بشيء تحليه به. لو قلت: قومك الأول فالأول أتونا لم يستقم، وليس معناه معنى كلهم فأجرى مجرى خمستهم ووحده.
ولا يجوز في غير الأول هذا، كما لا يجوز أن تقول: مررت به واحده ولا بهما اثنيهما.
وكان عيسى يقول: ادخلوا الأول فالأول؛ لأن معناه ليدخل، فحمله على المعنى، وليس بأبعد من: " ليبك يزيد ضارع لخصومة " فإذا قلت:ادخلوا الأول والآخر والصغير والكبير، فالرفع؛ لأن معناه معنى كلهم، كأنه قالك ليدخلوا كلهم.

وإذا أردت بالكلام أن تجريه على الاسم كما تجري النعت لم يجز أن تدخل الفاء؛ لأنك لو قلت: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كان حسنا، ولو قلت: مررت بزيد أخيك فصاحبك، والصاحب زيد، لم يجز. وكذلك لو قلت: زيد أخزك فصاحبك ذاهب، لم يجز. ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب، والبيت لأمية بن أبي عائذ:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعث مراضيع مثل السعالي
ولو قلت " فشعث " قبح.
"
وقال الخليل: ادخلوا الأول فالأول والوسط والآخر. لا يكون فيه غيره وقال: يكون على جواز كلكم، حمله على البدل " .
هذا باب
ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوالتقع فيها الأمور وذلك قولك: هذا بسراً أطيب منه رطباً. فإن شئت جعلته حيناً قد مضى، وإن شئت جعلته حيناً مستقبلاً. وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار إذا كان فيما يستقبل، وإذ كان فيما مضى، لأن هذا لما كان ذا معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان. " ولو كان على إضمار كان لقلت: هذا التمر أطيب منه البسر؛ لأن كان قد ينصب المعرفة كما ينصب النكرة، فليس هو على كان ولكنه حال " .
ومنه: مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون، وبرجل خير ما يكون خير منك خير ما تكون، وهو أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون. فهذا كله محمول على مثل ما حملت عليه ما قبله.
وإن شئت قلت: مررت برجل خير ما يكون خير منك، كأنه يريد برجل خير أحواله خير منك، أي خير من أحوالك. وجاز له أن يقول: خير منك، وهو يريد: " خير " من أحوالك، كما جاز أن تقول: نهارك صائم وليلك قائم.
وتقول: البر أرخص ما يكون قفيزان، أي البر أرخص أحواله التي يكون عليها قفيزان، كأنك قلت: البر أرخصه قفيزان.
ومن ذلك هذا البيت تنشده العرب على أوجه، بعضهم يقول، وهو قول عمرو بن معد يكرب:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول
أي أعرب أولها فتية ولكنه أنث الأول، كما تقول: ذهبت بعض أصابعه. وبعضهم يقول:
"
الحرب أول ما تكون فتية "
أي إذا كانت في ذلك الحين. وبعضهم يقول:
"
الحرب أول ما تكون فتية "
كأنه قال: الحرب أول أحوالها إذا كانت فتية، كما تقول: عبد الله أحسن ما يكون قائماً. ومن رفع الفتية ونصب الأول على الحال قال: البر أرخص ما يكون قفيزان. ومن نصب الفتية ورفع الأول قال: البر أرخص ما يكون قفيزين.
وأما عبد الله أحسن ما يكون قائماً فلا يكون فيه إلا النصب؛ لأنه لا يجوز لك أن تجعل أحسن أحواله قائماً على وجه من الوجوه.
وتقول: عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة، والبداوة أطيب ما تكون شهري ربيع، كأنك قلت: أخطب ما يكون عبد الله في يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة في شهري ربيع.
ومن العرب من يقول: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، وأطيب ما تكون البداوة شهرا ربيع، كأنه قال: أخطب أيام الأمير يوم الجمعة، وأطيب أزمنة البداوة شهرا ربيع. وجاز أخطب أيامه يوم الجمعة على سعة الكلام، وكأنه قال: أطيب الازمنة التي تكون فيها البداوة شهرا ربيع، وأخطب الأيام التي يكون فيها الأمير خطيباً يوم الجمعة.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أبطوه، على معنى ذاك أبطؤه. كأنه قيل له أي غاية هذه عندك وأي إتيان ذا عندك، أسريع أم بطيء؟ فقال: أبطوه، على معنى: ذاك أبطؤه.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه أو يوم السبت أبطؤه، واعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعيته، " وأعطيته درهما أو درهمان أكثر ما أعطيته " . وإن شاء نصب الدرهمين وقال: أكثر ما أعطيته. وإن شاء نصب أكثر أيضاً على أنه حال وقعت فيه العطية. وإن شاء قال: آتيك يوم الجمعة أبطأه، أي أبطأ الإتيان يوم الجمعة.
باب ما ينتصب من الأماكن والوقتوذلك لأنها ظروف تقع فيها الأشياء، وتكون فيها، فانتصب لأنه موقوع فيها ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها، كما أن العلم إذا قلت أنت الرجل علماً عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذا قلت: عشرون درهماً. وكذلك يعمل فيها ما بعدها وما قبلها.
فالمكان قولك هو خلفك، وهو قدامك وأمامك، وهو تحتك وقبالتك، وما أشبه ذلك.
ومن ذلك قولك أيضاً: هو ناحية من الدار، " وهو ناحية الدار، وهو ناحيتك وهو نحوك " ، وهو مكاناً صالحاً، وداره ذات اليمين، وشرقى كذا قال الشاعر، وهو جرير:

هبت جنوباً فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا
وقالوا: منازلهم يميناً " ويساراً " وشمالاً. قال الشاعر، وهو عمرو ابن كلثوم:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
أي على ذات اليمين، حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو، وهو رأيه. وتقول: هو قصدك، كما قال الشاعر، وسمعنا بعض العرب ينشده كذا:
سرى بعدما غار الثريا وبعدما ... كأن الثريا حلة الغور منخل
أي قصده، يقال هو حلة الغور أي قصده، سمعنا ذلك ممن يوثق به من العرب.
ويقال: هما خطان جنابتى أنفها يعني الخطين اللذين اكتنفا جنبي أنف الظبية. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره، وصار بمنزلة المنون الذي يعمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو قوله: " هو " خير منك عملاً، فصار " هو " خلفك، وزيد خلفك بمنزلة ذلك. والعامل في خلف الذي هو موضع له والذي هو في موضع خبره، كما أنك إذا قلت: عبد الله أخوك فالآخر قد رفعه الأول وعمل فيه، وبه استغنى الكلام، وهو منفصل منه.
ومن ذلك قول العرب: هو موضعه، وهو مكانه، وهذا مكان هذا، وهذا رجل مكانك، إذا أردت البدل. كأنك قلت: هذا في مكان ذا، وهذا رجل في مكانك. ويقال للرجل: اذهب معك بفلان، فيقول: معي رجل مكان فلان، أي معي رجل يكون بدلاً منه ويغني غناءه، ويكون في مكانه.
واعلم أن هذه الأشياء كلها انتصابها من وجه واحد.
ومثل ذلك: هو صددك، وهو سقبك، وهو قربك.
واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون أسماء غير ظروف، بمنزلة زيد وعمرو. سمعنا من العرب من يقول: دارك ذات اليمين. وقال الشاعر، وهو لبيد:
فغدت، كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
ومن ذلك أيضاً: هذا سواءك، وهذا رجل سواءك فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته في معنى بذلك. ولا يكون اسماً إلا في الشعر. قال بعض العرب، لما اضطر في الشعر جعله منزلة غير، قال الشاعر وهو رجل من الأنصار:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا قعدوا منا ولا من سوائنا
وقال الآخر، وهو الأعشى:
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
ومثل ذلك: أنت كعبد الله، كأنه يقول: أنت كعبد الله، أي أنت في حال كعبد الله، فأجرى مجرى بعبد الله. إلا أن ناسا من العرب إذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل. قال الراجز " وهو حميد الأرقط " :
فصيروا مثل كعصف مأكول
وقال خطام المجاشعى:
وصاليات ككما يؤثفين
ويدلك على أن سواءك وكزيد يمنزلة الظروف، أنك تقول: مررت بمن سواءك وعلى من سواءك، والذي كزيد، فحسن هذا كحسن من فيها والذي فيها، ولا تحسن الأسماء ههنا ولا تكثر في الكلام. لو قلت: مررت بمن فاضل، أو الذي صالح، كان قبيحاً. فهكذا مجرى كزيد وسواءك.
وتقول: كيف أنت إذا أقبل قبلك ونحى نحوك، كأنه قال: كيف أنت إذا أريدت ناحيتك وإذا أريد ما عندك حين قال: إذا نحى نحوك، وأما حين قال: أقبل قبلك فكأنه قال: كيف أنت إذا أقبل النقب الركاب، جعلهما اسمين.
وزعم الخليل رحمه الله أن النصب جيد إذا جعله ظرفاً، وهو بمنزلة قول العرب: هو قريب منك، وهو قريباً منك، أي مكاناً قريباً منك.
حدثنا يونس أن العرب تقول في كلامها: هل قريباً منك أحد، كقولهم: هل قربك أحد.
وأما دونك فإنه لا يرفع أبداً، وإن قلت: هو دونك في الشرف؛ لأن هذا إنما هو مثل كما كان هذا مكان ذا في البدل مثلاً، ولكنه على السعة. وإنما الأصل في الظروف الموضع والمستقر من الأرض ولكنه جاز هذا كما تقول: إنه لصلب القناة، وإنه لمن شجرة صالحة، ولكنه على السعة. وأما قصد قصدك فمثل نحى نحوك، وأقبل قبلك، يرتفع كما يرتفعان وينتصب كما ينتصبان. وإن شئت قلت: هو دونك، إذا جعلت الأول الآخر ولم تجعله رجلاً. وقد يقولون: هو دون، في غير الإضافة، أي هو دون من القوم، وهذا ثوب دون، إذا كان رديئاً.

واعلم أنه ليس كل موضع و " لا " كل مكان يحسن أن يكون ظرفاً فمما لا يحسن أن يكون ظرفاً أن العرب لاتقول هو جوف المسجد ولا هو داخل الدار ولا هو خارج الدار، حتى تقول: هو في جوفها، وفي داخل الدار، ومن خارجها. وإنما فرق بين خلف وما أشبهها وبين هذه الحروف، لأن خلف وما أشبهها للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها. على هذا جرت عندهم، والجوف والخارج عندهم بمنزلة الظهر والبطن والرأٍس واليد، وصارت خلف وما أشبهها تدخل على كل اسم فتصير أمكنة تلي الاسم من نواحيه وأقطاره، ومن أعلاه وأسفله، وتكون ظروفا كما وصفت لك، وتكون أسماء كقولك: هو ناحية الدار إذا أردت الناحية بعينها، وهو في ناحية الدار، فتصير بمنزلة قولك: هو في بيتك وفي دارك.
ويدلك على أن المجرور بمنزلة الاسم غير الظرف أنك تقول: زيد وسط الدار وضربت وسطه، وتقول: في وسط الدار، فيصير بمنزلة قولك: ضربت وسطه مفتوحاً مثله.
واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء، نحو القبل والقصد والناحية. وأما الخلف والأمام والتحت فهن أقل استعمالاً في الكلام أن تجعل أسماء. وقد جاءت على ذلك في الكلام والأشعار.
وهذه حروف تجري مجرى خلفك وأمامك، ولكنا عزلناها لنفسر معانيها، لأنها غرائب.
فمن ذلك حرفان ذكرناهما في الباب الأول ثم لم نفسر معناهما، وهما صددك ومعناه القصد، وسقبك ومعناه القرب، ومنه قول العرب: هو وزن الجبل أي ناحية منه، وهم زنة الجبل أي حذاءه.
ومن ذلك قول العرب: هم قرابتك أي قربك، يعني المكان. وهم قرابتك في العلم، أي قريباً منك في العلم. وكان هذا بمنزلة قول العرب: هو حذاءه وإزاءه، وحواليه بنو فلان، وقومك أقطار البلاد.
ومن ذلك قول الشاعر، وهو أبو حية النميري:
إذا ما نعشناه على الرحل ينثني ... مساليه عنه من وراء ومقدم
ومسالاه: عطفاه، فصار بمنزلة " جنبي فطيمة " :
باب ما شبه من الأماكن المختصةبالمكان غير المختص شبهت به إذ كانت تقع على الأماكن وذلك قول العرب، سمعناه منهم: هو منى منزلة الشغاف، وهو مني منزلة الولد.
ويدلك على أنه ظرف قولك: هو مني بمنزلة الولد فإنما أردت أن تجعله في ذلك الموضع، فصار كقولك: منزلي مكان كذا وكذا وهو مني مزجر الكلب، وأنت مني مقعد القابلة، وذلك إذا دنا فلزق بك من بين يديك. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب:
فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء خلف النجم لا يتتلع
وهو منك مناط الثريا.
وقال الأحوص:
وإن بني حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها
وقال: هو مني معقد الإزار، فأجرى هذا مجرى قولك: هو مني مكان السارية، وذلك لأنها أماكن، ومعناها هو مني في المكان الذي يقعد فيه الضرباء، وفي المكان الذي نيط به الثريا، وبالمكان الذي ينزل به الولد، وأنت مني في المكان الذي تقعد فيه القابلة، وبالمكان الذي يعقد عليه الإزار، فإنما أراد هذا المعنى ولكنه حذف الكلام. وجاز ذلك كما جاز دخلت البيت وذهبت الشأم؛ لأنها أماكن وإن لم تكن كالمكان.
وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك أو متكأ زيد، أو مربط الفرس، لم يجز. فاستعمل من هذا ما استعملت العرب، وأجز منه ما أجازوا.
ومن ذلك قول العرب: هو مني درج السيل، أي مكان درج السيل من السيل. قال الشاعر، وهو ابن هرمة:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول
ويقال رجع أدراجه، أي رجع في الطريق الذي جاء فيه. هذا معناه فأجرى مجرى ما قبله، كما أجروا ذلك المجرى درج السيول.
وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك: هو مني فرسخان، وهو مني عدوة الفرس، ودعوة الرجل، " وغلوة السهم " ، وهو مني يومان، وهو مني فوت اليد. فإنما فارق هذا الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبر أن بينه وبينه فرسخين ويومين، ودعوة الرجل، وفوتاً. ومعنى فوت اليد أنه يريد أن يقرب ما بينه وبينه. فهذا على هذا المعنى، وجرى على الكلام الأول، كأنه هو لسعة الكلام، كما قالوا: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة.
وأما قول العرب: أنت مني مرأى ومسمع، فإنما رفعوه لأنهم جعلوه هو الأول، حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريب.
وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول

فجعلهم هم الدرج، كما تقول: زيد قصدك، إذا جعلت القصد زيداً، وكما يجوز لك أن تقول: عبد الله خلفك، إذا جعلته هو الخلف.
واعلم أن هذه الحروف بعضها أشد تمكناً في أن يكون اسماً من بعض، كالقصد والنجو، والقبل والناحية، وأما الخلف والأمام والتحت والدون فتكون أسماء، وكينونة " تلك " أسماء أكثر وأجرى في كلامهم. وكذلك مرأى ومسمع كينونتهما أسماء أكثر، ومع ذلك إنهم جعلوه اسماً خاصاً، بمنزلة المجلس والمتكأ وما أشبه ذلك، فكرهوا أن يجعلوه ظرفاً. وقد زعموا أن بعض الناس ينصبه، يجعله بمنزلة درج السيول، فينصبه، وهو قليل، كأنهم لما قالوا: بمرأى ومسمع فصار غير الاسم الأول في المعنى واللفظ، شبهوه بقوله: هو مني يمنزلة الولد.
وقد زعم يونس أن ناساً يقولون: هو مني مزجر الكلب، يجعلونه بمنزلة مرأى ومسمع. وكذلك مقعد ومناط، يجعلونه هو الأول فيجري، كقول الشاعر:
وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل
وإنما حسن الرفع ههنا لأنه جعل الآخر هو الأول، كقولك: له رأس رأس الحمار. ولو جعل الآخر ظرفاً جاز، ولكن الشاعر أراد أن يشبه مكانه بذلك المكان.
وأما قولهم: دارى خلف دارك فرسخاً، فانتصب لأن خلف خبر للدار، وهو كلام قد عمل بعضه في بعض واستغنى، فلما قال: دارى خلف دارك أبهم، فلم يدر ما قدر ذاك، فقال: فرسخاً وذراعاً وميلاً، أراد أن يبين. فيعمل هذا الكلام في هذه الغايات بالنصب كما عمل: له عشرون درهماً في الدرهم، كأن هذا الكلام شيء منون يعمل فيما ليس من اسمه ولا هو هو، كما كان: أفضلهم رجلاً، بتلك المنزلة.
وإن شئت قلت: دارى خلف دارك فرسخان، تلغي خلف كما تلغي فيها إذا قلت: فيها زيد قائم.
وزعم يونس أن أبا عمرو كان يقول: داري من خلف دارك فرسخان، فشبهه بقولك: دارك مني فرسخان، لأن خلف ههنا اسم، وجعل من فيها بمزلتها في الاسم. وهذا مذهب قوي.
وأما العرب فتجعله بمنزلة قولك: خلف، فتنصب وترفع، لأنك تقول: أنت من خلفي، ومعناه أنت خلفي، ولكن الكلام حذف. ألا ترى أنك تقول: دارك من خلف داري، فيستغنى الكلام.
وتقول: أنت مني فرسخين، أي أنت مني ما دمنا نسير فرسخين، فيكون ظرفاً كما كان ما قبله مما شبه بالمكان.
وأما الوقت والساعات والأيام والشهور والسنون، وما أشبه ذلك من الأزمنة والأحيان التي تكون في الدهر، فهو قولك: " القتال يوم الجمعة " ، إذا جعلت يوم الجمعة ظرفاً، و " الهلال الليلة " . وإنما انتصبا لأنك جعلتهما ظرفاً وجعلت القتال في يوم الجمعة، والهلال في الليلة.
وإن قلت: الليلة الهلال، واليوم القتال نصبت، التقديم والتأخير في ذلك سواء. وإن شئت رفعت فجعلت الآخر الأول.
وكذلك: اليوم الجمعة واليوم السبت، وإن شئت رفعت. فأما اليوم الأحد، واليوم الاثنان، فإنه لا يكون إلا رفعاً، وكذلك إلى الخميس، لأنه ليس يعمل فيه كأنك أردت أن تقول: اليوم الخامس والرابع. وكذلك: اليوم خمسة عشر من الشهر، إنما أردت هذا اليوم تمام خمسة عشر من الشهر، ويومان من الشهر رفع كله، فصار بمنزلة قولك: العام عامها.
ومن العرب من يقول: اليوم يومك، فيجعل اليوم الأول بمنزلة الآن، لأن الرجل قد يقول: أنا اليوم أفعل ذاك، ولا يريد يوماً بعينه.
وتقول: عهدي به قريباً وحديثاً، إذا لم تجعل الآخر هو الأول. فإن جعلت الآخر هو الأول رفعت. وإذا نصبت جعلت الحديث والقريب من الدهر. وتقول: عهدي به قائماً وعلمي به ذا مال، فتنصب على أنه حال وليس بالعهد ولا العلم، وليسا هنا ظرفين.
وتقول: ضربي عبد الله قائماً، على هذا الذي ذكرت لك.
واعلم أن ظروف الدهر أشد تمكنا في الأسماء، لأنها تكون فاعلة ومفعولة. تقول: أهلكك الليل والنهار، واستوفيت أيامك، فأجرى الدهر هذا المجرى. فأجر الأشياء كما أجروها.
هذا باب الجروالجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه. واعلم أن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف، وبشيء يكون ظرفاً، وباسم لا يكون ظرفاً.
فأما الذي ليس باسم ولا ظرف فقولك: مررت بعبد الله، وهذا لعبد الله، وما أنت كزيد، ويالبكر، وتالله لا أفعل ذاك ومن وفي ومذ، وعن ورب وما أشبه ذلك، وكذلك أخذته عن زيد، وإلى زيد.

وأما الحروف التي تكون ظرفاً فنحو خلف وأمام، وقدام ووراء، وفوق وتحت، وعند وقبل، ومع وعلى، لأنك تقول: من عليك، كما تقول: من فوقك، وذهب من معه.
وعن أيضاً ظرف بمنزلة ذات اليمين والناحية. ألا ترى أنك تقول: من عن يمينك، كما تقول: من ناحية كذا وكذا.
وقبالة، ومكانك، ودون، وقبل، وبعد، وإزاء، وحذاء، وما أشبه هذا من الأمكنة والأزمنة. وذلك قولك: أنت خلف عبد الله، وأمام زيد، وقدام أخيك، وكذلك سائر هذه الحروف.
وهذه الظروف أسماء، ولكنها صارت مواضع للأشياء.
وأما الأسماء فنحو: مثل، وغير، وكل، وبعض. ومثل ذلك أيضاً الأسماء المختصة نحو: حمار، وجدار، ومال، وأفعل نحو قولك: هذا أعمل الناس، وما أشبه هذا من الأسماء كلها، وذلك قولك: هذا مثل عبد الله، وهذا كل مالك وبعض، وهذا حمار زيد وجدار أخيك، ومال عمرو. وهذا أشد الناس.
وأما الباء وما أشبهها فليست بظروف ولا أسماء، ولكنها يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو ما بعده. فإذا قلت: يا لبكر فإنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى من الفعل المضمر مضافاً إلى بكر باللام.
وإذا قلت: مررت بزيد، فإنما أضفت المرور إلى زيد بالباء، وكذلك هذا لعبد الله. وإذا قلت: أنت كعبد الله، فقد أضفت إلى عبد الله الشبه بالكاف. وإذا قلت: أخذته من عبد الله فقد أضفت الأخذ إلى عبد الله بمن. وإذا قلت:مذ زمان فقد أضفت الأمر إلى وقت من الزمان " بمذ " . وإذا قلت: أنت في الدار فقد أضفت كينونتك في الدار إلى الدار بفي. وإذا قلت: فيك خصلة سوء، فقد أضفت إليه الرداءة بفي. وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب. وإذا قلت: بالله والله وتالله فإنما أضفت الحلف إلى الله سبحانه. كما أضفت النداء باللام إلى بكر حين قلت: يالبكر. وكذلك رويته عن زيد، أضفت الرواية إلى زيد بعن.
باب مجرى النعت على المنعوت..
والشريك على الشريك والبدل على المبدل منه وما أشبه ذلكفأما النعت الذي جرى على المنعوت فقولك: مررت برجل ظريف قبل، فصار النعت مجروراً مثل المنعوت لأنهما كالاسم الواحد. " وإنما صارا كالاسم الواحد " من قبل أنك لم ترد الواحد من الرجال الذين كل واحد منهم رجل، ولكنك أردت الواحد من الرجال الذين كل واحد منهم رجل ظريف، فهو نكرة، وإنما كان نكرة لأنه من أمة كلها له مثل اسمه. وذلك أن الرجال كل واحد منهم رجل، والرجال الظرفاء كل واحد منهم رجل ظريف، فاسمه يخلطه بأمته حتى لا يعرف منها.
فإن أطلت النعت فقلت: مررت برجل عاقل كريم مسلم، فأجره على أوله.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل أيما رجل، فإيما نعت للرجل في كماله وبذة غيره، كأنه قال: مررت برجل كامل.
ومنه: مررت برجل حسبك من رجل. فهذا نعت للرجل بإحسابه إياك من كل رجل. وكذلك: كافيك من رجل، وهمك من رجل، " وناهيك من رجل " ، ومررت برجل ما شئت من رجل، ومررت برجل شرعك من رجل، ومررت برجل هدك من رجل، " وبامرأة هدك من امرأة " . فهذا كله على معنى واحد، وما كان منه يجري فيه الإعراب فصار نعتاً لأوله جرى على أوله.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: مررت برجل هدك من رجل، ومررت بامرأة هدتك من امرأة؛ فجعله فعلاً " مفتوحاً، كأنه قال: فعل وفعلت " ، بمنزلة كفاك وكفتك.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل مثلك. فمثلك نعت على أنك قلت هو رجل كما أنك رجل، ويكون نعتاً أيضاً على أنه لم يزد عليك ولم ينقص عنك في شيء من الأمور. ومثله: مررت برجل مثلك، أي صورته شبيهة بصورتك، وكذلك: مررت برجل ضربك وشبهك. وكذلك نحوك، يجرين في المعنى والإعراب مجرى واحداً، وهن مضافات إلى معرفة صفات لنكرة.
"
ويونس يقول:هذا مثلك مقبلاً، وهذا زيد مثلك، إذا قدمه جعله معرفة وإذا أخره جعله نكرة. ومن العرب من يوافقه على ذلك " .
ومنه: مررت برجل شر منك، فهو نعت على أنه نقص أن يكون مثله.
ومنه: مررت برجل خير منك، فهو نعت له بأنه قد زاد على أن يكون مثله.
ومنه: مررت برجل غيرك، فغيرك نعت يفصل به بين من نعته بغير وبين من أضفتها إليه حتى لا يكون مثله أو يكون مر باثنين.
ومنه: مررت برجل آخر، " فآخر " نعت على نحو غير.
ومنه: مررت برجل حسن الوجه، نعت الرجل بحسن وجهه ولم تجعل فيه الهاء هي إضمار الرجل، كما تقول: حسن وجهه، لأنه إذا قيل حسن الوجه علم أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه.

ومثل ذلك: مررت بامرأة حسنة الوجه، إنما أدخلت الهاء في الحسنة لأن الحسنة إنما وقعت نعتاً لها ثم بلغت به بعد ما صار نعتاً لها حيث أردت، فمن ثم صارت فيها الهاء. وليست بمنزلة حسن وجهه في اللفظ وإن كان المعنى واحداً؛ لأن الحسن ههنا للأول ثم تضيفه إلى من تريد، وحسن الوجه مضاف إلى معرفة صفة للنكرة، فلما كانت صفة للنكرة أجريت مجراها كما جرت مجراها أخواتها مثل وما أشبهها.
ومما يكون نعتاً للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول الشاعر، امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأ ومغرب
ومنه أيضاً: مررت على ناقة عبر الهواجر. ومما يكون مضافاً إلى المعرفة ويكون نعتاً للنكرة الأسماء التي أخذت من الفعل فأريد بها معنى التنوين. من ذلك: مررت برجل ضاربك، فهو نعت على أنه سيضربه، كأنك قلت: مررت برجل ضارب زيداً، ولكن حذف التنوين استخفافاً. وإن أظهرت الاسم وأردت التخفيف والمعنى معنى التنوين، جرى مجراه حين كان الاسم مضمراً، وذلك قولك: مررت برجل ضاربه رجل؛ فإن شئت حملته على أنه سيفعل، وإن شئت على أنك مررت به وهو في حال عمل، وذلك قوله عز وجل: " هذا عارض ممطرنا " . فالرفع ههنا كالجر في باب الجر.
واعلم أن كل مضاف إلى معرفة وكان للنكرة صفة فإنه إذا كان موصوفاً أو وصفاً أو خبراً أو مبتدأً، بمنزلة النكرة المفردة. ويدلك على ذلك قول " الشاعر، وهو " جرير:
ظللنا بمستن الحرور كأننا ... لدى فرس مستقبل الريح صائم كأنه قال: لدى مستقبل صائم.
وقال المرار الأسدي:
سل الهموم بكل معطى رأسه ... ناج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه ... في منكب زبن المطى عرندس
سمعناه ممن يرويه من العرب ينشده هكذا. ومنه أيضاً قول ذي الرمة:
سرت تخبط الظلماء من جانبي قساً ... وحب بها من خابط الليل زائر
فكأنهم قالوا: بكل معط " رأسه " ، ومن خابط " الليل " . ومثله قول جرير:
يارب غابطنا لو كان يعرفكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
وقال أبو محجن الثقفي:
يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق
فرب لا يقع بعدها إلا نكرة، فذلك يدلك على أن " غابطنا " " ومثلك " نكرة.
ومن ذلك قول العرب: لي عشرون مثله ومائة مثله، فأجروا ذلك بمنزلة عشرين درهماً ومائة درهم. فالمثل وأخواته كأنه كالذي حذف منه التنوين في قوله مثل زيداً وقيد الأوابد. وهذا تمثيل، ولكنها كمائة وعشرين، فلزمها شيء واحد وهو الإضافة. يريد أنك أردت معنى التنوين. فمثل ذلك قولهم: مائة درهم.
وزعم يونس أنه يقول: عشرون غيرك، على قوله عشرون مثلك.
وزعم يونس والخليل رحمهما الله، أن الدرهم ليست نكرة؛ لأنهم يقولون: مائة الدرهم التي تعلم، فهي بمنزلة عبد الله.
وزعم يونس والخليل أن هذه الصفات المضافة إلى المعرفة، التي صارت صفة للنكرة، قد يجوز فيهن كلهن أن يكون معرفة، وذلك معروف في كلام العرب. يدلك على ذلك أنه يجوز لك أن تقول: مررت بعبد الله ضاربك، فجعلت ضاربك بمنزلة صاحبك.
وزعم يونس أنه يقول: مررت بزيد مثلك، إذا أرادوا مررت بزيد المعروف بشبهك، فتجعل مثلك معرفة. ويدلك على ذلك قوله: هذا مثلك قائما، كأنه قال هذا أخوك قائماً. إلا حسن الوجه فإنه بمنزلة رجل، لا يكون معرفة. وذاك أنه يجوز لك أن تقول: هذا الحسن الوجه، فيصير معرفة بالألف واللام، كما يصير الرجل معرفة بالألف واللام ولا يكون معرفة إلا بهما.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل إما قائم وإما قاعد، فقد أعلمهم أنه ليس بمضطجع " ولكنه " شك في القيام والقعود، وأعلمهم أنه على أحدهما.
ومن النعت أيضاً: مررت برجل لا قائم ولا قاعد، جر لأنه نعت، كأنك قلت: مررت برجل قائم، وكأنك تحدث من في قلبه أن ذاك الرجل قائم أو قاعد، فقلت: لا قائم ولا قاعد، لتخرج ذلك من قلبه.
ومنه: مررت برجل راكب وذاهب، واستحقهما لا لأن الركوب قبل الذهاب. ومنه: مررت برجل راكب فذاهب استحقهما إلا أنه بين أن الذهاب بعد الركوب وأنه لا مهلة بينهما وجعله متصلاً به.
ومنه: مررت برجل راكب ثم ذاهب، فبين أن الذهاب بعده، وأن بينهما مهلة، وجعله غير متصل به فصيره على حدة.

