{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)/سورة الحج}
الخطاب هنا عام للناس جميعاً، وعادةً ما يأتي الخطاب الذي يطلب الإيمان
عاماً لكل الناس، إنما ساعة يطلب تنفيذ حكم شرعي يقول: يا أيها الذين آمنوا.
لذلك يقول هنا: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ..} [الحج: 1] يريد أنْ
يلفتهم إلى قوة الإيمان. وكلمة {اتقوا رَبَّكُمْ..} [الحج: 1] التقوى: أنْ تجعل
بينك وبين ما أحدِّثك عنه وقايةً، أي: شيئاً يقيك العذاب الذي لا طاقةَ لك به.
ونلحظ أن الله تعالى يقول مرة: {واتقوا الله..} [البقرة: 194] ومرة
يقول: {فاتقوا النار..} [البقرة: 24] نعم، لأن المعنى ينتهي إلى شيء واحد. معنى: {فاتقوا
النار..} [البقرة: 24] أي: اجعل بينك وبينها وقاية تحميك منها، ويكون هذا بفِعْل
الأمر وتَرْك النهي.
وقوله: {واتقوا الله..} [البقرة: 194] لأن
الله تعالى صفات جمال، وصفات جلال، صفات الجمال كالرحمن، والرحيم، والباسط،
والستار، وصفات الجلال كالقهار والجبار وغيرها مما نخاف منه.
فاجعل بينك وبين صفات الجلال وقايةً، فليستْ بك طاقة لقاهريته، وبطشه
سبحانه، والنار من جنود الله، ومن مظاهر قَهْره. فكما نقول: اتقِّ الله نقول:
اتقِّ النار.
واختار في هذا الأمر صفة الربوبية، فقال: {اتقوا
رَبَّكُمْ..} [الحج: 1] ولم يقُلْ: اتقوا الله؛ لأن الرب هو المتولِّي للرعاية
وللتربية، فالذي يُحذّرك هو الذي يُحبك ويُعطيك، وهو الذي خلقك وربَّاك ورعاك.
فالربوبية عطاء: إيجاد من عَدم وإمداد من عُدم، فأولْى بك أن تتقيه،
لأنه قدَّم لك الجميل.
أما صفة الألوهية فتعني التكاليف والعبادة بافْعل ولا تفعل، الله معبود
ومُطَاع فيما أمر وفيما نَهَى.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]
الزلزلة: هي الحركة العنيفة الشديدة التي تُخرِج الأشياء
عن ثباتها، كما لو أردتَ أنْ تخلعَ وتداً من الأرض، فعليك أولاً أنْ تهزْه وتخلخله
من مكانه، حتى تجعل له مجالاً في الأرض يخرج منه، إنما لو حاولت جذْبه بدايةً فسوف
تجد مجهوداً ومشقة في خَلْعه، وكذلك يفعل الطبيب في خلع الضِّرس.
فمعنى الزلزلة: الحركة الشديدة التي تزيل الأشياء عن أماكنها، والحق
سبحانه وتعالى تكلم عن هذه الحركة كثيراً فقال: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً
وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 4- 6].
ويقول: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ
الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1- 5].
فالزلزال هنا ليس زلزالاً كالذي نراه من هزّات أرضية تهدم بعض البيوت،
أو حتى تبتلع بعض القرى، فهذه مجرد آيات كونية تثبت صدْق البلاغ عن الله، وتنبهك
إلى الزلزال الكبير في الآخرة، إنه صورة مصغرة لما سيحدث في الآخرة، حتى لا نغتر
بسيادتنا في الدنيا فإن السيادة هبة لنا من الله.
وعندما حدث زلزال (أغادير) لاحظوا أن الحيوانات ثارتْ وهاجتْ قبل
الزلزال بدقائق، ومنها ما خرج إلى الخلاء، فأيُّ إعلام هذا؟ وأيُّ استشعار لديها
وهي بهائم في نظرنا لا تفهم ولا تعي؟
إن في ذلك إشارة للإنسان الذي يعتبر نفسه سيد هذا الكون: تنّبه، فلولا
أن الله سَيَّدَك لوكزتْكَ هذه البهائم فقضت عليك.
نقول: ليس هذا زلزالاً عاماً، إنما هو زلزال مخصوص منسوب إلى الأرض بوحي
من الله، وبأمر منه سبحانه أن تتزلزل.
لذلك وُصِف هذا الزلزال بأنه شيء عظيم: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ
عَظِيمٌ} [الحج: 1] فحين تقول أنت أيها الإنسان: هذا شيء عظيم فهو عظيم بمقياسك
أنت، أما العظيم هنا فعظيم بمقاييس الحق سبحانه، فلكَ أن تتصوَّر فظاعة زلزال وصفه
الله سبحانه بأنه عظيم.
لقد افتُتحَتْ هذه السورة بزلزلة القيامة؛ لأن الحق سبحانه سبق أنْ قال:
{واقترب الوعد الحق..} [الأنبياء: 97] فلابد أنْ يعطينا هنا صورة لهذا
الوعد، ونُبْذة عما سيحدث فيه، وصورة مُصغَّرة تدل على قدرته تعالى على زلزال
الآخرة، وأن الأرض ليس لها قوام بذاتها، إنما قوامها بأمر الله وقدرته، فإذا أراد
لها أنْ تزول زالتْ.
وكذلك في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2].
فَمَا نراه من البراكين ومن الثروات في باطن الأرض وعجائب يقع تحت هذه
الآية؛ لذلك قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا
وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6].
ما دام الحق سبحانه يمتنُّ بملكية ما تحت الثَّرى فلابد أن تحت الثرى
ثروات وأشياءَ نفيسة، ونحن الآن نُخرِج معظم الثروات من باطن الأرض، ومعظم الأمم
الغنية تعتمد على الثروات المدفونة من بترول ومعادن ومناجم وذهب.. إلخ.
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه وتعالى بعثَر الخيرات في كونه، وجعل لكل
منها وقته المناسب، فالرزق له ميلاد يظهر فيه: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ
مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا..}.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ
بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)}
والرؤية: قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية، والشيء الذي نعلمه
إما: علمَ اليقين، وإما عين اليقين، وإما حقيقة اليقين. علم اليقين: أنْ يخبر مَنْ
تثق به بشيء، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا،
وبها كذا وكذا، فهذا نسميه (علم يقين)، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها
وشاهدت ما بها فهذا (عين اليقين) فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها
فهذا نسميه (حقيقة اليقين).
لذلك؛ حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا
الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به (علم يقين)، فإذا
رأيناها فهذا (عين اليقين) كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين}
[التكاثر: 7].
فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرّها ولظاها- وهذا مقصور على أهل النار-
فقد علموها حَقَّ اليقين، لذلك يقول تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين
الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ
اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 90- 96].
ومعنى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ..}
[الحج: 2] الذهول: هو انصراف حاجة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما
رأته عن تأديةِ وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً، فيسقط
ما بيده مثلاُ، فالذهول- إذن- سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة،
أو عن شيء تفرضه الغريزة.
العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة
الولد، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفاً على
الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد،
وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته.
لذلك، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها، قالت: الصغير حتى يكبر،
والغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشْفَى، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة، فالحامل
عاطفتها نحو ولدها قوية، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة.
فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأيُّ هول هذا الذي
يشغلها، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة.
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ
أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} [عبس: 34- 36].
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم، قالوا: لأن
الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما
لأنه كبر، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.
وقوله تعالى: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ..} [الحج: 2].
والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها: مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن
ترضع وصالحة لهذه العملية، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً، وتضع الآن
ثديها في فَم ولدها، فهي مرضِعة فانظر- إذن- إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه
الحالة.
وقوله تعالى: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا..} [الحج: 2] بعد
أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة
قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة
المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ
إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 5].
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه- إذن- مسألة غريزية
فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث.
والحَمْل نوعان: ثقَل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله
تعالى: {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} [طه: 101] والحِمْل(بكسر الحاء):
هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك، أمّا الحَمْل بالفتح فهو: الشيء اليسير
تحمله في نفسك. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ *** مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا
وَعَاهُ الصَّدْر
أي: أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل، إنما الحمل
هو الهمّ الذي يحتويه الصدر.
ثم يقول سبحانه: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ
الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] سكارى: أي يتمايلون مضطربين، مثل السكارى حين تلعب بهم
الخمر،(وتطوحهم) يميناً وشمالاً، وتُلقِي بهم على الأرض، وكلما زاد سُكْرهم
وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً!!
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل
وفزع {وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2].
لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا؟
قالوا: لأن الله تعالى خلق الجوارح، وخلق في كل جارحة
غريزة الانضباط والتوازن، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة
مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان
بالدُّوار، ويفقد توازنه، كأنْ تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلاً.
فهذا الاضطراب لا من سُكْر، ولكن من هَوْل ما يرونه، فيُحدث لديهم
تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن، فيتمايلون، كمن اغتالتْه الخمر.
وقوله تعالى: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] إنهم لم يَرَوْا
العذاب بَعْد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم؛ لأن الذي يَصْدُق
في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم، إذن: انتهت المسألة
وما كنا نكذب به، ها هو ماثل أمام أعيننا.
ثم يقول سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله..}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ(3)}
الجدل: هو المحاورة بين اثنين، يريد كل منهما أنْ يؤيد
رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر، ومنه: جَدْل الخوص أو الحبل أي: فَتْله واحدة على الأخرى.
ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا
تتجاوز عدة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً، لأنهم يداخلون هذه
الشعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتم فَتْله
وغَزْله، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل
في الأفكار، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته؛ ليدحض حجة الآخرين.
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله..} [الحج: 3] فكيف
يكون الجدل في الله تعالى؟
يكون الجدل في الله وجوداً، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله، أو يكون
الجدل في الوحدانية، كمن يشرك بالله إلهاً آخر، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء
غيبي، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به، هذا كله جدل في الله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ..} [الحج: 3] إذن: فالجدل في ذاته مُبَاح
مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي
هِيَ أَحْسَنُ..} [النحل: 125].
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين،
وكما يقولون: النصح ثقيل، فلا تجعله جَدَلاً، ولا ترسله جبلاً، ولا تُخرِج الإنسان
مما يألف بما يكره، واقرأ قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة
الحسنة..} [النحل: 125].
وقال سبحانه: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ
أَحْسَنُ..} [العنكبوت: 46].
لذلك؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْناً من الجدل
في قوله تعالى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي: ففي خطابهم يقول:
{قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا..} [سبأ: 25] وينسب الإجرام
إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ:
25] ولم يقُلْ هنا: تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب
ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق.
ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن
بالعقل وبالمنطق، فسألهم: ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير
بدائل اختيارية من المخ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟
الخُلق: استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمد خلاف
هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ
أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن
جِنَّةٍ..} [سبأ: 46].
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟
ولما قالوا: كذاب، جادلهم القرآن: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن
قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ فهل
قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا: إنها عبقرية كانت عند محمد، فأيُّ عبقرية هذه
التي تتفجَّر بعد الأربعين، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله:
أبوه مات قبل أنْ يوُلد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً.
وهكذا، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل
الصادر عن عِلْم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك: عندكم في الإسلام
أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ: ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال: تقولون إن في
الجنة طعاماً لا ينفد أبداً، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ
ينفد. انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشَّعْبي: أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من
ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا- إذن- جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول: كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ
نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول: أرأيتم الجنين في بطن الأم: أينمو أم لا؟ إنه
ينمو يوماً بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين
فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، إذن: يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه،
بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال: أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالاً:
تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح
فانطفأ، فقال له: أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه،
حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار: (تقتله الفئة الباغية) وأخذوا يتركون جيش
معاوية واحداً بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: لقد فشَتْ في
الجيش فاشية، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية: وما هي؟ قال:
يقولون: إننا قتلنا عماراً والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: (تقتله الفئة
الباغية).
فاحتار معاوية ثم قال: قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال- يعني: علي بن
أبي طالب، فلما بلغ الكلامُ سيدنا علياً، قال: قولوا لهم: فمَنْ قتل حمزة بن عبد
المطلب؟ أي: إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة؛
لأنه هو الذي أخرجه للقتال.
هذا هو الجدل عن علم، والعلم قد يكون علماً بدهياً وهو العلم الذي تؤمن
به ولا تستطيع أن تدلل عليه. أو علماً عقلياً استدلالياً، وقد يكون العلم بالوحي
من الله لا دَخْلَ لأحد فيه، وسبق أنْ ضربنا مثلاً للبدهيات بالولد الصغير حينما
يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلاً، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار
الأب، فيحاول أولاً أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلى له المكان.
وهنا نتساءل: كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين؟ ولا يمكن
أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولاً؟
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم
تداخل الأشياء، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة.
ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية
سابقة، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلاً، وهكذا
إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها.
وهكذا تستطيع أن تقول: إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات
التي لا تحتاج إلى برهان، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفاً، فالسماء مثلاً، يقولون
هي كل ما علاك فأظَّلك، فالسقف سماء، والغيم سماء، والسحاب سماء، والسماء سماء، مع
أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف؛ لأنك حين تسمع هذه الكلمة(السماء) تعرف
معناها بديهة دون تعريف.
وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها؛ لأنها واضحة، فلو قلتَ لهذا الطفل:
اجلس على أخيك، فهذا ليس جدلاً؛ لأنه لا يصح.
أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء، كأنْ تدخل بيتك فتجد(عقب
سيجارة) مثلاً في(طفاية السجائر) فتسأل: مَنْ جاءكم اليوم؟ ومثل الرجل العربي حين
سار في الصحراء، فوجد على الأرض آثاراً لخفِّ البعير وبَعْره، فقال: البعرة تدل
على البعير، والقدم تدل على المسير.
أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من
عباده.
فعلى المجادل أن يستخدم واحداً من هذه الثلاثة ليجادل به، فإن جادل بغير
علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها.
وقد نزلت هذه الآية: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ
عِلْمٍ..} [الحج: 3] في النضر بن الحارث، وكان يجادل عن غير
علم في الوجود، وفي الوحدانية، وفي البعث.. إلخ.
والآية لا تخص النضر وحده، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله، ولَفَّ لفَّه
من الجدل.
ثم يقول تعالى: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3] أي:
أن هذا الجدل قد يكون ذاتياً من عنده، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله،
سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن.
إذن: فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة، إما من
النفس التي لا تنتهي عن مخالفة، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع
بك في شِرَاكه.
لكن، لا نجعل الشيطان(شماعة) نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا، فليست كل
الذنوب من الشيطان، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها، وسبق أنْ قُلْنا: إذا كان
الشيطان هو الذي يوسوس بالشر، فمَنِ الذي وسوس له أولاً؟ وكما قال الشاعر:
إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه؟ ***
وفَرْق بين المعصية من طريق النفس، والمعصية من طريق الشيطان، الشيطان
يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه، أمّا النفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا
تحيد عنه، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا
الشيء بالذات.
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى
معصية أخرى، أياً كانت، المهم أن تعصي، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من
نفسك، أو من الشيطان.
ولما سُئل أحد العلماء: كيف أعرف: أأنا
من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال: هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك
أنت، قال: كيف؟ قال: انظر في نفسك، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك
ممَّنْ يعطيك هدية، فاعلم أنك من أهل الآخرة، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من
الصدقة فأنت من أهل الدنيا.
ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا
التي تحبها فأنت تحبه، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه.
فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي
الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] فهذه الآية
تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها: فالعلم يُرَاد به البدهيات، والهدى
أي: الاستدلال، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيْاً من الله، وبهذه الثلاثة
يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن.
ومعنى: {مَّرِيدٍ} [الحج: 3] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر،
والمرود: العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرد، والمارد: هو
المستعلى أعلى منك.
=================
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4)}
أي: كتب الله على هذا الشيطان المريد، وحكم عليه
حُكماً ظاهراً، هكذا(عيني عينك) كما يقال {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ...} [الحج: 4]
أي: تابعه وسار خلفه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ
السعير} [الحج: 4] يضله ويهديه ضِدّان، فكيف نجمع بينهما؟
المراد: يُضِلُّه عن طريق الحق والخير، ويهديه أي: للشر؛ لأن معنى
الهداية: الدلالة مُطْلقاً، فإن دللْتَ على خير فهي هداية، وإن دللتَ على شر فهي
أيضاً هداية.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ
وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات:
22-
23].
أي: دُلُّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ
يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ
جَهَنَّمَ..} [النساء: 168- 169].
والسَّعير: هي النار المتوهّجة التي لا تخمد ولا تنطفئ.
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ..}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ
مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5)}
قوله: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث..} [الحج: 5].
الريب: الشك. فالمعنى: إنْ كنتم شاكِّين في مسألة البعث،
فإليكم الدليل على صِدْقه {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ..} [الحج: 5] أي:
الخَلْق الأول، وهو آدم عليه السلام، أما جمهرة الناس بعد آدم فخُلِقوا من(نطفة) حية من إنسان حي.
والمتتبع لآيات القرآن يجد الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في خَلْق
الإنسان: {مِّن تُرَابٍ..} [الحج: 5]، ومرة {مِن مَّآءٍ..} [الطارق: 6]،
و{مِّن طِينٍ..} [الأنعام: 2]، و{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ..} [الحجر: 26]،
و{مِن صَلْصَالٍ كالفخار..} [الرحمن: 14] وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى الاعتراض
على أسلوب القرآن، يقولون: من أيِّ هذه الأشياء خُلِقْتم؟
وهذا الاعتراض ناشيء من عدم فَهْم لغة القرآن، فالتراب والماء والطين
والحمأ والمسنون والصلصال، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد، فإذا وضعتَ الماء على
التراب صار طيناً، فإنْ تركتَ الطين حتى يتخمّر، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا
تستطيع أنْ تُميِّز عنصراً فيه عن الآخر. وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو
الحمأ المسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، ومنه خلق اللهُ الإنسان وصوَّره،
ونفخ فيه من روحه، إذن: هذه مراحل للشيء الواحد، ومرور الشيء بمراحل مختلفة لا
يُغيِّره.
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلام، وهم ذريته،
فقال: {مِن نُّطْفَةٍ..} [الحج: 5] والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العَذْب، كما
جاء في قول الشاعر:
بَقَايَا نِطَافٍ أودَعَ الغيمُ صَفْوَهَا *** مُثقَّلَةُ الأرجَاء
زُرْقُ الجَوانبِ
ولا تظهر زُرْقة الماء إلا إذا كان صافياً لا يشوبه شيء، وكذلك النطفة
هي خلاصة الخلاصة، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق، وعملية الأيض أي: الهدم والبناء
بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم: فالبول، والغائط،
والعرق، والدموع، وصَمْغ الأذن، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم
حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء، وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلاصة يُستخلص منيُّ الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة، فهو- إذن-
خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل، ويتكَّون الجنين، وكأن الخالق- عز
وجل- قد صَفَّاها هذه التصفية ونقَّاها كل هذا النقاء؛ لأنها ستكون أصْلاً لأكرم
مخلوقاته، وهو الإنسان.
وهذه النطفة لا تنزل من الإنسان إلا في عملية الجماع، وهي ألذُّ متعة في
وجود الإنسان الحيِّ، لماذا؟ لو تأملتَ متعة الإنسان ولذاته الأخرى مثل: لذة
الذَّوْق، أو الشم، أو الملمس، فهي لذَّاتٌ معروفة محددة بحاسَّة معينة من حواس
الإنسان، أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيِّ أثناء هذه العملية الجنسية فهي
لذة شاملة يهتز لها الجسم كله، ولا تستطيع أنْ تُحدِّد فيها منطقة الإحساس، بل كل
ذرة من ذرات الجسم تحسها.
لذلك أمرنا ربنا- عز وجل- أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لأنها شغلتْ كل ذرة
من ذرات تكوينك، وربما- عند العارفين بالله- لا تغفل عن الله تعالى إلا في هذه
اللحظة؛ لذلك كان الأمر بالاغتسال بعدها، هو قول العلماء.
أما أهل المعرفة عن الله وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون: إن الله خلق
آدم من طين، وجعل نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء، ثم أتى منها كل
الخَلْق بعده، فكأن في كل واحد منا ذرة من أبيه آدم؛ لأنه لو طرأ على هذه الذرة
موت ما كان نَسْلٌ بعد آدم، فهذه الذرة موجودة فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي
منها ولدك، وهي أصْفى شيء فيك؛ لأنها الذرة التي شهدتْ الخَلْق الأول خَلْق أبيك
آدم عليه السلام.
وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا: لو أنك أخذت سنتيمتراً من مادة ملونة،
ووضعته في قارورة ماء، ثم أخذتَ ترجُّ القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة
فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه المادة، وهكذا لو ألقيتَ القارورة في برميل..
إلخ.
إذن: فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلام، هذه الذرة شهدتْ
خَلْق آدم، وشهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله على عباده في قوله تعالى: {وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على
أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..} [الأعراف: 172].
لذلك؛ يُسمِّي الله تعالى إرسال الرسل بَعْثاً فيقول: {بَعَثَ الله
رَسُولاً} [الفرقان: 41] بعثه: كأنه كان موجوداً وله أَصْل في رسالة مباشرة من
الله حين أخذ العهد على عبادة، وهم في ظَهْر آدم عليه السلام، كما يخاطب الرسول
بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] أي:
مُذكِّر بالعهد القديم الذي أخذناه على أنفسنا.
لذلك اقرأ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ..} [الأعراف: 172].
هذا في مرحلة الذِّرِّ قبل أنْ يأتي الهوى في النفوس {أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ
آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172- 173].
إذن: بعث الله الرسل لتُذكِّر بالعهد الأول، حتى لا تحدث الغفلة، وحتى
تقيم على الناس الحجة.
ثم يقول تعالى: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ..} [الحج: 5] سمِّيت النطفة
علقة؛ لأنها تعلَقُ بالرحم، يقول تعالى في آية أخرى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن
مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} [القيامة: 37- 38].
فالمنيُّ هو السائل الذي يحمل النطفة، وهي الخلاصة التي يتكوَّن منها
الجنين، والعَلَقة هنا هي البُويْضَة المخصَّبة، فبعد أنْ كان للبويضة تعلُّق
بالأم، وللحيوان المنوي(النطفة) تعلُّق بالأب، اجتمعا في تعلُّق جديد والتقيَا
ليتشبَّثا بجدار الرحم، وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها، يُسمُّونها(زيجوت).
ومنها قولهم: فلان هذا مثل العلقة إذ كان ملازماً لك.
بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ..} [الحج: 5]
والمضغة: هي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمضغ من الطعام، وهو خليط من عِدَّة أشياء،
كما لو أكلتَ مثلاً قطعة لحم مع ملعقة خضار مع ملعقة أرز، وبالمضغ يتحوّل هذا إلى
خليط، ذلك لأن جسم الإنسان لا يتكَّون من عنصر واحد، بل من ستة عشر عنصراً.
هذه المضغة {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} [الحج: 5] معنى مخلقة يعني:
يظهر عليها هيكل الجسم، وتتشكَّل على صورته، فهذه للرأس، وهذه للذراع، وهذه
للرِّجْل وهكذا، يعني تخلَّقتْ على هيئة الأنسان.
أما غير المخلَّقة، فقد عرفنا مؤخراً أنها الخلايا التي تُعوِّض الجسم
وتُرقِّعه إذا أصابه عَطَب فهي بمثابة(احتياطي) لإعادة تركيب ما تلف من أنسجة
الجسم وترميمها، كما يحدث مثلاً في حالة الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل
شيئاً فشيئاً، دون أنْ يتركَ أثراً.
نرى هذا في أولاد الفلاحين، حين يُجرح الواحد منهم، أو تظهر عنده بعض
الدمامل، فيتركونها لمقاومة الجسم الطبيعية، وبعد فترة تتلاشى هذه الدمامل دون أنْ
تتركَ أثراً على الإطلاق؛ لأنهم تركوا الجسم للصيدلية الربانية.
أما إذا تدخَّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلافه فلابد أن
يترك أثراً، فترى مكانه لامعاً؛ لأن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل
هذه الأماكن من الجسم قد تغيرتْ، ويميل الإنسان إلى حَكِّها(وهرشها)؛ لأن هذه
المسام كانت تُخرِج بعض فضلات الجسم على هيئة عرق، فلما انسدت هذه المسام سببت هذه
الظاهرة. هذا كله لأننا تدخَّلْنا في الطبيعة التي خلقها الله.
إذن: فمعنى {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} [الحج: 5] هي الصيدلية التي
تُعوِّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم الإنسان.
ثم يقول سبحانه: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا
نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الحج: 5] أي: نُوضِّح لكم كل ما يتعلَّق بهذه
المسألة {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ..} [الحج: 5] وهي المضْغة التي قُدِّر
لها أنْ تكون جنيناً يكتمل إلى أنْ يولد؛ لذلك قال: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى..}
[الحج: 5] أو نسقطه ميتاً قبل ولادته.
فإنْ قلتَ: وما الحكمة من خَلْقه وتصويره، إنْ كان قد قُدِّر له أنْ
يموت جنيناً؟ نقول: لنعرف أن الموت أمر مُطْلق لا رابطَ له ولا سِنّ،
فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه، ففي أيِّ وقت ينتهي الأجل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً..} [الحج: 5] قال:
{نُخْرِجُكُمْ..} [الحج: 5] بصيغة الجمع ولم يقُلْ: أطفالاً إنما {طِفْلاً..}
[الحج: 5] بصيغة المفرد، لماذا؟ قالوا: في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع،
فطفل هنا بمعنى أطفال، وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه: {وَإِذَا
بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم..} [النور: 59].
وكما تقول هذا رجل عَدْل، ورجال عَدْل. وفي قصة سيدنا إبراهيم- عليه
السلام- يتكلم عن الأصنام فيقول: {فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي..} [الشعراء: 77] ولم يقُلْ: أعداء. وحينما تكلم عن ضَيْفه قال:
{هَؤُلآءِ ضَيْفِي..} [الحجر: 68] ولم يقل: ضيوفي، إذن: المفرد هنا
يُؤدِّي معنى الجمع.
ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ..} [الحج: 5] وهكذا، وسبق
أنْ تحدَّثنا عن مراحل عمر الإنسان، وأنه يمر بمرحلة الرُّشْد: رُشْد البنية حين
يصبح قادراً على إنجاب مثله، ورُشْد العقل حين يصبح قادراً على التصرّف السليم،
ويُحسن الاختيار بين البدائل.
ثم تأتي مرحلة الأشد: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ..} [الأحقاف: 15]
يعني: نضج نُضْجاً من حوادث الحياة أيضاً.
ثم يقول تعالى: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى
أَرْذَلِ العمر..} [الحج: 5] وأرذل العمر يعني رديئه، حين تظهر على الإنسان علامات
الخَوَر والضعف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً..} [الحج: 5] لأنه ينسى،
وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه، إنما موهوبة له من الله.
وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجياً،
فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده ليقوم أو ليمشي، كما تأخذ بيد الطفل الصغير، فإذا تكلّم
يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلام.. وهكذا في جميع شئونه.
لذلك يقولون: الزواج المبكر أقرب طريق لإنجاب(والد) يعولُك في طفولة
شيخوختك، ولم يقُلْ: ولداً؛ لأنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد، يقولون: لحق
والده يعني سنُّهما متقارب.
لكن، لماذا يُرَدُّ بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها
نماذج حتى لا نقول: يا ليت أعمارنا تطول؛ لأن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أرذَلِ
العمر لأصبح الأمر صعباً علينا، فمن رحمة الله بنا أنْ خلق الموت.
ثم يقول تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا
عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
أي: كما كان خَلْق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من
مُضْغة مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، ثم أخرجه طفلاً، وبلغ أَشُدَّهُ، ومنهم مَنْ مات،
ومنهم مَنْ يُرَدُّ إلى أرذَل العمر، كذلك الحال في الأرض: {وَتَرَى الأرض
هَامِدَةً..} [الحج: 5].
هامدة: ساكنة، ومنه قولنا للولد كثيرالحركة: اهمد {فَإِذَآ
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت..} [الحج: 5] أي: تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد
سكونها.
والاهتزاز: تحرُّك ما كنت تظنه ثابتاً، وليس ما كان ثابتاً في الواقع؛
لأن لكل كائن حركة في ذاته، حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها، لكن ليس
لديْك من وسائل الإدراك ما تدرك به هذه الحركة. ولو تأملت المغناطيس لأدركتَ هذه
الحركة بين ذراته، فحين تُدلِّك القضيب الممغنط وتُمرِّره على قضيب آخر غير مُمغنط
في اتجاه واحد، فإنه يكتسب منه المغناطيسية، وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه
تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة، فإن اختلف اتجاه الدَّلْك فإن
الذرات أيضاً تختلف.
إذن: في الحديد- رمز الصلابة والجمود- حركة وحياة تناسبه، وإنْ خُيِّل
إليك أنه أصمُّ جامد في ظاهرة.
لذلك نقول {هَامِدَةً..} [الحج: 5] يعني: ساكنة في رَأْي العلم، حيث لا
نباتَ فيها ثم {اهتزت..} [الحج: 5] يعني: زادتْ ورَبَتْ وتحركتْ لإخراج النبات،
إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة مُطْلقاً؛ لأن فيها حركة ذاتية بين ذراتها.
ومعنى: {وَرَبَتْ..} [الحج: 5] أي: زادت عن حجمها، كما تزيد حبة الفول
مثلاً حين تُوضَع في الماء، وتأخذ حظها من الرطوبة، وكذلك في جميع البقول، وهذه
الزيادة في حجم الحبة هي التي تفلقها إلى فلقتين في عملية الإنبات، ويخرج منها
زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث عن الهواء، وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث
عن الماء. وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ للنبتة حتى تقوى، وتستطيع أنْ تمتصَّ
غذاءها من التربة، فإذا أدَّتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في تغذية النبتة تحوَّلتَا
إلى ورقتين، وهما أول ورقتين في تكوين النبتة.
كذلك، نلاحظ في تغذية النبات أنه لا يأخذ كُلَّ غذائه من التربة، إنما
يتغذى بنسبة ربما 90 بالمائة من غذائه من الهواء، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة
إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع، فسوف تجد ما نقص من التربة كمية لا تُذكَر بالنسبة
لحجم النبات الذي خرج منها.
وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات الله، فالجذر يمتد إلى أن
يصل إلى الرطوبة أو الماء، حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقَّف، ولك أن تنظر مثلاً
إلى(كوز الحلبة) فسوف تجد الجذور غير متساوية في الطول، بحسب بُعد الحبة عن مصدر
الرطوبة.
{وَرَبَتْ..} [الحج: 5] أي: زادت وانتفشتْ، كما يحدث في العجين حين تضع
فيه الخميرة {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
هذه صورة حيَّة واقعية نلاحظها جميعاً عياناً: الأرض تكون جرداء ساكنة،
لا حركةَ فيها، فإذا ما نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات،
ولو حتى بالمطر الصناعي، كما نرى في عرفة مثلاً ينزل عليها المطر الصناعي فيخضرُّ
الوادي، لكن حينما ينقطع الماء يعود كما كان لعدم موالاة الماء، ولو واليتَ عليها
بالماء لصارت غابات وأحراشاً وبساتين كالتي نراها في أوروبا.
والمطر لا يحتاج أنْ تُسوَّى له الأرض؛ لأنه يسْقِي المرتفع والمنخفض
على السواء، على خلاف الأرض التي تسقيها أنت لابد أن تُسوِّيها للماء حتى يصل
إليها جميعاً.
فإذا أنزل الله تعالى المطر على الأرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق
بالنبات، فمن أين جاءت هذه البذور؟ وكيف لم يُصِبْها العطب، وهي في الأرض طوال هذه
الفترات؟ الأرض هي التي تحفظها من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للإنبات، وهذا
النبات الذي يخرج من الأرض دون تدخُّل الإنسان يسمونه(عِذْى).
أما عن نَقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان، فهي تنتقل بواسطة
الريح، أو في رَوَث الحيوانات.
ومعنى: {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] الزوج:
البعض يظن الزوج يعني الاثنين، إنما الزوج كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه
مِثْله من جنسه، ففي قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى}
[النجم: 45] فكل منهما زوج، وكما نقول: زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة أخرى
مثلها، ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى(توأم) وهما
معاً(توأمان) ولا نقول: هما توأم.
وهنا مظهر من مظاهر دِقَّة الأداء القرآني: {كُلِّ زَوْجٍ..} [الحج: 5]
لأن كل المخلوقات، سواء أكانت جماداً أو نباتاً أو حيواناً، لابد فيه من ذكر
وأنثى، هذه الزوجية قال الله فيها: {وَمِن كُلِّ
شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ..} [الذاريات: 49] حتى في الجماد الذي نظنه جماداً لا
حركةَ فيه، يتكَّون من زوجين: سالب وموجب في الكهرباء، وفي الذرة، وفي المغناطيس،
فكلُّ شيء يعطي أعلى منه، فلابد فيه من زوجيْن.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي
في القرآن، يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ
الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
فقوله سبحانه: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] رصيد عالٍ لما
سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت صِدْق القرآن على مَرِّ الأيام، ففي الماضي عرفنا
الكهرباء، وأنها سالب وموجب فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا
الذرة فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا: هذه مما لا
نعلم، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.
إذن: خُذْها قضية عامة: كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه، فلابد ان فيه زوجية.
فقوله تعالى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] فالزوج
من النبات مفرد معه مثله، وهذا واضح في لقاح الذكر والأنثى، هذا اللقاح قد يكون في
الذكر وحده، أو في الأنثى وحدها كما في النخل مثلاً، وقد يكون العنصران معاً في
النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة.
ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعلاه(شوشة) بها حبيبات دقيقة تحمل
لقاح الذكورة، وفي منتصف العود يخرج الكوز، وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة
من حبات الذرة المصطفة على الكوز، وهذه تحمل لقاح الأنوثة، فإذا هبَّتْ الريح
هزَّتْ أعلى العود فتساقطت لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى
الحبة التي لا يخرج منها شعرة إلى خارج الغلاف تضمر وتموت؛ لأنها لم تأخذ حظها من
اللقاح.
ومعنى: {بَهِيجٍ} [الحج: 5] من البهجة، فالمراد: الشيء حسن المنظر
والجميل الذي يجذب الأنظار إليه، وبهجة النظر إلى النبات شائعة لا تقتصر على مَنْ
يملكه بخلاف الأكل منه، فحين تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها
وتُسَرُّ برائحتها.
وفي النفس الإنسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة، وعلى هذه الألوان
وتنبسط لهذا الجمال، ولو لم تكُنْ تمتلكه.
لذلك الحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {انظروا
إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ..} [الأنعام: 99] أي: أن النظر مشاع
للجميع، ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات لأصحابها، تمتَّعوا بما خلق الله، ففي النفس
ملكَات أخرى غير الطعام.
واقرأ أيضاً قوله تعالى في الخيل: {وَلَكُمْ فِيهَا
جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] فليست الخيل لحمل
الأثقال وفقط، وإنما فيها جمال وأُبَّهة، تُرضِي شيئاً في نفوسكم، وتُشْبِع ملكَة
من ملكاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق..}
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى
وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)}
أي: أن ما حدث في خَلْق الإنسان تكويناً، وما حدث في
إنبات الزرع تكويناً ونماءً، يردُّ هذا كله إلى أن الله تعالى {هُوَ الحق..}
[الحج: 6] فلماذا أتى بالحق ولم يقُلْ الخالق؟ قالوا: لأن الخالق قد يخلق شيئاً ثم
يتخلى عنه، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو الخالق الحق، ومعنى الحق أي: الثابت الذي
لا يتغير، كذلك عطاؤه لا يتغير، فسوف يظل سبحانه خالقاً يعطيك كل يوم؛ لأن عطاءه
سبحانه دائم لا ينفد.
وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة، فالله عز وجل قد خلق
الأرض وقدَّر فيها أقواتها، فمثلاً كمية الماء التي خلقها الله في الكون هي هي لم
تَزِدْ ولم تنقص؛ لأن للماء دورة في الحياة، فالماء الذي تشربه طوال حياتك لا
يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لأنه سيخرج منك على صورة فضلات ليعود في دورة الماء
في الكون من جديد.
وهكذا في الطعام الذي تأكله، وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها، كل
ما في الوجود له دورة يدور فيها، وهذا معنى: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا..} [فصلت: 10].
فمعنى: {الحق..} [الحج: 6] هنا الثابت الذي لا يتغير في الخَلْق وفي
العطاء. فلا تظن أن عطاء الله لك شيء جديد، إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك.
ثم يقول تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى..} [الحج: 6] كما قُلْنا في
الآية السابقة: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً..} [الحج: 5] أي: ساكنة لا حياةَ
فيها، والله وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء الفقه يُسمُّون الأرض التي
نصلحها للزراعة(إحياء الموات) فالله تعالى هو القادر وحده على إحياء كل ميت؛ لذلك
يقول بعدها: {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6].
وما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الأرض
المتية فلا تنكروا البعث وإعادتكم بعد الموت. فيقول تعالى: {وَأَنَّ الساعة
آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا..}.
======
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)}
وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16- 17].
فيردُّ عليهم الحق سبحانه: نعم، سنعيدكم بعد الموت، والذي خلقكم من لا
شيءَ قادرٌ على إعادتكم من باب أَوْلَى؛ لذلك يقول تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ
الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ..} [الروم: 27] والحق
سبحانه هنا يخاطبنا على قَدْر عقولنا؛ لأننا نفهم أن الخَلْق من موجود أهون من
الخَلْق من عدم، أما بالنسبة للخالق- عز وجل- فليس هناك سَهْل
وأسهل، ولا هَيِّن وأهْون.
فقوله تعالى: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا..} [الحج: 7]
كأن عملية إحياء الموتى ليست مُنْتهى قدرة الله، إنما في قدرته تعالى كثير من
الآيات والعجائب، ومعنى: {لاَّ رَيْبَ فِيهَا..} [الحج: 7] أي: لا شَكَّ فيها.
والساعة: أي: زمن القيامة وموعدها، لكن القيامة ستكون للحساب
وللفَصْل بين الناس، فلابد من بَعْثهم من القبور؛ لذلك يقول بعدها: {وَأَنَّ الله
يَبْعَثُ مَن فِي القبور} [الحج: 7].
فكُلُّ ما تقدم ناشيء من أنه سبحانه هو الحق؛ ولأنه سبحانه الحق؛ فهو
يُحيي الموتي، وهو على كل شيء قدير، والساعة آتية لا رَيْبَ فيها، وهو سبحانه يبعث
مَنْ في القبور.
ثم يقول الحق سبحانه: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله..}.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا
هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)}
تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا: العلم إما
علم بَدْهي أو علم استدلالي عقليّ، أو علم بالوحي من الله سبحانه، أما هؤلاء الذين
يجادلون في الله بغير علم بدهي {وَلاَ هُدًى..} [الحج: 8] يعني: علم استدلالي
عقلي، {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8] يعني: وحي من الله، فهؤلاء أهل سفسطة
وجدل عقيم لا فائدة منه، وعلى العاقل حين يصادف مثل هذا النوع من الجدال أن لا
يجاريه في سفسطته؛ لأنه لن يصل معه إلى مفيد، إنما عليه أنْ ينقله إلى مجال لا
يحتمل السفسطة.