ومنه: مررت برجل راكع أو ساجد، فإنما هي بمنزلة إما وإما، إلا أن إما يجاء بها ليعلم أنه يريد أحد الأمرين، وإذا قال " أو " ساجد فقد يجوز أن يقتصر عليه.
ومنه: مررت برجل راكع لا ساجد، لإخراج الشك أو لتأكيد العلم فيهما.
ومنه: مررت: برجل راكع بل ساجد، إما غلط فاستدرك، وإما نسي فذكر.
ومنه: مررت برجل حسن الوجه جميلة، جر لأنه حسن الخاصة جميلها، والوجه ونحوه خاص، ولو كان حسن العامة لقال حسن جميل.
ومنه: مررت برجل ذي مال، أي صاحب مال.
ومنه: مررت برجل رجل صدق، منسوب إلى الصلاح. كأنك قلت: مررت برجل صالح. وكذلك: مررت برجل رجل سوء، كأنك قلت: مررت برجل فاسد؛ لأن الصدق صلاح والسوء فساد. وليس الصدق ههنا بصدق اللسان، لو كان كذلك لم يجز لك أن تقول هذا ثوب صدق وحمار صدق، وكذلك السوء ليس في معنى سؤته.
ومن النعت أيضاً: مررت برجلين مثلين، فتفسير المثلين أن كل واحد منهما مثل صاحبه. ومثل ذلك سيان، وسواء.
ومنه: مررت برجلين مثلك، أي كل واحد منهما مثلك، ووجه آخر على انهما جميعاً مثلك. وكل ذلك جر.
ومنه: مررت برجلين غيرك، فإن شئت حملته على أنهما غيره في الخصال وفي الأمور، وإن شئت على قوله: مررت برجلين آخرين إذا أردت أنه قد ضم معك في المرور سواك، فيصير كقولك: برجل آخر، إذا ثني به.
ومنه: مررت برجلين سواء، على أنهما لي يزيدا على رجلين ولي ينقصا من رجلين. وكذلك مررت بدرهم سواء.
ومنه أيضاً: مررت برجلين مسلم وكافر، جمعت الاسم وفرقت النعت. وإن شئت كان المسلم والكافر بدلاً، كأنه أجاب من قال: بأي ضرب مررت؟ وإن شاء رفع كأنه أجاب من قال: فما هما؟ فالكلام على هذا وإن لم يلفظ به المخاطب؛ لأنه إنما يجري كلامه على قدر مسألتك عنده لو سألته.
وكذلك: مررت برجلين رجل صالح ورجل طالح، إن شئت صيرته تفسيراً لنعت، وصار إعادتك الرجل توكيداً. وإن شئت جعلته بدلاً، كأنه جواب لمن قال: بأي رجل مررت. فتركت الأول واستقبلت الرجل بالصفة. وإن شئت رفعت على قوله فما هما؟ ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفرق النعت وصار مجروراً قوله، " وهو رجل من باهلة " :
بكيت وما بكا رجل حليم ... على ربعين مسلوب وبال
كذا سمعنا العرب تنشده، والقوافي مجرورة.
ومنه أيضاً: مررت بثلاثة نفر: رجلين مسلمين ورجل كافر، جمعت الاسم وفصلت العدة ثم نعته وفسرته. وإن شئت أجريته مجرى الأول في الابتداء فترفعه، وفي البدل فتجره. قال " الرجز، وهو " العجاج:
خوى على مستويات خمس ... كركرة وثفنات ملس
وهذا يكون على وجهين: على البدل، وعلى الصفة.
ومثال ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل، قوله عز وجل: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " . ومن الناس من يجر والجر على وجهين: على الصفة، وعلى البدل. ومنه قول كثير عزة:
وكنت كذى رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
فأما مررت برجل راكع وساجد، ومررت برجل رجل صالح، فليس الوجه فيه إلا الصفة، وليس هذا بمنزلة مررت برجلين مسلم وكافر ولا ما أشبهه، من قبل أنك ثم تبعض، كأنك قلت: أحدهما كذا والآخر كذا، ومنهم كذا " ومنهم كذا " .
وإذا قلت: مررت برجل قائم، ومررت برجل قاعد، فهذا اسم واحد. ولو قلت: مررت برجل مسلم وثلاثة رجال مسلمين لم يحسن فيه إلا الجر لأنك جعلت الكلام اسماً واحداً حتى صار كأنك قلت: مررت بقائم ومررت برجال مسلمين.
وهذا قول يونس: ولو جاز الرفع لقلت: كان عبد الله راكع؛ لأنك إن شبهته بالتبعيض فالتبعيض ههنا رفع، إذا قلت: كان أخواك راكع وساجد. ومثل ذلك: مرت برجل وامرأة وحمار قيام، فرقت الأسماء وجمعت النعت، فصارجمع النعت ههنا بمنزلة قولك: مررت برجلين مسلمين، لأن النعت ههنا ليس مبعضاً، ولو جاز في هذا الرفع لجاز مررت بأخيك وعبد الله وزيد قيام، فصار النعت ههنا مع الأسماء بمنزلة اسم واحد.
وتقول: مررت بأربعة صريع وجريح،لأن الصريع والجريح غير الأربعة، فصار على قولك: منهم صريع ومنهم جريح.

ومن النعت أيضاً: مررت برجل مثل رجلين، وذلك في الغناء " والجزء " . وهذا مثل قولك: مررت ببر ملء قدحين، فالذي يضاف إليه الملء مقياس ومكيال ومثقال ونحوه، والأول موزون ومقيس ومكيل. وكذلك: مررت برجلين مثل رجل في الغناء، كقولك: ببرين ملء قدح. وتقول: مررت برجل مثل رجل، وتقول: مررت برجل أسد شدة وجرأة، إنما تريد مثل الأسد. وهذا ضعيف قبيح، لأنه اسم لم يجعل صفة، وإنما قاله النحويون، شبه بقولهم: مررت بزيد أسداً شدة.
وقد يكون خبراً ما لا يكون صفة. " ومثله: مررت برجل نار حمرة " .
ومنه أيضاً: مررت برجل صالح بل طالح، وما مررت برجل كريم بل لئيم، أبدلت الصفة الآخرة من الصفة الأولى وأشركت بينهما بل في الإجراء على المنعوت. وكذلك: مررت برجل صالح بل طالح، ولكنه يجيء على النسيان أو الغلط، فيتدارك كلامه؛ لأنه ابتدأ بواجب.
ومثله: ما مررت برجل صالح لكن طالح، أبدلت الآخر من الأول فجرى مجراه في بل.
فإن قلت: مررت برجل صالح ولكن طالح، فهو محال، لأن لكن لا يتدارك بها بعد إيجاب، ولكنها يثبت بها بعد النفي. وإن شئت رفعت فابتدأت على هو فقلت: ما مررت برجل صالح ولكن طالح، وما مررت برجل صالح بل طالح، ومررت برجل صالح بل طالح؛ لأنها من الحروف التي يبتدأ بها.
ومن ذلك قوله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون " . فالرفع ههنا بعد النصب كالرفع بعد الجر. وإن شئت كان الجر على أن يكون بدلاً على الباء.
واعلم أن بل، ولا بل، ولكن، يشركن بين النعتين فيجريان على المنعوت، كما أشركت بينهما الواو والفاء، وثم وأو، ولا، وإما وما أشبه ذلك.
وتقول: ما مررت برجل مسلم فكيف رجل راغب في الصدقة، بمنزلة: فأين راغب في الصدقة.
وزعم يونس أن الجر خطأ؛ لأن أين ونحوها يبتدأ بهن ولا يضمر بعدهن شيء، " كقولك: فهلا دينارا، إلا أنهما مما يكون بعدهما الفعل " .
ألا ترى أنك لو قلت: رأيت زيداً فأين عمراً، أو فهل بشراً لم يجز. وقد بين ترك إضمار الفعل فيما مضى. ولكن وبل لا يبتدآن ولا يكونان إلا على كلام، فشبهن بإما وأو ونحوهما.
ومما جرى نعتاً على غير وجه الكلام: " هذا جحر ضب خرب " ، فالوجه الرفع، وهو كلام أكثر العرب وأفصحهم. وهو القياس، لأن الخرب نعت الجحر والجحر رفع، ولكن بعض العرب يجره. وليس بنعت للضب، ولكنه نعت للذي أضيف إلى الضب، فجروه لأنه نكرة كالضب، ولأنه في موضع يقع فيه نعت الضب، ولأنه صار هو والضب بمنزلة اسم واحد. ألا ترى أنك تقول: هذا حب رمان. فإذا كان لك قلت: هذا حب رماني، فأضفت الرمان إليك، وليس لك الرمان إنما لك الحب.
ومثل ذلك: هذه ثلاثة أثوابك. فكذلك يقع على جحر ضب ما يقع على حب رمان، تقول: هذا جحر ضبي، وليس لك الضب إنما لك جحر ضب، فلم يمنعك ذلك من أن قلت جحر ضبي، والجحر والضب بمنزلة اسم مفرد، فانجر الخرب على الضب كما أضفت الجحر إليك مع إضافة الضب. ومع هذا أنهم أتبعوا الجر كما أتبعوا الكسر الكسر، نحو قولهم: بهم وبدارهم، وما أشبه هذا. وكلا التفسيرين تفسير الخليل، وكان كل واحد منهما عنده وجهاً من التفسير.
وقال الخليل رحمه الله: لا يقولون إلا هذان جحرا ضب خربان، من قبل أن الضب واحد والجحر جحران، وإنما بغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكراً مثله أو مؤنثاً، وقالوا: هذه جحرة ضباب خربة، لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثهة، والعدة واحدة، فغلطوا.
وهذا قول الخليل رحمه الله، ولا نرى هذا والأول إلا سواء، لأنه إذا قال: هذا جحر ضب متهدم، ففيه من البيان أنه ليس بالضب، مثل ما في التثنية من البيان أنه ليس بالضب. وقال العجاج:
كأن نسج العنكبوت المرمل
فالنسج مذكر والعنكبوت أنثى.
باب ما أشرك بين الاسمين في الحرف الجار
فجريا عليه كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت

وذلك قولك: مررت برجل وحمار قبل. قالوا وأشركت بينهما في الباء فجريا عليه، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون بها أولى من الحمار، كأنك قلت مررت بهما. فالنفي في هذا أن تقول: ما مررت برجل وحمار، أي ما مررت بهما، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء، لأن يجوز أن تقول: مررت بزيد وعمرو والمبدوء به في المرور عمرو، " ويجوز أن يكون زيداً " ، ويجوز أن يكون المرور وقع عليهما في حالة واحدة.
فالواو تجمع هذه الأشياء على هذه المعاني. فإذا سمعت المتكلم يتكلم بهذا أجبته على أيها شئت؛ لأنها قد جمعت هذه الأشياء. وقد تقول: مررت بزيد وعمرو، على أنك مررت بهما مرورين، وليس في ذلك " دليل " على المرور المبدوء به، كأنه يقول: ومررت أيضاً بعمرو. فنفي هذا: ما مررت بزيد وما مررت بعمرو.
وسنبين النفي بحروفه في موضعه إن شاء الله.
ومن ذلك " قولك " : مررت بزيد فعمرو، ومررت برجل فامرأة. فالفاء أشركت بينهما في المرور، وجعلت الأول مبدوءاً به. ومن ذلك: مررت برجل ثم امرأة، فالمرور ههنا مروران، وجعلت ثم الأول مبدوءاً به وأشركت بينهما في الجر.
ومن ذلك " قولك " : مررت برجل أو امرأة، فأو أشركت بينهما في الجر، وأثبتت المرور لأحدهما دون الآخر، وسوت بينهما في الدعوى. فجواب الفاء: ما مررت بزيد فعمرو. وجواب ثم: ما مررت بزيد ثم عمرو. وجواب أو إن نفيت الاسمين: ما مررت بواحد منهما، وإن أثبت أحدهما قلت: ما مررت بفلان.
ومن ذلك: مررت برجل لا امرأة، أشركت بينهما لا في الباء وأحقت المرور للأول وفصلت بينهما عند من التبسا عليه فلم يدر بأيهما مررت.
هذا باب المبدل من المبدل منهوالمبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك: مررت برجل حمار. فهو على وجه محال، وعلى وجه حسن.
فأما المحال فأن تعني أن الرجل حمار. وأما الذي يحسن فهو أن تقول: مررت برجل، ثم تبدل الحمار مكان الرجل فتقول: حمار، إما أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت، وإما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل وتجعل مكانه مرورك بالحمار بعد ما كنت أردت غير ذلك.
ومثل ذلك قولك: لا بل حمار.
ومن ذلك قولك مررت برجل بل حمار، وهو على تفسير: مررت برجل حمار.
ومن ذلك: ما مررت برجل بل حمار، وما مررت برجل ولكن حمار، أبدلت الآخر من لأول وجعلته مكانه. وقد يكون فيه الرفع على أن يذكر الرجل فيقال: من أمره ومن أمره، فتقول أنت: قد مررت به، فما مررت برجل بل حمار ولكن حمار، أي بل هو حمار ولكن هو حمار.
ولو ابتدأت كلاماً فقلت: ما مررت برجل ولكن حمار، تريد: ولكن هو حمار، كان عربياً؛ أو بل حمار، أو لا بل حمار، كان كذلك، كأنه قال: ولكن الذي مررت به حمار.
وإذا كان قبل ذلك منعوت فأضمرته، أو اسم فأضمرته أو أظهرته، فهو أقوى؛ لأنك تضمر ما ذكرت وأنت هنا تضمر ما لم تذكر. وهو جائز عربي، لأن معناه ما مررت بشيء هو رجل؛ فجاز هذا كما جاز المنعوت المذكور نحو قولك: " ما " مررت برجل صالح بل طالح.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " . فهذا على أنهم قد كانوا ذكروا الملائكة قبل ذلك بهذا، وعلى الوجه الآخر. والمعرفة والنكرة في لكن وبل ولا بل سواء.
ومن المبدل أيضاً قولك: قد مررت برجل أو امرأة، إنما ابتدأ بيقين ثم جعل مكانه شكا أبدله منه، فصار الأول والآخر الادعاء فيهما سواء، فهذا شبيه بقوله: ما مررت بزيد ولكن عمرو، ابتدأ بنفي ثم أبدل مكانه يقيناً.
وأما قولهم: أمررت برجل أم امرأة؟ إذا أردت معنى أيهما مررت به، فإن أم تشرك بينهما كما أشركت بينهما أو. وأما: ما مررت برجل فكيف امرأة، فزعم يونس أن الجر خطأ، وقال: هو بمنزلة أين. ومن جر هذا فهو ينبغي له أن يقول: ما مررت بعبد الله فلم أخيه، وما لقيت زيداً مرة فكم أبا عمرو؟ تريد: فلم مررت بأخيه؟ وفكم لقيت أبا عمرو؟ واعلم أن المعرفة والنكرة في باب الشريك والبدل سواء.
واعلم أن المنصوب والمرفوع في الشركة والبدل كالمجرور.
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم؟
هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها

فالمعرفةُ خمسة أشياء: الأسماء التي هي أعلامٌ خاصةً، والمضاف الى المعرفة، إذا لم ترد معنى التنوين، والألف واللامُ، والأسماء المبهمة، والإضمارُ. فأما العلامة المختصة فنحو زَيدٍ وعَمرٍو، وعبدِ الله، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً لأنه اسمٌ وقع عليه يُعرف به بعينه دون سائر أمته.
وأما المضاف الى معرفة فنحو قولك: هذا أخوك، ومررتُ بأبيك، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً بالكاف التي أضيف إليها، لأن الكاف يراد بها الشيء بعينه دون سائر أمّته.
وأما الألف واللام فنحو الرجل والفرس والبعير وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك قلت: مررتُ برجلٍ، فإنك إنما زعمت أنك إنما مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسمُ، لا تريد رجلاً بعينه يعرفه المخاطَب. وإذا أدخلتَ الألف واللام فإنما تُذكّره رجلاً قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهّم الذي كان عهدَه ما تذكّر من أمره.
وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا وهذه، وهذان وهاتان، وهؤلاء، وذلك وتلك، وذانك وتانك، وأولئك، وما أشبه ذلك. وإنما صارت معرفةً لأنها صارت أسماء إشارة الى الشيء دون سائر أمّته.
وأما الإضمار فنحو: هو، وإياه، وأنتَ، وأنا، ونحن، وأنتم، وأنتنّ، وهنّ، وهم، وهي، والتاء التي في فعَلتُ وفعلَتْ وفعلْتِ، وما زِيدَ على التاء نحو قولك: فعلتما وفعلتم وفعلتنّ، والواو التي في فعلُوا، والنون والألف اللتان في فعلْنا في الاثنين والجميع، والنون في فعلْنَ، والإضمار الذي ليست له علامة ظاهرة نحو: قد فعل ذلك، والألف التي في فعَلا، والكاف والهاء في رأيتُكَ ورأيته، وما زيدَ عليهما نحو: رأيتكما ورأيتكم، ورأيتهما، ورأيتهم، ورأيتكنّ ورأيتهنّ، والياء في رأيتُني، والألف والنون اللتان في رأيتَنا وغُلامُنا، والكاف والهاء اللتان في بكَ وبه وبها، وما زيد عليهنّ نحو قولك: بكما وبكم وبكنّ وبهما وبهم وبهنّ، والياء في غلامي وبي.
وإنما صار الإضمار معرفة لأنك إنما تضمِر اسماً بعد ما تعلم أن مَنْ يحدَّث قد عرف مَن تعني وما تعني، وأنك تريد شيئاً يعلمه.
واعلم أن المعرفة لا توصَف إلا بمعرفة، كما أن النكرة لا توصَف إلا بنكرة.
واعلم أن العَلَم الخاص من الأسماء يوصَف بثلاثة أشياء: بالمضاف الى مثله، وبالألف واللام، وبالأسماء المبهمة.
فأما المضاف فنحو: مررتُ بزيدٍ أخيك. والألف واللام نحو قولك: مررت بزيد الطويل، وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ بزيد هذا وبعمرو ذاك.
والمضاف الى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته، وبالألف واللام، والأسماء المبهمة؛ وذلك: مررتُ بصاحبك أخي زيد، ومررتُ بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.
فأما الألف واللام فتوصف بالألف واللام، وبما أضيف الى الألف واللام؛ لأن ما أضيف الى الألف واللام بمنزلة الألف واللام فصار نعتاً، كما صار المضاف الى غير الألف واللام صفةً لما ليس فيه الألف واللام، نحو مررتُ بزيد أخيك، وذلك قولك: مررتُ بالجميل النبيل، ومررتُ بالرجل ذي المال.
وإنما منع أخاك أن يكون صفةً للطويل أن الأخ إذا أضيف كان أخصَّ، لأنه مضاف الى الخاص والى إضماره، فإنما ينبغي لك أن تبدأ به وإن لم تكتفِ بذلك زدتَ من المعرفة ما تزداد به معرفة.
وإنما منع هذا أن يكون صفةً للطويل والرجل أن المخبِر أراد أن يقرّب به شيئاً ويشير إليه لتعرفه بقلبك وبعينك، دون سائر الأشياء. وإذا قال الطويل فإنما يريد أن يعرّفك شيئاً بقلبك ولا يريد أن يعرّفكه بعينك، فلذلك صار هذا يُنعت بالطويل ولا يُنعت الطويل بهذا، لأنه صار أخصَّ من الطويل حين أراد أن يعرّفه شيئاً بمعرفة العين ومعرفة القلب. وإذا قال الطويل فإنما عرّفه شيئاً بقلبه دون عينه، فصار ما اجتمع فيه شيئان أخصّ.

واعلم أن المبهمة توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعاً. وإنما وُصفتْ بالأسماء التي فيها الألف واللام لأنها والمبهمة كشيء واحد، والصفات التي فيها الألف واللام هي في هذا الموضع بمنزلة الأسماء وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو إذا قلتَ مررتُ بزيد الطويل، لأني لا أريد أن أجعل هذا اسماً خاصاً ولا صفةً له يُعرف بها، وكأنك أردت أن تقول مررت بالرجل، ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرّب به الشيء وتشير إليه.
ويدلّك على ذلك أنك لا تقول: مررتُ بهذين الطويل والقصير وأنت تريد أن تجعله من الاسم الأول بمنزلة هذا الرجل، ولا تقول: مررتُ بهذا ذي المال كما قلت: مررتُ بزيد ذي المال.
واعلم أن صفات المعرفة تجري من المعرفة مجرى صفات النكرة من النكرة، وذلك قولك: مررتُ بأخوَيْك الطويلَيْن؛ فليس في هذا إلا الجرّ كما ليس في قولك: مررت برجل طويل، إلا الجرّ.
وتقول: مررت بأخوَيْك الطويل والقصير، ومررتُ بأخوَيك الراكع والساجد، ففي هذا البدل، وفي هذا الصفة، وفيه الابتداء، كما كان ذلك في مررت برجلين صالح وطالح.
وإذا قلت: مررت بزيد الراكع ثم الساجد، أو الراكع فالساجد، أو الراكع لا الساجد، أو الراكع أو الساجد، أو إما الراكع وإما الساجد، وما أشبه هذا، لم يكن وجه كلامه إلا الجرّ كما كان ذلك في النكرة. فإن أدخلتَ بل ولكنْ جاز فيهما ما جاز في النكرة. فعلى هذا فقِس المعرفة. وقد مضى الكلام في النكرة فأغنى عن إعادته في المعرفة، لأن الحكم واحد.
واعلم أن كل شيء كان للنكرة صفةً فهو للمعرفة خبر، وذلك قولك: مررت بأخويك قائمَيْن، فالقائمان هنا نصب على حدّ الصفة في النكرة. وتقول: مررت بأخويك مسلماً وكافراً هذا على مَن جرّ وجعلهما صفةً للنكرة، ومن جعلهما بدلاً من النكرة جعلهما بدلاً من المعرفة كما قال الله عز وجل: " لَنَسْفَعاً بالناصيةِ. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة " . وأنشدنا لبعض العرب الموثوق بهم:
فإلى ابنِ أمّ أناسٍ ارحلُ ناقتي ... عمرٍو فتُبلغُ حاجتي أو تُزحِفُ
ملِكٍ إذا نزل الوفودُ ببابه ... عرَفوا مواردَ مُزبِدٍ لا يُنزَفُ
ومَن رفع في النكرة رفع في المعرفة. قال الفرزدق:
فأصبح في حيثُ التقينا شريدُهمْ ... طليقٌ ومكتوفُ اليدينِ ومُزعِفُ
وقال آخر، رجل من بني قُشير:
فلا تجعلي ضيفَيّ ضيفٌ مُقرَّبٌ ... وآخرُ معزولٌ عن البيت جانبُ
والنصب جيّد كما قال النابغة الجعدي:
وكانت قُشَيرٌ شامتاً بصديقها ... وآخرَ مَرزيّا وآخرَ رازِيا
وقال الآخر، وهو ذو الرمّة:
تَرى خلقَها نِصفٌ قناة قويمة ... ونصفٌ نقاً يرتجّ أو يتمرْمرُ
وبعضهم ينصب على البدل. وإن شئت كان بمنزلة رأيتُه قائماً، كأنه صار خبراً على حدّ من جعله صفة للنكرة على الأوجه الثلاثة. واعلم أن المضمر لا يكون موصوفاً، من قِبل أنك إنما تضمِر حين ترى أن المحدَّث قد عرف مَن تعني، ولكن لها أسماء تُعطَف عليها، تعمّ وتؤكد، وليست صفةً؛ لأن الصفة تحلية نحو الطويل، أو قرابة نحو أخيك وصاحبك وما أشبه ذلك، أو نحو الأسماء المبهمة، ولكنها معطوفة على الاسم تجري مجراه، فلذلك قال النحويون صفة. وذلك قولك: مررت بهم كلهم، أي لم أدعْ منهم أحداً، ويجيء توكيداً كقولك: لم يبق منهم مُخبّر وقال بقي منهم. ومثله أيضاً: مررتُ بهم أجمعين أكتعين، ومررتُ بهم جُمَعَ كُتَع، ومررتُ بهم أجمعَ أكتعَ، ومررتُ بهم جميعهم. فهكذا هذا وما أشبه.
ومنه مررتُ به نفسِه، ومعناه مررتُ به بعينه.
واعلم أن الخاص من الأسماء لا يكون صفةً، لأنه ليس بحليةٍ ولا قرابة ولا مبهم، ولكنه يكون معطوفاً على الاسم كعطف أجمعين. وهذا قول الخليل رحمه الله، وزعم أنه من أجل ذلك قال: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ. قال: لو لم يكن على الرجل كان غيرَ منوَّن. وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف لأن المبهم تقرِّب به شيئاً أو تُباعده، وتُشير إليه.

ومن الصفة: أنت الرجل كلُّ الرجل، ومررت بالرجل كلِّ الرجل. فإن قلت: هذا عبد الله كلُّ الرجل، أو هذا أخوك كلُّ الرجل، فليس في الحُسن كالألف واللام؛ لأنك إنما أردت بهذا الكلام هذا الرجل المبالغ في الكمال، ولم ترد أن تجعل كل الرجل شيئاً تعرّف به ما قبله وتبيّنه للمخاطب، كقولك: هذا زيد. فإذا خفت أن يكون لم يُعرَف قلت: الطويل، ولكنك بنيت هذا الكلام على شيء قد أثبتّ معرفته، ثم أخبرت أنه مستكمِلٌ للخِصال.
ومثل ذلك قولك: هذا العالِم حقُّ العالِم وهذا العالم كلُّ العالم، إنما أراد أنه مستحقٌ للمبالغة في العلم. فإذا قال هذا العالم جِدُّ العالم فإنما يريد معنى هذا عالِم جداً، أي هذا قد بلغ الغاية في العلم. فجرى هذا الباب في الألف واللام مجراه في النكرة إذا قلت: هذا رجلٌ كلُّ رجل، وهذا عالمٌ حقُّ عالم، وهذا عالمٌ جدُّ عالم.
ويدلّك على أنه لا يريد أن يثبّت بقوله كلُّ الرجل الأول أنه لو قال: هذا كلُّ الرجل، كان مستغنياً به، ولكنه ذكر الرجل توكيداً، كقولك: هذا رجلٌ صالحٌ، ولم يرد أن يبيّن بقوله كلُّ الرجل ما قبله، كما يبين زيداً إذا خاف أن يلتبس فلم يرد ذلك بالألف واللام، وإنما هذا ثناء يحضُرك عند ذكرك إياه.
ومن الصفة قولك: ما يَحسن بالرجل مثلِك أن يفعل ذاك، وما يحسن بالرجل خيرٍ منك أن يفعل ذاك.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما جرّ هذا على نية الألف واللام، ولكنه موضعٌ لا تدخله الألف واللام كما كان الجَمّاء الغفيرَ منصوباً على نيّة إلقاء الألف واللام، نحو طُرّاً وقاطبةً والمصادر التي تشبهها.
وزعم رحمه الله أنه لا يجوز في: ما يحسن بالرجل شبيهٍ بك، الجرّ، لأنك تقدّر فيه على الألف واللام. وقال: وأما قولهم: مررتُ بغيرك مثلك، وبغيرك خيرٍ منك، فهو بمنزلة مررتُ برجل غيرك خيرٍ منك، لأن غيرك ومثلك وأخواتها يكنّ نكرة، ومَن جعلها معرفة قال: مررتُ بمثلك خيراً منك، وإن شاء خيرٍ منك على البدل. وهذا قول يونس والخليل رحمهما الله.
واعلم أنه لا يَحسن ما يحسن بعبد الله مثلِك على هذا الحد. ألا ترى أنه لا يجوز: ما يَحسن بزيد خيرٍ منك، لأنه بمنزلة كل الرجل في هذا. فإن قلت: مثلِك وأنت تريد أن تجعله المعروف بشبهه جاز، وصار بمنزلة أخيك. ولا يجوز في خيرٍ منك، لأنه نكرة، فلا تُثبِت به المعرفة. ولم يُرد في قوله: ما يحسن بالرجل خيرٍ منك، أن يُثبِت له شيئاً بعينه ثم يعرّفه به إذا خاف التباساً.
واعلم أن المنصوب والمرفوع يجري معرفتُهما ونكرتُهما في جميع الأشياء كالمجرور.
؟
باب بدل المعرفة من النكرة
والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأةأما بدل المعرفة من النكرة فقولك: مررتُ برجلٍ عبدِ الله. كأنه قيل له: بمَن مررت؟ أو ظنّ أنه يقال له ذاك، فأبدل مكانه ما هو أعرفُ منه.
ومثل ذلك قوله عزّ وجل ذكره: " وإنك لَتَهدي الى صِراطٍ مستقيمٍ صِراطِ الله " .
وإن شئت قلت: مررتُ برجلٍ عبدُ الله، كأنه قيل لك: مَن هو؟ أو ظننت ذلك.
ومن البدل أيضاً: مررتُ بقوم عبدِ الله وزيد وخالد، والرفعُ جيد. وقال الشاعر، وهو بعض الهُذليين، وهو مالك بن خُويلد الخُناعي:
يا مَيّ إن تَفقِدي قوماً وَلدتِهمِ ... أو تُخلَسيهم فإن الدهر خلاسُ
عمرٌو وعبدُ مناف والذي عهدَتْ ... ببطن عرعرَ آبي الضيم عباسُ
والرفع جائز قوي، لأنه لم ينقض معنىً كما فعل ذلك في النكرة.
وأما المعرفة التي تكون بدلاً من المعرفة، فهو كقولك: مررتُ بعبد الله زيد، إما غلطتَ فتداركتَ، وإما بدا لك أن تُضرِب عن مرورك بالأول وتجعله للآخر.
وأما الذي يجيء مبتدأ فقول الشاعر، وهو مُهلهلٌ:
ولقد خبَطنَ بيوتَ يَشكُرَ خَبطةً ... أخوالُنا وهُمُ بنو الأعمامِ
كأنه حين قال: خبطنَ بيوت يشكرَ قيل له: وما هم؟ فقال: أخوالُنا وهم بنو الأعمام.
وقد يكون مررتُ بعبد الله أخوك، كأنه قيل له: مَن هو؟ أو مَن عبدُ الله، فقال: أخوك. وقال الفرزدق:
ورثتُ أبي أخلاقَه عاجِلَ القِرى ... وعَبطَ المَهاري كُومُها وشَبوبُها
كأنه قيل له: أيُّ المهاري؟ فقال: كومُها وشَبوبُها.