ولنا في هذه المسألة مثَلٌ وقُدْوة بسيدنا إبراهيم- عليه السلام- حينما
جادل النمرود، اقرأ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ
فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي
بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ..} [البقرة: 258].
لقد اتبع النمرودُ أسلوب السَّفْسَطة حين قال {أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ..} [البقرة: 258] لأنه ما فعل حقيقةَ الموت، ولا حقيقة الحياة، فأراد
إبراهيم أن يُلجئه إلى مجال لا سفسطة فيه؛ لينهي هذا الموقف ويسدّ على خَصْمه باب
اللدد والتهريج، فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا
مِنَ المغرب..} [البقرة: 258] وكانت النتيجة أنْ حَارَ عدو الله جواباً {فَبُهِتَ
الذي كَفَرَ..} [البقرة: 258] أي: دُهِش وتحيَّر.
{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)}
{ثَانِيَ..} [الحج: 9] ثَنَى الشيء يعني: لَواه، وعِطْفه: يعني
جَنْبه، والإنسان في تكوينه العام له رأس ورقبة وكتفان، وله جانبان وظَهْر، وهذه
الأعضاء تُؤدِّي دَوْراً في حياته وحركته، وتدلّ على تصرفاته، فالذي يجادل في الله
عن غير علم ولا هدى ولا كتاب منير يَثنِي عنك جانبه، ويَلْوي رأسه؛ لأن الكلام لا
يعجبه؛ ليس لأن كلامك باطل، إنما لا يعجبه لأنه أفلس وليست لديه الحجة التي يواجهك
بها، فلا يملك إلا هذه الحركة.
لذلك يُسمَّى هذا الجدل (مراءً)، ومنه قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ
على مَا يرى} [النجم: 12] يعني: أتجادلون رسول الله في أمر رآه؟ والمراء:
هو الجَدل العنيف، مأخوذ من(مَرْى الضرع) يعني: حَلْب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة
فيه، وأهل الريف يقولون عن هذه العملية(قرقر البقرة) يعني: أخذ كل لبنها ولم
يَبْقَ في ضرعها شيء.
كذلك المجادل بالباطل، أو المجادل بلا علم ولا حجة تراه يكابر ليأخذ آخر
ما عند خَصْمه، ولو كان عنده علم وحجة لأنهَى الموقف دون لجج أو مكابرة.
والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والإعراض عن الحق، فيقول سبحانه:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ
رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5].
والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للإعراض عن الحق الذي يبدأ بلَىِّ الرأس،
ثم الجانب، ثم يعطيك دُبُره وعَرْض أكتافه، هذه كلها ملاحظ للفرار من الجدل، حين
لا يقوى على الإقناع.
ثم يقول سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله..}
[الحج: 9] هذه عِلَّة ثَنْى جانبه، لأنه يريد أنْ يُضل مَنِ
اهتدى، فلو وقف يستمع لخَصْمه وما يلقيه من حجج ودلائل لانهزم ولم يتمكّن من إضلال
الناس؛ لذلك يَثْني عِطْفه هَرَباً من هذا الموقف الذي لا يَقْدر على مواجهته
والتصدي له.
فما جزاء هذا الصنف؟ يقول تعالى: {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ..} [الحج: 9] والخِزْي: الهوان
والذِّلَّة، هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الآخرة، ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر؟
ألم يُمسِك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به: (هذا
مَصرع فلان، وهذا مصرع فلان) ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلال في قريش؟ وبعد
انتهاء المعركة كان الأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصُرِع كلُّ
هؤلاء الصناديد في نفس الأماكن التي أشار إليها رسول الله.
ولما قُتِل في هذه المعركة أبو جهل عَلاَهُ سيدنا عبد الله بن مسعود،
سبحان الله، عبد الله بن مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش، عندها قال أبو جهل-
وكان فيه رَمَق حياة: لقد ارتقيتَ مُرْتقىً صَعْباً يا رُوَيْعيَّ الغنم، يعني:
ركبتني يا ابن الإيه!! فأيُّ خِزْي بعد هذا؟!
وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ورأى موكب النبي يوم الفتح، وحوله رايات الأنصار في موكب رهيب مهيب، لم
يملك نفسه ولم يستطع أنْ يُخفي ما في صدره، فقال للعباس رضي الله: لقد أصبح مُلْك
ابن أخيك قوياً، فقال له: إنها النبوة يا أبا سفيان يعني: المسألة ليست مُلْكاً،
إنما هي النبوة المؤيَّدة من الله.
وسيدنا أبو بكر- رضي الله عنه- حينما استأذن عليه القوم في الدخول،
فأذِنَ للسابقين إلى الإسلام من العبيد والموالي، وترك بعض صناديد قريش على الباب،(فورِِمَتْ)
أنوفهم من هذا الأمر وأغتاظوا، وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له: أتأذن لهؤلاء
وتتركنا؟ فقال له: إنه الإسلام الذي قدمهم عليكم. وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال
لهم: ما لكم ورِمَتْ أنوفكم؟ وما بالكم إذا أُذِن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم.
فالغضب الحقيقي سيكون في الآخرة حين يُنَادى بهؤلاء إلى الجنة، وتتأخرون
أنتم في هَوْل الموقف.
واقرأ قوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10-
11].
ثم يقول تعالى: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} [الحج: 9]
فهذا الخِزْيُ الذي رَأَوْه في الدنيا لن يُفلتهم من خِزْي وعذاب الآخرة، ومعنى {عَذَابَ الحريق}
[الحج: 9] الحريق: هو الذي يحرق غيره من شِدتّه، كالنار التي أوقدوها لإبراهيم-
عليه السلام- وكانت تشوي الطير الذي يمرُّ بها في السماء فيقع مشوياً. ثم يقول
الحق سبحانه: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ..}
===================================================
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ(10)}
{ذلك..} [الحج: 10] يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في
الآخرة بما قدَّمتْ، وبما اقترفت يداك، لا ظُلْماً منّا ولا اعتداء، فأنت الذي
ظلمتَ نفسك، كما قال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].
وهل أخذناهم دون إنذار، ودون أن نُجرِّم هذا الفعل؟ لأنك لا تعاقب شخصاً
على ذنب إلا إذا كنتَ قد نبَّهته إليه، وعرَّفته بعقوبته، فإنْ عاقبته دون علمه
بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك فأهل القانون يقولون: لا عقوبةَ إلا
بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ.
وقد جاءكم النص الذي يُبيِّن لكم ويُجرِّم هذا الفعل، وقد أبلغتُكم
الرسل، وسبق إليكم الإنذار، كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى
نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ..} [الحج: 10] فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد
فقط؟
الذنوب: إما أقوال، وإما أفعال، وإما عمل من أعمال القلب، كالحقد مثلاً
أو النفاق.. إلخ لكن في الغالب ما تُزَاول الذنوب بالأيدي.
ثم يقول تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] ظلاَّم: صيغة
مبالغة من الظلم، تقول: ظالم. فإنْ أردتَ المبالغة تقول: ظلاَّم، كما
تقول: فلان آكل وفلان أكُول، فالفعل واحد، لكن ما ينشأ عنه مختلف، والمبالغة في
الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره، فمثلاً قد تأكل في الوجبة الواحدة
رغيفاً واحداً، وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة، فأنت تأكل ثلاث
وجبات، لكن تبالغ في الوجبة الواحدة، وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في
الوجبة رغيفاً واحداً، لكن تأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث. فهذه مبالغة بتكرار
الحدث.
وصيغة المبالغة لها معنى في الإثبات ولها معنى في النفي: إذا قُلْتَ:
فلان أكول وأثبتَّ له المبالغة فقد أثبتَّ له أصل الفعل من باب أَوْلَى فهو آكل،
وإذا نفيتَ المبالغة فنَفْي المبالغة لا ينفي الأصل، تقول: فلان ليس أكولاً، فهذا
لا ينفي أنه آكل. فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ
بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى(ظالم) حاشا لله،
وهنا نقول: هناك آيات أخرى تنفي الفعل، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ
هُمُ الظالمين} [الزخرف: 76].
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد، فعلى فرض المبالغة تكون
مبالغة في تكرار الحدث {بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] ظلم هذا، وظلم هذا،
فالمظلوم عبيد، وليس عبداً واحداً.
والظلم في حقيقته أن يأخذ القويُّ حَقَّ الضعيف، ويكون الظلم على قَدْر
قوة الظالم وقدرته، وعلى هذا إنْ جاء الظلم من الله تعالى وعلى قَدْر قوته وقدرته
فلا شكَّ أنه سيكون ظُلْماً شديداً لا يتحمله أحد، فلا نقول- إذن- ظالم بل ظلام،
وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة.
فالحق سبحانه ليس بظلام للعبيد؛ لأنه بيَّن الحلال والحرام، وبيَّن
الجريمة ووضع لها العقوبة، وقد بلَّغَتْ الرسل من بداية الأمر فلا حُجَّةَ لأحد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ..}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ..} [الحج: 11]
العبادة: أنْ تطيع الله فيما أمر فتنفذه، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه، بعض الناس يعبد
الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر، فإذا أصابه شَرٌّ أو وقع به
مكروه ينقلب على وجهه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ..} [الحج: 11].
والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان، لا
تزعزعه الأحداث، ولا تهز إيمانه فيتراجع، ربك يريدك عبداً له في الخير وفي الشر،
في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه
إله حكيم عادل قادر، ولابد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث في ضوء هذه الصفات.
فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلأولادك من
بعدك، فلعلهم إنْ وجدوك في سعة وفي خير طَمِعُوا وفسدوا وطَغَوْا، ولعل حياة الضيق
وقِلَّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات الحياة يكون دافعاً لهم.
واقرأ قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى}
[العلق: 6- 7] وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
لا بُدَّ أنْ تعرف هذه الحقائق، وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه
عليك، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً، فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك فَقُلْ: ماذا
حدث خارج البيت، أبعدني الله عنه وعافاني منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شراً، كما قال
تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ..} [البقرة: 216].
وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا، فوجدوا الإخوة في البيت
الواحد، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد، وأم واحدة، حتى التعليم في المدرس على
مستوى واحد، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيماً ملتزماً، وتجد الآخر على النقيض،
فلمَّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته
وطفولته في وقت كان والده مريضاً ويلازم بيته لمدة ست سنوات، فأخذ هذا الولد أكبر
قِسْط من الرعاية والتربية، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق
السوء.
وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في
فترة تربيته وتنشئته كان تاجراً، وكان كثير الأسفار، ومع ذلك كان يُغْدِق على
أسرته، فتربَّى الولد في سَعَة من العيش، بدون مراقبة الأب.
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين: أحدهما متفوق، والآخر فاشل، ولما بحثوا
أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفاً واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة، فمال
إلى البيت والقراءة والاطلاع، وكان الآخر صحيحاً وسيماً، فمال إلى حياة الترف،
وقضى معظم وقته خارج البيت.
والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
إذن: فالابتلاءات لها مغانم، ومن ورائها حِكَم؛ لأنها
ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك، وليست من سَعْيك ولا من عمل يدك، وما دامت
كذلك فارْضَ بها، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر.
ومعنى: {يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ..} [الحج: 11] والحرف: هو طرف الشيء،
كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين، وهذا عادةً لا يكون
معه تمكُّن واطمئنان، كذلك مَنْ يعبد الله على حرف يعني: لم يتمكَّن الإيمان من
قلبه، وسرعان ما يُخرِجه الابتلاء عن الإيمان، لأنه عبد الله عبادةً غير متمكنة
باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه على عبده.
والآية لم تترك شيئاً من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر.
وتأمل قول الله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ..} [الحج: 11] وكذلك:
{وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ..} [الحج: 11] فأنت لا تقول: أصبتُ الخيرَ، إنما
الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛
لذلك يقول تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ..} [الطلاق: 2- 3].
ويقول أهل المعرفة: رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه، يعني يعرف عنوانك
أما أنت فلا تعرف عنوانه، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا تُرزَق منه بشيء،
وقد ترى الزرع في الحقول زاهياً تأمل فيه المحصول الوفير، وتبني عليه الآمال، فإذا
بعاصفة أو آفة تأتي عليه، فلا تُرزَق منه حتى بما يسدُّ الرَّمَق.
ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة، فقالوا
له: إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير
الخلافة، وفعلاً سافر ابن أذينة إلى صديقه، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام،
واستأذن فأَذن له، واستقبله صاحبه، وسأله عن حالة فقال: في ضيق وفي شدة. وكان في
مجلس الخليفة علماء فقال له: يا عروة ألست القائل- وكان ابن أُذَيْنَة شاعراً:
لَقَد عَلِمت ومَا الإسْرَافُ مِنْ خُلُقِي *** أَنَّ الذي هُوَ رِزْقي
سَوْفَ يأْتِينِي؟
وهنا أحسَّ عروة أن الخليفة كسر خاطره، وخَيَّب أمله فيه، فقال له: جزاك
الله خيراً يا أمير المؤمنين، لقد ذكَّرت مني ناسياً، ونبَّهْتَ مني غافلاً، ثم
انصرف.
فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة، وفكَّر الخليفة في الموقف وأنَّب
نفسه على تصُّرفه مع صاحبه الذي قصد خَيْره، وكيف أنه رَدَّه بهذه الصورة، فأراد
أنْ يُصلِح هذا الخطأ، فأرسل إليه رسولاً يحمل الهدايا الكثيرة، إلا أن رسول
الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر، إلى أنْ وصل
إلى بيته، فطرق الباب، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه، وهذه
عطاياه وهداياه.
وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الأول، فقال:
أسْعَى لَهُ فَيُعَنَّيني تطلُّبه *** وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ
يُعنَّيني
كذلك نلحظ في هذه الآية: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ..} [الحج: 11] ولم يقابل الخير بالشر، إنما سماها(فتْنَة)
أي: اختبار وابتلاء؛ لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شراً في حَقِّه.
ومعنى: {انقلب على وَجْهِهِ} [الحج: 11] يعني: عكس الأمر، فبعد أنْ كان
عابداً طائعاً انقلب إلى الضِّدِّ فصار عاصياً {خَسِرَ الدنيا والأخرة..} [الحج:
11] وخسْران الإنسان لعبادته خسران كبيرٌ لا يُجْبَر ولا يُعوِّضه شيء؛ لذلك يقول
بعدها: {ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] فهل
هناك خُسْران مبين، وخسران غير مبين؟
نعم: الخسران هو الخسارة التي تُعوَّض، أما الخسارة التي لا عِوضَ لها
فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفكُّ عنه، وهو خُسْران لا يقتصر
على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوِّضه أو تصبر عليه، إنما يمتد للآخرة حيث لا عِوضَ
لخسارتها ولا صَبْر على شِدَّتها. فالخسران المبين أي: المحيط الذي يُطوِّق صاحبه.
لذلك نقول لمن فقد عزيزاً عليه، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلاً: إنْ
كان الفقيد حبيباً وغالياً فبيعوه غالياً وادخلوا به الجنة، ذلك حين تصبرون على
فَقْده وتحتسبونه عند الله، وإنْ كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة، فإنْ
لطَمْنا الخدود وشَقَقْنَا الجيوب، واعترضنا على قَدَر الله فيه فقد خسرنَا به
الدنيا والآخرة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن
أمره كله خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له، وليس ذلك إلا للمؤمن).
والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان، ومرحلة
من مراحل اليقين في نفس المؤمن، وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ،
حَسْب قوة الإيمان.
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزُّهَّاد، وكيف
كانوا يتباروْنَ في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية، ويتنافسون فيها، لا عن
مُبَاهاة ومفاخرة، إنما عن نية خالصة في الرُّقي الإيماني.
يسأل أحد هؤلاء المتمكِّنين صاحبه: كيف حال الزهاد في بلادكم؟ فقال: إن
أصابنا خير شكرنا، وإن أصابنا شَرٌّ صبرنا، فضحك الشيخ وقال: وما في ذلك؟! إنه حال
الكلاب في بَلْخ. أما عندنا: فإنْ أصابنا خير آثرنا، وإنْ أصابنا شَرٌّ شكرنا.
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس، فكلاً الرجلين زاهد سالك لطريق الله، يرى
نفسه محسوباً على هذا الطَريق، فيحاول أنْ يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه، فإياك أنْ
تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشُّكْر على العطاء، فهذه البداية وبعدها
منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلاَ، وشمَّر عن ساعد الجد في عبادة ربه.
انظر إلى أحد هؤلاء الزُّهَّاد يقول لصاحبة: أَلاَ تشتاق إلى الله؟ قال:
لا، قال مُتعجباً: وكيف ذلك؟ قال: إنما يُشتاق لغائب، ومتى غاب عني حتى أشتاق
إليه؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف: {يَدْعُو مِن دُونِ
الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ..}.
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ
ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ(12)}
معنى: {مَا لاَ يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هل الصنم الذي
يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره؟ لا، الصنم لا يضر، إنما الذي يضره حقيقة
مَنْ عانده وانصرف عن عبادته، تضره الربوبية التي يعاندها والمجَازي الذي يجازيه
بعمله، إذن: فما معنى: {يَضُرُّهُ..} [الحج: 12] هنا؟
المعنى: لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده، ولا ينفعه إنْ عبده: {ذلك هُوَ
الضلال البعيد} [الحج: 12] نعم ضلال: لأن الإنسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في
أيِّ شيء، أو يخشى ضره في أيِّ شيء.
وقد ذكرنا سابقاً قول بعض العارفين:(واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه)،
ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية، واهتمَّ بها القائمون على
التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضاً بالفساد، ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في
توجيهات ربه، ونصائح أبيه وأمه، وكيف أنه سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه
ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئاً.
لا بُدَّ أنْ نُطعِّم أبناءنا مبادئ الإسلام، ليعرف الولد منذ صِغَره
مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه، ومَنْ هو أَوْلَى بطاعته.
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ
يَنفَعُهُ..} [الحج: 12] لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب
المصلحة؛ لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه، والنفع يزيدك ويضيف إليك، أما
الضر فينقصك، لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد، فإذا وقفتَ أمام
أمرين: أحدهما يجلب خيراً، والآخر يدفع شراً، فلا شَكَّ
أنك ستختار دَفْع الشر أولاً، وتشتغل بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة.
وضربنا لذلك مثلاً: هَبْ أن إنساناً سيرمي لك بتفاحة، وآخر سيرميك
بحجر في نفس الوقت، فماذا تفعل؟ تأخذ التفاحة، أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى
(دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة).
================
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13)}
الأية السابقة تثبت أنه يدعو مَا لا يضُرُّه ومَا لا ينفعه، وهذه الآية
تُثبت أنه يدعو مَنْ ضَرُّه أقرب من نَفْعه.
صيغة أفعل التفضيل(أقرب) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة، إلا أن
أحدهما زاد عن الآخر في هذه الصفة، فلو قُلْتَ: فلان أحسن من فلان. فهذا يعني أن
كلاهما حَسَن، لكن زاد أحدهما عن الآخر في الحُسْن.
فقوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ..} [الحج:
13].
إذن: هناك نَفْع وهو قريب، لكن الضر أقرب منه، فهذه
الآية في ظاهرها تُناقِض الآية السابقة، والحقيقة ليس هناك تناقض، ولابد أنْ نفهمَ
هذه المسألة في ضوء قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ
فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكَّمون فيها وفي
عابديها، فإذا أرادوا من الآلهة شيئاً قالوا للسدنة: ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا،
إذن: كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعُبَّادها، هذه
الواسطة كانت تُدِرُّ عليهم كثيراً من الخيرات وتعطيهم كثيراً من المنافع، فكانوا
يأخذون كل ما يُهْدَى للأوثان.
فالأوثان- إذن- سبب في نَفْع سدنتها، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا،
ثم يتركونه بالموت، فمدة النفع قصيرة، وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه،
وإنْ جاء الموت فلا إيمانَ ولا عملَ ولا توبةَ، وهذا معنى {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن
نَّفْعِهِ..} [الحج: 13].
لذلك يقول تعالى بعدها: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} [الحج: 13]
كلمة(بئس) تُقَال للذم وهي بمعنى: ساء وقَبُح، والموْلَى:
الذي يليك ويقرُب منك، ويُراد به النافع لك؛ لأنك لا تقرِّب إلا النافع لك، إما
لأنه يعينك وقت الشدة، ويساعدك وقت الضيق، وينصرك إذا احتجتَ لِنُصْرته، وهذا هو
الوليُّ.
وإما أنْ تُقرِّبه منك؛ لأنه يُسليك ويجالسك وتأنس به، لكنه ضعيف لا
يقوى على نُصْرتك، وهذا هو العشير.
والأصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لأنها لا تنصرهم وقت الشدة، وبئست
العشير؛ لأنها لا تُسليهم، ولا يأنسون بها في غير الشدة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصالحات جَنَاتٍ..}.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ(14)}
بعد أن تكلَّم الحق سبحانه وتعالى عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون
الله على حَرْف، كان لابد أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لأن النفس عندها استعداد للمقارنة
والتأمل في أسباب دخول النار، وفي أسباب دخول الجنة، وهذا أَجْدى في إيقاع الحجة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار
لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14] وقوله تعالى:
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً..} [التوبة: 82].
فذِكْر النعمة وحدها دون أنْ تقابلها النِّقْمة لا تُؤتِي الأثر
المطلوب، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنَّ كلاهما
يُظهر الآخر؛ لذلك يقول تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة
فَقَدْ فَازَ..} [آل عمران: 185] فإنْ آمنتَ لا تُزَحْزح عن النار فقط- مع أن هذه
في حَدِّ ذاتها نعمة- لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة.
والإيمان: عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس، لكن الإيمان له مطلوب:
فأنت آمنتَ بالله، واطمأنَّ قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود.. إلخ،
فما مطلوب هذا الإيمان؟
مطلوب الإيمان أنْ تستمع لأوامره، لأنه حكيم، وتثق في قدرته لأنه قادر،
وتخاف من بطشه لأنه جبار، ولا تيأس من بَسْطه لأنه باسط، ولا تأمن قبضه لأنه قابض.
لقد آمنتَ بكل هذه القضايا، فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات
هذا الأمر، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَنْهَكَ من فراغ، إنما من خلال
صفات الكمال فيه سبحانه، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في كُلِّ أعمالك وفي
كُلِّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات.
لذلك، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح: {إِنَّ الله يُدْخِلُ
الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ..} [الحج: 14].
وفي سورة العصر: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات..} [العصر: 1- 3] ليس ذلك وفقط إنما أيضاً: {وَتَوَاصَوْاْ
بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من
ثماره؛ لأن المؤمن سيتعرَّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله، وسيواجه
سُخْرية واستهزاءً، وربما تعرَّض لألوان العذاب.
فعليه إذن- أنْ يتمسَّك بالحق ويتواصى به مع أخيه، وعليه أن يصبر، وأنْ
يتواصى بالصبر مع إخوانه، ذلك لأن الإنسان قد تعرض له فترات ضَعف وخَوَر، فعلى
القوي في وقت الفتنة أنْ ينصحَ الضعيف.
وربما تبدَّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى، فَمنْ أوصيْتَه
اليوم بالصبر ربما يوصيك غداً، وهكذا يُثمِر في المجتمع الإيماني التواصي بالحق
والتواصي بالصبر.
إذن: تواصَوْا؛ لأنكم ستتعرضون لِهزَّات ليست هزَّات شاملة جامعة، إنما
هزَّات يتعرض لها البعض دون الآخر، فإنْ ضعُفْتَ وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك:
اصبر، تجلَّد، احتسب.
وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق، أو تخرج عن الصبر، وهذه عناصر النجاة
التي ينبغي للمؤمنين التمسك بها: إيمان، وعمل صالح، وتواصٍ بالحق، وتواصٍ بالصبر.
وقوله سبحانه: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار..} [الحج: 14].
الجنات: هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتَّع:
الزرع، والخضرة، والنضارة، والزهور، والرائحة الطيبة، وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك
قال {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار..} [الحج: 14] ومعنى: {مِن تَحْتِهَا..}
[الحج: 14] أن الماء ذاتيٌّ فيها، لا يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع عنها، كما جاء
في آية أخرى: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار..} [التوبة: 100].
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ..} [الحج: 14]
لأنه سبحانه لا يُعْجِزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم {إِنَّمَآ
أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولو
تأملتَ هذه الآية لوجدتَ الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجوداً في الحقيقة،
بدليل أن الله تعالى يخاطبه {يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فهو- إذن- كائن فعلاً،
وموجود حقيقةً، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.
ثم يقول سبحانه: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا
والآخرة فَلْيَمْدُدْ..}
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15)}
(يظنُّ) تفيد عِلْماً غير يقيني وغير مُتأكد، وسبق أنْ تكلَّمنا في نسبة
القضايا، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه، تقول: زيد مجتهد، فأنت تعتقد في نِسْبة
الاجتهاد لزيد، فإنْ كان اعتقادك صحيحاً فتستطيع أنْ تُقدِّم الدَليل على صحته
فتقول: بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق.
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدِّم عليها دليلاً كأنْ سمع الناسَ
يقولون: زيد مجتهد. فقال مثلهم، لكن لا دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة، كالطفل
الذي نُلقّنه {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] هذه قضية واقعية يعتقدها
الولد، لكن لا يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل عليها إلا عندما يكُبر ويستوي تفكيره.
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه: من أبيه
أو أستاذه ثم قلَّده. إذن: إنْ كانت القضية واقعة، لكِنْ لا تستطيع أنْ تقيم
الدليل عليها فهي تقليد، فإنِ اعتقدتَ قضية واقعة، وأقمْتَ الدليل عليها، فهذا
أسمْى مراتب العلم، فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ، فهذا جهل.
فالجاهل: مَنْ يعتقد شيئاً غير واقع، وهذا الذي يُتعِب
الدنيا كلها، ويُشقي من حوله، لأن الجاهل الأميَّ الذي لا يعلم شيئاً، وليست لديه
فكرة يعتقدها صفحة بيضاء، تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك؛ لأنه خالي الذهن
ولا يعارضك.