وتقول: مررتُ برجلٍ الأسدِ شدةً، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنَه. وإن شئت استأنفتَ، كأنه قيل له: ما هو.
ولا يكون صفةً كقولك: مررتُ برجلٍ أسدٍ شدةً، لأن المعرفة لا توصَف بها النكرة، ولا يجوز أن توصَف بنكرة أيضاً لما ذكرتُ لك. والابتداء في التبعيض أقوى. وهذا عربي جيد: قوله أخولُنا، وقد جاء في النكرة في صفتها، فهو في ذا أقوى. قال الراجز:
وساقيَيْن مثلِ زيدٍ وجُعَل ... سَقْيانٍ مَمشوقان مَكنوزاً العَضَلْ
؟باب ما يجري عليه صفةُ ما كان من سببه
وصفتُ ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خَلصتْ له هذا ما كان من ذلك عملاً. وذلك قولك: مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه رجلاً، ومررتُ برجلٍ ملازمٍ أبوه رجلاً. ومن ذلك أيضاً: مررت برجل ملازم أباه رجلٌ، ومررت برجل مخالط أبه داءٌ. فالمعنى فيه على وجهين: إن شئت جعلته يلازمه ويخالطه فيما يُستقبل، وإن شئت جعلته عملاً كائناً في حال مرورك. وإن ألقيتَ التنوينَ وأنت تريد معناه جرى مثله إذا كان منوّناً.
ويدلّك على ذلك أنك تقول: مررتُ برجلٍ ملازمك. فيَحسُن ويكون صفة للنكرة، بمنزلته إذا كان منوّناً. وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أباه رجلٌ، وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، فكأنك قلت في جميع هذا: مررتُ برجل ملازم أباه، ومررتُ برجلٍ ملازم أبيه، لأن هذا يجري مجرى الصفة التي تكون خالصةً للأول.
وتقول: مررتُ برجلٍ مخالِطِ بَدنه أو جسدِه داءٌ، فإن ألقيتَ التنوينَ جرى مجرى الأول إذا أردتَ ذلك المعنى، ولكنك تلقي التنوين تخفيفاً.
فإن قلت: مررتُ برجلٍ مخالطِه داء، وأردتَ معنى التنوين جرى على الأول، كأنك قلت: مررتُ برجل مخالطٍ إياه داء. فهذا تمثيل، وإن كان يقبحُ في الكلام.
فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه.
وإن زعم زاعمٌ أنه يقول مررتُ برجل مخالطِ بدنه داء، ففرق بينه وبين المنوَّن. قيل له: ألستَ تعلم أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء، إذا أردت بإسقاط التنوين معنى التنوين، نحو قولك: مررتُ برجل ملازمٍ أباك، ومررت برجلٍ ملازمِ أبيك، أو ملازمِك، فإنه لا يجد بُدّاً من أن يقول نعم، وإلا خالف جميعَ العرب والنحويين. فإذا قال ذلك قلتَ: أفلستَ تجعل هذا العمل إذا كان منوّناً وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به، بمنزلته إذا كان للأول؟ فإنه قائل: نعم، وكأنك قلت مررتُ برجل ملازم. فإذا قال ذلك قلتَ له: ما بالُ التنوين وغير التنوين استويا حيث كانا للأول واختلفا حيث كانا للآخِر، وقد زعمتَ أنه يجري عليه إذا كان للآخِر كمجراه إذا كان للأول. ولو كان كما يزعمون لقلتَ: مررتُ بعبد الله الملازمِه أبوه؛ لأن الصفة المعرفة تجري على المعرفة كمجرى الصفة النكرة على النكرة. ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها تقوله لم يُلتفت إليه، ولكنّا سمعناها تنشد هذا البيت جرّا، وهو قول ابن ميّادة المُرّيّ، من غَطَفان:
وارتَشْنَ حين أردنَ أن يَرميننا ... نَبلاً بلا ريشِ ولا بقِداحِ
ونظرْنَ من خَلَل الخدور بأعيُنٍ مَرضى مُخالطها السّقامُ صِحاحِ وسمعنا من العرب من يرويه ويروي القصيدة التي فيها هذا البيت، لم يلقّنه أحدٌ هكذا.
وأنشد غيره من العرب بيتاً آخر فأجروه هذا المجرى، وهو قوله:
حَمينَ العَراقيبَ العصا وتركنَه ... به نَفَسٌ عالٍ مُخالطُه بُهْرُ
فالعمل الذي لم يقع والعمل الواقع الثابت في هذا الباب سواء، وهو القياس وقولُ العرب.
فإن زعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون: به داء مخالطَه، وهو صفة للأول.
وتقول: هذا غلامٌ لك ذاهباً. ولو قال: مررتُ برجل قائماً جاز، فالنصب على هذا.

وإنما ذكرنا هذا لأن ناساً من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينوّنوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاجٌ يرونه، نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه، وبين ما كان علاجاً يرونه، نحو الضارب والكاسر، فيجعلون هذا رفعاً على كل حال، ويجعلون اللازم وما أشبهه نصباً إذا كان واقعاً، ويُجرونه على الأقل إذا كان غير واقع. وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان غير واقع. وهذا قول يونس، والأول قول عيسى.
فإذا جعله اسماً لم يكن فيه إلا الرّفعُ على كل حال. تقول: مررتُ برجلٍ ملازمُه رجل، أي مررت برجلٍ صاحبُ ملازَمتِه رجلٌ، فصار هذا كقولك: مررتُ برجل أخوه رجل.
وتقول على هذا الحد: مررت برجلٍ ملازمُوه بنو فلان. فقولك ملازموه يدلّك على أنه اسم، ولو كان عملاً لقلت: مررت برجلٍ ملازمه قومُه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ ملازمٍ إياه قومُه، أي قد لزم إياه قومُه.
؟
هذا باب
ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول
إذا كان لشيء من سببهوذلك قولك: مررت برجلٍ حسَنٍ أبوه، ومررتُ برجلٍ كريمٍ أخوه وما أشبه هذا، نحو المسلم والصالح والشيخ والشاب.
وإنما أُجريت هذه الصفات على الأول حتى صارت كأنها له لأنك قد تضعها في موضع اسمِه فيكون منصوباً ومجروراً ومرفوعاً، والنعتُ لغيره. وذلك قولك: مررت بالكريم أبوه، ولقيتُ موسَّعاً عليه الدنيا، وأتاني الحسنةُ أخلاقُه، فالذي أتاك والذي أتيتَ غيرُ صاحب الصفة، وقد وقع موقعَ اسمه وعمل فيه ما كان عاملاً فيه، وكأنك قلت: مررتُ بالكريم، ولقيتُ موسَّعاً عليه، وأتاني الحسنُ، فكما جرى مجرى اسمه كذلك جرى مجرى صفته.
؟
باب الرفع فيه وجه الكلام
وهو قول العامةوذلك قولك: مررتُ بسرجٍ خَزٌّ صُفَّتُه، ومررت بصحيفةٍ طينٌ خاتَمُها، ومررت برجلٍ فضّةٌ حِليةٌ سيفه. وإنما كان الرفع في هذا أحسن من قبل أنه ليس بصفة. لو قلت: له خاتمٌ حديدٌ، أو هذا خاتمٌ طينٌ، كان قبيحاً، إنما الكلام أن تقول: هذا خاتم حديد وصُفّةُ خزّ، وخاتمٌ من حديد وصفةٌ من خزّ. فكذلك هذا وما أشبهه.
ويدلّك أيضاً على أنه ليس بمنزلة حسنٍ وكريمٍ، أنك تقول: مررت بحسَنٍ أبوه وقد مررت بالحسن أبوه، فصار هذا بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت: مررتُ بحسَنٍ، إذا جعلتَ الحسن للمرور به. فمن ثمّ أيضاً قالوا: مررتُ برجل حسنٍ أبوه، ومررتُ برجل ملازمِه أبوه؛ كأنهم قالوا: مررت برجل حسنٍ، وبرجل ملازمٍ. ولا تقول: مررت بخزّ صُفَّتُه، ولا بطينٍ خاتَمُه، لأن هذا اسم.
وقد يكون في الشعر: هذا خاتَم طينٌ وصُفَّةٌ خَزٌّ، مستكرَهاً.
فالجرّ يكون في: مررت بصحيفة طينٍ خاتمُها على هذا الوجه. ومن العرب من يقول: مررت بقاعٍ عرفَجٍ كلُه، يجعلونه كأنه وصفٌ.
؟
باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة
مجرى الأسماء التي لا تكون صفةوذلك أفعلُ منه ومثلُك وأخواتُهما، وحسبُك من رجلٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، وأيُّما رجلٍ، وأبو عَشَرةٍ، وأبٌ لك وأخٌ لك وصاحبٌ لك، وكلُ رجل، وأفعلُ شيء نحو خيرُ شيء وأفضلُ شيء، وأفعلُ ما يكون، وأفعلُ منك.
وإنما صار هذا بمنزلة الأسماء التي لا تكون صفةً من قبَل أنها ليست بفاعلة، وأنها ليست كالصفات غير الفاعلة، نحو حَسَنٍ وطويل وكريم، من قبل أن هذه تُفرَد وتؤنّث بالهاء كما يُؤنّث فاعلٌ، ويدخلها الألف واللام وتضاف الى ما فيه الألف واللام، وتكون نكرةً بمنزلة الاسم الذي يكون فاعلاً حين تقول هذا رجلٌ ملازمُ الرجل. وذلك قولك: هذا حسنُ الوجه.
ومع ذلك أنك تدخِل على حسَن الوجه الألف واللام فتقول: الحسنُ الوجه، كما تقول الملازم الرجل. فحسنٌ وما أشبهه يتصرّف هذا التصرّف. ولا تستطيع أن تُفرد شيئاً من هذه الأسماء الأُخَر، لو قلت: هذا رجلٌ خيرٌ، وهذا رجلٌ أفضلُ، وهذا رجلٌ أبٌ، لم يستقم ولم يكن حسناً.
وكذلك أيٌّ. لا تقول: هذا رجلٌ أيٌّ.

فلما أضفتَهنّ وأوصلتَ إليهنّ شيئاً حَسُنّ وتممنَ به، فصارت الإضافة وهذه اللواحقُ تحسّنه. ولا تستطيع أن تدخِل الألف واللام على شيء منها كما أدخلتَ ذلك على الحسن الوجه، ولا تنوّن ما تنوّن منه على حد تنوين الفاعل فتكون بالخيار في حذفه وتركه، ولا تؤنّث كما تؤنّث الفاعل فلم يَقوَ قوّة الحَسَن إذا لم يُفرد إفرادَه. فلما جاءت مضارعةً للاسم الذي لا يكون صفة البتّة إلا مستكرَهاً، كان الوجهُ عندهم فيه الرفعَ إذا كان النعتُ للآخِر، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٌ أبوه.
ومع ذلك أيضاً أن الابتداء يحسُن فيهنّ، تقول: خيرٌ منك زيدٌ، وأبو عشرةٍ زيدٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ. ولا يحسن الابتداء في قولك: حسنٌ زيد.
فلما جاءت مضارعةً للأسماء التي لا تكون صفةً وقَويت في الابتداء كان الوجه فيها عندهم الرفعَ، إذا كان النعت للآخِر. وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منه أبوه، ومررتُ برجل سواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، ومررت برجل أبٌ لك صاحبُه، ومررت برجل حَسبُك من رجلٍ هو، ومررتُ برجل أيُّما رجل هو.
وإن قلت: مررتُ برجلٍ حسبُك به من رجلٍ رفعلتَ أيضاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن به ههنا منزلة هو، ولكن هذه الباء دخلت ههنا توكيداً كما قال: كفى الشيبُ والإسلامُ وكفى بالشيب والإسلام.
فإن قلت: مررتُ برجل شديدٍ عليه الحرّ والبردُ جررتَ، من قبل أن شديداً قد يكون صفةً وحدَه مستغنياً عن عليه، وعن ذكر الحرّ والبرد، ويدخل في جميع ما دخل الحَسنُ.
وإن قلت: مررت برجلٍ سواءٍ في الخير والشرّ جررت، لأن هذا من صفة الأول، فصار كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
وإن قلت: مررتُ برجل مُستوٍ عليه الخيرُ والشرّ جررتَ أيضاً لأنه صار عملاً بمنزلة قولك: مررتُ برجلٍ مفضّضٍ سيفُه، ومررتُ برجل مسمومٍ شرابُه؛ ويدخله جميعُ ما يدخل الحَسنَ. فإذا قلت سمٌّ وفضّةٌ رفعت.
وتقول: مررت برجل سواءٌ أبوه وأمه، إذا كنت تريد أنه عدلٌ وتقول: مررت برجل سواءٌ درهمُه، كأنك قلت: مررت برجل تامٍ درهمُه.
وزعم يونس أن ناساً من العرب يجرّون هذا كما يجرّون مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه.
ومما يقوّيك في رفع هذا أنك لا تقول مررتُ بخيرٍ منه أبوه، ولا بسواء عليه الخير والشرّ، كما تقول بحسَنٍ أبوه.
وتقول: مررتُ برجل كلُّ ماله درهمان، لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأن كل مبتدأ والدرهمان مبنيان عليه. فإن أردت بقولك: مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه جاز، لأنه قد يوصف به، تقول هذا مال كلُّ مالٍ. وليس استعماله وصفاً بقوة أبي عشرةٍ ولا كثرته، وليس بأبعد من مررت برجل خز صُفته، ولا قاعٍ عرْفجٍ كلُّ.
ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب عربيين يقولان: كان عبد الله حسبُك به رجلاً. وهذا أقرب الى أن يكون فيه الإجراء على الأول إذا كان في الخزّ والفضة؛ لأن هذا يوصَف به ولا يوصَف بالخزّ ونحوه.
؟
هذا باب ما يكون من الأسماء صفة منفرداً
وليس بفاعل ولا صفةٍ تشبَّه بالفاعل كالحَسن وأشباهه
وذلك قولك: مررت بحيةٍ ذراعٌ طولُها، ومررت بثوب سبعٌ طوله، ومررت برجلٍ مائةٌ إبله، فهذه تكون صفاتٍ كما كانت خيرٌ منك صفةً. يدلّك على ذلك قول العرب: أخذ بنو فلان من بني فلان إبلاً مائةً، فجعلوا مائةً وصفاً. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
لئن كنتَ في جُبّ ثمانين قامةً ... ورُقّيتَ أسبابَ السماء بسلّمِ
فاختير الرفعُ فيه لأنك لا تقول: ذراعٌ الطول، منوَّناً ولا غير منوّن. ولا تقول مررت بذراعٍ طوله. وبعض العرب يجرّه كما يجرّ الخزّ حين يقول: مررت برجل خزّ صُفّته، ومنهم من يجرّه وهم قليل، كما تقول: مررت برجلٍ أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله شديداً، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنتَ تشبّهه.
فإن قلت: مررت بدابّة أسدٌ أبوها فهو رفعٌ، لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السّبع. فإن قلت: مررتُ برجل أسدٌ أبوه على هذا المعنى رفعتَ، إلا أنك لا تجعل أباه خَلقُه كخِلقة الأسد ولا صورته. هذا لا يكون، ولكنه يجيء كالمثل.

ومن قال: مررت برجلٍ أسد أبوه قال: مررت برجل مائةٍ إبله. وزعم يونس أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون: هو نارٌ حُمرةً، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها؛ فالرفعُ فيه الوجه، والرفع فيه أحسنُ وإن كنتَ تريد معنى أنه مبالغٌ في الشدة، لأنه ليس بوصف.
ومثل ذلك: مررت برجلٍ رجل أبوه، إذا أردتَ معنى أنه كامل. وجرّه كجرّ الأسد. وقد تقوله على غير هذا المعنى، تقول: مررت برجل رجلٌ أبوه، تريد رجلاً واحداً لا أكثر من ذلك.
وقد يجوز على هذا الحد أن تقول: مررت برجل حسنٌ أبوه. وهو فيه أبعد، لأنه صفة مشبهة بالفاعل. وإن وصفته فقلت: مررت برجل حسنٌ ظريفٌ أبوه فالرفع فيه الوجه والحد، والجرّ فيه قبيح، لأنه يفصل بوصف بينه وبين العامل. ألا ترى أنك لو قلت مررتُ بضاربٍ ظريفٍ زيداً، وهذا ضاربٌ عاقلٌ أباه كان قبيحاً، لأنه وصفه فجعل حاله كحال الأسماء، لأنك إنما تبتدئ بالاسم ثم تصفه.
فإن قلت: مررت برجل شديدٌ رجلٌ أبوه، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفةً فقد جعلته في هذا الموضع اسماً بمنزلة أبي عشرة أبوه، يقبح فيه ما يقبح في أبي عشرة.
ومن قال: مررت برجلٍ أبي عشرة أبوه قال: مررت برجل شديد رجلٍ أبوه. وإذا قال: مررت برجل حسنٍ الوجه أبوه فليس بمنزلة أبي عشرةٍ أبوه، لأن قولك: حسن الوجه أبوه، بمنزلة قولك مررت برجل حسنٍ الوجه، فصار هذا بدخول التنوين يشبه ضارباً إذا قلت: مررتُ برجل ضاربٍ أباه.
وأبو عشرة لا يدخله التنوين ولا يجري مجرى الفعل، ولكنك ألقيتَ التنوين استخفافاً، فصار بمنزلة قولك: مررت برجلٍ ملازم أباه رجلٌ، ومررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، إذا أردتَ معنى التنوين، فكأنك قلت: مررتُ برجلٍ حسن أبوه.
وتقول: مررتُ برجل حسن الوجه أبوه، كما تقول: مررت بالرجل الحسن الوجه أبوه، وكما تقول: مررتُ بالرجل الملازمِه أبوه. فصار حسنُ الوجه بمنزلة حسن، ومُلازمٌ أباه بمنزلة ملازمٍ. وليس هذا بمنزلة أبي عشرة وخير منك. ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ بخير منه أبوه ولا بأبي عشرة أبوه، كما لا تقول مررتُ بالطين خاتمُه.
وأما قوله: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ، فهو قبيح حتى تقول: هو والعدمُ، لأن في سواء اسماً مضمَراً مرفوعاً، كما تقول مررتُ بقوم عربٍ أجمعون، فارتفع أجمعون على مضمر في عربٍ بالنية. فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبي عشرة. فإن تكلّمتَ به على قبحه رفعتَ العدمَ، وإن جعلته مبتدأ رفعتَ سواءً.
وتقول: ما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه إليه، وما رأيت أحداً أحسنَ في عينه الكُحل منه في عينه. وليس هذا بمنزلة خيرٌ منه أبوه، لأنه مفضّل للأب على الاسم في مِن، وأنت في قولك: أحسن في عينه الكحلُ منه في عينه، لا تريد أن تفضّل الكحل على الاسم الذي في من، ولا تزعم أنه قد نقص عن أن يكون مثله، ولكنك زعمت أن للكحل ههنا عملاً وهيئةً ليست له في غيره من المواضع، فكأنك قلت: ما رأيت رجلاً عاملاً في عينه الكحل كعمله في عين زيد؛ وما رأيت رجلاً مبغضاً إليه الشرُّ كما بُغِّض إلى زيد.
ويدلّك على أنه ليس بمنزلة خيرٌ منه أبوه، أن الهاء التي تكون في مِن، هي الكحلُ والشرّ، كما أن الإضمار الذي في عمله وبُغّض، هو الكحل والشرّ.
ومما يدلّك على أنه على أوّله ينبغي أن يكون، أن الابتداء فيه مُحال: أنك لو قلت: أبغضُ إليه منه الشرُّ لم يجز، ولو قلت: خيرٌ منه أبوه جاز.
ومثل ذلك: ما من أيامٍ أحبَّ الى الله عز وجل فيها الصومُ منه في عشرِ ذي الحجة.
وإن شئت قلت: ما رأيت أحداً أحسن في عينه الكحل منه، وما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه، وما من أيامٍ أحبَّ الى الله فيها الصومُ من عشر ذي الحجة؛ فإنما المعنى الأول، إلا أن الهاء هنا الاسم الأول، ولا تخبر أنك فضّلت الكحلَ عليه ولا أنك فضّلت الصوم على الأيام، ولكنك فضّلت بعضَ الأيام على بعضٍ. والهاء في الأول هو الكحل، وإنما فضلته في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع، ولم ترد أن تجعله خيراً من نفسه البتّة. قال الشاعر، وهو سُحيمُ بن وَثيل:
مررتُ على وادي السّباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يُظلمُ واديا
أقلَّ به ركْبٌ أتَوْه تَئيّةً ... وأخوفَ، إلا ما وَقى الله، ساريا

وإنما أراد: أقلَّ به الرّكبُ تَئيّةً منهم به، ولكنه حذف ذلك استخفافاً، كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد. وكما تقول: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول لك، وما يشبهه. ومثل هذا كثيرٌ.
واعلم أن الرفع والنصبَ تجري الأسماء ونعتُ ما كان من سببها ونعتُ ما التبس بها وما التبس بشيء من سببها فيهما مجراهنّ في الجرّ.
واعلم أن ما جرى نعتاً على النكرة فإنه منصوب في المعرفة، لأن ما يكون نعتاً من اسم النكرة يصير خبراً للمعرفة، لأنه ليس من اسمه. وذلك قولك: مررتُ بزيد حسناً أبوه، ومررتُ بعبد الله ملازمك.
واعلم أن ما كان في النكرة رفعاً غير صفة فإنه رفعٌ في المعرفة. من ذلك قوله جلّ وعزّ: " أم حَسِبَ الذين اجتَرحوا السّيّئاتِ أن تجعلَهُم كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات سَواءٌ مَحياهُم ومَماتُهُم " .
وتقول: مررت بعبد الله خيرٌ منه أبوه. فكذلك هذا وما أشبهه. ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له أن ينصبه في المعرفة فيقول: مررتُ بعبد الله خيراً منه أبوه. وهي لغةٌ رديئة. وليست بمنزلة العمل نحو ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حَسن الوجه. ألا ترى أن هذا عملٌ يجوز فيه يَضربُ ويلازم وضربَ ولازَمَ. ولو قلت: مررت بخيرٍ منه أبوه كان قبيحاً، وكذلك بأبي عشرة أبوه. ولكنه حين خلَص للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
ومن قال: مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه، فشبّه بقوله: مررتُ برجل حسنٍ أبوه. فهو ينبغي له أن يقول: مررتُ بعبد الله أبي العشرة أبوه، كما قال: مررتُ بزيدٍ الحسنِ أبوه.
ومن قال: مررتُ بزيدٍ أخوه عمرٌو لم يكن فيه إلا الرفع، لأن هذا اسمٌ معروف بعينه، فصار بمنزلة قولك: مررتُ بزيدٍ عمرٌو أبوه ولو أن العشرة كانوا قوماً بأعيانهم قد عرفهم المخاطَب لم يكن فيه إلا الرفع؛ لأنك لو قلت: مررتُ بأخيه أبوك، كان مُحالاً أن ترفع الأبَ بالأخ، وهي في مررتُ بأبي عشرة أبوه وبأبي العشرة أبوه، إذا لم يكن شيئاً بعينه، تجوز على استكراهٍ. فإن جعلتَ الأخَ صفةً للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ بأخيك، فصار الشيء بعينه نحو زيد وعمرو، وضارع أبو عشرة حَسنٌ حين، ولم يكن شيئاً بعينه قد عرفه كمعرفتك، على ضعفه واستكراهه.
واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو حسن وكريم، إذا أدخلتَ فيه الألفَ واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرةً، كقولك: مررت بزيد الحَسن أبوه، ومررتُ بأخيك الضاربِهِ عمرو.
واعلم أن العرب يقولون: قومٌ مَعْلُوجاء، وقومٌ مَشيخةٌ، وقوم مَشيوخاء، يجعلونه صفةً بمنزلة شيوخ وعُلوج.
؟
هذا باب
ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها
من الصفات التي ليست بعمل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلكمجرى الفعل إذا أظهرتَ بعده الأسماء أو أضمرتَها
وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٍ أبواه، وأحسنٌ أبَواه، وأخارجٌ قومُك. فصار هذا منزلة قال أبواك وقال قومُك، على حدّ من قال: قومك حسنون إذا أخّروا، فيصير هذا بمنزلة أذاهبٌ أبواك، وأمنطلِقٌ قومُك.
فإن بدأتَ بالاسم قبل الصفة قلت: قومُك منطلقون، وقومك حسنون، كما تقول أبواك قالا ذاك، وقومك قالوا ذاك.
فإن بدأتَ بنعتٍ مؤنّث فهو يجري مجرى المذكّر إلا أنك تُدخِل الهاء، وذلك قولك: أذاهبةٌ جاريتاك، وأكريمةٌ نساؤكم. فصارت الهاء في الأسماء بمنزلة التاء في الفعل، إذا قلت: قالت نساؤكم، وذهبتْ جاريتاك. وإنما قلت: أكريمةٌ نساؤكم على قول من قال: أنساؤكم كريمات، إذا أخّر الصفة. والألفُ والتاء، والواو والياء والنون في الجميع، والألفُ والنون في التثنية، بمنزلة الواو والألف في قالا وقالوا، وبمنزلة الواو والنون في يقولون.
وكذلك: أقُرَشيٌّ قومُك وأقرشيّ أبواك، إذا أردت الصفة جرى مجرى حسن وكريم. وإنما قالت العرب: قال قومُك وقال أبواك؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا عن أن يقولوا قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاءً بما أظهروا.
قال الشاعر:
أليسَ أكرمَ خلقِ الله قد علِموا ... عند الحفاظ بَنو عمرو بنِ حُنجودِ

صار ليس ههنا بمنزلة ضرب قومَك بنو فلان؛ لأن ليس فعلٌ، فإذا بدأتَ بالاسم قلت: قومُك قالوا ذاك، وأبواك قد ذهبا؛ لأنه قد وقع ههنا إضمارٌ في الفعل وهو أسماؤهم، فلابد للمضمَر أن يجيء بمنزلة المظهر. وحين قلت: ذهب قومُك لم يكن في ذهب إضمار. وكذلك قالت جاريتاك وجاءت نساؤك. إلا أنهم أدخلوا التاء ليفصلوا بين التأنيث والتذكير، وحذفوا الألف والنون لمّا بدءوا بالفعل في تثنية المؤنث وجمعه، كما حذفوا ذلك في التذكير.
فإن بدأتَ بالاسم قلت: نساؤك قُلنَ ذاك، كما قلت: قومُك قالوا ذاك. وتقول: جاريتاك قالتا كما تقول: أبواك قالا، لأن في قُلن وقالتا إضماراً كما كان في قالا وقالوا.
وإذا قلت: ذهبتْ جاريتاك أو جاءتْ نساؤك، فليس في الفعل إضمارٌ، ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع. وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث لأنها ليست علامةَ إصمار كالواو والألف، وإنما هي كهاء التأنيث في طَلْحة، وليست باسم.
وقال بعض العرب: قال فُلانةُ.
وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيءٌ يصير بدلاً من شيء، كالمعاقبة نحو قولك: زنادقة وزناديق، فتحذف الياء لمكان الهاء، وكما قالوا في مُغتَلِم: مُغَيلِم ومُغَيليم، وكأن الياء صارت بدلاً مما حذفوا.
وإنما حذفوا التاء لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الجميعُ والإثنان حين أظهروهم عن الواو والألف.
وهذا في الواحد من الحيوان قليل، وهو في المَوات كثير، فرقوا بين المَوات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم. تقول: هم ذاهبون، وهم في الدار، ولا تقول: جمالُك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار وأنت تعني الجِمال، ولكنك تقول: هي وهنّ ذاهبة وذاهبات.
ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عزّ وجلّ: " فمنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه فانتهى " وقوله: " مِن بعدِ ما جاءهُم البَيّناتُ " .
وهذا النحو كثيرٌ في القرآن، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان. ألا ترى أن لهم في الجميع حالاً ليست لغيرهم، لأنهم الأوّلون وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم. وأما الجميع من الحيوان الذي يكسّر عليه الواحد فبمنزلة الجميع من غيره الذي يكسَّر عليه الواحد في أنه مؤنّث. ألا ترى أنك تقول: هو رجلٌ، وتقول: هي الرجال، فيجوز لك. وتقول: هم جملٌ وهي الجِمال، وهو عَيْرٌ وهي الأعيار؛ فجرت هذه كلها مجرى هي الجُذوع. وما أشبه ذلك يُجرى هذا المجرى؛ لأن الجميع يؤنّث وإن كان كلُّ واحد منه مذكّراً من الحيوان. فلما كان كذلك صيّروه بمنزلة المَوات؛ لأنه قد خرج من الأول الأمكن حيث أردت الجميع. فلما كان ذلك احتملوا أن يُجروه مُجرى الجميع المَوات، قالوا: جاء جواريك، وجاء نساؤك، وجاء بناتُك. وقالوا فيما لم يكسَّر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع كما قالوا في هذا، كما قال الله تعالى جده: " ومنهم مَن يستمعون إليكَ " ، إذ كان في معنى الجميع، وذلك قوله تعالى: " وقال نسوةٌ في المدينة " .
واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومُك، وضرباني أخواك، فشبّهوا هذا بالتاء التي يُظهرونها في قالت فُلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنّث، وهي قليلة. قال الشاعر: وهو الفرزدق:
ولكنْ دِيافيٌّ أبوه وأمُّه ... بحَورانَ يعصِرنَ السّليطَ أقاربُهْ
وأما قوله جلّ ثناؤه: " وأسَرّوا النّجوى الذين ظلموا " فإنما يجيء على البدل، وكأنه قال: انطلقوا فقيل له: مَن؟ فقال: بنو فلان. فقوله جلّ وعزّ: " وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا " على هذا فيما زعم يونس.
وقال الخليل رحمه الله تعالى: فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات. وكذلك شابٌّ وشيخٌ وكهلٌ، إذا أردتَ شابّينَ وشيخينَ وكهلينَ. تقول: مررتُ برجلٍ كهلٍ أصحابه، ومررتُ برجلٍ شابٍّ أبواه.
قال الخليل رحمه الله: فإن ثنّيتَ أو جمعتَ فإن الأحسن أن تقول: مررتُ برجلٍ قُرَشيان أبواه، ومررتُ برجلٍ كهلون أصحابه؛ تجعله اسماً بمنزلة قولك: مررت برجلٍ خزٌّ صُفّته.

وقال الخليل رحمه الله: من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله فقال: مررت برجل حَسنيْن أبواه، ومررتُ بقومٍ قُرَشيّينَ آباؤهم. وكذلك أفعل نحو أعورَ وأحمر، تقول: مررت برجل أعورَ أبواه وأحمرَ أبواه. فإن ثنّيت قلت: مررتُ برجلٍ أحمران أبواه تجعله اسماً. ومن قال أكلوني البراغيث قلت على حدّ قوله: مررتُ برجلٍ أعورَيْن أبواه. وتقول: مررت برجل أعورَ آباؤه، كأنك تكلّمت به على حدّ أعورِينَ وإن لم يُتكلّم به، كما توهّموا في هَلكى وموتى ومرضى أنه فُعل بهم، فجاءوا به على مثال جَرحى وقتلى، ولا يقال هُلِك ولا مُرض ولا مُوِت. قال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
ولا يشعر الرّمحُ الأصمُّ كُعوبُه ... بثروةِ رهطِ الأعيَطِ المتظلِّمِ
وأحسنُ من هذا أعورٌ قومُك؟ ومررتُ برجلٍ صُمٍّ قومُه.
وتقول: مررت برجلٍ حسانٍ قومُه، وليس يجري هذا مجرى الفعل، إنما يجري مجرى الفعل ما دخله الألفُ والنون والواو والنون في التثنية والجمع ولم يغيّره، نحو قولك: حسنٌ وحسنان، فالتثنية لم تغيّر بناءَه. وتقول: حسنون، فالواو والنون لم تغيّر الواحدَ، فصار هذا بمنزلة قالا وقالوا؛ لأن الألف والواو لم تغيّر فعلَ. وأما حِسانٌ وعُورٌ فإنه اسمٌ كُسّر عليه الواحد، فجاء مبنياً على مثالٍ كبناء الواحد، وخرج من بناء الواحد الى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قُرشيّ في الاثنين والجميع. فهذا الجميع له بناءٌ بُني عليه كما بُني الواحد على مثاله، فأُجرى مجرى الواحد.
ومما يدلّك على أن هذا الجميع ليس كالفعل، أنه ليس شيءٌ من الفعل إذا كان للجميع يجيء مبنياً على غير بنائه إذا كان للواحد؛ فمن ثم صار حِسانٌ وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد، نحو مررتُ برجلٍ جُنُبٍ أصحابُه، ومررت برجل صَرورةٍ قومُه. فاللفظُ واحدٌ والمعنى جميعٌ.
واعلم أن ما كان يُجمع بغير الواو والنون نحو حَسَنٍ وحِسان، فإن الأجود فيه أن تقول: مررتُ برجلٍ حِسان قومُه. وما كان يُجمع بالواو والنون نحو منطلِق ومنطلقين، فإن الأجود فيه أن يُجعل بمنزلة الفعل المتقدّم، فتقول: مررتُ برجلٍ منطلِق قومُه.
واعلم أنه من قال ذهبَ نساؤك قال: أذاهبٌ نساؤك. ومن قال: " فمَنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه " قال: أجائيَّ موعظةٌ، تذهب الهاء هاهنا كما تذهب التاء في الفعل.
وكان أبو عمرو يقرأ: " خاشعاً أباصرُهُم " . قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهُذَليّ:
بعيدُ الغَزاة فما إن يَزا ... لُ مُضطَمراً طُرّتاه طَليحا
وقال الفرزدق:
وكُنا وَرثناه على عهدِ تُبّعٍ ... طويلاً سَواريه شديداً دعائمُهْ
وقال الفرزدق أيضاً:
قَرَنْبى يَحكّ قفا مُقرِفٍ ... لئيمٍ مآثرُه قُعدُدِ
وقال آخر، وهو أبو زبيد الطائي:
مُستَحِنٌّ بها الرياحُ فما يَجْ ... تابُها في الظلام كلُّ هَجودِ
وقال آخر، من بني أسد:
فلاقى ابنَ أنثى يبتغي مثلَ ما ابتغى ... من القوم مَسقيَّ السِّمام حدائدُهْ
وقال آخر، الكُميت بن معروف:
ومازِلت مَحمولاً عليَّ ضغينةٌ ... ومُضطَلِعَ الأضغان مُذ أنا يافعُ
وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك. ومن قال ذهب فلانةُ قال: أذاهبٌ فلانةُ وأحاضرٌ القاضيَ امرأةٌ. وقد يجوز في الشعر موعظةٌ جاءنا، كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
فإما ترَيْ لِمّتي بُدِّلَتْ ... فإنّ الحوادث أودى بها
وقال الآخر، وهو عامرُ بن جُوَين الطائي:
فلا مُزنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقَلَ إبقالَها
وقال الآخر، وهو طُفَيلٌ الغَنَويّ:
إذ هي أحْوى من الرِّبعيّ حاجبُهُ ... والعينُ بالإثمِدِ الحاريّ مَكحولُ

وزعم الخليل رحمه الله أن " السماء منفطِرٌ به " كقولك: معضِّلٌ للقَطاة. وكقولك: مُرضِعٌ، للتي بها الرِّضاعُ. وأما المنفطرة فيجيء على العمل، كقولك منشقّةٌ، وكقولك مرضعة للتي ترضع. وأما " كُلٌّ في فَلَك يسبحون " ، و " رأيتُهُم لي ساجدين " ، و " يا أيها النّملُ ادخُلوا مساكنكم " فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع، لما ذكرهم بالسّجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّثتَ عنه كما تحدّث عن الأناسيّ. وكذلك " في فلك يسبحون " لأنها جُعلت - في طاعتها وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: مُطرنا بنَوْء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئاً منها - بمنزلة من يَعقل من المخلوقين ويُبصر الأمور.
قال النابغة الجعديّ:
شَربتُ بها والدّيكُ يدعو صَباحهُ ... إذا ما بنو نعشٍ دَنوْا فتصوّبوا
فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تُؤمَر وتُطيع، وتفهم الكلام وتعبد، بمنزلة الآدميين.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: ما أحسنَ وجوهَهما؟ فقال: لأن الإثنين جميعٌ، وهذا بمنزلة قول الإثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفرداً وبين ما يكون شيئاً من شيء. وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً، قال الله جلّ ثناؤه: " وهل أتاكَ نبأ الخصمِ إذ تسوّروا المِحرابَ. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم قالوا لا تخَفْ خَصمانِ بَغى بعضُنا على بعض " .
وقد يثنّون ما يكون بعضاً لشيء. زعم يونس أن رؤية كان يقول: ما أحسنَ رأسيهما. قال الراجز، وهو خِطام: ظهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسَين وقالوا: وضعا رِحالَهما، يريد: رحلَيْ راحلتين. وحدُّ الكلام أن يقول: وضعتُ رحلي الراحلتين؛ فأجرَوه مجرى شيئين من شيئين.
باب إجراء الصفة فيه على الاسمفي بعض المواضع أحسن وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم، وأن تجعله خبراً فتنصبه فأما ما استويا فيه فقوله: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدٍ به، إن جعلته وصفاً. وإن لم تحمله على الرجل وحملتَه على الاسم المضمَر المعروف نصبتَه فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به، كأنه قال: معه بازٌ صائداً به، حين لم يرد أن يحمله على الأول.
وكما تقول: أتيتُ على رجلٍ ومررتُ به قائم، إن حملتَه على الرجل؛ وإن حملته على مررت به نصبته، كأنك قلت: مررتُ به قائماً.
ومثله: نحن قومٌ ننطلق عامدون الى بلد كذا، إن جعلتَه وصفاً. وإن لم تجعله وصفاً نصبتَ، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين.
ومنه: مررتُ برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخَر، ومررت برجلٍ معه جُبّةٌ لابسٍ غيرَها. وإن حملتَه على الإضمار الذي معه نصبتَ. وكذلك مررت برجلٍ عنده صقرٌ صائدٍ ببازٍ. إن حملتَه على الوصف فهو هكذا. وإن حملتَه على ما في عنده من الإضمار نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائداً ببازٍ.
وكذلك: مررت برجلٍ معه الفرسُ راكب بِرذَوْناً، إن لم ترد الصفة نصبتَ، كأنك قلت: معه الفرسُ راكباً برذوناً. فهذا لا يكون فيه وصفٌ ولا يكون إلا خبراً. ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون لفَسَدَ كلامٌ كثير، ولكان الوجه: مررتُ برجل جميلِه حسنِ الوجه. ولقال مررتُ بعبد الله معه بازك الصائدَ به، فتنصب. فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالاً يقع فيه شيء. ولم تقل جميلَه لأنك لم ترد أن تقول إنه حسنُ الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسنٌ وجهه جميلاً، أي في هذه الحال حسنَ وجهه. فلم يرد هذا المعنى ولكنه أراد أن يقول: هذا رجلٌ جميلُ الوجه، كما يقال. هذا رجلٌ حسنُ الوجه. فهذا الغالب في كلام الناس.
وإن أردتَ الوجه الآخرَ فنصبت فهو جائزٌ لا بأس به، وإن كان ليس له قوّة الوصف في هذا. فهذا الذي الوصفُ فيه أحسنُ وأقوى.
ومثله في أن الوصف أحسن: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيب، لم يجعل الآخرَ حالاً وقع فيه الأول، ولكنه أثنى عليه وجعلهما شرعاً سواء، وسوّى بينهما في الإجراء على الاسم. والنصبُ فيه جائز على ما ذكرت لك. وإنما ضَعُفَ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان، لم يكن واحدٌ منهما قبل صاحبه، كما تقول: هذا رجلٌ سائرٌ راكباً دابةً. وقد يجوز في سعة الكلام على هذا، ولا ينقُض المعنى في أنهما شَرْعٌ سواء فيه. وسترى هذا النحو في كلامهم.

فأما القلب فباطلٌ. لو كان ذلك لكان الحدُّ والوجه في قوله: مررتُ بامرأة آخذةٍ عبدَها فضاربته النصبَ، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت برجلٍ عاقلةٍ أمُّه لبيبةً؛ لأنه لا يصلح أن تقدّم لبيبةً فتضمر فيها الأمَّ ثم تقول عاقلةٍ أمُّه.
وسمعناهم يقولون: هذه شاةٌ ذات حَملٍ مُثقلةٌ. وقال الشاعر، وهو حسان بن ثابت:
ظننتم بأن يَخفى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبيٌّ عنده الوحي واضِعُهْ
ومما يُبطِل القلبَ قوله: زيدٌ أخو عبد الله مجنون به، إذا جعلتَ الأخ صفةً والجنون من زيدٍ بأخيه، لأنه لا يستقيم زيدٌ مجنون به أخو عبد الله.
وتقول: مررت برجل معه كيسٌ مختوم عليه، الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس. والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائماً، وهذا رجلٌ ذاهباً.
واعلم أنك إذا نصبتَ في هذا الباب فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، فالنصبُ على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يُشبه: فيها عبدُ الله قائمٌ غداً؛ لأن الظروف تُلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجروراً أو عاملاً فيه فعلٌ أو مبتدأ، لم تُلغِه لأنه ليس يرفعه الابتداء، وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك قائمان يرفعه الابتداء.
وتقول: مررتُ برجلٍ معه امرأةٌ ضاربتُه، فهذا بمنزلة قوله: معه كيسٌ مختومٌ عليه. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربِها، جررتَ ونصبت على ما فسّرتُ لك. وإن شئت قلت ضاربَها هو فنصبت، وإن شئت جررتَ ويكون هو وصفَ المضمَر في ضاربها حتى يكون كأنك لم تذكرها. وإن شئت جعلتَ هو منفصلاً، فيصير بمنزلة اسمٍ ليس من علامات المضمَر.
وتقول: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربُها هو، فكأنك قلت: معه امرأةٌ ضاربُها زيدٌ. ومثل قولك ضاربُها هو قوله: مررتُ برجل معه امرأة ضاربُها أبوه، إذا جعلتَ الأب مثل زيد، فإن لم تُنزل هو والأبَ منزلة زيد وما ليس من سببه ولم يلتبس به قلت: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربِها أبوه أو هو. وإن شئت نصبت، تُجرى الصفة على الرجل ولا تُجريها على المرأة، كأنك قلت: ضاربِها وضاربَها، وخصَصتَه بالفعل، فيجري مجرى مررتُ برجلٍ ضاربِها أبوه، ومررت بزيد ضاربَها أخوه. ولا يجوز هذا في زيد، كما أنه لا يجوز مررتُ برجلٍ ضاربِها زيدٌ، ولا مررتُ بعبد الله ضاربَها خالدٌ، وكما كان لم يجز يا ذا الجاريةِ الواطئَها زيدٌ، فتحملَه على النّداء. ولكن الجرّ جيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بالذي وطئها أبوه جاز، ولو قلت بالذي وطئها زيد لم يكن. فإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها أبوه، جررتَ كما تجرّ في زيد حين قلت: يا ذا الجارية الواطئِها زيد. وتقول: يا ذا الجارية الواطئَها أبوه، تجعل الواطئَها من صفة المنادى، ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجارية الواطئَها زيد، من قبل أن الواطئَها من صفة المنادى، فلا يجوز كما لا يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل الحَسن زيدٌ، وقد يجوز أن تقول بالحَسن أبوه.
وكذلك إن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها هو، وجعلت هو منفصلاً. وإن شئت نصبتَه كما تقول: يا ذا الجارية الواطئَها، فتُجريه على المنادى ولا تُجريه على الجارية.
وإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها، وأن تريد الواطئِها هو لم يجز، كما لا يجوز مررتُ بالجارية الواطئِها تريد هو أو أنت، كما لا يجوز هذا وأنت تريد الأبَ أو زيداً. وليس هذا كقولك: مررتُ بالجارية التي وطئَها زيد أو التي وطئَها، لأن الفعل يضمَر فيه وتقع فيه علامة الإضمار، والاسم لا تقع فيه علامةُ الإضمار، فلو جاز ذلك لجاز أن يوصَف ذلك المضمَر بهو، فإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعاً إذا لم يوصف به شيء غيرُ الأول، وذلك قولك يا ذا الجارية الواطئَها، ففي هذا إضمار هو، وهو اسمُ المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى. ولو جاز هذا لجاز مررتُ بالرجل الآخِذِ به، تريد أنت، ولجاز مررتُ بجاريتك راضياً عنها، تريد أنت. ولو قلت مررت بجاريةٍ رضيت عنها، ومررت بجاريتك راضياً عنها، أو مررتُ بجاريتك قد رضيتَ عنها، كان جيداً، لأنك تضمِر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار ولا يكون ذلك في الاسم إلا أن تضمِر اسمَ الذي هو وصفه، ولا يوصف به شيء غيره مما يكون من سببه ويلتبس به.

وأما رُبَّ رجلٍ وأخيه منطلقَين، ففيها قبحٌ حتى تقول: وأخٍ له. والمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله وأخيه في موضع نكرة، لأن المعنى إنما هو وأخٍ له.
فإن قيل: أمضافة الى معرفة أو نكرة؟ فإنك قائلا الى معرفة، ولكنها أجريت مُجرى النكرة، كما أن مثلك مضافة الى معرفة وهي توصف بها النكرة، وتقع مواقعَها. ألا ترى أنك تقول ربّ مثلِك. ويدلّك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: ربّ رجلٍ وزيدٍ، ولا يجوز لك أن تقول: ربّ أخيه حتى تكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.
ومثل ذلك قول بعض العرب: " كل شاةٍ وسَخلتِها " ، أي وسخلةٍ لها، ولا يجوز حتى تذكر قبله نكرة فيُعلَم أنك لا تريد شيئاً بعينه، وأنك تريد شيئاً من أمة كلُّ واحد منهم رجل، وضممتَ إليه شيئاً من أمة كلهم يقال له أخٌ. ولو قلت: وأخيه وأنت تريد به شيئاً بعينه كان مُحالاً. وقال:
أي فتى هيجاء أنت وجارِها ... إذا ما رجالٌ بالرجال استقلّتِ
فالجارّ لا يكون فيه أبداً ههنا إلا الجرّ، لأنه لا يريد أن يجعله جار شيء آخر فتى هيجاء، ولكنه جعله فتى هيجاء جار هيجاء، ولم يردْ أن يعني إنساناً بعينه، لأنه لو قال: أيُّ فتى هيجاءَ أنت وزيدٌ لجعل زيداً شريكه في المدح. ولو رفعه على أنت، لو قال: أيُّ فتى هيجاء أنت وجارُها، لم يكن فيه معنى أي جارها، الذي هو فيه معنى التعجب.
وقال الأعشى:
وكم دون بيتكَ من صفصَفٍ ... ودَكداكِ رَملٍ وأعقادِها
ووضْعِ سِقاءٍ وإحقابِه ... وحَلِّ حُلوسٍ وإغمادِها
هذا حجةٌ لقوله: رُبّ رجلٍ وأخيه. فهذا الاسم الذي لم يكن ليكون نكرةً وحدَه، ولا يوصف به نكرة، ولم يحتمل عندهم أن يكون نكرة، ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يَشغلُ به العاملَ نكرة، ثم يُعطف عليه ما أضيف الى النكرة، ويصيّر بمنزلة مثلك ونحوه. ولم يُبتدأ به كما يُبتدأ بمثلك لأنه لا يجري مجراه وحدَه. ولم يَصر هذا نكرة إلا على هذا الوجه، كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفاً، وكما أن أيُّ تكون في النداء كقولك: يا هذا، ولا يجوز إلا موصوفاً. وليس هذا حالَ الوصف والموصوف في الكلام، كما أنه ليس حالُ النكرة كحال هذا الذي ذكرتُ لك. وفيه على جوازه وكلامِ العرب به ضَعفٌ.
هذا باب ما يُنصب فيه الاسمُ لأنه
لا سبيل له الى أن يكون صفةً
وذلك قولك: هذا رجلٌ معه رجلٌ قائمين. فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة فأشركَ بينهما وكأنه قال: معه امرأةٌ قائمين.
ومثله: مررت برجلٍ مع امرأة ملتزمين، فله إضمارٌ في مع كما كان له إضمار في معه، إلا أن للمضمَر في معه علَما وليس له في مع امرأة علَم إلا بالنية. ويدلّك على أنه مضمَرٌ في النية قولُك: مررت بقومٍ مع فلان أجمعون.
ومما لا يجوز فيه الصفة: فوق الدار رجلٌ وقد جئتك برجل آخَر عاقلَين مسلمين.
وتقول: اصنعْ ما سَرّ أخاك وأحبَّ أبوك الرجلان الصالحان، على الابتداء؛ وتنصبه على المدح والتعظيم، كقول الخِرْنق من قيس بن ثعلبة:
لا يَبعَدنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل معترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
ولا يكون نصبُ هذا كنصب الحال، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأنك لم تجعل في الدار رجل وقد جئتك بآخر، في حال تنبيهٍ يكونان فيه لإشارة، ولا في حال عمَلٍ يكونان فيه، لأنه إذا قال: هذا رجلٌ مع امرأة، أو مررت برجلٍ مع امرأة فقد دخل الآخرُ مع الأول في التنبيه والإشارة وجعلتَ الآخِرَ في مرورك، فكأنك قلت: هذا رجلٌ وامرأة، ومررت برجلٍ وامرأةٍ. وأما الألف واللام فلا يكونان حالاً البتة، لو قلت: مررت بزيدٍ القائمَ، كان قبيحاً إذا أردت قائماً.

وإن شئت نصبتَ على الشّتم، وذلك قولك: اصنعْ ما ساء أباك وكرِه أخوك الفاسقين الخبيثين. وإن شاء ابتدأ. ولا سبيل الى الصفة في هذا ولا في قولك: عندي غُلام وقد أتيتُ بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفةً للأول والآخِر، ولا سبيل الى أن يكون بعض الاسم جرّاً وبعضه رفعاً، فلما كان كذلك صار بمنزلة ما كان معه معرفة من النكرات، لأنه لا سبيل الى وصف هذا كما أنه لا سبيل الى وصف ذلك، فجُعل نصباً كأنه قال: عندي عبد الله وقد أتيت بأخيه فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على: النازلينَ بكلِّ معترَكٍ وفرّوا من الإحالة في عندي غلامٌ وأُتيتُ بجارية، الى الصب، كما فرّوا إليه في قولهم: فيها قائماً رجلٌ.
واعلم أنه لا يجوز أن تصف النكرة والمعرفة، كما لا يجوز وصفُ المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان. فهذا محال، لأن الراتعان لا يكونان صفةً للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع أن تجعل بعضَها نكرةً وبعضَها معرفةً. وهذا قول الخليل رحمه الله.
وزعم الخليل أن الجرّين أو الرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجرّ والرفع، وذلك قولك: هذا رجلٌ وفي الدار آخَرُ كريمين. وقد أتاني رجلٌ وهذا آخَرُ كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجهٍ واحد. وقبّحه بقوله: هذا لابن إنسانَين عندنا كِراماً، فقال: الجرّ ههنا مختلفٌ ولم يُشرَك الآخِرُ فيما جرّ الأول.
ومثل ذلك: هذه جارية أخَوَي ابنين لفلان كِراماً؛ لأن أخَوَي ابنين اسمٌ واحدٌ والمضاف إليه الآخِرُ منتهاه، ولم يُشركِ الآخِرَ بشيء من حروف الإشراك فيما جرّ الاسم الأول.
ومثل ذلك: هذا فرسُ أخَوَي ابنَيْك العُقلاء الحُلَماء، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك في النكرة، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يُجرى وصفاً لما انجرّ من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابُه.
ومما لا تجري الصفةُ عليه نحوُ هذان أخواك وقد تولّى أبواك الرجالُ الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء، أو تنصبه على المَدْح والتعظيم.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعنيهما، ولا مدح فيه لأنه ليس مما يُمدح به.
وتقول: هذا رجلٌ وامرأتُه منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجهٍ واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقَدِم عمرو الرجلان الحليمان.
واعلم أنه لا يجوز: مَن عبد الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ؛ لأنك لا تُثني إلا على من أثبتّه وعلمتَه، ولا يجوز أن تَخلِط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علَمٌ فيمن قد علمتَه.
؟
هذا باب ما ينتصب لأنه حالٌ
صار فيها المسئول والمسئول عنه وذلك قولك: ما شأنُك قائماً، وما شأن زيدٍ قائماً، وما لأخيك قائماً. فهذا حالٌ قد صار فيه، وانتصب بقولك: ما شأنُك كما ينتصب قائماً في قولك: هذا عبد الله قائماً، بما قبله. وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيه معنى لِمَ قمتَ في ما شأنُك وما لكَ. قال الله تعالى: " فما لَهُم عن التّذكِرَة مُعرضين " .
ومثل ذلك مَن ذا قائماً بالباب، على الحال، أي مَن ذا الذي هو قائمٌ بالباب. هذا المعنى تريد. وأما العامل فيه فبمنزلة هذا عبدُ الله، لأن مَن مبتدأ قد بُني عليه اسم. وكذلك: لمن الدارُ مفتوحاً بابُها.
أما قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومِئ الى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإن أومأتَ الى إنسان قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أن يُعلِمَكَه نصبتَ خيراً منك، كما قلت: مَن ذا قائماً، كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها. ونصبُه كنصب ما شأنُك قائماً.
؟
باب ما ينتصب على التعظيم والمدحوإن شئت جعلته صفةً فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك قولك: الحمد لله الحميد هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسناً، كما قال الأخطل:

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا ... أبدى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائره ... خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ
وأما الصفة فإن كثيراً من العرب يجعلونه صفةً، فيُتبعونه الأولَ فيقولون: أهلِ الحمد والحميد هو، وكذلك الحمد لله أهلِه: إن شئت جررت، وإن شئت نصبت. وإن شئت ابتدأت كما قال مُهلهِل:
ولقد خبطن بيوتَ يشكُرَ خبطةً ... أخوالنا وهمُ بنو الأعمامِ
وسمعنا بعض العرب يقول: " الحمد لله ربَّ العالمين " ، فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.
ومثل ذلك قول الله عز وجلّ: " لكِنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلكَ والمقيمينَ الصلاةَ والمؤتون الزكاة " . فلو كان كله رفعاً كان جيداً. فأما المؤمنون فمحمولٌ على الابتداء.
وقال جلّ ثناؤه: " ولكنّ البرَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المالَ على حُبه ذوي القُربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاةَ والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضراء وحين البأسِ " . ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً. ولو ابتدأتَه فرفعته على الابتداء كان جيداً كما ابتدأتَ في قوله: " والمؤتون الزكاةَ " .
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق:
لا يبعَدَنْ قومي الذي همُ ... سمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزر
فرفعُ الطيبين كرفع المؤتين.
ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكل قوم أطاعوا أمرَ مُرشدهم ... إلا نُمَيراً أمرَ غاويها
الظاعنين ولما يُظعنوا أحداً ... والقائلون لمنْ دارٌ نُخلّيها
وزعم يونس أن من العرب من يقول: " النازلون بكل معترك والطيبين " فهذا مثل " والصابرين " . ومن العرب من يقول: الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كلّه على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعاً فكان مرفوعاً على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع.
وزعم عيسى أنه سمع ذا الرمة يُنشد هذا البيت نصباً:
لقد حملتْ قيسُ بن عَيلانَ حربَها ... على مستقلّ للنوائب والحربِ
أخاها إذا كانت عِضاضاً سما لها ... على كل حالٍ من ذَلول ومن صعبِ
زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه.
وهذا شبيهٌ بقوله: إنا بني فلانٍ نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر مَن لا يدري أنه من بني فلان، ولكنه ذكر ذلك افتخاراً وابتهاءً. إلا أن هذا يجري على حرف النداء، وستراه إن شاء الله عزّ وجلّ في بابه في باب النداء مبيّناً. وتُرك إظهار الفعل فيه حيث ضارع هذا وأشباهه، لأن إنّا بني فلان ونحوه بمنزلة النداء. وقد ضارعه هذا الباب.
ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبي عائذ:
ويأوي الى نِسوة عُطّلٍ ... وشُعثاً مراضيعَ مثل السّعالي
كأنه حيث قال: الى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه، ذكر ذلك تشنيعاً لهن وتشويهاً. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهنّ شُعثاً، إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة.
وزعم يونس أنك تقول: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كقول الراجز:
بأعيُن منها مليحات النُّقَبْ ... شكلِ التِّجارِ وحلالِ المكتسَبْ
كذلك سمعناه من العرب. وكذلك قال مالك بن خويلد الخُناعي:
يا ميَّ لا يُعجز الأيامَ ذو حِيَدٍ ... في حَومةِ الموت رزّامٌ وفرّاسُ
يحمي الصريمةَ أُحدانُ الرجال، له ... صيدٌ، ومجترئٌ بالليل همّاسُ
وإن شئت حملته على الابتداء كما قال:
فَتي الناس لا يخفى عليهم مكانُه ... وضِرغامةٌ إن همّ بالحرب أوقعا
وقال آخر:

إذا لقى الأعداء كان خلاتَهم ... وكلبٌ على الأدنين والجارِ نابحُ
كذلك سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.
واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظَّم بها. لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحبَ الثياب أو البزّاز، لم يكن هذا مما يعظَّم به الرجل عند الناس ولا يفخَّم به. وأما الموضع الذي لا يجوز فيه التعظيم فأن تذكر رجلاً بنبيهٍ عند الناس، ولا معروفٍ بالتعظيم ثم تعظّمه كما تعظّم النبيه. وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح. فإن قلت مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت المُطعِمين في المَحل، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عُرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم كأنه قد عُلموا. فاستحسن من هذا ما استحسن العربُ، وأجِزْه كما أجازته.
وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيماً لله عزّ وجلّ يكون تعظيماً لغيره من المخلوقين: لو قلت: الحمدُ لزيد تريد العظمةَ لم يجز، وكان عظيماً. وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن كان لم يعرفهم.
؟
باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم
وما أشبههتقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيث: لم يرد أن يكرره ولا يعرّفك شيئاً تُنكره، ولكنه شتمه بذلك.
وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصباً: " وامرأتُه حمّالةَ الحطب " لم يجعل الحمالة خبراً للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتماً لها، وإن كان فعلاً لا يُستعمل إظهاره.
وقال عروة الصعاليك العبسي:
سقَوْني الخمرَ ثم تكنّفوني ... عُداةَ الله من كذب وزورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين. وقال النابغة:
لَعمري وما عَمري عليّ بهيّنٍ ... لقد نطقتْ بُطلاً عليّ الأقارعُ
أقارعُ عَوفٍ لا أحاول غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تبتغي من تُجاذع
وزعم يونس أنك إن شئت رفعتَ البيتين جميعاً على الابتداء، تُضمر في نفسك شيئاً لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعاً. ومثل ذلك:
متى ترَ عينيْ مالكٍ وجِرانَه ... وجَنبَيْه تعلمْ أنه غيرُ ثائرِ
حِضْجَرٌ كأمّ التوأمَين توكّأَتْ ... على مِرفقيها مستهلةَ عاشرِ
وزعموا أن أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصباً، وهذا الشعرُ لرجل معروف من أزْدِ السّراة:
قُبّح من يزني بعو ... فٍ من ذوات الخُمُرْ
الآكلَ الأشداء لا ... يحفِلُ ضوء القمر
وإن شاء جعله صفةً فجرّه على الاسم.
وزعم يونس أنه سمع الفرزدق يُنشد:
كم عمةٍ لك يا جريرُ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
شغّارةً تَقِذُ الفصيلَ برِجْلها فطّارةً لقوادمِ الأبكار جعله شتماً، وكأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطَب عنده عالماً بذلك. ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان ذلك جائزاً عربياً. وقال:
طليقُ الله لم يمنُنْ عليه ... أبو داودَ وابنُ أبي كثيرِ
ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلّبُ طَرفها حَذَرَ الصّقور
فهذا بمنزلة وجوه قرودٍ.
وأما قول حسان بن ثابت:
حارِ بنَ كعب ألا أحلامَ تزجُركم ... عني وأنتم من الجُوف الجماخيرِ
لا بأس بالقوم من طُولٍ ومن عِظمٍ ... جسمُ البِغال وأحلامُ العصافير
فلم يردْ أن يجعله شتماً، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسّرها، فكأنه قال: أما أجسامهم فكذا وأما أحلامهم فكذا.
وقال الخليل رحمه الله: لو جعله شتماً فنصبه على الفعل كان جائزاً.
وقد يجوز أن ينصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحاً ولا ذمّاً ولا شيئاً مما ذكرت لك. وقال:
وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً ... عواشيها بالجوّ وهو خصيبُ
ومِحصن: اسم الرزامي، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر من أن يعرّفه بعينه، ولم يرد افتخاراً ولا مدحاً ولا ذماً. وكذلك سُمع هذا البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.
ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون بكل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحّم بما ترحّم به العرب.

وزعم الخليل أنه يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحّم، وبدله كبدل مررت به أخيك. وقال:
فأصبحتْ بقَرْقَرى كَوانِساً ... فلا تلُمه أن ينام البائسا
وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين فقلت: مررت به البائس، كأنه لما قال مررت به قال المسكين هو، كما يقول مبتدئاً: المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين، كما قال: بنا تماماً يُكشَف الضّبابْ وفيه معنى الترحّم، كما كان في قوله رحمةُ الله عليه معنى رحمه الله. فما يُترحّم به يجوز فيه هذان الوجهان، وهو قول الخليل رحمه الله. وقال أيضاً: يكون مررت به المسكين على: المسكين مررت به، وهذا بمنزلة لقيته عبد الله، إذا أراد عبد الله لقيتُه. وهذا في الشعر كثير.
وأما يونس فيقول: مررت به المسكينَ على قوله: مررت به مسكيناً.
وهذا لا يجوز لأنه لا ينبغي أن يجعله حالاً ويدخل فيه الألف واللام، ولو جاز هذا لجاز مررت بعبد الله الظريف، تريد ظريفاً. ولكنك إن شئت حملته على أحسنَ من هذا، كأنه قال: لقيت المسكينَ، لأنه إذا قال مررت بعبد الله فهو عملٌ، كأنه أضمر عملاً. وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه عليه فِراراً من أن يصفوا المضمَر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يقول إنه المسكين أحمق، على الإضمار الذي جاز في مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق. وهو ضعيف. وجاز هذا أن يكون فصلاً بين الاسم والخبر لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى: إنا تميماً ذاهبون. فإذا قلت: بي المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ مررت، فلا يحسن فيه البدل، لأنك إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز أن يكون لا يدري من تعني، لأنك لست تحدّث عن غائب، ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميماً، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله. فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد.
وأما يونس فزعم أنه ليس يرفع شيئاً من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه إن قال ضربته لم يقل أبداً إلا المسكين، يحمله على الفعل. وإن قال ضرباني قال المسكينان، حمله أيضاً على الفعل. وكذلك مررت به المسكين، يحمل الرفعَ على الرفع، والجرَّ على الجرّ، والنصب على النصب. ويزعم أن الرفع الذي فسّرنا خطأ. وهو قول الخليل رحمه الله وابن أبي إسحاق.
؟
باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني
على ما هو قبله من الأسماء المبهمةوالأسماء المبهَمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك وذانك، وتلك وتانك، وتيك، وأولئك، وهو وهي، وهما، وهم وهنّ، وما أشبه هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.
فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقاً، وهؤلاء قومك منطلقين، وذاك عبد الله ذاهباً، وهذا عبد الله معروفاً. فهذا اسمٌ مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله. ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يُبنى عليه أو يبنى على ما قبله. فالمبتدأ مُسند والمبني عليه مسند إليه، فقد عمل هذا فيما بعده كما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده. والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقاً، لا تريد أن تعرّفه عبد الله؛ لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقاً، فمنطلقٌ حالٌ قد صار فيها عبد الله وحالَ بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد الله راكباً، صار لعبد الله وصار الراكب حالاً. فكذلك هذا.
وذاك بمنزلة هذا. إلا أنك إذا قلت ذاك فأنت تنبهه لشيء مُتراخ.
وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك. فكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام.