فإنْ تشككْتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب،
فهذا هو الشَّكُّ، فلا تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد، ولا بعدم اجتهاده، فإنْ غلب
الاجتهاد فهو ظَنٌّ، فإنْ غلب عدم الاجتهاد فهو وَهْم.
إذن: نسبة القضايا إما علم تعتقده: وهو واقع وتستطيع
أنْ تقيمَ الدليل عليه، أو تقليد: وهو ما تعتقده وهو واقع، لكن لا تقدر على إقامة
الدليل عليه، أو جهل: حين تعتقد شيئاً غير واقع، أو شك: حين لا تجزم بالشيء ويستوي
عندك النفي والإثبات، أو ظن: حين تُرجِّح الإثبات، أو وهم: حين تُرجِّح النفي.
فالظن في قوله تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله..}
[الحج: 15] أي: يمرُّ بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر
محمداً، أو يتوهم ذلك- ولا يتوهم ذلك إلا الكفار- لأنهم يأملون ذلك في معركة
الإيمان والكفر- مَنْ ظَنَّ هذا الظنَّ فعليه أنْ ينتهيَ عنه؛ لأنه أمر بعيد، لن
يحدث ولن يكون.
وقد ظَنَّ الكفار هذا الظن حين رَأَوْا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه،
فاغتاظوا لذلك، ولم يجدوا شيئاً يريح خاطرهم إلا هذا الظن.
لذلك؛ يردُّ الله غيظهم عليهم، فيقول لهم: ستظلون بغيظكم؛ لأن النصر
للإيمان ولجنوده مستمر، فليس أمامك إلا أنْ تجعل حبلاً في السماء وتربط عنقك به،
تشنق نفسك حتى تقع، فإنْ كان هذا الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل: {فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
لكن ما الغيظ؟ الغيظ: نوع من الغضب
مصحوب ومشُوب بحزن وأَسَىً وحَسْرة حينما ترى واقعاً يحدث أمام عينيك ولا يرضيك،
وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئاً تمنع به مَا لا يُرضيك.
وهذه المادة(غيظ) موجودة في مواضع أخرى من كتاب الله، وقد استُعْملَتْ
حتى للجمادات التي لا تُحسُّ، اقرأ قول الله تعالى عن النار: {تَكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ..} [الملك: 8] وقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] فكأن النار
مغتاظة من هؤلاء، تتأهب لهم وتنتظرهم.
والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر، فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم
واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ، لكن يُذهب الله غيْظ قلوبنا، كما قال سبحانه:
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ..} [التوبة: 15].
أما غيْظ الكفار من نصْر الإيمان فسوف يَبْقى في قلوبهم، فربُّنا سبحانه
وتعالى يقول لهم: ثقُوا تماماً أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ضامن أنْ ينصره،
فإنْ خطر ببالكم خلافُ ذلك فلن يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلاّ أنْ تشنقوا أنفسكم؛
لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ..} [آل
عمران: 119].
ومعنى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء..} [الحج: 15] {فَلْيَمْدُدْ..} [الحج: 15]: من
مدَّ الشيء يعني: أطاله بعد أنْ كان مجتمعاً، ومنه قوله تعالى: {والأرض
مَدَدْنَاهَا..} [الحجر: 19] فكلما تسير تجد أرضاً ممتدة ليس لها نهاية حافَّة.
والسبب: الحبل، يُخرجون به الماء من البئر، لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط
حبلاً في السماء؟ إذن: علَّق المسألة على محال، وكأنه يقول لهم: حتى إنْ أردتم
شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم.
أو: يكون المعنى: {إِلَى السمآء..} [الحج: 15] يعني: سماء البيت وسقفه،
كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت.
ويمكن أن نفهم(السبب) على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء، وأيّ وسيلة
للصعود، فيكون المعنى: خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب
النصر؛ لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه، وهذه أيضاً لا يقدرون عليها، وسيظل
غيظهم في قلوبهم.
وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الآية لم تذكر
شيئاً عنه، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى: {مَن كَانَ
يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله..} [الحج: 15]
والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان، فقوله:
{يَنصُرَهُ..} [الحج: 15] ينصر مَنْ؟ لابد أنه محمد، لماذا؟
قالوا: لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ، فعندما تقول (سماء) نفهم
المراد، وعندما تقول (قلب) نفهم، (نور) نعرف المراد. والأسماء إما اسم ظاهر مثل:
محمد وعلي وعمر وأرض وسماء، والأسماء إما اسم ظاهر مثل: أنا، أنت، هو، هم.
والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم، فأنت تقول: أنا وكذلك غيرك
يقول أنا أو نحن، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب، فعُمدْة الفهم في
الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب. فإن لم يكن متكلّماً ولا مخاطباً فهو غائب، فمن
أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟
حين تقول: هو، هي، هم. مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيِّنها؟ إنْ
عيَّنْتَ المتكلم بكلامه، والمخاطب بمخاطبته، كيف تُعيِّن الغائب؟ قالوا: لابد أنْ
يسبقه شيء يدل عليه، كأن تقول: جاءني رجل فأكرمتُه، أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي
تحدثتُ عنه، جاءتني امرأة فأكرمتُها، جاء قوم فلان فأكرمتهم. إذن: فمرجع
الضمير هو الذي يدلُّ عليه.
لكن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه
ويدلُّ عليه، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله، لكن تأمَّل المعنى: الكلام هنا عن
النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم، وفريق الكفر وعلى رأسه
هؤلاء المعاندون، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ..} [القدر: 1].
فالضمير هنا مُتعيِّن، ولا ينصرف إلا إلى القرآن، ولا يتعين الضمير إلا
إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه.
اقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تلحظ أن
الضمير سابق على الاسم الظاهر، فالمرجع متأخر، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى
الله، فإذا قِيلَ: هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز
وجل.
كذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا
تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61]. على ظَهْر أيِّ شيء؟ الذِّهْن لا
ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض.
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
[الحج: 15] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم، فهو استفهام للتقرير، ليِقُروا هم بأنفسهم
أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو، لا يشفيه شيء، وأنهم سيموتون بغيظهم، كما قال تعالى:
{قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ..} [آل عمران: 119].
ثم يقول الحق سبحانه: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..}.
============================
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يُرِيدُ(16)}
قوله {أَنزَلْنَاهُ..} [الحج: 16] أي: القرآن؛ لأن
الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعِّين، وما دام مرجعه مُتعيناً فلا يحتاج لذكر
سابق. والإنزال يحمل معنى العلو، فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن
ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أَعْلى منك، من
الله، وليس من مُسَاوٍ لك، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟
ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلابد أن تسمع وتطيع ولا تناقش.
ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له: إن صاحبك
يقول: إنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرِج به إلى السماء، فما
كان من الصِّديِّق إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق، هكذا دون مناقشة، فالأمر من
أعلى، من الله.
وقلنا: إنك لو عُدْتَ مريضاً فوجدتَ بجواره كثيراً من الأدوية فسألته:
لماذا كل هذا الدواء؟ قال: لقد وصفه الطبيب، فأخذت تعترض على هذا الدواء، وتذكر من
تفاعلاته وأضراره وعناصره، وأقحمت نفسك في مسألة لا دَخْلَ لك بها.
هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء، لكن
لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى، وصدق القائل:
سُبْحانَ مَنْ يَرِثُ الطَّبِيبَ وطِبَّهُ *** ويُرِي المريض مَصَارِعَ
الآسِينا
إذن: حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أنْ نعلم الآمر به.
ومعنى {آيَاتٍ..} [الحج: 16] أي: عجائب {بَيِّنَاتٍ..}
[الحج: 16] واضحات. وسبق أنْ ذكرنا أنْ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة:
الآيات الكونية التي تُثبِت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل
والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صِدْق
بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكوَّن منها القرآن، وتُسمَّى (حاملة الأحكام).
فالمعنى هنا {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..} [الحج: 16] تحمل
كلمة الآيات كُلَّ هذه المعاني، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة،
وهي ذاتها آيات الأحكام.
ثم يقول سبحانه: {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ..} [الحج: 16] وهذه
من المسائل التي وقف الناس حولها طويلاً: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن
يَشَآءُ..} [النحل: 93] وأمثالها تمسَّك بها مَنْ ليس لهم حَظٌّ من
الهداية، يقولون: لم يُرِدِ الله لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟
وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لأن الوَقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء
ومقابله، أما هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي- إذن-
وَقْفة تبريرية، فالضال الذي يقول: لقد كتب الله عليَّ الضلال، فما ذنبي؟ لماذا لم
يَقُلْ: الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه؟!
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟
والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد
أنه سبحانه قد بيِّن مَنْ شاء أنْ يُضلّه، وبين مَنْ شاء أنْ يهديه، اقرأ قوله
تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}
[المائدة: 67] إذن: كُفْره سابق لعدم هدايته وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم
الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}
[القصص: 50].
إنما يهدي مَنْ آمن به، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه
وركنوا، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها
الكفر، لأنهم أحبُّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيماناً: {والذين اهتدوا
زَادَهُمْ هُدًى..} [محمد: 17].
والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير، وسبق أنْ ضربنا لها مثلاً، ولله
تعالى المثَل الأعلى: هَبْ أنك تسلك طريقاً لا تعرفه، فتوقفتَ عند جندي المرور
وسألته عن وجهتك فدلَّكَ عليها، ووصف لك الطريق الموصِّل إليها. لكن، هل دلالته لك
تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي وُصِف لك؟
بالطبع أنت حُرٌّ تسير فيه أو في غيره. فإذا ما حفظتَ لرجل المرور
جميلَهُ وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق،
وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها. هذا معنى: {والذين اهتدوا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
أما لو تعاليتَ على هذا الرجل، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق،
فإنه يدعُكَ وشأنك، ويضِنُّ عليك بمجرد النصيحة.
وهكذا.. الحق سبحانه وتعالى دَلَّ المؤمن ودَلَّ الكافر
على الخير، المؤمن رضي بالله وقَبِل أمره ونَهْيه، وحمد الله على هذه النعمة، فزاده
إيماناً وأعانه على مشقة العبادة، وجعل له نوراً يسير على هَدْيه، أما الكافر فقد
تركه يتخبّط في ظلمات كفره، ويتردد في متاهات العمى والضلال.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين
والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُوا..}.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)}
هذه فئات ست أخبر الله عنها بقوله: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ القيامة..} [الحج: 17] ومعنى الفصل بينهم أن بينهم خلافاً ومعركة، ولو
تتبعتَ الآيات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك آيتين في البقرة وفي المائدة.
يقول تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين
مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
وفي المائدة يُقدِّم الصابئين على النصارى، وفي هذا الموضع تأتي بالرفع
بالواو، يقول تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى
مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69].
{الذين آمَنُواْ..} [الحج: 17] أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، {والذين
هَادُواْ..} [الحج: 17] أي: اليهود، ثم النصارى وهما قبل الإسلام، أما الصابئون:
فهؤلاء جماعة كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ثم عبدوا الكواكب فَسُمُّوا
الصابئة لخروجهم عن الدين الحق. أما المجوس: فهم عبدة النار،
والذين أشركوا: هم المشركون عَبَدة الأصنام والأوثان.
أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين، قالوا: لأن النصارى فرقة
كبيرة معروفة ولهم نبي، أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأتَوْا
بعقيدة غير عقيدته، فهم قلَّة، لكن سبقوا النصارى في الترتيب الزمني؛ لذلك حين
يراعي السَّبْقَ الزمني يقول: {والصابئين والنصارى..} [الحج: 17] وحين
يراعي الكثرة والشهرة، يقول: {والنصارى والصابئين..} [البقرة: 62]
فكلٌّ من التقديم أو التأخير مُراد لمعنى مُعيَّن.
أما قوله: {والصابئون..} [المائدة: 69] بالرفع على خلاف القاعدة في
العطف، حيث عطفت على منصوب، والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه، فلماذا وسَّط
مرفوعاً بين منصوبات؟
قالوا: لا يتم الرفع بين المنصوبات إلا بعد تمام الجملة، فكأنه قال: إن
الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، والصابئون كذلك، فعطف هنا جملة تامة، فهي
مُؤخَّرة في المعنى، مُقدَّمة في اللفظ، وهكذا تشمل الآية التقديم والتأخير السابق.
لكن، كيف ينشأ الخلاف بين الأديان؟
ينشأ الخلاف من أن قوماً يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلِّغ عن هذا
الإله، لكنهم يختلفون على أشياء فيما بينهم، كما نرى الخلاف مثلاً بين المعتزلة
وأهل السنة، أو الجبرية والقدرية، فجماعة تثبت الصفات، وآخرون يُنكرونها، جماعة
يقولون: الإنسان مُجْبَر في تصرفاته، وآخرون يقولون: بل هو مختار.
وقد ينشأ الخلاف بين الأديان للاختلاف في النبوات، فأهل الديانات يؤمنون
بالإله الفاعل المختار، لكن يختلفون في الأنبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعاً
حَقٌّ. وقد ينشأ الخلاف من الادعاء، كالذين يدَّعُون النبوة كهؤلاء الذين يعبدون
النار، أو يعبدون بوذا مثلاً.