وأما هو فعلامة مضمَر، وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا. وذلك قولك: هو زيد معروفاً، فصار المعروف حالاً. وذلك أنك ذكرت للمخاطَب إنساناً كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: أثبتْه أو الزَمْه معروفاً، فصار المعروف حالاً، كما كان المنطلق حالاً حين قلت: هذا زيد منطلقاً. والمعنى أنك أردت أن توضّح أن المذكور زيد حين قلت معروفاً، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف، لأنه يعرّف ويؤكّد، فلو ذكر هنا الانطلاق كان غير جائز، لأن الانطلاق لا يوضّح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله معروفاً: لا شك؛ وليس ذا في منطلق. وكذلك هو الحق بيّناً، ومعلوماً، لأن ذا مما يوضَّح ويؤكَّد به الحقّ.
وكذلك هي وهما وهم وهنّ، وأنا وأنت وإنه. قال ابن دارة:
أنا ابن دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ
وقد يكون هذا وصواحبه بمنزلة هو، يعرَّف به، تقول: هذا عبد الله فاعرفْه؛ إلا أن هذا علامةً للمضمَر، ولكنك أردت أن تعرّف شيئاً بحضرتك.
وقد تقول: هو عبد الله، وأنا عبد الله، فاخراً أو مُوعداً. أي اعرِفْني بما كنتَ تعرف وبما كان بلغك عني، يم يفسّر الحال التي كان يعلمه عليها أو تبلغه فيقول: أنا عبد الله كريماً جواداً، وهو عبد الله شجاعاً بطلاً.
وتقول: إني عبد الله؛ مصغِّراً نفسه لربّه، ثم تفسّر حال العبيد فتقول: آكِلاً كما تأكل العبيد.
وإذا ذكرت شيئاً من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمَر فإنه مُحال أن يظهر بعدها الاسم إذا كنت تُخبر عن عمل، أو صفة غير عمل، ولا تريد أن تعرّفه بأنه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم توعد ولم تفخر أو تصغّر نفسك؛ لأنك في هذه الأحوال تعرّف ما تُرى أنه قد جُهل، أو تُنزل المخاطَب منزلة من يجهل فخراً أو تهدُّداً أو وعيداً، فصار هذا كتعريفك إياه باسمه.
وإنما ذكر الخليل رحمه الله هذا لنعرف ما يُحال منه وما يَحسن، فإن النحويين مما يتهاونون بالخلفْ إذا عرفوا الإعراب. وذلك أن رجلاً من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقاً، وهو زيد منطلقاً كان مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا علم أنك عرفت من يعني. إلا أن رجلاً لو كان خلفَ حائط، أو في موضع تجهله فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك، كان حسناً.
وأما ما ينتصب لأنه خبر مبنيّ على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله معروفاً. هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها.
؟
هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرةوذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين. وإنما نصبت للمنطلقين لأنه لا سبيل الى أن يكون صفةً لعبد الله، ولا أن يكون صفة للإثنين، فلما كان ذلك مُحالاً جعلته حالاً صاروا فيها، كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقاً.
وهذا شبيه بقولك: هذا رجل مع امرأةٍ قائمَيْن.
وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، لأن المنطلقين في هذا الموضع من اسم الرجلين، فجريا عليه.
وتقول: هؤلاء ناسٌ وعبد الله منطلقين، إذا خلطتَهم. ومن قال: هذان رجلان وعبد الله منطلقان قال: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون؛ لأنه لم يُشرك بين عبد الله وبين ناسٍ في الانطلاق.
وتقول: هذه ناقة وفصيلها راتعين. وقد يقول بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان. وهذا شبيه بقول من قال: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، إنما يريد كل شاةٍ وسخلة لها بدرهم. ومن قال كل شاةٍ وسخلتها، فجعله يمنزلة كل رجل وعبد الله منطلقاً لم يقل في الراتعين إلا النصب، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة، ولا يريد أن يُدخل السخلة في الكل لأن كل لا يدخل في هذا الموضع إلا على النكرة. والوجه كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس. والوجه الآخر قد قاله بعض العرب.
؟
هذا باب
ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفةوذلك قولك: هذا عبد الله منطلقٌ، حدّثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمن يوثق به من العرب.
وزعم الخليل رحمه الله أن رفعه يكون على وجهين:

فوجهٌ أنك حين قلت: هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت هذا منطلق أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعاً خبراً لهذا، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين. وقال الله عز واجلّ: " كلا إنها لظى. نزّاعة للشّوى " . وزعموا أنها في قراءة أبي عبد الله. " هذا بعلي شيخٌ " .
قال: سمعنا ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه:
من يكُ ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظٌ مصيّفٌ مشتي
وأما قول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزل ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا ليس على إضمار أنا. ولو جاز هذا على إضمار أنا لجاز: كان عبد الله لا مسلمٌ ولا صالح على إضمار هو. ولكنه فيما زعم الخليل رحمه الله: فأبيت بمنزلة الذي يقال لا حرجٌ ولا محروم. ويقوّيه في ذلك قوله، وهو الربيع الأسدي:
على حين أن كانت عُقَيلٌ وشائظا ... وكانت كلابٌ خامري أمَّ عامرِ
فإنما أراد: كانت كلاب التي يقال لها خامري أم عامر.
وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيتُ لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به. وقال الخليل رحمه الله: كأنه حكاية لما كان يُتكلّم به قبل ذلك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال:
كذَبْتُم وبيتِ الله لا تنكحونَها ... بني شابَ قرناها تصُرُّ وتحلُبُ
أي بني من يقال له ذلك.
والتفسير الآخر الذي على النفي كأنه أسهل.
وقد يكون رفعه على أن تجعل عبد الله معطوفاً على هذا كالوصف، فيصير كأنه قال: عبد الله منطلقٌ. وتقول: هذا زيدٌ رجلٌ منطلقٌ على البدل، كما قال تعالى جدُّه: " بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ " . فهذه أربعة أوجه في الرفع.
؟
هذا باب
ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني على مبتدأأو ينتصب فيه الخبر لأنه حال لمعروفٍ مبني على مبتدأ فأما الرفع فقولك: هذا الرجل منطلقٌ، فالرجل صفة لهذا، وهما بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: هذا منطلقٌ. قال النابغة:
توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لستة أعوام وذا العام سابعُ
كأنه قال: وهذا سابعٌ.
وأما النصب فقولك: هذا الرجل منطلقاً، جعلتَ الرجل مبنياً على هذا، وجعلت الخبر حالاً له قد صار فيها، فصار كقولك: هذا عبد الله منطلقاً. وإنما يريد في هذا الموضع أن يُذكَر المخاطَب برجلٍ قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يُذكره بأحد، وإنما أشار فقال هذا منطلقٌ، فكأن ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حالٌ مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما يكون بعده، ويكن فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحولُ بين الخبر والاسم المبتدأ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر، فيصير الخبر حالاً قد ثبت فيها وصار فيها كما كان الظرف موضعاً قد صِيرَ فيه بالنية وإن لم يذكر فعلاً. وذلك أنك إذا قلت فيها زيدٌ فكأنك قلت استقرّ فيها زيد وإن لم تذكر فعلاً؛ والنصب بالذي هو فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين لأنه ليس من صفته ولا محمولاً على ما حُمل عليه، فأشبه عندهم ضاربٌ زيداً.
وكذلك هذا عمل فيما بعده عمل الفعل، وصار منطلقٌ حالاً، فانتصب بهذا الكلام انتصابَ راكب بقول: مرّ زيد راكباً.
وأما قوله عز وجلّ " هو الحقُّ مصدّقاً " فإن الحق لا يكون صفةً لهو، من قبل أن هو اسم مضمَر والمضمر لا يوصَف بالمظهر أبداً؛ لأنه قد استغنى عن الصفة. وإنما تُضمِر الاسم حين يستغنى بالمعرفة، فمن ثمّ لم يكن في هذا الرفع كما كان في هذا الرجلُ. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بهو الرجل، لم يجز ولم يَحسن، ولو قلت: مررت بهذا الرجل، كان حسناً جميلاً.
؟
باب ما ينتصب فيه الخبرلأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدّمته أو أخرته وذلك قولك: فيها عبد الله قائماً، وعبد الله فيها قائماً. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضعٌ له، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسُن السكوت وكان كلاماً مستقيماً، كما حسن واستُغنى في قولك: هذا عبد الله. وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبد الله يرتفع مقدَّماً كان أو مؤخراً بالابتداء.

ويدلّك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيداً، فيصير بمنزلة قولك: إن زيداً فيها؛ لأن فيها لما صارت مستقَراً لزيد يستغني به السكوت وقعَ موقع الأسماء، كما أن قولك: عبد الله لقيتُه يصير لقيتُه فيه بمنزلة الاسم، كأنك قلت: عبد الله منطلق، فصار قولك فيها كقولك: استقرّ عبد الله، ثم أردت أن تُخبِر على أية حالٍ استقرّ فقلت قائماً، فقائم حال مستقَرٌّ فيها. وإن شئت ألغيت فيها فقلت: فيها عبد الله قائمٌ. قال النابغة:
فبتُّ كأني ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُقشِ في أنيابها السمُ ناقعُ
وقال الهذلي:
لا درَّ درّيَ إن أطعمتُ نازلَكم ... قِرفَ الحتيّ وعندي البُرُّ مكنوزُ
كأنك قلت: البرُّ مكنوزٌ عندي، وعبد الله قائمٌ فيها.
فإذا نصبت القائم ففيها قد حالت بين المبتدأ والقائم واستُغني بها، فعمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنياً عليه، عمل هذا زيدٌ قائماً، وإنما تجعل فيها، إذا رفعت القائم، مستقرَّاً للقيام وموضعاً له، وكأنك لو قلت: فيها عبد الله، لم يجز عليه السكوت. وهذا يدلّك على أن فيها لا يُحدث الرفع أيضاً في عبد الله؛ لأنها لو كانت بمنزلة هذا لم تكن لتُلغى، ولو كان عبد الله يرتفع بفيها لارتفع بقولك عبد الله مأخوذٌ؛ لأن الذي يرفع وينصب ما يستغني عليه السكوت وما لا يستغني، بمنزلة واحدة. ألا ترى أن كان تعمل عمل ضرب، ولو قلت كان عبد الله لم يكن كلاماً، ولو قلت ضرب عبد الله كان كلاماً.
ومما جاء في الشعر أيضاً مرفوعاً قوله، لابن مقبل:
لا سافِرُ النّيّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العظام عليه الودْع منظومُ
فجميع ما يكون ظرفاً تلغيه إن شئت، لأنه لا يكون آخِراً إلا على ما كان عليه أولاً قبل الظرف، ويكون موضع الخبر دون الاسم، فجرى في أحد الوجهين مجرى ما لا يستغني عليه السكوت، كقولك: فيك زيدٌ راغبٌ فرغبتُه فيه.
ومثل قولك فيها عبد الله قائماً: هو لك خالصاً، وهو لك خالصٌ؛ كأن قولك هو لك بمنزلة أهبُه لك ثم قلت خالصاً. ومن قال فيها عبد الله قائم، قال هو لك خالص، فيصير خالص مبنياً على هو كما كان قائم مبنياً على عبد الله، وفيها لَغوٌ، إلا أنك ذكرت فيها لتبيّن أين القيام، وكذلك لك إنما أردت أن تبيّن لمن الخالصُ.
وقد قُرئ هذا الحرف على وجهين: " قُل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة " ، بالرفع والنصب.
وبعض العرب يقول: هو لك الجمّاء الغفيرُ، يرفع كما يرفع الخالص. والنصبُ أكثر، لأن لجمّاء الغفير بمنزلة المصدر، فكأنه قال هو لك خُلوصاً. فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلم به.
ومما جاء في الشعر قد انتصب خبرُه وهو مقدَّم قبل الظرف، قوله:
إن لكمْ أصلَ البلاد وفرعَها ... فالخير فيكم ثابتاً مبذولا
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: أتكلم بهذا وأنت ههنا قاعداً.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب: هو رجلُ صدقٍ معلوماً ذاك، وهو رجل صدق معروفاً ذاك، وهو رجل صدق بينّا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق معروفاً صلاحُه، فصار حالاً وقع فيه أمر، لأنك إذا قلت: هو رجل صدقٍ فقد أخبرتَ بأمر واقع، ثم جعلتَ ذلك الوقوع على هذه الحال. ولو رفعتَ كان جائزاً على أن تجعله صفةً، كأنك قلت: هو رجل معروفُ صلاحُه.
ومثل ذلك: مررت برجل حسنةٍ أمه كريماً أبوها، زعم الخليل أنه أخبر عن الحُسن أنه وجبَ لها في هذه الحال. وهو كقولك: مررت برجلٍ ذاهبةٍ فرسُه مكسوراً سرجُها، والأول كقولك: هو رجل صدق معروفاً صدقه، وإن شئت قلت معروفٌ ذلك ومعلوم ذلك، على قولك: ذاك معروفٌ وذاك معلوم. سمعتُه من الخليل.
؟هذا بابٌ من المعرفة
يكون فيه الاسم الخاص شائعاً في الأمة
ليس واحدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهّم به واحدٌ دون آخر له اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثُعالة وأبو الحُصَين وسَمسَم، وللذئب: دأَلان وأبو جَعدة، وللضّبُع: أمّ عامر وحَضاجر وجَعار وجيْأل وأمّ عنثل وقَثام، ويقال للضِّبعان قُثَم.
ومن ذلك قولهم للغراب: ابن بَريح.

فكل هذا يجري خبره مجرى خبر عبد الله. ومعناه إذا قلت هذا أبو الحارث أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد وإن كانا معرفةً. وكان خبرهما نصباً من قبل أنك إذا قلت هذا زيدٌ فزيد اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف. فكأنك إذا قلت هذا زيد قلت: هذا الرجل الذي من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه، فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى، ليُحذف الكلام وليُخرَج من الاسم الذي قد يكون نكرة ويكون لغير شيء بعينه. لأنك إذا قلت هذا الرجل فقد يكون أن تعني كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأن تريد كل ذكَر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل. فإذا أراد أن يُخلِص ذلك المعنى ويختصه ليُعرَف من يُعنى بعينه وأمره قال زيد ونحوه.
وإذا قلت: هذا أبو الحارث فأنت تريد هنا الأسد، أي هذا الذي سمعتَ باسمه، أو هذا الذي قد عرفتَ أشباهه، ولا تريد أن تشير الى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك، كمعرفته زيداً، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم، فاختُصّ هذا المعنى باسم كما اختُص الذي ذكرنا بزيد لأن الأسد يتصرف تصرّف الرجل ويكون نكرة، فأرادوا أسماءً لا تكون إلا معرفة وتلزم ذلك المعنى.
وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسمٌ معناه معنى زيد، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس فيحتاجوا الى أسماء يعرفون بها بعضاً من بعض، ولا تحفَظ حُلاها كحفظ ما يَثبت مع الناس ويقتنونه ويتخذونه. ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما تثبت معهم واتخذوه، بأسماء كزيد وعمرو.
ومنه أبو جُخادب، وهو شيء يشبه الجندُب غير أنه أعظم منه، وهو ضربٌ من الجنادب كما أن بنات أوبَر ضربٌ من الكمأة، وهي معرفة.
ومن ذلك ابنُ قِتْرة، وهو ضربٌ من الحيات، فكأنهم إذا قالوا هذا ابن قتْرة فقد قالوا هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا.
وإذا قالوا بنات أوبَر فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا أبو جُخادب فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي سمعتَ به من الجنادب أو رأيته. ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال هذا الضرب الذي سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضربٌ من الكمأة. ويدلك على أنه معرفة أن آوى غير مصروف وليس بصفة. ومثل ذلك ابنُ عِرس وأم حُبَين وسامّ أبرص. وبعض العرب يقول أبو بُريص وحمار قبّان، كأنه قال في كل واحد من هذا الضرب الذي يعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا. وكأنه قال في المؤنث نحو أم حُبين هذه التي تعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا.
واختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسماً على معنى الذي تعرفها به لا تدخله النكرة كما أن الذي تعرف لا تدخله النكرة، كما فعلوا ذلك بزيد والأسد. إلا أن هذه الضروب ليس لكل واحد منها اسم يقع على كل واحد من أمته يدخله المعرفة والنكرة، بمنزلة الأسد يكون معرفة ونكرة، ثم اختُص باسم معروف كما اختُص الرجل بزيد وعمرو، وهو أبو الحارث، ولكنها لزمت اسماً معروفاً، وتركوا الاسم الذي تدخله المعاني المعرفة والنكرة، ويدخله التعجب، وتوصَف به الأسماء المبهمة كمعرفته بالألف واللام نحو الرجل.
والتعجب كقولك: هذا الرجل وأنت تريد أن ترفع شأنه.
ووصفُ الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. فكأن هذا اسمٌ جامع لمعان.
وابن عِرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبي الحارث وبزيد معنى واحد واستُغني به.
ومثَل هذا في بابه مثَل رجل كانت كُنيته هي الاسم وهي الكنية.
ومثَل الأسد وأبي الحارث كرجل كانت له كنية واسمٌ.
ويدلّك على أن ابن عرس وأم حُبين وسامَّ أبرص وابن مَطَر معرفة، أنك لا تدخل في الذي أُضِفن إليه الألف واللام، فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا ترى أنك لا تقول أبو الجُخادب.
وهو قول أبي عمرو، حدّثنا به يونس عن أبي عمرو.
وأما ابن قترة وحمار قبّان وما أشبههما، فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما أُضفن إليه.
وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابنُ عرس مُقبلٌ، فرفعه على وجهين: فوجهٌ مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافاً الى نكرة، بمنزلة قولك هذا رجلٌ منطلق.

ونظير ذلك هذا قيسُ قُفّةٍ آخر منطلق. وقيسُ قُفة لقب، والألقاب والكُنى بمنزلة الأسماء نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قُفة ما أراد في قوله هذا عُثمان آخر، فلم يكن له بدّ من أن يُجعل ما بعده نكرة حتى يصير نكرة، لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف الى معرفة.
وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت هذا رجل منطلق، فإنما دخلت النكرة على هذا العلَم الذي إنما وُضع للمعرفة ولهذا جيء به، فالمعرفة هنا الأوْلى.
وأما ابن لَبون وابن مَخاض فنكرة، لأنها تدخلها الألف واللام. وكذلك ابن ماء. قال جرير، فيما دخل فيه الألف واللام:
وابن اللَبون إذا ما لُزّ في قَرَن ... لم يستطع صولةَ البُزْلِ القناعيسِ
وقال أبو عطاء السِّندي:
مفدَّمةً قزّاً كأن رِقابها ... رِقاب بنات الماء أفزَعها الرّعدُ
وقال الفرزدق:
وجدنا نهشَلاً فضلَتْ فقيْماً ... كفضل ابن المَخاض على الفصيلِ
فإذا أخرجتَ الألف واللام صار الاسم نكرةً. قال ذو الرّمة:
ورَدتُ اعتِسافاً والثريّا كأنها ... على قمة الرأس ابنُ ماءٍ مُحلّقُ
وكذلك ابن أفعلَ إذا كان أفعل ليس باسمٍ لشيء.
وقال ناسٌ: كلُ ابن أفعلَ معرفة لأنه لا ينصرف. وهذا خطأ؛ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول هذا أحمرُ قُمُذٌ فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر، ولو كان معرفةً كان نصباً، فالمضاف إليه بمنزلته. قال ذو الرمة:
كأنّا على أولاد أحقَبَ لاحَها ... ورمْيُ السّفا أنفاسَها بِسَهامِ
جَنوبٌ ذَوَتْ عنها التناهي وأنزلتْ ... بها يومَ ذبّابِ السّبيب صيامِ
كأنه قال: على أولاد أحقبَ صيامٍ.
؟باب ما يكون فيه الشيء غالباً عليه اسم
يكون لكل من كان من أمته، أو كان في صفته، من الأسماء التي يدخلها الألف واللام، وتكون نكرتُه الجامعة لما ذكرتُ لك من المعاني.
وذلك قولك فلان بنُ الصَّعِق. والصعقُ في الأصل صفة تقع على كل من أصابه الصّعق، ولكنه غلب عليه حتى صار عَلَماً بمنزلة زيد وعمرو.
وقولهم النجمُ، صار علَماً للثّريا.
وكابن الصّعِق قولُهم: ابن رألان، وابنُ كُراع، صار علماً لإنسان واحد، وليس كل من كان ابناً لرألان وابناً لكُراع غلب عليه هذا الاسم. فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصّعق لم يكن معرفة، من قبل أنك صيّرته معرفةً بالألف واللام، كما صار ابنُ رألان معرفةً برألان، فلو ألقيتَ رألان لم يكن معرفةً.
وليس هذا بمنزلة زيد وعمرو وسَلْم، لأنها أعلامٌ جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما منعهم أن يُدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام أنهم لم يجعلوا الرجل الذي سُمّي بزيد من أمةٍ كلُّ واحد منها يلزمه هذا الاسم، ولكنهم جعلوه سُمّي به خاصاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن الذين قالوا الحارث والحَسَن والعبّاس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سُمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصفٌ له غلَب عليه. ومن قال حارثٌ وعبّاس فهو يُجريه مُجرى زيد.
وأما ما لزمته الألف واللام فلم يسقُطا منه، فإنما جُعل الشيء الذي يلزمه ما يلزم كلّ واحد من أمته.
وأما الدّبَران والسِّماك والعيّوق وهذا النحو، فإنما يُلزَم الألفَ واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه.
فإن قال قائل: أيقال لكل شيء صار خلف شيء دَبَران، ولكل شيء عاق عن شيء عيّوق، ولكل شيء سمك وارتفع سِماك، فإنك قائل له: لا، ولكن هذا بمنزلة العِدل والعَديل. والعديل: ما عادَلك من الناس، والعِدل لا يكون إلا للمتاع، ولكنهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا بين المتاع وغيره.
ومثل ذلك بناء حصين وامرأة حصان، فرقوا بين البناء والمرأة، فإنما أرادوا أن يُخبروا أن البناء مُحرز لمن لجأ إليه، وأن المرأة محرزة لفرجها.
ومثل ذلك الرزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يُحمَل وبين ما ثقُل في مجلسه فلم يخفّ.
وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب؛ فقد يكون الاسمان مشتقّين من شيء والمعنى فيهما واحد، وبناؤهما مختلف، فيكون أحد البناءين مختصاً به شيء دون شيء ليفرق بينهما. فكذلك هذه النجوم اختُصّت بهذه الأبنية.

وكل شيء جاء قد لزم الألف واللام فهو بهذه المنزلة. فإن كان عربياً نعرفه ولا نعرف الذي اشتُق منه فإنما ذاك لأنّا جهلنا ما علم غيرُنا، أو يكون الآخِر لم يصل إليه علم وصل الى الأول المسمّي.
وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء، إنما يرايد الرابع والثالث. وكلها أخبارها كأخبار زيد وعمرو.
فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عَمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة، من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس واحد منها أولى به من الآخَر. وعلى هذا الحدّ تقول: هذا زيد منطلق. ألا ترى أنك تقول: هذا زيد من الزيدين، أي هذا واحد من الزيدين، فصار كقولك: هذا رجل من الرجال.
وتقول: هؤلاء عَرَفات حسنةً، وهذان أبانان بيّنين. وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات، وبين زيدَين وزيدِين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علماً لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علماً لشيء بعينه، كأنهم قالوا، إذا قلت ائتِ بزيد إنما تريد: هاتِ هذا الشخص الذي نشير لك إليه. ولم يقولوا إذا قلنا جاء زيدانِ فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عُرفا قبل ذلك وأُثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا قد جاء زيد فلان وزيدُ بن فلان فإنما نعني شيئين بأعيانهما فهكذا تقول إذا أردت أن تُخبر عن معروفين.
وإذا قالوا هذان أبانان وهؤلاء عرفات فإنما أرادوا شيئاً أو شيئين بأعيانهما اللذين نشير إليهما. وكأنهم قالوا إذا قلت ائت أبانين، فإنما نعني هذين الجيلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: امرر بأبان كذا وأبن كذا، لم يفرقوا بينهما لأنهما جعلوا أبانين اسماً لهما يُعرفان به بأعيانهما.
وليس هذا في الأناسيّ ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن والجبال أشياء لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلاً عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبُه من الحال في الثّبات والخِصب والقحط، ولا يشار الى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسي وفي الدواب. والإنسانان والدابتان لا يثبتان أبداً بأنهما يزولان ويتصرفان، ويشار الى أحدهما والآخر عنه غائب.
وأما قولهم: أعطِكم سُنّة العُمَرين فإنما أُدخلت الألف واللام على عُمَرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام كما صار الصّعِق معرفة بهما، واختُصا به كما اختُص النجم بهذا الاسم، فكأنهما جُعلا من آمة كل واحد منهم عُمر، ثم عُرّفا بالألف واللام فصارا بمنزلة الغرِيَّيْن المشهورين بالكوفة، وبمنزلة النَّسرين، إذا كنتَ تعني النجمين.
؟
باب
ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفةإذا بُني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج الى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. وذلك قولك: هذا مَن أعرف منطلقاً، وهذا مَن لا أعرف منطلقاً، أي هذا الذي علمتُ أني لا أعرفه منطلقاً. وهذا ما عندي مَهيناً، وأعرف ولا أعرف وعندي حشوٌ لهما يتمّان به، فيصيران اسماً كما كان الذي لا يتم إلا بحشوه.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلتَ مَن بمنزلة إنسان وجعلت ما بمنزلة شيء نكرتين، ويصير منطلقٌ صفةً لمن ومَهينٌ صفة لمَا. وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك، وهو قول الأنصاري:
فكفى بنا فضلاً على مَن غيرِنا ... حبُّ النبي محمد إيّانا.
ومثل ذلك قول الفرزدق:
إني وإياك إذ حلّت بأرحُلنا ... كمن بواديه بعد المحل ممطورِ
وأما هذا ما لديّ عنيد فرفعُه على وجهين: على شيء لديّ عنيد، وعلى هذا بعلي شيخٌ.
وقد أدخلوا في قول من قال إنها نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئاً يكون موصوفاً لا يُسكَت عليه؟ فقيل لهم: نعم، يا أيها الرجل. الرجل وصفٌ لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يُسكَت على يا أيها. فرُب اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفُه عندهم كأنه به يتم الاسم، لأنهم إنما جاءوا بيا أيها ليصلوا الى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. وكذلك مَن وما إنما يُذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يُرَد بهما خِلوَين شيء، فلزمه الوصف كما لزمه الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحداً.

فالوصف كقولك: مررت بمَن صالحٍ، فصالحٍ وصف. وإن أردتَ الحشو قلت مررت ممن صالحٌ. والحشو لا يكون أبداً لمن وما إلا وهما معرفة. وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أن الذي لا يكون إلا معرفةً لا يكون ما ومَن إذا كان الذي بعدهما حشواً، وهو الصلة، إلا معرفة.
وتقول: هذا مَن أعرف منطلقٌ، فتجعل أعرف صفةً. وتقول: هذا مَن أعرف منطلقاً، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلقٌ على قولك: هذا عبد الله منطلق.
ومثل ذلك الجمّاء الغفير، فالغفير وصفٌ لازم، وهو توكيد لأن الجمّاء الغفير مَثَل، فلزم الغفيرُ كما لزم ما في قولك إنك ما وخَيراً.
واعلم أن كفى بنا فضلاً على مَن غيرُنا أجود وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بأيُّهم أفضلُ، وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماماً على الذي أحسَنُ " .
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشواً أو وصفاً، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو.
زعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب رجلاً يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً، وما أنا بالذي قائل لك قبيحاً. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده.
ويقوّي أيضاً أن مَن نكرة، قول عمرو بن قَميئة:
يا رُبَّ مَن يُبغض أذوادَنا ... رُحنَ على بغْضائه واغتدَيْنْ
ورُبّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. وقال أمية بن أبي الصلت:
رُبّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فَرْجةٌ كحَلّ العِقالِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن تغتَشَّهُ لك ناصحٍ ... ومؤتَمن بالغَيب غيرِ أمينِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن قلبي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن هو عندي في الظباء السوانحِ
؟
باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرةوذلك قولك هذا أول فارسٍ مُقبلٌ، وهذا كلُّ متاعٍ عندك موضوعٌ، وهذا خيرٌ منك مقبلٌ.
ومما يدلّك على أنهن نكرة أنهن مضافات الى نكرة، وتوصَف بهن النكرة. وذلك أنك تقول فيما كان وصفاً: هذا رجل خيرٌ منك، وهذا فارسٌ أول فارسٍ، وهذا مالٌ كلُّ مالٍ عندك.
ويُستدلُّ على أنهن مضافات الى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصَف به النكرة ولا تصفه بما توصَف به المعرفة، وذلك قولك: هذا أول فارس شُجاع مقبلٌ.
وحدّثنا الخليل أنه سمع من العرب من يوثق بعربيته يُنشد هذا البيت، وهو قول الشمّاخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو معازِرُ
فجعله صفةً لكل.
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قبَلنا منهمُ كلَّ ... فتىً أبيضَ حُسّانا
فجعله وصفاً لكل.
ومثل ذلك: هذا أيّما رجل منطلقٌ، وهذا حسبُك من رجل منطلقٌ.
ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة فتقول: هذا رجل حسبُك من رجل، فهو بمنزلة مثلك وضاربك إذا أردت النكرة.
ومما يوصَف به كلٌّ قول ابن أحمر:
وَلِهَت عليه كلُّ معصِفة ... هوجاء ليس للُبّها زَبرُ
سمعناه ممن يرويه من العرب.
ومن قال هذا أول فارسٍ مقبلاً، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول هذا أولُ الفارس، فيُدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي له أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهماً في قولك عشرون درهماً معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافاً، وجعلوا هذا يُجزِئُهم من ذلك. وقد يجوز نصبُه على نصب: هذا رجلٌ منطلقاً، وهو قول عيسى.
وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبُه كنصبه في المعرفة، جعله حالاً ولم يجعله وصفاً.
ومثل ذلك: مررتُ برجل قائماً، إذا جعلتَ الممرورَ به في حال قيامٍ. وقد يجوز على هذا: فيها رجلٌ قائماً، وهو قول الخليل رحمه الله.
ومثل ذلك: عليه مائةٌ بيضاً؛ والرفعُ الوجهُ. وعليه مائةٌ عيناً؛ والرفعُ الوجه.

وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررتُ بماءٍ قِعدةَ رجلٍ؛ والجرّ الوجهُ. وإنما كان النصب هنا بعيداً من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالاً كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالاً حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك، وألزموا صفة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفةَ؛ وأرادوا أن يجعلوا حالَ النكرة فيما يكون من اسمها كحال المعرفة فيما يكون من اسمها.
وزعم مَن نثق به أنه سمع رؤبةَ يقول: هذا غلامٌ لك مُقبلاً، جعله حالاً ولم يجعله من اسم الأول.
واعلم أن ما كان صفةً للمعرفة لا يكون حالاً ينتصب انتصابَ النكرة، وذلك أنه لا يَحسُن لك أن تقول: هذا زيدٌ الطويلَ، ولا هذا زيدٌ أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي له أن يجعله صفةً للنكرة، فيقول: هذا رجلٌ أخوك.
ومثل ذلك في القبح: هذا زيدٌ أسودَ الناس، وهذا زيدٌ سيدَ الناس، حدّثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.
ولو حسُن أن يكون هذا خبراً للمعرفة لجاز أن يكون خبراً للنكرة، فتقول هذا رجلٌ سيدَ الناس، من قبل أن نصب هذا رجلٌ منطلقاً كنصب هذا زيد منطلقاً، فينبغي لما كان حالاً للمعرفة أن يكون حالاً للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفةً للنكرة جاز أن يكون حالاً للنكرة كما جاز حالاً للمعرفة. ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالاً كما تكون النكرة، فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يُعرف به. وهذا كلامٌ خبيث يوضع في غير موضعه. إنما تكون المعرفة مبنياً عليها أو مبنية على اسم أو غير اسم، وتكون صفةً لمعروف لتبيّنه وتؤكده أن تقطعه من غيره. فإذا أردت الخبر الذي يكون حالاً وقع فيه الأمر فلا تضع في موضعه الاسم الذي جُعل ليوضّح المعرفة أو تبيّن به. فالنكرة تكون حالاً وليست تكون شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب قبل ذلك.
فهذا أمر النكرة، وهذا أمر المعرفة، فأجرِه كما أجروه، وضعْ كل شيء موضعه.
؟
باب ما ينتصب خبره لأنه معرفةوهي معرفة لا توصَف ولا تكون وصفاً وذلك قولك: مررت بكلٍّ قائماً، ومررتُ ببعضٍ قائماً وببعضٍ جالساً. وإنما خروجهما من أن يكونا وصفين أو موصوفين، لأنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلٍّ الصالحين ولا ببعضٍ الصالحين. قبُح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه، لأنه مخالف لما يضاف، شاذّ منه، فلم يجرِ في الوصف مجراه. كما أنهم حين قالوا يا أللهُ، فخالفوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفَه وأثبتوها.
وصار معرفة لأنه مضاف الى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاهِ أبوك، تريد: لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقةَ الكلام، ولا سبيله؛ لأنه ليس من كلامهم أن يُضمروا الجار.
ومثله في الحذف: لا عليك، فحذفوا الاسم. وقال: ما فيهم يفضلك في شيء، يريد ما فيهم أحد يفضلك كما أراد لا بأس عليك أو نحوه. والشواذّ في كلامهم كثيرةٌ.
ولا يكونان وصفاً كما لم يكونا موصوفين، وإنما ينضعان في الابتداء أو يُبنَيان على اسم أو غير اسم.
فالابتداء نحو قوله عز وجلّ: " وكلٌّ آتوه داخرين " . فأما جميعٌ فيجري مجرى رجلٍ ونحوه في هذا الموضع. قال الله عز وجل: " وإنْ كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحضَرون " ، وقال: أتيته والقومُ جميعٌ؛ وسمعته من العرب، أي مجتمعون.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستضعف أن يكون كلهم مبنياً على اسم أو على غير اسم، ولكنه يكون مبتدأ أو يكون كلهم صفة. فقلت: ولمَ استضعفت أن يكون مبنياً؟ فقال: لأن موضعه في الكلام أن يُعمّ به غيره من الأسماء بعدما يُذكر فيكون كلهم صفةً أو مبادأ. فالمبتدأ قولك إن قومك كلهم ذاهبٌ، أو ذكر قوم فقلت: كلهم ذاهبٌ. فالمبتدأ بمنزلة الوصف؛ لأنك إنما ابتدأت بعدما ذكرت ولم تبنه على شيء فعممت به.

وقال: أكلتُ شاةً كلَّ شاةٍ حسن، وأكلت كلَّ شاةٍ ضعيف؛ لأنهم لا يعمّون هكذا فيما زعم الخليل رحمه الله. وذلك أن كلهم إذا وقع موقعاً يكون الاسم فيه مبنياً على غيره، شُبّه بأجمعين وأنفسهم ونفسه، فألحق بهذه الحروف، لأنها إنما توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أن موضعها من الكلام أن يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم؛ إلا أن كلهم قد يجوز فيها أن تُبنى على ما قبلها، وإن كان فيها بعض الضعف؛ لأنه قد يُبتدأ به، فهو يشبه الأسماء التي تُبنى على غيرها. وكلاهما وكلتاهما وكلهنّ يجرين مجرى كلهم، وأما جميعهم فقد يكون على وجهين: يوصَف به المضمَر والمظهر كما يوصَف بكلهم، ويُجرى في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزلة عامتهم وجماعتهم، يُبتدأ ويُبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة تدخله الألف واللام، وأما كل شيء وكل رجل فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصَف بهما.
والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما يمعناه.
؟
باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفةوذلك قولك: هذا راقودٌ خَلاّ، وعليه نِحيٌ سَمناً. وإن شئت قلت راقودُ خلّ وراقودٌ من خلّ.
وإنما فررتَ الى النصب في هذا الباب، كما فررت الى الرفع في قولك: بصحيفةٍ طينٌ خاتَمها؛ لأن الطين اسم وليس مما يوصَف به، ولكنه جوهرٌ يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا وما أشبهه.
ومن قال: مررتُ بصحيفة طينٍ خاتَمها قال: هذا راقودٌ خلٌّ، وهذه صفّةٌ خزّ.
وهذا قبيح أجري على غير وجهه، ولكنه حسن أن يُبنى على المبتدأ ويكون حالاً. فالحال قولك: هذه جُبّتك خَزاً. والمبني على المبتدأ قولك: جُبتك خزّ. ولا يكون صفةًفيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل، ولكنهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ. فأجره كما أجروه، فإنما فعلوا به ما يُفعل بالأسماء، والحال مفعولٌ فيها. والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما ارتفع بالفعل، والجارّ بتلك المنزلة، يجري في الاسم مجرى الرافع والناصب.
؟
باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله
ولا هو هووذلك قولك هو ابنُ عمي دِنْياً، وهو جاري بيتَ بيتَ. فهذه أحوال قد وقع في كل واحد منها شيء. وانتصب لأن هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: أنت الرجل عِلْماً. فالعلمُ منتصبٌ على ما فسّرت لك، وعمل فيه ما قبله كما عمل عشرون في الدرهم، حين قلت عشرون درهماً؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هي.
ومثل ذلك: هذا درهم وزناً. ومثل ذلك: هذا حسيب جداً. ومثل ذلك هذا عربيّ حسبَه. حدثنا بذلك أبو الخطاب عمن نثق به من العرب. جعله بمنزلة الدِّنْي والوزن، كأنه قال هو عربي اكتفاءً. فهذا تمثيل ولا يتكلّ به، ولزمته الإضافة كما لزمت جَهده وطاقته.
وما لم يُضَف من هذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما لم يُضَف فيما ذكرنا من المصادر، نحو لقيتُه كفاحاً، وأتيته جهاراً.
ومثل ذلك هذه عشرون مِراراً، وهذه عشرون أضعافاً.
وزعم يونس أن قوماً يقولون: هذه عشرون أضعافُها وهذه عشرون أضعافٌ، أي مضاعفةٌ. والنصب أكثر.
ومثل ذلك: هذا درهمٌ سواء. كأنه قال هذا درهم استواء. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به. قال عز وجلّ: " في أربعة أيامٍ سَواءً للسائلين " . وقد قرأ ناسٌ: " في أربعةِ أيامٍ سواءٍ " . قال الخليل: جعله بمنزلة مستويات.
وتقول: هذا درهمٌ سواءٌ، كأنك قلت: هذا درهمٌ تامّ.
؟
وهذا شيء ينتصب على أنه
ليس من اسم الأول ولا هو هووذلك قولك: هذا عربي محضاً، وهذا عربي قلباً، فصار بمنزلة دِنياً وما أشبهه من المصادر وغيرها.
والرفع فيه وجه الكلام، وزعم يونس ذلك. وذلك قولك: هذا عربيّ محضٌ، وهذا عربيّ قلبٌ، كما قلت هذا عربيٌّ قُحٌّ، ولا يكون القحُّ إلا صفةً.
ومما ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائلةٌ وزنَ سبعةٍ ونقدَ الناس، وهذه مائة ضربَ الأمير، وهذا ثوبٌ نسجَ اليمن، كأنه قال: نسجاً وضرباً ووزناً. وإن شئت قلت وزنُ سبعة.

قال الخليل رحمه الله: إذا جعلتَ وزنَ مصدراً نصبت، وإن جعلته اسماً وصفتَ به، وشبّه ذلك بالخَلق، قال: قد يكون الخلق المصدر ويكون الخلقُ المخلوق، وقد يكون الحلَب الفعل والحلَب المحلوب، فكأن الوزن ههنا اسمٌ، وكأن الضرب اسم، كما تقول رجلٌ رِضاً وامرأة عدلٌ ويومٌ غمٌّ، فيصيرُ هذا الكلام صفةً. وقال: أستقبح أن أقول هذه مائة ضربُ الأمير، فأجعلَ الضرب صفةً فيكون نكرةً وُصفت بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنه قيل له ما هي؟ فقال: ضربُ الأمير. فإن قال: ضربُ أمير حَسنت الصفة؛ لأن النكرة توصف بالنكرة.
واعلم أن جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسماً لم تستطع أن تبني عليه شيئاً مما انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنه ليس منه ولا هو هو. لو قلتَ ابنُ عمي دنْيٌ وعربيٌ جِدٌ، لم يجز ذلك، فإذا لم يجز أن يُبنى على المبتدأ فهو من الصفة أبعد؛ لأن هذه الأجناس التي يضاف إليها ما هو منها ومن جوهرها ولا تكون صفة، وقد تُبنى على المبتدأ كقولك: خاتمك فضّة، ولا تكون صفةً.
فما انتصب في هذا الباب فهو مصدر أو غير مصدر قد جُعل بمنزلة المصدر، وانتصب من وجهٍ واحد.
واعلم أن الشيء يوصَف بالشيء الذي هو هو وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيدٌ الطويل. ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيدٌ ذاهباً. ويوصَف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزناً، لا يكون إلا نصباً.
؟
هذا باب
ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده
ويبنى على ما قبلهوذلك قولك هذا قائماً رجل، وفيها قائماً رجلٌ. لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقُبح أن تقول: فيها قائمٌ، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت القائم حالاً وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
ولو حسُن أن تقول: فيها قائم لجاز فيها قائم رجلٌ، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.
وحُمل هذا النصب على جواز فيها رجلٌ قائماً، وصار حين أخّر وجه الكلام، فراراً من القبح. قال ذون الرمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلةً ... ظِباءٌ أعارتُها العيونَ الجآذرُ
وقال الآخر:
وبالجسم مني بيّناً لو علمْتِه ... شُحوبٌ وإن تستشهدي العينَ تشهدِ
وقال كُثيّر: لميّة موحشاً طللُ وهذا كلامٌ أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام.
واعلم أنه لا يقال قائماً فيها رجلٌ. فإن قال قائل: أجعله بمنزلة راكباً مرّ زيدٌ، وراكباً مرّ الرجلُ، قيل له: فإنه مثله في القياس، لأن فيها بمنزلة مرّ، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل، لأن فيها وأخواتها لا يتصرّفن تصرّف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغني به الاسم من الفعل. فأجرِه كما أجرته العرب واستحسنتْ.
ومن ثمّ صار مررت قائماً برجل لا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حسن هذا لحسن قائماً هذا رجل.
فإن قال: أقول مررت بقائماً رجل، فهذا أخبث، من قبل أنه لا يُفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أُسقط رُبّ قائماً رجلٍ. فهذا كلام قبيح ضعيف؛ فاعرفْ قبحه، فإن إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا هو بمنزلة فيها قائماً رجل، ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.
وأما بك مأخوذٌ زيد فإنه لا يكون إلا رفعاً، من قبل أن بك لا تكون مستقراً لرجل. ويدلك على ذلك أنه لا يستغني عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم منطلقٌ زيدٌ، واليومَ قائمٌ زيد.
وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذ زيد. وتأخير الخبر على الابتداء أقوى، لأنه عاملٌ فيه.
ومثل ذلك: عليك نازلٌ زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاماً.
وتقول: عليك أميراً زيد، لأنه لو قال عليك زيد وهو يريد الإمرةَ كان حسناً. وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر، لأنه ليس بفعل. وكلما تقدّم كان أضعف له وأبعد، فمن ثمّ لم يقولوا قائماً فيها رجل، ولم يحسن حُسن: فيها قائماً رجلٌ.
؟باب ما يثنّى فيه المستقر توكيداً
وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى.

وذلك قولك: فيها زيد قائماً فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد بفيها. وإن زعمتَ أنه انتصب بالآخِر فكأنك قلت: زيد قائماً فيها. فإنما هذا كقولك قد ثبت زيد أميراً قد ثبت، فأعدتَ قد ثبت توكيداً، وقد عمل الأول في زيد وفي الأمير.
ومثله في التوكيد والتثنية: لقيتُ عمراً عمرا.
فإن أردتَ أن تُلغي فيها قلت فيها زيدٌ قائم فيها، كأنه قال زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك فيك زيدٌ راغبٌ فيك.
وتقول في النكرة: في دارك رجلٌ قائم فيها، فتجري قائم على الصفة.
وإن شئت قلت: فيها رجل قائماً فيها على الجواز، كما يجوز فيها رجلٌ قائماً. وإن شئت قلت أخوك في الدار ساكنٌ فيها، فتجعل فيها صفةً للساكن.
ولو كانت التثنية تنصب لنصبتْ في قولك: عليك زيدٌ حريص عليك، ونحو هذا مما لا يُستغنى به.
فإن قلت: قد جاء: " وأما الذين سَعِدوا ففي الجثّة خالدين فيها " فهو مثل " إن المتّقين في جنات وعُيون. آخذين " وفي آية أخر: " فاكهين " .
؟
هذا باب الابتداءفالمبتدأ كل اسم ابتُدى ليُبنى عليه كلامٌ. والمبتدأ والمبنيّ عليه رفعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبني عليه. فالمبتدأ الأول والمبني ما بعده عليه فهو مسنَد ومسنَد إليه.
واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئاً هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يُذكر كل واحدٍ منها بعد ما يُبتدأ.
فأما الذي يُبنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذُكر ليُبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائماً مقدَّماً مبنياً على المبتدأ، كما تؤخّر وتقدّم فتقول: ضرب زيداً عمرٌو، وعمرٌو على ضرب مرتفع. وكان الحدّ أن يكون مقدَّماً ويكون زيد مؤخّراً. وكذلك هذا، الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدَّماً. وهذا عربي جيد. وذلك قولك تميميٌّ أنا، ومَشنوءٌ مَن يشنَؤك، ورجلٌ عبدُ الله، وخزٌّ صُفّتك.
فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقوله يقوم زيدٌ وقام زيد قبح، لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفةً جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولاً في ضارب حتى يكون محمولاً على غيره فتقول: هذا ضاربٌ زيداً وأنا ضارب زيداً ولا يكون ضاربٌ زيداً على ضربتُ زيداً وضربت عمراً.
فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدإ، وليكون بين الفعل والاسم فصيل وإن كان موافقاً له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء الشيءَ ثم يخالفه، لأنه ليس مثله.
وقد كتبنا ذلك فيما مضى، وسنراه فيما يُستقبل إن شاء الله.
؟
باب ما يقع موقع الاسم المبتدإ ويسد مسدهلأنه مستقَرٌّ لما بعد وموضع، والذي عمل فيما بعده حتى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلُّ واحد منهما لا يُستغنى به عن صاحبه، فلما جُمعا استغنى عليهما السكوت، حتى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله.
وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمَّ زيدٌ، وههنا عمرٌو، وأين زيدٌ، وكيف عبد الله، وما أشبه ذلك.
فمعنى أين في: أي مكان، وكيف: على أية حال. وهذا لا يكون إلا مبدوءاً به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشُبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن الألف، ولا يكنَّ كذا إلا استفهاماً.
؟باب من الابتداء يُضمَر فيه
ما يُبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا.
أما لكان كذا وكذا فحديثٌ معلّقٌ بحديث لولا. وأما عبد الله فإنه منحديث لولا، وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام، كقولك: أزيدٌ أخوك، إنما رفعتَه على ما رفعتَ عليه زيدٌ أخوك. غير أن ذلك استخبارٌ وهذا خبرٌ. وكأن المبني عليه الذي في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولوا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حُذف حين كثُر استعمالُهم إياه في الكلام كما حُذف الكلام من إمّالا، زعم الخليل رحمه الله أنهم أرادوا إن كنت لا تفعل غيره فافعلْ كذا وكذا إمالا، ولكنهم حذفوه لكثرته في الكلام.

ومثل ذلك حينئذ، الآن، إنما تريد: واسمع الآن. وما أغفلَه عنك، شيئاً، أي دعِ الشكّ عنه؛ فحُذف هذا لكثرة استعمالهم.
وما حُذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير. ومن ذلك: هل من طعام؟ أي هل من طعام في زمان أو مكان، وإنما يريد: هل طعامٌ، فمِن طعامٍ في موضع طعامٌ، كما كان ما أتاني من رجل في موضع ما أتاني رجلٌ. ومثله جوابه: ما من طعام.
؟بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً
ويكون المبني عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، أو هذا عبد الله. أو سمعتَ صوتاً فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آيةً لك على معرفته فقلت: زيد وربي. أو مسِسْتَ جسداً أو شممت ريحاً فقلت: زيد، أو المِسك. أو ذقتَ طعاما فقلت: العسل.
ولو حُدِّثتَ عن شمائل رجلٍ فصار آيةً لك على معرفته لقلت: عبد الله. كأن رجلاً قال: مررتُ برجل راحم للمساكين بارٍّ بوالديه، فقلت: فلان واللهِ.
؟
هذا باب الحروف الخمسة
التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعدهوهي من الفعل يمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصَرَّف تصرُّف الأفعال كما أن عشرين لا تصرّف تصرّف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أُخذت من الأفعال وشُبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهماً لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حُمل العشرون عليه، ولكنه واحد بيّن به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضاربٌ زيداً، لأن زيداً ليس من صفة الضارب، ولا محمولاً على ما حُمل عليه الضارب.
وكذلك هذه الحروف، منزلتها من الأفعال. وهي أنّ، ولكنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ.
وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ، وإن عمراً مسافرٌ، وإن زيداً أخوك. وكذلك أخواتها.
وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفعَ والنصب، كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيدٌ. إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبدَ الله، تريد كأن عبدَ الله أخوك، لأنها لا تصرّف تصرّف الأفعال، ولا يضمَر فيها المرفوع كما يضمَر في كان. فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما، فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال.
وتقول: إن زيداً الظريف منطلق، فإن لم يُذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر كما قلت: كان زيد الظريف ذاهباً، فلما لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريفَ، فنصب هذا في كان بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها.
وتقول: إن فيها زيداً قائماً، وإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت: إن زيداً فيها قائماً وقائمٌ. وتفسير نصب القائم ههنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع ثمّ بالابتداء، إلا أن فيها ههنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت، وتقع موقعه. وليست فيها بنفس عبد الله كما كان هذا نفسَ عبد الله، وإنما هي ظرفٌ لا تعمل فيها إن، بمنزلة خلفَك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه.
وقد يقع الشيء موقع الشيء وليس إعرابه كإعرابه، وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه.
وتقول: إن بك زيداً مأخوذ، وإن لك زيداً واقفٌ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرّين لعبد الله، ولا موضعين. ألا ترى أن السكوت لا يستغني على عبد الله إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف.
ومثل ذلك: إن فيك زيداً لراغب. قال الشاعر:
فلا تلْحِني فيها فإن بحبّها ... أخاكَ مُصابُ الثلب جمٌّ بلابِلُهْ
كأنك أردت: إن زيداً راغبٌ، وإن زيداً مأخوذٌ، ولم تذكر فيك ولا بكَ، فألغيتا ههنا كما أُلغيتا في الابتداء. ولو نصبت هذا لقلت إن اليوم زيداً منطلقاً، ولكن تقول إن اليوم زيداً منطلق، وتُلغي اليومَ كما ألغيتَه في الابتداء.
وتقول: إن اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، من قبل أن إنّ عملت في اليوم، فصار كقولك: إن عمراً فيه زيدٌ متكلم. ويدلّك على أن اليوم قد عملت فيه إن، أنك تقول اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، فترفع بالابتداء، فكذلك تنصب بأن.

وتقول: إن زيداً لفيها قائماً، وإن شئت ألغيتَ لفيها، كأنك قلت: إن زيداً لقائم فيها. ويدلك على أن لفيها يُلغى أنك تقول إن زيداً لَبك مأخوذ. قال الشاعر، وهو أبو زُبيد الطائي:
إن امرأً خصّني عمداً مودّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
فلما دخلت اللام فيما لا يكون إلا لغواً عرفنا أنه يجوز في فيها، ويكون لغواً لأن فيها قد تكون لغواً.
وإذا قلت: إن زيداً فيها لقائمٌ، فليس إلا الرفع، لأن الكلام محمول على إنّ، واللام تدل على ذلك، ولو جاز النصبُ ههنا لجاز فيها زيدٌ لقائماً في الابتداء. ومثله: إن فيها زيداً لقائمٌ.
وروى الخليل رحمه الله أن ناساً يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، فقال: هذا على قوله إنه بك زيدٌ مأخوذ، وشبّه بما يجوز في الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً تُوافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تعطو الى وارق السَّلَمْ
وقال الآخر:
ووجهٌ مشرقُ النحرِ ... كأنْ ثدياهُ حُقّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار.
وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال: وهو الفرزدق:
فلو كنت ضبِّياً عرفتَ قرابتي ... ولكنّ زَنجيّ عظيم المشافرِ
والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال: ولكن زنجياً عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يُضمر ما بني على الابتداء نحو قوله عزّ وجلّ: " طاعةٌ وقولٌ معروفٌ " ، أي طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الشاعر:
فما كنتُ ضفّاطاً ولكن طالباً ... أناخ قليلاً فوق ظهر سبيلِ
أي ولكن طالباً منيخاً أنا.
فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضماراً لخفّف، ولجعل المضمَر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحاً ولكنْ طالحٌ.
ورفعه على قوله ولكنّ زنجيّ.
وأما قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَن يحفى وينتعلُ
فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأنْ يكون الحذف يُدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكن، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علَماً لحذف الإضمار في إن، كما فعلوا ذلك في كأن.
وأما ليتما زيداً منطلقٌ فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة ابن العجّاج ينشد هذا البيت رفعاً، وهو قول النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... الى حمامتنا ونصفُ فقدِ
فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: مثلاً ما بَعوضةٌ، أو يكون بمنزلة قوله: إنما زيدٌ منطلقٌ.
وأما لعلّما فهو بمنزلة كأنما. وقال الشاعر، وهو ابن كُراع:
تحلّلْ وعالجْ ذاتَ نفسك وانظُرَنْ ... أيا جُعَلٍ لعلّما أنت حالِمُ
وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل. كما كان نظيرَ إن من الفعل ما يعمل.
ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرّار الفَقْعَسي:
أعَلاقةً أمَّ الوليد بعدما ... أفنانُ رأسكَ كالثّغام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده.
واعلم أنهم يقولون: إن زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمرٌو لخيرٌ منك، لما خفّفها جعلها بمنزلة لكنْ حين خفّفها، وألزمها اللام لئلا تلتبس بإن التي هي بمنزلة ما التي تنفي بها.
ومثل ذلك: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظٌ " ، إنما هي لعليها حافظٌ.
وقال تعالى: " وإنْ كلُّ لَما جميعٌ لدينا مُحضَرون " إنما هي: لجميعٌ، وما لغوٌ.
وقال تعالى: " وإنْ وجدنا أكثرَهم لَفاسقين " ، " وإنْ نظنّك لمِن الكاذبين " .
وحدّثنا من نثق به، أنه سمع من العرب من يقول: إن عمراً لَمنطلقٌ. وأهل المدينة يقرءون: " وإنْ كُلاً لَما لَيوفينّهم ربُّك أعمالَهم " يخففون وينصبون، كما قالوا: كأن ثدييه حُقّانِ وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حُذف من نفسه شيء لم يغيَّر عملُه كما لم يغيَّر عملُ لم يكُ ولم أُبَل حين حُذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضمّوا إليها ما.
؟
هذا بابما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف
الخمسة

لإضمارك ما يكون مستقَرّاً لها وموضعاً لو أظهرته، وليس هذا المضمَر بنفس المظهر. وذلك: إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً، أي إن لهم مالاً. فالذي أضمرت لهم.
ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إن الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إن زيداً، وإن عمراً، أي إن لنا. وقال الأعشى:
إن محلاً وإنّ مُرتحَلاً ... وإن في السّفْر ما مضى مَهَلا
وتقول: إن غيرها إبلاً وشاءً كأنه قال: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً، أو عندنا غيرَها إبلاً وشاء. فالذي تضمِر هذا النحو وما أشبهه. وانتصب الإبلُ والشاء كانتصاب فارسٍ إذا قلت: ما في الناس مثلُه فارساً.
ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليتَ أيامَ الصّبا رواجعا فهذا كقوله: ألا ماء بارداً، كأنه قال: ألا ماء لنا مارداً، وكأنه قال: يا ليت لنا أيام الصبا، وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجعَ.
وتقول: إن قريباً منك زيداً، إذا جعلت قريباً منك موضعه. وإذا قلت جعلت الأول هو الآخِر قلت: إن قريباً منك زيدٌ.
وتقول: إن قريباً منك زيدٌ، والوجهُ إذا أردتَ هذا أن تقول: إن زيداً قريبٌ منك أو بعيد منك، لأنه اجتمع معرفةٌ ونكرة. وقال امرؤ القيس:
وإن شفاءً عَبرَةٌ مُهراقةٌ ... فهل عند رَسمٍ دارس من مُعَوَّلِ
فهذا أحسن لأنهما نكرة.
وإن شئت قلت: إن بعيداً منك زيداً. وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً وإنما قلّ هذا لأنك لا تقول إن بُعدَك زيداً وتقول إن قربَك زيد. فالدّنوّ أشدُّ تمكيناً في الظرف من البُعد.
وزعم يونُس أن العرب تقول: إن بدلَك زيداً، أي إن مكانك زيداً. والدليل على هذا قول العرب: هذا لك بدلَ هذا، أي هذا لك مكان هذا. وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إن بدلَك زيدٌ، أي إن بديلَك زيدٌ.
وتقول: إن ألفاً في دراهمك بيضٌ، وإن في دراهمك ألفاً بيضٌ. فهذا يجري مجرى النكرة في كان وليس؛ لأن المخاطَب يحتاج الى أن تُعلمه ههنا كما يحتاج الى أن تعلمه في قولك ما كان أحدٌ فيها خيراً منك. وإن شئت جعلت فيها مستقرّاً وجعلت البيض صفةً.
واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هنا، مثلُه في باب كان، ومثل ذلك قولك: إن أسداً في الطريق رابضاً، وإن بالطريق أسداً رابضٌ. وإن شئت جعلت بالطريق مستقراً ثم وصفتَه بالرابض، فهذا يجري هنا مجرى ما ذكرتُ من النكرة في باب كان.
؟باب ما يكون محمولاً على إن
فيشاركه فيه الاسم الذي ولِيها ويكون محمولاً على الابتداء
فأما ما حُمل على الابتداء فقولك: إن زيداً ظريفٌ وعمرٌو، وإن زيداً منطلقٌ وسعيدٌ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين، فأحدُ الوجهين حسنٌ، والآخر ضعيف.
فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولاً على الابتداء، لأن معنى إن زيداً منطلقٌ، زيدٌ منطلق، وإن دخلتْ توكيداً، كأنه قال: زيدٌ منطلق وعمرو. وفي القرآن مثله: " إن الله بَرَئٌ من المشركين ورسولُه " .
وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولاً على الاسم المضمَر في المنطلق والظريف، فإن أردتَ ذلك فأحسنه أن تقول: منطلقٌ هو وعمرٌو، وإن زيداً ظريفٌ هو وعمرو.
وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت: إن زيداً منطلقٌ وعمراً ظريفٌ، فحملته على قوله عزّ وجلّ: " ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرَ يمدُّه من بعده سبعةُ أبحُرٍ " . وقد رفعه قومٌ على قولك: لو ضربتَ عبدَ الله وزيدٌ قائم ما ضرّك، أي لو ضربت عبد الله وزيدٌ في هذه الحال، كأنه قال: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٌ والبحر هذا أمره، ما نفدت كلمات الله.
وقال الراجز، وهو رؤبة بن العجّاج:
إن الربيع الجوْدَ والخريفا ... يَدا أبي العباس والصّيوفا
ولكن المثقّلة في جميع الكلام بمنزلة إن.
وإذا قلت إن زيداً فيها وعمرٌو، جرى عمرٌو بعد فيها مجراه بعد الظريف؛ لأن فيها في موضع الظريف، وفي فيها إضمار. ألا ترى أنك تقول: إن قومك فيها أجمعون، وإن قومك فيها كلّهم، كما تقول: إن قومك عرب أجمعون وفي فيها اسمٌ مضمَر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. وقال جرير:
إن الخلافة والنبوّة فيهمُ ... والمَكرُمات وسادةٌ أطهارُ
وإذا قلت: إن زيداً فيها، وإن زيداً يقول ذاك، ثم قلت نفسه، فالنصب أحسن. وإن أردت أن تحمله على المضمَر فعلى: هو نفسه.

وإذا قلت إن زيداً منطلقٌ لا عمرٌو، فتفسيره كتفسيره مع الواو. وإذا نصبتَ فتفسيره كنصبه مع الواو، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ لا عمراً.
واعلم أن لعلّ وكأنّ وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إنّ، إلا أنه لا يُرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثمّ اختار الناس ليتَ زيداً منطلقٌ وعمراً وقَبُح عندهم أن يحملوا عمراً على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن ليت واجبةً ولا لعلّ ولا كأن، فقبح عندهم أن يُدخلوا الواجب في موضع التّمني فيصيروا قد ضموا الى الأول ما ليس على معناه بمنزلة إن.
ولكن بمنزلة إن.
وتقول: إن زيداً فيها لا بل عمرٌو. وإن شئت نصبت. ولا بلْ تجري مجرى الواو ولا.
؟باب ما تستوي فيه الحروفُ الخمسة
وذلك قولك: إن زيداً منطلق العاقلُ اللبيبُ. فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين: على الاسم المضمَر في منطلق، كأنه بدلٌ منه، فيصير كقولك: مررت به زيدٌ إذا أردت جوابَ بمن مررتَ. فكأنه قيل له: من ينطلق؟ فقال: زيدٌ العاقلُ اللبيب. وإن شاء رفعه على: مررتُ به زيدٌ، إذا كان جوابَ مَن هو؟ فنقول: زيد، كأنه قيل له: مَن هو؟ فقال: العاقل اللبيب.
وإن شاء نصَبَه على الاسم الأول المنصوب.
وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: " قُل إن ربي يقذف بالحقّ علاّمُ الغُيوب " ، و " علامَ الغُيوب " .
؟بابٌ ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة
انتصابَه إذا صار ما قبله مبنياً على الابتداء
لأن المعنى واحدٌ في أنه حالٌ، وأن ما قبله قد عمِل فيه، ومنعه الاسمُ الذي قبله أن يكون محمولاً على إن. وذلك قولك: إن هذا عبدُ الله منطلقاً، وقال تعالى: " إن هذه أمتُكم أمةً واحدة " . وقد قرأ بعضهم: " أمتَكم أمةٌ واحدة " حمل أمتكم على هذه، كأنه قال، إن أمتكم كلها أمةٌ واحدة.
وتقول: إن هذا الرجل منطلقٌ، فيجوز في المنطلق هنا ما جاز فيه حين قلت: هذا الرجل منطلقٌ، إلا أن الرجل هنا يكون خبراً للمنصوب وصفةً له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدأ أو خبراً له.
وكذلك إذا قلت: ليتَ هذا زيدٌ قائماً، ولعل هذا زيدٌ ذاهباً، وكأن هذا بِشرٌ منطلقاً. إلا أن معنى إن ولكن لأنهما واجبتان كمعنى هذا عبدُ الله منطلقاً، وأنت في ليت تمنّاه في الحال، وفي كأن تشبّه إنساناً في حال ذهابه كما تمنيته إنساناً في حال قيام. وإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب. فلعل وأخواتها قد عملنَ فيما بعدهنّ عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت: ليس هذا عمراً وكان هذا بشراً، عملنا عملين، رفعتا ونصبتا، كما قلت ضربَ هذا زيداً، فزيداً ينتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب ثم قلت: أليس هذا زيداً منطلقاً، فانتصب المنطلق لأنه حال وقع فيه الأمر، فانتصب كما انتصب في إن، وصار بمنزلة المفعول الذي تعدّى إليه فعل الفاعل بعدما تعدّى الى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيداً قائماً، فهو مثله في التقدير، وليس مثله في المعنى.
وتقول: إن الذي في الدار أخوك قائماً، كأنه قال: من الذي في الدار؟ فقال: إن الذي في الدار أخوك قائماً، فهو يجري في أن ولكنّ في الحُسن والقُبح، مجراه في الابتداء: إنْ قبُح في الابتداء أن تذكر المنطلق قبُح ههنا، وإن حسُن أن تذكر المنطلق حسُن ههنا، وإن قبُح أن تذكر الأخ في الابتداء قبُح ههنا، لأن المعنى واحد، وهو من كلامٍ واجب.
وأما في ليت وكأن ولعلّ، فيجري مجرى الأول.
ومن قال: إن هذا أخاك منطلقٌ قال: إن الذي رأيتُ أخاك ذاهبٌ. ولا يكون الأخ صفةً للذي، لأن أخاك أخصُّ من الذي، ولا يكون له صفة من قبل أن زيداً لا يكون صفةً لشيء.
وسألت الخليل عن قوله، وهو لرجل من بني أسد:
إن بها أكتلَ أو رِزاما ... خُوَيْرِبَين ينقُفان الهاما
فزعم أن خويربين انتصبا على الشتم، ولو كان على إن لقال خُويرباً، ولكنه انتصب على الشتم، كما انتصب " حمالةَ الحطب " - " والنازلينَ بكلّ معترك " على المدح والتعظيم. وقال:
أمن عمل الجرّاف أمسِ وظلمه ... وعدوانه أعتَبْتُمونا براسمِ
أميرَيْ عداءٍ إن حبسنا عليهما ... بهائمَ مالٍ أوديا بالبهائم

نصبهما على الشتم؛ لأنك إن حملت الأميرين على الإعتاب كان محالاً، وذلك لأنه لا تحمل صفة الاثنين على الواحد ولا تحمل الذي جرّ الأعتابُ على الذي جرّ الظلم، فلما اختلف الجرّان واختلطت الصفتان صار بمنزلة قولك: فيها رجلٌ وقد أتاني آخرُ كريمين، ولو ابتدأ فرفع كان جيداً.
ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق:
ولكنني استبقيت أعراضَ مازنٍ ... وأيامَها من مستنيرٍ ومظلمِ
أناساً بثغرٍ لاتزالُ رماحهم ... شوارعَ من غير العشيرة في الدمِ
ومما ينتصب على أنه عظّم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي:
ولم أرَ ليلى بعد يومٍ تعرّضتْ ... لنا بين أثواب الطِّراف من الأدَمْ
كِلابيّةً وبرِيّةً حَبْتريّةً ... نأتْكَ وخانتْ بالمواعيد والذممْ
أناساً عِدّي عُلّقتُ فيهم وليتني ... طلبتُ الهوى في رأس ذي زَلَقٍ أشتمّ
وقال الآخر:
ضننْتُ بنفسي حقبةً ثم أصبحتْ ... لبنتِ عطاء بينُها وجميعها
ضِبابيةً مُرّيّةً حابيّةً ... مُنيفاً بنعفِ الصّيدلَين وضيعُها
فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصباً.
ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح، أنك لو حملت الكلام على أن تجعل حالاً لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفاً. وليس هنا تعريفٌ ولا تنبيهٌ، ولا أراد أن يوقع شيئاً في حال، لقبحه ولضعف المعنى.
وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السّعدينا.
نصبه على الفخر.
وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيداً، على إلغاء كان، وشبّهه بقول الشاعر، وهو الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديارَ قوم ... وجيران لنا كانوا كرامِ
وقال: إن من أفضلهم كان رجلاً يقبح؛ لأنك لو قلت إن من خيارهم رجلاً، ثم سكتّ كان قبيحاً حتى تعرّفه بشيء، أو تقول: رجلاً من أمره كذا وكذا.
وقال: إن فيها كان زيد، على قولك: إنه فيها كان زيدٌ، وإلا فإنه لا يجوز أن تحمل الكلام على إنّ.
وقال: إن أفضلهم كان زيدٌ وإن زيداً ضربتُ، على قوله: إنه زيداً ضربت، وإنه كان أفضلهم زيدٌ. وهذا فيه قبحٌ، وهو ضعيف، وهو في الشعر جائز. ويجوز أيضاً على: إن زيداً ضربتُه، وإن أفضلَهم كانه زيد فتنصبه على إن، وفيه قبحٌ كما كان في إن.
وسألت الخليل رحمه الله تعالى عن قوله: " ويْكأنّه لا يُفلح " وعن قوله تعالى جدّه: " ويْكأن الله " فزعم أنه ويْ مفصولةٌ من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم.
وأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله.
وقال القرشي، وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سالتاني الطلاقَ أن رأتاني ... قلّ مالي، وقد جئتماني بنُكرِ
وَيْ كأنْ مَن يكن له نشبٌ يُح - بَبْ ومَن يفتقر يعِشْ عيش ضُرِّ واعلم أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان؛ وذاك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أنه قال: هم، كما قال: ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا على ما ذكرتُ لك.
وأما قوله عزّ وجلّ: " والصابئون " ، فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتدأ على قوله " والصابئون " بعدما مضى الخبر.
وقال الشاعر، بشر بن أبي خازم:
وإلا فاعلَموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شِقاقِ
كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم.
؟هذا باب كَمْ
اعلم أن لكَم موضعين: فأحدهما الاستفهام، وهو الحرف المستفهَم به، بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: الخبر، ومعناها معنى رُبّ.
وهي تكون في الموضعين اسماً فاعلاً ومفعولاً وظرفاً، ويُبنى عليها، إلا أنها لا تصرّف تصرّف يوم وليل، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرّف تحتك وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنهما حروفٌ لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام. ومثل ذلك في الكلام كثير وقد ذكر فيما مضى، وستراه فيما يُستقبَل إن شاء الله.
أما كم في الاستفهام إذا أُعملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام منوّن، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولاً على ما حُمل عليه. وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.

وإذا قال لك رجل: كم لك، فقد سألك عن عدد؛ لأن كمْ إنما هي مسألة عن عدد ههنا، فعلى المجيب أن يقول: عشرون أو ما شاء، مما هو أسماء لعدة. فإذا قال لك: كم لك درهماً؟ أو كم درهماً لك؟ ففسّر ما يسأل عنه قلت عشرون درهماً، فعملت كم في الدرهم عمل العشرين في الدرهم، ولك مبنية على كم.
واعلم أن كمْ تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم؛ لأن العشرين عددٌ منوّن وكذلك كمْ هو منوّن عندهم، كما أن خمسةَ عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا خمسةَ عشر درهماً، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منوّن. وكذلك كمْ موضعها موضع اسم منوّن، وذهبتْ منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غيرُ متمكّنين في الكلام.
وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهمَ، لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. وهذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألفَ واللام، وصيّروه الى الواحد، وحذفوا من استخفافاً كما قالوا: هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون هذا أول من الفرسان. فحُذف الكلام.
وكذلك كمْ، إنما أرادوا كم لك من الدراهم، أو كم من الدراهم لك.
وزعم أن كم درهماً لك أقوى من كم لك درهماً وإن كانت عربية جيدة. وذلك أن قولك العشرون لك درهماً فيها قبح، ولكنها جازت في كم جوازاً حسناً، لأنه كأنه صار عوضاً من التمكن في الكلام، لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخَّر فاعلةً ولا مفعولة. لا تقول: رأيتَ كم رجلاً، وإنما تقول: كم رأيت رجلاً. وتقول: كم رجلٍ أتاني، ولا تقول أتاني كم رجل. ولو قال: أتاكَ ثلاثون اليوم درهماً كان قبيحاً في الكلام، لأنه لا يقوى قوةَ الفاعل وليس مثل كم لما ذكرت لك. وقد قال الشاعر:
على أنني بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حَولاً كميلا
يذكّرنيك حنينُ العَجول ... ونوحُ الحمامة تدعو هَديلا
وكم رجلاً أتاك، أقوى من كم أتاك رجلاً، وكم ههنا فاعلة. وكم رجلاً ضربت، أقوى من كم ضربت رجلاً، وكم ههنا مفعولة.
وتقول: كم مثله لك، وكم خيراً منه لك، وكم غيره لك، كل هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين فيما زعم يونس. تقول: كم غيره مثله لك، انتصب غير بكم وانتصب المثل لأنه صفة له.
ولم يُجز يونس والخليل رحمهما الله كم غِلماناً لك، لأنك لا تقول عشرونَ ثياباً لك، إلا على وجه لك مائةٌ بيضاً، وعليك راقودٌ خَلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غِلماناً، ويقبح أن تقول كم غلماناً لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائماً فيها، كما قبح أن تقول قائماً فيها زيدٌ. وقد فسرنا ذلك في بابه.
وإذا قلت: كم عبد الله ماكثٌ، فكم أيامٌ وعبد الله فاعلٌ. وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرفٌ من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيراً للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوماً عبد الله ماكثٌ، أو كم شهراً عبد الله عندك، فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلاً ضرب عبد الله.
فإذا قلت: كم جريباً أرضُك، فأرضك مرتفعةٌ بكَم لأنها مبتدأةٌ، والأرض مبنية عليها، وانتصب الجريب لأنه ليس بمبني على مبتدإ، ولا مبتدإ، ولا وصف، فكأنك قلت: عشرون درهماً خيرٌ من عشرة.
وإن شئت قلت: كم غلمانٌ لك؟ فتجعل غلمان في موضع خبر كمْ، وتجعل لك صفةً لهم.
وسألته عن قوله: على كم جذعٍ بيتُك مبني؟ فقال: القياس النصب وهو قول عامة الناس. فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى مِن، ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفاً على اللسان، وصارت على عوضاً منها.
ومثل ذلك: اللهِ لا أفعل، وإذا قلت لاها الله لا أفعلِ لم يكن إلا الجرّ، وذلك أنه يريد لا والله، ولكنه صار ها عوضاً من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.
ومثل ذلك: اللهِ لتفعلنّ؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجرّ وحذفوا، تخفيفاً على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلاً منه في اللفظ معاقباً.
واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام غير منوّن، يجرّ ما بعده إذا أُسقط التنوين، وذلك الاسم نحو مائتي درهم، فانجرّ الدرهم لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله. والمعنى معنى رُبّ، وذلك قولك: كم غلامٍ لك قد ذهب.

فإن قال قائل: ما شأنُها في الخبر صارت بمنزلة اسمٍ غير منوّن؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل عشرين وما أشبهها، وجُعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة الى العشرة، تجرّ ما بعدها، كما جرّت هذه الحروف ما بعدها. فجاز ذا في كم حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرّفة التي هي للعدد.
واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رُبّ، لأن المعنى واحدٌ، إلا أن كم اسمٌ ورُبّ غير اسم، بمنزلة مِنْ. والدليل عليه أن العرب تقول: كم رجلٍ أفضلُ منك، تجعله خبرَ كم. أخبرناه يونس عن أبي عمرو.
واعلم أن ناساً من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يُعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسمٌ منوّن. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه رُبّ إلا أنها تنصب، لأنها منونة، ومعناها منوّنة وغير منونة سواءٌ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطُرّ شاعرٌ فقال ثلاثةٌ أثواباً كان معناه ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن ضَبّة:
إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب المسرّةُ والفتاءُ
وقال الآخر:
أنعتُ عَيراً من حميرِ خَنزرَهْ ... في كلِّ عَيرٍ مائتان كَمَرَهْ
وبعض العرب ينشد قول الفرزدق:
كم عمّةً لك يا جريرُ وخالةً ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
وهم كثيرٌ، فمنهم الفرزدق والبيت له.
وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا مِن كما جاز لهم أن يضمروا رُبّ.
وزعم الخليل أن قولهم: لاهِ أبوك ولقيتُه أمس، إنما هو على: لله أبوك، ولقيته أمس، ولكنهم حذفوا الجارّ والألف واللام تخفيفاً على اللسان، وليس كل جارّ يضمَر؛ لأن المجرور داخلٌ في الجارّ، فصارا عندهم بمنزلة حرفٍ واحد، فمن ثمّ قبُح، ولكنهم قد يُضمِرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم، لأنهم الى تخفيف ما أكثروا استعمالَه أحوج. وقال الشاعر العَنبري:
وجدّاءَ ما يُرجى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يَخشى السُّماةَ رَبيبُها
وقال امرؤ القيس:
ومثلِك بِكراً قد طرقتُ وثَيّباً ... فألهيتُها عن ذي تمائم مُغيَلِ
أي ربّ مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل.
وقال الشاعر:
ومثلَك رهبي قد تركتُ رذيّةً ... تقلّب عينيها إذا مرّ طائرُ
سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.
والتفسير الأول في كمْ أقوى؛ لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذّ إذا كان له وجهٌ جيد.
ولا يقوى قول الخليل في أمس، لأنك تقول ذهب أمس بما فيه.
وقال: إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء، استغنى عليه السكوت أو لم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منوّن، لأنه قبيحٌ أن تفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجارّ، فصارا كأنهما كلمة واحدة. والاسم المنوّن يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضاربٌ بك زيداً، ولا تقول: هذا ضاربُ بك زيدٍ. وقال زهير:
تؤمُّ سناناً وكم دونَه ... من الأرض مُدودباً غارُها
وقال القطاميّ:
كم نالني منهمُ فضلاً على عدمٍ ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ
وإن شاء رفع فجعل كمِ المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالَني، فصار كقولك: كم قد أتاني زيدٌ، فزيد فاعلٌ وكم مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيدٌ من المرار. وقد قال بعض العرب:
كم عمّةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلَبتْ عليّ عشاري
فجعل كم مراراً، كأنه قال: كم مرة قد حلبت عشاري عليّ عمّاتك. وقال ذو الرمة، ففصل بين الجارّ والمجرور:
كأن أصوات، مِن إيغالهن بنا، ... أواخر الميسِ أصواتُ الفراريجِ
وقال الآخر:
فكم قد فاتني بطلٌ كميٌّ ... وياسرُ فتيةٍ سمحٌ هَضومُ
وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجزٌ، فتقول: كم فيها رجلٍ، كما قال الأعشى:
إلا عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نهدِ الجُزارَهْ
فإن قال قائلٌ: أضمر مِن بعد فيها. قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجارّ، ومع ذلك إن وقوعها بعد كم أكثر. وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجز، على قول الشاعر:

كم بجودٍ مقرفٌ نال العُلى ... وكريمٌ بخلُه قد وضَعهْ
الجرّ والرفع والنصب على ما فسّرناه، كما قال:
كم فهيم ملكٍ أغرَّ وسوقةٍ ... حكمٍ بأرديةِ المكارم مُحتبى
وقال:
كم في سعدِ بن بكر سيدٍ ... ضخمِ الدّسيعة ماجدٍ نفّاعِ
وتقول: كم قد أتاني لا رجلٌ ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبدٌ ولا عبدان. فهذا محمول على ما حُمل عليه كم لا على ما تعمل فيه كم، كأنك قلت: لا رجلٌ أتاني ولا رجلان، ولا عبدٌ لك ولا عبدان. وذاك لأن كم تفسّر ما وقعتْ عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت عشرون درهماً، أو بجميع منكور، نحو ثلاثة أثواب. وهذا جائزٌ في التي تقع في الخبر. فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.
ولو قلت: كم لا رجلاً ولا رجلين، في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز، لأنه ليس هكذا تفسيرُ العدد، ولو جاز ذا لقلت: له عشرون لا عبداً ولا عبدين، فلا رجلٌ ولا رجلان توكيدٌ لكم لا للذي عمل فيه، لأنه لو كان عليه كان محالاً، وكان نقضاً.
ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبداً؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبُدٍ، حمل الكلام على ما حمل عليه كم، ولم يُرد السائل من المسئول أن يفسّر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر العدد حتى يجيبه المسئول عن العدد، ثم يفسره بعد إن شاء، فيعمل في الذي يفسر به العدد كما أعمل السائل كم في العبد، ولو أراد المسئول عن ذلك أن ينصب عبداً أو عبدين على كم، كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبداً فيصير سائلاً.
ومع ذلك أنه لا يجوز لك أن تُعمل كم وهي مضمرة في واحدٍ من الموضعين، لأنه ليس بفعل ولا اسم أُخذ من الفعل، ألا ترى أنه إذا قال المسئول عبدين أو ثلاثة أعبدٍ فنصب على كم، أنه قد أضمر كم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: كم غلاماً لك ذاهبٌ؟ تجعل لك صفةً للغلام، وذاهباً خبراً لكم.
ومن ذلك أن تقول: كم منكم شاهدٌ على فلان، إذا جعلت شاهداً خبراً لكم، وكذلك هو في الخبر أيضاً، تقول: كم مأخوذٌ بك، إذا أردت أن تجعل مأخوذاً بك في موضع لك إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم، ولكنه مبنيٌّ عليها، كأنك قلت كم رجلٍ لك وإن كان المعنيان مختلفين، لأن معنى كم مأخوذٌ بك؛ غير معنى كم رجلٍ لك، ولا يجوز في رُبّ ذلك، لأن كم اسمٌ وربّ غير اسم، فلا يجوز أن تقول رُبّ رجلٌ لك.
؟
هذا باب
ما جرى مجرى كم في الاستفهاموذلك قولك: له كذا وكذا درهماً، وهو مبهمُ في الأشياء بمنزلة كم، وهو كنايةٌ للعدد، بمنزلة فلان إذا كنيتَ به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذَيّةَ وذيةَ، وذيتَ وذيتَ، وكيتَ وكيتَ. صار ذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
وكذلك كأيّنْ رجلاً قد رأيتُ، زعم ذلك يونس، وكأيّن قد أتاني رجلاً. إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مع مِن؟ قال عزّ وجل: " وكأيّنْ مِن قريةٍ " . وقال عمرو بن شأس:
وكائنْ رددنا عنكمُ مِن مُدجِجٍ ... يجيء أمام الألفِ يَردي مُقنّعا
فإنما ألزموها مِن لأنها توكيد، فجُعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولاسيما زيدٍ، فربّ توكيدٍ لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة.
وكأيّنْ معناها معنى رُبّ. وإن حذفتَ مِن وما فعربي.
وقال: إن جرّها أحدٌ من العرب فعسى أن يجرّها بإضمار مِن كما جاز ذلك فيما ذكرنا في كم.
وقال: كذا وكأيّن عملتا فيما بعدهما كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلُهم رجلاً، فصار أيٌّ وذا بمنزلة التنوين، كما كان هُم بمنزلة التنوين.
وقال الخليل رحمه الله كأنهم قالوا: له كالعدد درهماً، وكالعدد من قرية. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به.
وإنما تجيء الكاف للتشبيه، فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولُك: كأن، أدخلتَ الكاف على أنّ للتشبيه.
؟
هذا باب ما ينصب نصب كمإذا كانت منوّنة في الخبر والاستفهام
وذلك ما كان من المقادير، وذلك قولك: ما في السماء موضع كفّ سحاباً، ولي مثلُه عبداً، وما في الناس مثلُه فارساً، وعليها مثلُها زُبداً.

وذلك أنك أردت أن تقول: لي مثلُه من العبيد، ولي ملؤه من العسل، وما في السماء موضع كفّ من السحاب، فحذف ذلك تخفيفاً كما حذفه من عشرين حين قال: عشرون درهماً، وصارت الأسماء المضافُ إليها المجرورةُ بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولاً على ما حُملت عليه، فانتصب بملءِ كفّ ومثلِه، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن مثل بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين، لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.
وزعم الخليل رحمه الله أن المجرور بدلٌ من التنوين، ومع ذلك أنك إذا قلت لي مثلُه فقد أبهمتَ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهماً فقد اختصصتَ نوعاً، وبه يُعرَفُ من أي نوع ذلك العدد. فكذلك مثلُه هو مبهَم يقع على أنواع: على الشجاعة، والفروسة، والعبيد. فإذا قال عبداً فقد بيّن من أي أنواع المِثلُ. والعبدُ ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعاً، والنوع هو المِثل ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس من العشرين ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب العشرون، ويُحذف من النوع كما يُحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دَيناً، الشَّعر مقدارٌ. وكذلك: لي ملء الدار خيراً منك، ولي خيرٌ منك عبداً، ولي ملء الدار أمثالَك، لأن خيراً منك نكرةٌ، وأمثالك نكرةٌ.
وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلاً، وأنت تريد جميعاً، فيجوز ذلك، ويكون كمزلته في كم وعشرين.
وإن شئت قلت: رجالاً، فجاز عنده كما جاز عنده في كم حين دخل فيها معنى رُبّ؛ لأن المقدار معناه مخالفٌ لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره الواحد والجميع كما جاز في كم إذ دخلها معنى رُبّ، كما تقول ثلاثةٌ أثواباً، أي من ذا الجنس، تجعله بمنزلة التنوين.
ومثل ذلك: لا كزيدٍ فارساً، إذا كان الفارسُ هو الذي سميته، كأنك قلت: لا فارسَ كزيد فارساً. وقال كعب بن جعيل:
لنا مِرفَدٌ سبعون ألف مُدجّج ... فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفدا
كأنه قال: فهل في معدّ مرفدٌ فوق ذلك مرفداً.
ومثل ذلك: تالله رجلاً، كأنه أضمر تالله ما رأيتُ كاليوم رجلاً، وما رأيت مثلَه رجلاً.
؟باب ما ينتصب انتصابَ الاسم بعد المقادير
وذلك قولك: ويحَه رجلاً، ولله درُّه رجلاً، وحسبُك به رجلاً، وما أشبه ذلك. وإن شئت قلت: ويحَه من رجلٍ، وحسبُك به من رجل، ولله درُّه من رجل، فتدخل من ههنا كدخولها في كم توكيداً. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول، فصارت الهاء بمنزلة التنوين.
ومع هذا أيضاً أنك إذا قلت وحيه فقد تعجّبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجّبت، وأي الأنواع تعجبّت منه. فإذا قلت فارساً وحافظاً فقد اختصصت ولم تُبهم، وبيّنت في أي نوع هو.
ومثل ذلك قول عباس بن مرداس:
ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبدّدوا ... ويطعنُهم شَزراً فأبرحْتَ فارسا
فكأنه قال: فكفى بك فارساً، وإنما يريد كفيتَ فارساً. ودخلتْه هذه الباء توكيداً.
ومن ذلك قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيلُ ... فأبْرحتَ رباً وأبرحتَ جارا
ومثله: أكرمْ به رجلاً.
؟باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَرا
وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا كما جرتْ إن بمنزلة الفعل الذي تقدّم مفعولُه قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم، كما لزمتْ إن هذه الطريقة في كلامهم.
وما انتصب في هذا الباب فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب حسبُك به وويحه، وذلك قولهم: نِعمَ رجلاً عبدُ الله، كأنك قلت: حسبُك به رجلاً عبدُ الله؛ لأن المعنى واحد.
ومثل ذلك: رُبّه رجلاً، كأنك قلت: ويحه رجلاً، في أنه عمل فيما بعده، كما عمل ويحه فيما بعده لا في المعنى. وحسبُك به رجلاً مثل نِعم رجلاً في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة.
ولا يجوز لك أن تقول نعمَ ولا رُبّه وتسكت، لأنهم إنما بدؤوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدّم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز عليه السكوت نحو زيدٌ ضربتُه إنما أضمر بعد ما ذكر الاسم مظهراً، فالذي تقدم من الإضمار لازمٌ له التفسير حتى يبيّنه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.

ومما يضمر لأنه يفسّره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إنه كِرامٌ قومُك، وإنه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كأنه في التقدير - وإن كان لا يُتكلم به - قال: إن الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كله خبراً للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره.
وأما قولهم: نعم الرجل عبد الله، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله، عمل نِعم في الرجل ولم يعمل في عبدُ الله.
وإذا قال: عبد الله نعمَ الرجلُ، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كأنه قال نِعمَ الرجلُ فقيل له مَن هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال عبدُ الله فكأنه فقيل له: ما شأنه؟ فقال: نِعم الرجل.
فنعمَ تكون مرة عاملةً في مضمر يفسّره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة ويحه ومثلَه، ثم يعملان في الذي فسّر المضمر عمل مثله وويحه إذا قلت لي مثله عبداً. وتكون مرةً أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه. فهي مرة بمنزلة رُبّه رجلاً، ومرة بمنزلة ذهب أخوه، فتجري مجرى المضمر الذي قُدّم لما بعده من التفسير وسدّ مكانه، لأنه قد بيّنه، وهو نحو قولك: أزيداً ضربتَه.
واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعمَ الرجل، والرجلُ غيرُ عبد الله، كما أنه محال أن تقول عبد الله هو فيها، وهو غيره.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومُك نِعمَ صغارُهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعمَ الصغار ونعم الكبار، وقومُك نعمَ القومُ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلهم صالحٌ، كما أنك إذا قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمةٍ كلهم صالح، ولم ترد أن تعرّف شيئاً بعينه بالصلاح بعد نعمَ.
ومثل ذلك قولك: عبدُ الله فارِهُ العبدِ فاره الدابة؛ فالدابة لعبد الله ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، ولست تريد أن تُخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول إن في مِلكِ زيد العبدَ الفارِه والدابة الفارهة؛ إذ لم ترد عبداً بعينه ولا دابةً بعينها. فالاسمُ الذي يظهر بعد نعمَ إذا كانت نِعمَ عاملةَ فيه الاسمُ الذي فيه الألف واللام، نحو الرجل، وما أضيف إليه وما أشبهه نحو غلام الرجل، إذا لم ترد شيئاً بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في رُبّ قد يُبدأ بإضمار الرجل قبله حين قلت: رُبّه رجلاً لما ذكرتُ لك، وتبدأ بإضمار الرجل في نعمَ لما ذكرتُ لك. فإنما منعك أن تقول نعمَ الرجلَ إذا أضمرتَ أنه لا يجوز أن تقول حسبُك به الرجل، إذا أردت معنى حسبُك به رجلاً.
ومن زعم أن الإضمار الذي في نعمَ هو عبد الله، فقد ينبغي له أن يقول نعمَ عبد الله رجلاً، وقد ينبغي له أن يقول: نعمَ أنت رجلاً، فتجعل أنت صفةً للمضمَر.
وإنما قبُح هذا المضمر أن يوصَف لأنه مبدوء به قبل الذي يفسّره، والمضمَر المقدَّم قبل ما يفسّره لا يوصَف، لأنه إنما ينبغي لهم أن يبيّنوا ما هو.
فإن قال قائل: هو مضمر مقدّم، وتفسيره عبد الله بدلاً منه محمولاً على نعمَ، فأنت قد تقول عبد الله نعمَ رجلاً، فتبدأ به، ولو كان نعمَ يصير لعبد الله لما قلت عبدُ الله نعمَ الرجلُ فترفعه، فعبد الله ليس من نعمَ في شيء، والرجل هو عبدُ الله ولكنه منفصلٌ منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه. فهذا تقديره وليس معناه كمعناه.
ويدلّك على أن عبد الله ليس تفسيراً للمضمَر أنه لا يعمل فيه نعمَ بنصبٍ ولا رفع ولا يكون عليها أبداً في شيء.
واعلم أن نعمَ تؤنّث وتذكّر، وذلك قولك: نعمتِ المرأةُ، وإن شئت قلت: نعمَ المرأةُ، كما قالوا ذهبَ المرأة. والحذفُ في نعمت أكثر.
واعلم أنك لا تُظهر علامةَ المضمرين في نعمَ، لا تقول: نِعْموا رجالاً، يكتفون بالذي يفسّره كما قالوا مررتُ بكلٍّ. وقال الله عزّ وجلّ: " وكلٌّ آترهُ داخرين " ، فحذفوا علامة الإضمار وألزموا الحذف، كما ألزموا نِعمَ وبئسَ الإسكان، وكما ألزموا خُذ الحذف، ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.
وأصلُ نعمَ وبئسَ: نعم وبئسَ، وهما الأصلان اللذان وُضعا في الرّداءة والصلاح، ولا يكونُ منهما فعلٌ لغير هذا المعنى.
وأما قولهم: هذه الدار نعمتِ البلدُ فإنه لما كان البلد الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أمَّك، وما جاءت حاجتَك.