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الآية، فما حكم هؤلاء جميعاً بعد بعثة محمد
صلى الله عليه وسلم؟
نقول: أما المشركون الذين عبدوا الأصنام، وكذلك الذين عبدوا النبوة
المدَّعاة، فهؤلاء كفار ضائعون.
أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار، ويؤمنون بنبوة
صادقة، فشأنهم بعد ظهور الإسلام، أن الله تعالى أقام لنا تصفية آخر الأمر لهذه
الديانات، فمَنْ كان يهودياً قبل الإسلام، ومن كان نصرانياً قبل الإسلام، فإن الله
أجْرى لهم تصفية عقدية هي الإسلام، فإنْ كانوا مؤمنين الإيمان الأول بالله تعالى
فعليهم أنْ يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين.
لذلك قال بعدها: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
فبعد ظهور الإسلام بدأت لهؤلاء جميعاً- اليهود والنصارى
والمجوس والمشركين- حياة جديدة، وفُتِحَتْ لهم صفحة جديدة هم فيها أولاد اليوم،
حيث لزمهم جميعاً الإيمان بالله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
وكأن الإسلام تصفية(وأوكازيون إيماني) يجُبُّ ما قبله، وعفا الله عما سلف.
والحق سبحانه حينما تكلم عن الأجيال السابقة لنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم قال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا
أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] لذلك
نبَّه كُلٌّ من موسى وعيسى- عليهما السلام- بوجود محمد صلى الله عليه وسلم
وبشَّروا به، بدليل قول الله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ
بِهِ..} [البقرة: 89] والمراد اليهود والنصارى.
وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجامعاً للأديان كلها
في الإسلام الذي زاد عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر، إلى أن
تقوم الساعة.
جاء الإسلام تصفية لهؤلاء، استأنفوها بإيمان، واستأنفوها بعمل صالح،
فكان لهم أجرهم كاملاً عند ربهم لا يطعن فيهم دينهم السابق، ولا عقائدهم الفاسدة
الكافرة.
أما إنْ حدث خلاف حول النبوات كما تذكر الآية التي نحن بصددها: {إِنَّ
الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
[الحج: 17] والفَصْل أن نعرف مِنَ المحقُّ ومَنِ المبطل، وهكذا جمعتْ الآيات بين
حالة الاتفاق وحالة الاختلاف وبيَّنَتْ جزاء كل منهما.
فالفصل إما فصل أماكن، وإما فصل جزاءات، قالوا: بالطبع فالحكم بينهم:
هذا مُحِقٌّ وهذا مُبطِل سيؤدي إلى اختلاف الأماكن واختلاف الجزاءات.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] لأن
الله تعالى هو الحكَم الذي يفصل بين عباده، والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود،
والشهود لابد أن يكونوا عُدولاً، ولا يتحقق العدل في الشهادة إلا بدين يمنع الإنسان
أنْ يميل عن الحق، فإن كان الحكم هو الله فلا حاجة لبيِّنة، ولا حاجةَ لشهود؛ لأنه
سبحانه يحيط علمه بكل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
ومن العجيب أن الحُكْم والفَصْل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات:
التشريعية والقضائية والتنفيذية، فحُكْمه سبحانه لا يُؤجَّل ولا يُتحّايل عليه،
ولا تضيع فيه الحقوق كما تضيع في سراديب وأدراج المحاكم.
أما حُكْم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ، فربما صدر
الحكم وتعطَّل تنفيذه، أما حكم الله فنافذ لا يُؤجِّله شيء.
إذن: المسألة لن تمرَّ هكذا، بل هي محسوبة لك أو عليك.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي
السماوات وَمَن فِي الأرض..}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ(18)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ..} [الحج: 18] يعني: ألم تعلم؛
لأن السُجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا، ولكل
جنس من أجناس الكون سجود يناسبه.
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة: أدناها الجماد، ثم يليه
النبات، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة، ثم يليه الحيوان الذي يزيد
خاصية الإحساس، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل.
وكل جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه، حيث تنتهي هذه الدائرة بأن
كل مَا في كون الله مُسخَّر لخدمة الإنسان، وفي الخبر: (يا ابن آدم خلقتُ الأشياء
من أجلك، وخلقتُكَ من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له).
فكان على الإنسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها، ويعلم أن
كل شيء في الوجود مهما صَغُر فله مهمة يؤديها، ودَوْر يقوم به. فأَوْلَى بك أيها
الإنسان وأنت سيد هذا الكون أن يكون لك مهمة، وأن يكون لك دور في الحياة فلستَ
بأقلَّ من هذه المخلوقات التي سخَّرها الله لك، وإلاَّ صِرْتَ أقلّ منها وأدنى.
إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لأنك أعلى منها، فانظر إلى مهمتك
لمَنْ هو أعلى منك، فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبِّهك إلى هذه المهمة كان عليك
أن تشكره؛ لأنه نبَّهك إلى ما ينبغي لك أن تشتغل به، وإلى مَنْ يجب عليك الاتصال
به دائماً لذلك فالرسول لا يصح أن تنصرف عنه أبداً؛ لأنه يُوضِّح لك مسائل كثيرة
هي مَحَلٌّ للبحث العقلي.
وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الأجناس التي تخدمه: ألك قدرة
عليها؟ لقد خدمتْكَ منذ صِغَرِك قبل أنْ تُوجِّه إليها أمراً، وقبل أنْ توجدَ عندك
القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الأشياء، كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة الأعلى منك
ومن هذه المخلوقات، القوة التي سخَّرَتْ الكون كله لخدمتك، وهذا بَحْث طبيعي لابد
أن يكون.
هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأبَّ عليك، ولم تتخلف يوماً عن خدمتك،
انظر إلى الشمس والقمر وغيرهما: أقالت الشمس يوماً: إن هؤلاء القوم لا يستحقون
المعروف، فلن أطلع عليهم اليوم؟!
الأرض: هل ضنَّتْ في يوم على زراعها؟ الريح: هل توقفتْ
عن الهبوب. وكلها مخلوقات أقوى منك، ولا قدرةَ لك عليها، ولا تستطيع تسخيرها، إنما
هي في قبضة الله- عز وجل- ومُسخَّرة لك بأمره سبحانه، ولأنها
مُسخَّرة فلا تتخلف أبداً عن أداء مهمتها.
أما الإنسان فيأتي منه الفساد، ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه
الله من منطقة الاختيار.
البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة، لا سجوداً على
حقيقته، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ..} [النور: 41].
فلكل مخلوق مهما صَغُر صلاة وتسبيح وسجود، يتناسب وطبيعته، إنك لو تأملت
سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدتَ اختلافاً بين الناس باختلاف الأحوال، وهم
نوع واحد، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش، أو جالس على
مقعد، وربما يشير بعينه، أو أصبعه للدلالة على السجود، فإن لم يستطع أجرى السجود
على خاطره.
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حالة وقدرته
وطاقته، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به، والذي يتناسب مع طبيعته؟
وإذا كان هذا حال السجود في الإنسان، فهل ننتظر مثلاً أن نرى سجود الشمس
أو سجود القمر؟! ما دام الحق سبحانه وتعالى قال إنها تسجد، فلابد أن نؤمن بسجودها،
لكن على هيئة لا يعلمها إلا خالقها عز وجل.
بالله، لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش، أتعرف وهو أمامك أنه
يسجد؟ إذن: كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات؟
ومن معاني السجود: الخضوع والطاعة، فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه
المخلوقات سجوداً على الحقيقة، فليعتبر السجود هنا للخضوع والانقياد والطاعة، كما
تقول على إنسان متكبر: جاء ساجداً يعني: خاضعاً ذليلاً، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ استوى
إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
إذن: لك أن تفهم السجود على أيِّ هذه المعاني تحب، فلن
تخرج عن مراده سبحانه، ومن رحمة الله أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته، لا
تنحلّ عنها أبداً ولا تتخلف، كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى
السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
ونحن نتناقل الآن، ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب
الفيوضات الذين فَهِموا عن الله وتذوَّقوا لذَّة قُرْبه، وكانوا يتحاورون
ويتنافسون لا للمباهاة والافتخار، إنما للترقي في القرب من الله.
جلس اثنان من هؤلاء العارفين وفي فَمِ أحدهم نَخْمة يريد أنْ يبصقها،
وبدتْ عليه الحيرة، وهو ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه: أَلْقِها واسترحِ، فقال:
كيف وكلما أردتُ أنْ أبصقها سمعت الأرض تُسبِّح فاستحيْتُ أنْ أُلقيها على
مُسبِّح، فقال الآخر- ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه- وقد افتعل البَصْق وقال: مُسبِّح في مُسبِّح.
إذن: فأهل الكشف والعارفون بالله يدركون هذا التسبيح، ويعترفون به، وعلى
قدر ما لديك من معرفة بالله، وما لديك من فَهْم وإدراك يكون تلقِّيك وتقبُّلك لمثل
هذه الأمور الإيمانية.
والحق سبحانه وتعالى حين قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ
مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض..} [الحج: 18] معلوم أن مَنْ في السموات هم
الملائكة ولسنْا منهم، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة،
فلماذا قال بعدها: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..}
[الحج: 18].
كلمة: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..}
[الحج: 18] تُبيّن أن لنا قهريةً وتسخيراً وسجوداً كباقي أجناس الكون، ولنا أيضاً
نطقة اختيار. فالكافر الذي يتعوَّد التمرُّد على خالقه: يأمره بالإيمان فيكفر،
ويأمره بالطاعة فيعصي، فلماذا لا يتمرد على طول الخط؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ
أمرضه الله؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به؟
إذن: الإنسان مُؤتمِر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان، ومنطقة
الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام: كثير آمن، وكثير حَقَّ عليه العذاب.
لكن، لماذا لم يجعل الله سبحانه وتعالى الخَلْق جميعاً مُسخَّرين؟
قالوا: لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت
لله تعالى صفة القدرة على الكل، إنما لا تُثبت لله المحبوبية، المحبوبية لا تكون
إلا مع الاختيار: أن تكون حُرَّا مختاراً في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان،
وأنْ تكون حُراً وقادراً على المعصية، لكنك تطيع.
وضربنا لذلك مثلاً- ولله المثل الأعلى-: هَبْ أن عندك عبدين، تربط
أحدهما إليك في سلسلة مثلاً، وتترك الآخر حُراً، فإن ناديتَ عليهما أجاباك، فأيهما
يكون أطْوعَ لك: المقهور المجبر، أم الحر الطليق؟.
إذن: التسخير والقهر يُثبت القدرة، والاختيار يُثبت المحبة.
والخلاف الذي حدث من الناس، فكثير منهم آمن، وكثير منهم حَقَّ عليه
العذاب، من أين هذا الاختلاف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار، فمَنْ شاء فليؤمن،
ومن شاء فليكفر، فكأن كفر الكافر واختياره؛ لأن الله سَخَّره للاختيار، فهو حتى في
اختياره مُسخَّر.
أما قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس..} [الحج: 18] يعني:
باختياراتهم، وكان المفروض أن يقول في مقابلها: وقليل، لكن هؤلاء كثير، وهؤلاء
كثير أيضاً.
ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..} [الحج: 18] حقَّ: يعني ثبتَ،
فهذا أمر لابد منه، حتى لا يستوي المؤمن والكافر: {أَفَنَجْعَلُ
المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35] إذن: لابد أنْ يعاقب هؤلاء، والحق يقتضي ذلك.
وقوله سبحانه: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله
يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] لأن أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك. قد يأتي مَنْ
هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُيئَّسُ
هؤلاء من النجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد.
فمَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لابنُصْرته ولا بالشفاعة له،
فالمعنى: {وَمَن يُهِنِ الله..} [الحج: 18] أي: بالعذاب الذي حَقَّ عليه وثبت
{فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ..} [الحج: 18] يعني: يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب،
كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزه؛ لأن عِزَّته لا تكون إلا قَهْراً عن الله، وهذا مُحَال،
أو يكون بشافع يشفع له عند الله، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه.
لذلك، نقول: إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه، يعني: لا
أحد يقول لله: هذا في جواري؛ لذلك ذيَّلَ الآية بقوله تعالى: {الله يَفْعَلُ مَا
يَشَآءُ} [الحج: 18].
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ
فالذين كَفَرُواْ..}.
===============================
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ
الْحَمِيمُ(19)}
كلمة خَصْم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع، وكذلك
المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ
تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21].
ويقول تعالى: {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ..} [ص: 22].
والمراد بقوله: {خَصْمَانِ..} [الحج: 19] قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ
الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب..} [الحج: 18] والخصومة تحتاج إلى فَصْل
بين المتخاصمين، والفَصْل يحتاج إلى شهود، لكن إنْ جاء الفَصْل من الله تعالى فلن
يحتاج إلى شهود {وكفى بالله شَهِيداً..} [النساء: 79].
وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم، يقول
تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا
قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ..} [فصلت: 21].
فإنْ قلتَ: كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟
نقول: هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه، وأنا أبغضه
وضربنا لذلك مثلاً- ولله المثل الأعلى- بالقائد الذي يأمر جنوده، وعليهم أنْ
يُطيعوه حتى إنْ كانت الأوامر خاطئة، فإنْ رجعوا إلى القائد الأعلى حكَوْا له مَا
كان من قائدهم؛ ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم، وألزمهم طاعته
والائتمار بأمره.