ومن قال نعمَ المرأةُ قال نعمَ البلدُ، وكذلك هذا البلد نعمَ الدارُ، لما كانت البلد ذُكّرتْ. فلزم هذا في كلامهم لكثرته، ولأنه صار كالمثَل، كما لزمت التاء في ما جاءت حاجتَ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو لبعض السّعديين:
هل تعرفُ الدار يعفّيها المُورْ ... والدّجْنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
لكلّ ريحٍ فيه ذيلٌ مسفورْ فقال فيه لأن الدارَ مكانٌ، فحمله على ذلك.
وزعم الخليل رحمه الله أن حبّذا بمنزلة حبّ الشيء، ولكن ذا وحبّ بمنزلة كلمة واحدة نحو لولا، وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابنَ عمَّ، فالعمُّ مجرورٌ، ألا ترى أنك تقول للمؤنّث حبّذا ولا تقول حبّذهِ، لأنه صار مع حبّ على ما ذكرتُ لك، وصار المذكّر هو اللازم، لأنه كالمثَل.
وسألتُه عن قوله: وهو الراعي:
فأومأْتُ إيما خفيّاً لحبترٍ ... ولله عينا حبترٍ أيُّما فتى
فقال: أيّما تكون صفةً للنكرة، وحالاً للمعرفة، وتكون استفهاماً مبنياً عليها ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك أتَوْني إلا زيداً. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيّما رجلٍ، ولا أتَوْني إلا أيّما رجلٍ، فالنصبُ في: لي مثلُه رجلاً، كالنصب في عشرين رجلاً.
فأيّما لا تكون في الاستثناء، ولا يختصّ بها نوع من الأنواع، ولا يُفسَّر بها عدد.
وأيّما فتى استفهامٌ. ألا ترى أنك تقول سُبحان الله مَن هو وما هو فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبراً لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول مَن هو وتسكت.
وأما أحدٌ وكَرّابٌ وأرمٌ وكَتيعٌ وعريبٌ، وما أشبه ذلك، فلا يقعن واجباتٍ ولا حالاً ولا استثناء، ولا يُستخرج به نوعٌ من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً، ولكنهن يقعن في النفي مبنياً عليهن ومبنية على غيرهن. فمن ثم تقول: ما في الناس مثلُه أحدٌ، حملتَ أحداً على مثل ما حملت عليه مثلاً. وكذلك ما مررت بمثلِك أحدٍ، وقد فسّرنا لمَ ذلك. فهذه حالُها كما كانت تلك حال أيّما.
فإذا قلت: له عسلٌ ملءُ جرّة، وعليه دَينٌ شَعَرُ كلبين، فالوجهُ الرفع، لأنه وصفٌ. والنصب يجوز كنصب عليه مائةٌ بيضاً بعد التمام.
وإن شئت قلت: لي مثلُه عبدٌ، فرفعتَ. وهي كثيرة في كلام العرب. وإن شئت رفعتَه على أنه صفةٌ وإن شئت كان على البدل.
فإذا قلت: عليها مثلُها زُبدٌ، فإن شئت رفعت على البدل، وإن شئت رفعت على قوله ما هو؟ فتقول: زبدٌ، أي هو زُبدٌ. ولا يكون الزبد صفةً لأنه اسم. والعبد يكون صفةً، وتقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وهو قبيح لأنه اسم.
؟
هذا باب النداءاعلم أن النداء، كل اسم مضاف فيه فهو نصبٌ على إضمار الفعل المتروك إظهارُه. والمفرد رفعٌ وهو في موضع اسمٍ منصوب.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم نصبوا المضافَ نحو يا عبدَ الله ويا أخانا، والنكرة حين قالوا: يا رجلاً صالحاً، حين طال الكلام، كما نصبوا: هو قبلَك وهو بعدَك. ورفعوا المفردَ كما رفعوا قبلُ وبعدُ وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيدُ ويا عمرو. وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبلُ.
قلت: أرأيتَ قولهم يا زيدُ الطويلَ علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفةٌ لمنصوب. وقال: وإن شئت كان نصباً على أعني.
فقلت: أرأيتَ الرفعَ على أي شيء هو إذا قال يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفةٌ لمرفوع.
قلت: ألستَ قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلمَ لا يكون كقوله لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبداً، وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجروراً، فلما اطّرد الرفعُ في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفَه إذا كان مفرداً بمنزلته.
قلت: أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيدُ أخا ورقاءَ إن كنتَ ثائراً ... فقد عرضَتْ أحناءُ حقٍ فخاصمِ
لأي شيء لم يجز فيه الرفعُ كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد؛ وهذا لحنٌ. فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته، لأنه هنا وصفٌ لمنادى في موضع نصبٍ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب، ولم يكن فيه ما كان في الطويل لطوله.

وقال الخليل رحمه الله: كأنهم لما أضافوا ردّوه الى الأصل. كقولك: إن أمسَك قد مضى.
وقال الخليل رحمه الله وسألته عن يا زيد نفسَه، ويا تميمُ كلَّكم، ويا قيسُ كلَّهم، فقال: هذا كلّه نصبٌ، كقولك: يا زيدُ ذا الجُمّة. وأما يا تميمُ أجمعون فأنته فيه بالخيار، إن شئت قلت أجمعون، وإن شئت قلت أجميعن، ولا ينتصب على أعني، من قبل أنه مُحال أن تقول أعني أجمعين. ويدلّك على أن أجمعين ينتصب لأنه وصفٌ لمنصوب قول يونس: المعنى في الرفع والنصب واحدٌ. وأما المضاف في الصفة فهو ينبغي له أن لا يكون إلا نصباً إذا كان المفردُ ينتصب في الصفة.
قلت: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيداً أقبل؟ قال: عطفوه على هذا المنصوب فصار نصباً مثله، وهو الأصل، لأنه منصوب في موضع نصبٍ. وقال قوم: يا أخانا زيدُ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله: وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قولُه يا زيدُ أخانا بمنزلة يا أخانا، فيُحملُ وصفُ المضاف إذا كان مفرَداً بمنزلته إذا كان منادى. ويا أخانا زيداً أكثرُ في كلام العرب؛ لأنهم يردّونه الى الأصل حيث أزالوه عن الموضع الذي يكون فيه منادى، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى أصله، وكما ردوا أتقولُ حين جعلوه خبراً الى أصله. فأما المفرد إذا كان منادى فكلُ العرب ترفعه بغير تنوين، وذلك لأنه كثُر في كلامهم، فحذفوه وجعلوه بمنزلة الأصوات نحو حَوب وما أشبهه.
وتقول: يا زيدُ زيدُ الطويل، وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول يا زيدُ زيداً الطويلَ. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يا زيدُ الطويلٌ، وتفسيره كتفسيره. وقال رؤبة:
إني وأسطارٍ سُطِرنَ سطرا ... لَقائلٌ يا نصرُ نصراً نصرا
وأما قول رؤبة فعلى أنه جعل نصراً عطفَ البيان ونصبَه، كأنه على قوله يا زيدُ زيداً. وأما قول أبي عمرو فكأنه استأنف النداء. وتفسير يا زيدُ زيدُ الطويلُ كتفسير يا زيدُ الطويلُ، فصار وصفُ المفرد إذا كان مفرداً بمنزلته لو كان منادى. وخالف وصف أمسِ لأن الرفع قد اطّرد في كل مفردٍ في النداء. وبعضُهم ينشد: ين نصرُ نصرُ نصرا وتقول: يا زيدُ وعمرو، ليس إلا لأنهما قد اشتركا في النداء في قوله يا. وكذلك يا زيدُ وعبد الله، ويا زيدُ لا عمرو، ويا زيدُ أو عمرو؛ لأن هذه الحروف تُدخل الرفعَ في الآخِر كما تدخل في الأول، وليس ما بعدها بصفة، ولكنه على يا.
وقال الخليل رحمه الله من قال يا زيدُ والنّضْرَ فنصب، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُردّ فيها الشيء الى أصله. فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيدُ والنضرُ. وقرأ الأعرج: " يا جِبالُ أوّبي معه والطيرُ " . فرفع.
ويقولون: يا عمرو والحارثُ، وقال الخليل رحمه الله: هو القياس، كأنه قال: ويا حارثُ. ولو حمل الحارثُ على يا كان غيرَ جائز البتة نصب أو رفع، من قبل أنك لا تنادي اسماً فيه الألفُ واللام بيا، ولكنك أشركت بين النضر والأول في يا، ولم تجعلها خاصة للنضر، كقولك ما مررت بزيد وعمرو، ولو أردت عملين لقلت ما مررتُ بزيد ولا مررتُ بعمرو.
وقال الخليل رحمه الله: ينبغي لمن قال النّضرَ فنصب، لأنه لا يجوز يا النضرُ، أن يقول: كلُّ نعجةٍ وسخلتها بدرهمٍ فينصب، إذا أراد لغة من يجرّ، لأنه محال أن يقول كل سخلتها، وإنما جرّ لأنه أراد وكلُّ سخلةٍ لها. ورفع ذلك لأن قوله والنضرُ بمنزلة قوله ونضرُ، وينبغي أن يقول: أيُّ فتى هيجاء أنتَ وجارَها لأنه محالٌ أن يقول وأيُّ جارِها.
وينبغي أن يقول: رُبّ رجلٍ وأخاه. فليس ذا من قبل ذا، ولكنها حروفٌ تُشرك الآخِر فيما دخل فيه الأول. ولو جاءت تلي ما وليه الاسم الأول كان غير جائز؛ لو قلت: هذا فصيلها لم يكن نكرة كما كان هذه ناقة وفصيلها. وإذا كان مؤخَّراً دخل فيما دخل فيه الأول.
وتقول: يا أيها الرجل وزيدُ، ويا أيّها الرجلُ وعبدَ الله؛ لأن هذا محمول على يا، كما قال رؤبة: يا دارَ عفراءَ ودارَ البَخدَنِ وتقول يا هذا ذا الجمة، كقولك: يا زيدُ ذا الجمّة، ليس بين أحدٍ فيه اختلاف.
؟
باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعاً
ولا يقع في موقعه غيرُ المفرد
وذلك قولك، يا أيها الرجلُ، ويا أيها الرجلان، ويا أيها المرأتان.

فأي ههنا فيما زعم الخليل رحمه الله كقولك يا هذا، والرجل وصفٌ له كما يكون وصفاً لهذا. وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا تستطيع أن تقول يا أيُّ ولا يا أيها وتسكت، لأنه مبهَم يلزمه التفسيرُ، فصار هو والرجل بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت يا رجل.
واعلم أن الأسماء المبهَمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام تُنزَل بمنزلة أي، وهي هذا وهؤلاء وأولئك وما أشبهها، وتوصَف بالأسماء. وذلك قولك، يا هذا الرجلُ، ويا هذان الرجلان. صار المبهَم وما بعده بمنزلة اسمٍ واحد.
وليس ذا بمنزلة قولك يا زيدُ الطويل، من قبل أنك قلت يا زيدُ وأنت تريد أن تقف عليه، ثم خِفْتَ أن لا يُعرف فنعتّه بالطويل. وإذا قلت يا هذا الرجل، فأنت لم ترد أن تقف على هذا ثم تصفه بعد ما تظن أنه لم يُعرف، فمن ثم وُصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام، لأنها والوصف بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
فهذه الأسماء المبهمة إذا فسرتها تصير بمنزلة أي، كأنك إذا أردت أن تفسّرها لم يجزْ لك أن تقف عليها. وإنما قلت: يا هذا ذا الجمة، لأن ذا الجمة لا توصف به الأسماء المبهمة، إنما يكون بدلاً أو عطفاً على الاسم إذا أردت أن تؤكد، كقولك: يا هؤلاء أجمعون، وإنما أكدت حين وقفتَ على الاسم. والألف واللام والمبهَم يصيران بمنزلة اسم واحد، يدلك على ذلك أن أي لا يجوز لك فيها أن تقول يا أيها ذا الجُمّة. فالأسماء المبهمة توصَف بالألف واللام ليس إلا، ويفسَّر بها، ولا توصَف بما يوصف به غير المبهمة، ولا تفسَّر بما يفسّر به غيرها إلا عطفاً. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو ابن لَوذان السدوسي:
يا صاح يا ذا الضامر العنْس ... والرّحْلِ ذي الأنساع والحِلسِ
ومثله قول ابن الأبرص:
يا ذا المخوّفُنا بمقتل شيخِه ... حُجرٍ تمني صاحبِ الأحلامِ
ومثله يا ذا الحسن الوجه. وليس ذا بمنزلة يا ذا ذا الجمة، من قبل أن الضامر العنسِ والحسن الوجه كقولك: يا ذا الضامر ويا ذا الحسن، وهذا المجرور ها هنا بمنزلة المنصوب إذا قلت يا ذا الحسن الوجه، ويا ذا الحسنُ وجهاً. ويدلك على أنه ليس بمنزلة ذي الجمة، أن ذا معرفة بالجمة، والضامرُ والحسن ليس واحدٌ منهما معرفةً بما بعده، ولكن ما بعده تفسيرٌ لموضع الضمور والحُسن، إذا أردت أن لا تُبهمهما. فكلّ واحد من المواضع من سبب الأول، لا يكونان إلا كذلك. فإذا قلت الحسن فقد عمّمتَ. فإذا قلت الوجهِ فقد اختصصت شيئاً منه. وإذا قلت الضامرُ فقد عمّمت، وإذا قلت العنس فقد اختصصتَ شيئاً من سببه كما اختصصت ما كان منه، وكأن العنسَ شيءٌ منه، فصار هذا تبييناً لموضع ما ذكرتَ كما صار الدرهمُ يبيَّن به ممّ العشرون، حين قلت: عشرون درهماً.
ولو قلت: يا هذا الحسن الوجه، لقلت يا هؤلاء العشرين رجلاً، وهذا بعيد، فإنما هو بمنزلة الفعل إذا قلت يا هذا الضارب زيداً، ويا هذا الضارب الرجلَ، كأنك قلت يا هذا الضارب، وذكرت ما بعده لتبيّن موضع الضرب ولا تبهمه، ولم يُجعَل معرفةً بما بعده. ومن ثم كان الخليل يقول: يا زيد الحسنُ الوجه، قال: هو بمنزلة قولك يا زيدُ الحسن. ولو لم يجز فيما بعد زيد الرفع لما جاز في هذا، كما أنه إذا لم يجز يا زيد ذو الجمة لم يجز يا هذا ذو الجمة.
وقال الخليل رحمه الله: إذا قلت يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكونُ عطفاً عليه، فأنت فيه بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت، وذلك قولك يا هذا زيد، وإن شئت قلت زيداً، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين. وكذلك يا هذان زيدٌ وعمرو، وإن شئت قلت زيداً وعمراً، فتُجري ما يكون عطفاً على الاسم مُجرى ما يكون وصفاً، نحو قولك: يا زيدُ الطويلُ ويا زيدُ الطويلَ.
وزعم لي بعض العرب أن يا هذا زيدٌ كثير في كلام طيّء.
ويقوّي يا زيد الحسنُ الوجه - ولا تلتفتْ فيه الى الطول - أنك لا تستطيع أن تناديه فتجعله وصفاً مثلَه منادى.

واعلم أن هذه الصفات التي تكون والمبهمة بمنزلة اسم واحد، إذا وُصفت بمضاف أو عُطف على شيء منها، كان رفعاً، من قبل أنه مرفوع غيرُ منادى. واطّرد الرفع في صفات هذه المبهمة كاطراد الرفع في صفاتها إذا ارتفعت بفعلٍ أو ابتداء، أو تبنى على مبتدأ، فصارت بمنزلة صفاتها إذا كانت في هذه الحال. كما أن الذين قالوا يا زيدُ الطويل جعلوا زيداً مبنزلة ما يرتفع بهذه الأشياء الثلاثة. فمن ذلك قول الشاعر: يا أيها الجاهلُ ذو التنزّي وتقول: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ، وإنما تنوّن لأنه موضعٌ يرتفع فيه المضاف، وإنما يُحذف منه التنوين إذا كان في موضع ينتصب فيه المضاف.
وتقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة، إذا جعلته صفةً للطويل، وإن حملته على زيد نصبت. فإذا قلت يا هذا الرجلُ فأردتَ أن تعطف ذا الجمة على هذا جاز فيه النصب، ولا يجوز ذلك في أي لأنه لا تعطف عليه الأسماء. ألا ترى أنك لا تقول: يا أيها ذا الجمة، فمن ثم لم يكن مثله.
وأما قولك يا أيها ذا الرجل، فإن ذا وصفٌ لأي كما كان الألف واللام وصفاً لأنه مبهَم مثله، فصار صفةً له كما صار الألف واللام وما أضيف إليهما صفةً للألف واللام؛ وذلك نحو قولك: مررتُ بالحسن الجميل، وبالحسن ذي المال. وقال ذو الرمة:
ألا أيها ذا المنزلُ الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحيَّ عاهدُ
ومن قال يا زيدُ الطويلَ قال ذا الجمّة، لا يكون فيه غيرُ ذلك إذا جاء بها من بعد الطويل. وإن رفع الطويلَ وبعده ذو الجمة كان فيه الوجهان.
وتقول: يا زيدُ النّاكي العدوَّ وذا الفضل، إن حملتَ ذا الفضل على زيد نصبتَ، لأنه وصفٌ لمنادى وهو مضاف. وإن حملته على غير زيد انتصب على يا كأنك قلت: ويا ذا الفضل.
؟
هذا باب
ما ينتصب على المدح والتعظيم أو الشتملأنه لا يكون وصفاً للأول ولا عطفاً عليه وذلك قولك: يا أيها الرجل وعبدَ الله المسلمَين الصالحَين. وهذا بمنزلة قولك: اصنعْ ما سرّ أباك وأحبّ أخوك الرجلين الصالحين. فإذا قلت يا زيد وعمرو ثم قلت الطويلين، فأنت بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت؛ لأنه بمنزلة قولك يا زيدُ الطويلُ.
وتقول: يا هؤلاء وزيدُ الطّوالُ والطوالَ؛ لأنه كله رفعٌ، والطوالُ ها هنا رفع عطف عليهم.
وتقول: يا هذا ويا هذان الطوالَ، وإن شئت قلت الطوالُ، لأن هذا كله مرفوع والطوالُ ههنا عطفٌ، وليس الطوالُ بمنزلة يا هؤلاء الطوالُ، لأن هذا إنما هو من وصف غير المبهَمة.
وإنما فرقوا بين العطف والصفة لأن الصفة تجيء بمنزلة الألف واللام، كأنك إذا قلت مررتُ بزيدٍ أخيك فقد قلت مررتُ بزيد الذي تعلم. وإذا قلت مررت بزيد هذا فقد قلت بزيدٍ الذي ترى أو الذي عندك.
وإذا قلت مررتُ بقومك كلهم، فأنت لا تريد أن تقول مررتُ بقومك الذين من صفتهم كذا وكذا، ولا مررتُ بقومك الهَنينَ.
وعلى هذا المثال جاء مررتُ بأخيك زيدٍ، فليس زيدٌ بمنزلة الألف واللام. ومما يدلك على أنه ليس بمنزلة الألف واللام أنه معرفةٌ بنفسه لا بشيء دخل فيه ولا بما بعده. فكل شيء جاز أن يكون هو والمبهَم بمنزلة اسم واحد هو عطفٌ عليه. وإنما جرت المبهَمة هذا المجرى لأن حالها ليس كحال غيرها من الأسماء.
وتقول يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين، من قبل أن رفعهما مختلف؛ وذلك أن زيداً على النداء والرجل نعت، ولو كان بمنزلته لقلت يا زيدُ ذو الجُمة، كما تقول يا أيها الرجل ذو الجمة. وهو قول الخليل رحمه الله.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادي اسماً فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسماً بمنزلة زيد وعمرو غالباً. ألا ترى أنك تقول يا أيها الذي قال ذاك، ولو كان اسماً غالباً بمنزلة زيد وعمرو لم يجز ذا فيه، وكأن الاسم والله أعلمُ إلهٌ، فلما أُدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلَفاً منها. فهذا أيضاً مما يقوّيه أن يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف.

ومثل ذلك أناسٌ، فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس؛ إلا أن الناس قد تفارقهم الألف واللام ويكون نكرة، واسمُ الله تبارك وتعالى لا يكون فيه ذلك.
وليس النّجم والدبرانُ بهذه المنزلة؛ لأن هذه الأشياء الألف واللام فيها بمنزلتها في الصّعق، وهي في اسم الله تعالى بمنزلة شيء غير منفصل في الكلمة، كما كانت الهاء في الجحاجحة بدلاً من الياء، وكما كانت الألف في يَمانٍ بدلاً من الياء.
وغيّروا هذا لأن الشيء إذا كثُر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره مما هو مثلُه. ألا ترى أنك تقول: لم أكُ ولا تقول لم أقُ، إذا أردت أقُلْ. وتقول: لا أدرِ كما تقول: هذا قاضٍ، وتقول لم أُبَل ولا تقول لم أرَمْ تريد لم أُرامِ. فالعرب مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره.
وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداءٌ والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه الله آخرَ الكلمة بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها. فالميم في هذا الاسم حرفان أولُهما مجزومٌ، والهاء مرتفعةٌ لأنه وقع عليها الإعراب.
وإذا ألحقتَ الميم تصف الاسم، من قبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة صوتٍ كقولك: يا هناهْ.
وأما قوله عز وجلّ: " اللهمّ فاطرَ السموات والأرض " فعلى يا، فقد صرّفوا هذا الاسم على وجوه لكثرته في كلامهم، ولأن له حالاً ليست لغيره.
وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أي توكيداً، فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت: يا أيها، وصار الاسم بينهما كما صار هو بين ها وذا إذا قلت ها هو ذا. وقال الشاعر:
من أجلك يا التي تيّمتِ قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالودّ عني
شبّهه بيا الله.
وزعم الخليل رحمه الله أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيها الفاسقُ ويا أيها الرجل، وصار معرفةً لأنك أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه ذلك، وصار معرفةً بغير ألف ولام لأنك إنما قصدت قصدَ شيء بعينه. وصار هذا بدلاً في النداء من الألف واللام، واستُغني به عنهما كما استغنيت بقولك اضربْ عن لتضربْ، وكما صار المجرور بدلاً من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلاً من رأيتُ إياكَ.
وإنما يُدخلون الألف واللام ليعرّفوك شيئاً بعينه قد رأيتَه أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحداً من أمة، فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في النداء.
ومما يدلك على أن يا فاسقُ معرفة قولك: يا خباثِ ويا لَكاعِ ويا فساقِ، تريد يا فاسقةُ ويا خبيثةُ ويا لَكعاءُ، فصار هذا اسماً لهذا كما صارت جَعار اسماً للضّبُع، وكما صارت حَذام ورقاش اسماً للمرأة، وأبو الحارث اسماً للأسد.
ويدلك على أنه اسم للمنادى أنهم لا يقولون في غير النداء جاءتني خَباثِ ولَكاعِ، ولا لُكَع ولا فُسَقُ. فإنما اختُصّ النداء بهذا الاسم أن الاسم معرفة، كما اختُص الأسد بأبي الحارث إذ كان معرفة. ولو كان شيء من هذا نكرةً لم يكن مجروراً؛ لأنها لا تُجرّ في النكرة.
ومن هذا النحو أسماء اختُص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير النداء، نحو: يا نومانُ، ويا هناء، ويا فل.
ويقوّي ذلك كله أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ.
ومما يقوّي أنه معرفة تركُ التنوين فيه، لأنه ليس اسمٌ يشبه الأصوات فيكون معرفةً إلا لم ينوّن، وينوّن إذا كان نكرة. ألا ترى أنهم قالوا هذا عمرَوَيْهِ وعمرَوَيهٍ آخرُ.
وقال الخليل رحمه الله: إذا أردت النكرة فوصفتَ أو لم تصف فهذه منصوبة؛ لأن التنوين لحقها فطالت، فجُعلت بمنزلة المضاف لما طال نُصب ورُدّ الى الأصل، كما فُعل ذلك بقبلُ وبعدُ.
وزعموا أن بعض العرب يصرف قبلاً وبَعْداً فيقول: ابدأ بهذا قَبلاً، فكأنه جعلها نكرة.

فإنما جعل الخليل رحمه الله المنادى بمنزلة قبل وبعد، وشبّهه بهما مفردين إذا كان مفرداً، فإذا طال وأضيف شبّهه بهما مضافين إذا كان مضافاً، لأن المفرد في النداء في موضع نصبٍ، كما أن قبلُ وبعدُ قد يكونان في موضع نصب وجرّ ولفظُهما مرفوع، فإذا أضفتهما رددتَهما الى الأصل. وكذلك نداء النكرة لما لحقها التنوين وطالت، صارت بمنزلة المضاف. وقال ذو الرمّة:
أداراً بحُزوى هِجْتِ للعين عَبرةً ... فماءُ الهوى يرفَضُّ أو يترقْرَق
وقال الآخر، توبةُ بن الحُميّر:
لعلك يا تيساً نزا في مريرةٍ ... مُعذّبُ ليلى أن تراني أزورها
وقال عبدُ يغوث:
فيا راكباً إما عرَضْتَ فبلّغنَ ... ندامايَ من نجرانَ أن لا تلاقيا
وأما قول الطّرِمّاح:
يا دارُ أقوت بعدَ أصرامِها ... عاماً وما يعنيك من عامها
فإنما ترك التنوين فيه لأنه لم يجعل أقوَتْ من صفة الدار، ولكنه قال: يا دارُ، ثم أقبل بعدُ يحدّث عن شأنها، فكأنه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكأنه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوتْ ليس بصفة.
ومثل ذلك قول الأحوص:
يا دارُ حسرَها البِلى تحسيراً ... وسَفتْ عليها الريحُ بعدكَ مُورا
وأما قول الشاعر، لعمرو بن قنعاس:
ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حبُّ أهلك ما أتيتُ
فإنه لم يجعل بالعلياء وصفاً، ولكنه قال: بالعلياء لي بيتٌ، وإنما تركتُه لك أيها البيت لحبّ أهله.
وأما قول الأحوص:
سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف، لأنه بمنزلة اسم لا ينصرف، وليس مثل النكرة؛ لأن التنوين لازمٌ للنكرة على كل حال والنصبَ. وهذا بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين اضطراراً؛ لأنك أردت في حال التنوين في مطرٍ ما أردت حين كان غير منوّن، ولو نصبتَه في حال التنوين لنصبته في غير حال التنوين، ولكنه اسم اطّرد الرفعُ فيه وفي أمثاله في النداء، فصار كأنه يُرفع بما يرفع من الأفعال والابتداء، فلما لحقه التنوين اضطراراً لم يغيَّر رفعه كما لا يغيّر رفع ما لا ينصرف إذا كان في موضع رفع، لأن مطراً وأشباهه في النداء بمنزلة ما هو في موضع رفع، فكما لا ينتصب ما هو في موضع رفع كذلك لا ينتصب هذا.
وكان عيسى بن عمر يقول يا مطراً، يشبّه بقوله يا رجلاً، يجعله إذا نُوّن وطال كالنكرة. ولم نسمع عربياً يقوله، وله وجه من القياس إذا نُوّن وطال كالنكرة.
ويا عشرين رجلاً كقولك: يا ضارباً رجلاً.
؟
هذا بابما يكون الاسمُ والصفة فيه بمنزلة اسم واحد
ينضمّ فيه قبل الحرف المرفوع حرفٌ، وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي ينضمّ قبل المرفوع، وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف. وهو ابْنُمٌ وامرؤٌ. فإن جررت قلت: في ابنِمٍ وامرئٍ، وإن نصبت قلت: ابنَماً وامرأً، وإن رفعت قلت: هذا ابنُمٌ وامرُؤٌ.
ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمرو. وقال الراجز، وهو من بني الحِرماز: يا حكمَ بن المنذرِ بنِ الجارودْ وقال العجّاج: يا عمرَ بنَ معمرٍ لا منتَظَرْ وإنما حملهم على هذا أنهم أنزلوا الرّفعة التي في قولك زيد بمنزلة الرفعة في راء امرئ، والجرّة بمنزلة الكسرة في الراء والنصبة كفتحة الراء وجعلوه تابعاً لابن. ألا تراهم يقولون: هذا زيدُ بنُ عبد الله، ويقولون: هذه هندُ بنتُ عبد الله فيمن صرف، فتركوا التنوين ها هنا لأنهم جعلوه بمنزلة اسم واحد لمّا كثُر في كالمهم، فكذلك جعلوه في النداء تابعاً لابن.
وأما مَن قال: يا زيدُ بنَ عبد الله، فإنه إنما قال هذا زيدُ بنُ عبد الله وهو لا يجعله اسماً واحداً، وحذف التنوين لأنه لا ينجزم حرفان.
فإن قلت: هلا قالوا: هذا زيدُ الطويلُ؟ فإن القول فيه أن تقول جُعل هذا لكثرته في كلامهم بمنزلة قولهم: لَدُ الصلاة، حذفها لأنه لا ينجزم حرفان ولم يحرّكها. واختُصّ هذا الكلام بحذف التنوين لكثرته كما اختُصّ لا أدرِ ولم أُبَلْ لكثرتهما. ومن جعله بمنزلة لَدُنْ فحذفه لالتقاء الساكنين ولم يجعله بمنزلة اسم واحد قال: هذه هندٌ بنتُ فلان.
وزعم يونس أنها لغةٌ كثيرة في العرب جيدة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لقد أبطل الله كل طلاق سبق علي تنزيل طلاق سورة الطلاق 5هـ

  المقدمة الأولي /التفصيل القريب و الصواب في التفصيل الاتي 1= نزلت أحكام الطلاق في ثلاث سور قرانية أساسية تُشرِّع قواعده علي المُدرَّج ال...