فالخالق- عز وجل- جعل لإرادة الإنسان ولاية على جوارحه، فالفعل- إذن- للإرادة،
وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ. فحينما تريد مثلاً أنْ تقوم، مجرد أن تريد ذلك تجد
نفسك قائماً دون أنْ تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل،
مع أنها عملية مُعقَّدة تتضافر فيها الإرادة والعقل والأعصاب والأعضاء، وأنت نفسك
لا تشعر بشيء من هذا كله، وهل في قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرَّك فتحركتْ؟
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الإرادة، أفلا يكون أوْلى من
هذا أنْ ينفعل خَلْق الله لإرادة الله؟
إذن: العمدة في الأفعال ليستْ الجوارح وإنما الإرادة،
بدليل أن الله تعالى إذا أراد أنْ يُعطِّل جارحة من الجوارح عطّل الإرادة الآمرة،
وقطعها عن الجارحة، فإذا هي مشلولة لا حركةَ فيها، فإنْ أراد الإنسان تحريكها بعد
ذلك فلن يستطيع، لماذا؟
لأنه لا يعلم الأبعاض التي تُحرِّك هذه الجارحة، ولو سألتَ أعلم الناس
في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي: ما الحركة الآلية التي تتم في جسم
الإنسان كي يقوم من نومه أو من جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل
الجسم في هذه المسألة.
أما لو نظرتَ مثلاً إلى الحفَّار، وهو يُؤدِّي حركات أشبه بحركات الجسم
البشري لوجدتَ صبياً يشغله باستخدام بعض الأزرار، ويستطيع أنْ يصِفَ لك كل حركة
فيه، وما الآلات التي تشترك في كل حركة. فَقُلْ لي بالله: ما الزر الذي تضغط عليه
لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي تُحرِّك به عينيك، أو لسانك، أو قدمك؟ إنها مجرد
إرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لأن الله تعالى خلقك، وجعل لإرادتك السيطرة الكاملة
على جوارحك، فلا تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات لله- عز وجل- إنْ أراد منها أنْ تفعلَ.
حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض، إنما العذاب للنفس
الواعية، بدليل أن الإنسان إذا تعرَّض لألم شديد لا يستريح منه لا أنْ ينام، فإذا
استيقظ عاوده الألم، إذن: فالنفس هي التي تألم وتتعذَّب لا الجوارح.
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن، كما قال سبحانه في آية
أخرى {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة..} [الحج: 17].
لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: أنا أول مَنْ يجثو
بين يدي الله يوم القيامة للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب. هؤلاء
في جانب وفي الجانب المقابل: عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
لماذا؟ لأن بين هؤلاء كانت أول معركة في الإسلام، وهذه أول خصومة وقعتْ
فيه، ذلك لأنهم في معركة بدر أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً للمبارزة،
وكانت عادتهم في الحروب أنْ يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ
يُعذِّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال، ويعرِّضوا أرواح الناس جميعاً للخطر.
ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- في موقعة صِفِّين حيث
قال علي لمعاوية: ابرز إليَّ يا معاويةُ، فإنْ غلبتني فالأمر لك، وإنْ غلبتُك
فاجعل الأمر لي، فقال عمرو بن العاص وكان في صفوف معاوية: والله، يا معاوية
لقد أنصفك الرجل، وفي هذا حَقْنٌ لدماء المسلمين في الجانبين.
فنظر معاوية إلى عمرو وقال: والله يا عمرو ما أردْتَ إلا إن أبرز له
فيقتلني، ويكون لك الأمر من بعدي، وما دُمْتَ قد قلتَ ما قلتَ فلا يبارزه غيرك
فاخرج إليه.
فقام عمرو لمبارزة علي، لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته؟ وحمل عليٌّ
على عمرو حملة قوية، فلما أحسَّ عمرو أن علياً سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة،
واستعمل دهاءه في صَرْف عليٍّ عنه، فكشف عمرو عن عورته، وهو يعلم تماماً أن علياً
يتورع عن النظر إلى العورة، وفعلاً تركه علي وانصرف عنه، ونجا عمرو بحيلته هذه.
وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف فقال:
وَلاَخَيْرَ في رَدٍّ الرَّدَى بِدَنيَّةٍ *** كَما رَدَّهَا يَوْماً
بِسَوْأَتِهِ عَمْرُو
ويقول الشريف الرضي- وهو من آل البيت- في القصيدة التي مطلعها:
أرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْر *** أَما لِلْهَوَى نَهْيُ
عليْكَ ولاَ أَمْر
بَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي لَوْعَةٌ *** وَلكِنْ مِثْلي لاَ يُذَاعُ
لَهُ سِرُّ
وفيها يقول:
وَإنَّا أُنَاسٌ لاَ تَوسُّطَ بَيْنَنَا *** لَنَا الصَّدْرُ دُون
العَالَمينَ أو القَبْرُ
نعود إلى بدر، حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول الله بعض رجال
الأنصار فقالوا: هؤلاء نكرات من الأنصار، نريد أن تُخرِج لنا أَكْفَاءنا من رجال
قريش، فأخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد
المطلب، وأخرجوا هم عتبة وشيبة والوليد، وكان ما كان من نُصْرة المسلمين وهزيمة
المشركين.
وهذا هو اليوم الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
إذن: فبدر كانت فَصْلاً دنيوياً بين هذيْ الخصْمين، ويبقى فَصْل الآخرة
الذي قال فيه الإمام علي: (أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل).
ومعنى: {اختصموا فِي رَبِّهِمْ..} [الحج: 19] أي: بسبب اختلافهم في
ربهم، ففريقٌ يؤمن بوجود إله، وفريقٌ يُنكره، فريق يُثبت له الصفات، وفريق ينفي
عنه هذه الصفات، يعني: انقسموا بين إيمان وكفر.
ثم يُفصِّل القول: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن
نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19].
{قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ..} [الحج: 19] كأن النار تفصيل
على قَدْر جسومهم إحكاماً للعذاب، ومبالغةً فيه، فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلِّل
من شِدَّتها، وليست فضفاضة عليهم.
ثم {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19] والحميم: الماء
الذي بلغ منتهى الحرارة، حتى صار هو نفسه مُحْرِقاً من شِدَّة حَرّه، ولكَ أنْ
تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل!!
وهكذا يجمع الله عليهم ألوان العذاب؛ لأن الثياب يرتديها الإنسان لتستر
عورته، وتقيه الحر والبرد، ففيها شمول لمنفعة الجسم، يقول تعالى: {وَضَرَبَ الله
مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً
مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع
والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فالإذاقة ليستْ في اللباس، إنما بشيء آخر، واللباس يعطي الإحاطة
والشمول، لتعم الإذاقة كُلَّ أطراف البدن، وتحكم عليه مبالغةً في العذاب.
{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20)}
قلنا: إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها، فلم يغْلِ
عند درجة الحرارة التي نعرفها، إنما يُغلِيه ربه الذي لا يُطيق عذابَه أحدٌ. وأنت
إذا صببتَ الماء المغلي على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه من الخارج، إنما لا يصل إلى
داخله، أمّا هذا الماء حين يُصَبُّ عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم أولاً، ثم جلودهم
بعد ذلك، فاللهم قِنَا عذابك يوم تبعث عبادك.
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21)}
المقامع: هي السياط التي تقمع بها الدابة، وتَرْدعها
لتطاوعك، أو الإنسان حين تعاقبه، لكنها سياط من حديد، ففيها دلالة على الذِّلَّة
والانكسار، فضلاً عن العذاب.
ثم يُبيِّن الحق سبحانه مهمة هذه المقامع، فيقول: {كُلَّمَآ أرادوا أَن
يَخْرُجُواْ مِنْهَا..}.
===================================
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا
فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22)}
الحق سبحانه وتعالى يُصوّر حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن
اليأس في أن يُخفف عنهم، فإذا ما حاولوا الخروج من غَمِّ العذاب جاءتهم هذه السياط
فأعادتهم حيث كانوا، والإنسان قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه الأمر،
كالمسجون مثلاً الذي يُضْرب بالسياط على ظهره، فبعد عدة ضربات يفقد الإحساس ولا
يؤثر فيه ضَرْب بعد ذلك.
وقد أجاد المتنبي في وصف هذا المعنى حين قال:
رَمَاني الدَّهْرُ بالأَرْزَاءِ حتّى *** كَأنِّي فِي غِشَاءٍ مِنْ
نِبَالِ
فكنتُ إذا أَصَابتْني سِهَامٌ *** تكسَّرتْ النِّصَالُ علَى النِّصَال
لكن أنَّى يُخفَّف عن أهل النار، والحق سبحانه وتعالى يقول: {كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب..}
[النساء: 56].
ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أنْ طمِعوا في النجاة، وما أشدّ اليأس بعد
الطمع على النفس؛ لذلك يقولون: لا أفجعَ من يأسٍ مقمع، بعد أمل مُقْمِع. كما يقول
تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ..} [الكهف: 29] ساعة يسمعون الإغاثة
يأملون ويستبشرون، فيأتيهم اليأس في {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه..} [الكهف: 29].
وقوله تعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: 22] الحريق: الشيء
الذي يحرق غيره لشدته.
وبعد أن تحدثتْ الآياتُ عن الكافرين، وما حاق بهم من العذاب كان لابد
أنْ تتحدَّث عن المقابل، عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك، فيزداد
المؤمن تشبُّثاً بالإيمان ونُفْرةً من الكفر، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره
فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة، وكأن الحق سبحانه
وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي المقابلات وسائل النجاة والرحمة.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ..}.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ
مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23)}
يُبيِّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن:
{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار..} [الحج: 23] والزينة: {يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً..} [الحج: 23] واللباس: {وَلِبَاسُهُمْ
فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] فجمع لهم نعيم السَّكَن والزينة واللباس.
وفي الآخرة يُنعَّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرِّم عليهم في
الدنيا، وهنا قد يعترض النساء، وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير
والذهب؟
نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا، أمّا في الآخرة فهو نوع آخر
ومتعة كاملة لا يُنغِّصها شيء، فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدِّرات، وباقٍ معها لا
يأخذه أحد، ولا تحتاج إلى تغييره أو بيعه؛ لأنه يتجدّد في يدها كل يوم، فتراه على
صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه. كما قلنا سابقاً في قوله تعالى عن أهل
الجنة: {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ..} [البقرة: 25].
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل،
فيُبيِّن لهم ربهم أنها ليستْ كفاكهة الدنيا {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً..}
[البقرة: 25] يعني: أنواعاً مختلفة للصنف الواحد.
ثم يقول الحق: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول..}.
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ
الْحَمِيدِ(24)}
(هُدُوا) هداهم الله، فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة
والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك يهديهم الآن في الجنة ويدلّهم على كيفية
شُكر المنعم على هذه النعمة، هذا معنى: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول..} [الحج:
24]
هذا القول الطيب لخَّصته آيات أخرى، ومنها قوله تعالى: {الحمد للَّهِ
الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ..} [الزمر: 74].
وقوله: {الحمد للَّهِ.. الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ..}
[فاطر: 34- 35].
وقوله: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن..} [فاطر: 34].
فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ، ويباشرون النعيم المقيم لا يملكون إلا أنْ
يقولوا: الحمد لله، كما يقول الحق سبحانه عنهم: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد
للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10].
وقالوا: {الطيب مِنَ القول..} [الحج: 24] هو
كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فهذه الكلمة هي المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة،
والمعنى يسَع كل كلام طيب، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء} [إبراهيم: 24].
ثم يقول تعالى: {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} [الحج: 24] أي: هداهم الله
إلى طريق الجنة، أو إلى الجنة ذاتها، كما قال في آية الكافرين: {وَلاَ
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ..} [النساء: 168- 169].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ
الله والمسجد الحرام..}.
====================
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ(25)}
انتقلتْ بنا الآيات إلى موضوع جديد: {إِنَّ الذين
كَفَرُواْ..} [الحج: 25] بصيغة الماضي، لأن الكفر وقع منهم فعلاً {وَيَصُدُّونَ..}
[الحج: 25] بصيغة المضارع، والقياس أن نقول: كفروا وصَدُّوا، لكن المسألة ليست
قاعدة ولا هي عملية آلية؛ لأن الصدَّ عن سبيل الله ناشيء عن الكفر وما يزال صدُّهم
مستمراً.
ومعنى {عَن سَبِيلِ الله..} [الحج: 25] أي: عن الجهاد {والمسجد
الحرام..} [الحج: 25] لأنهم منعوا المسلمين من دخوله، وكان في قبضتهم وتحت
سيطرتهم، وهذا ما حدث فعلاً في الحديبية حينما اشتاق صحابة رسول الله إلى أداء
العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه، فلما ذهبوا منعهم كفار مكة،
وصدُّوهم عن دخوله.
{والمسجد الحرام..} [الحج: 25] كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ
تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه. وكلمة(الحَرَام) وصف بها بعض المكان وبعض
الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد
الحرام، ثم المشعر الحرام. وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة، هذه أماكن، ثم الخامس
وهو زمن: الشهر الحرام الذي قال الله فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام
قِتَالٍ فِيهِ..} [الحج: 25].
وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لأنه رَبٌ رحيم
بخَلْقه يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدّ من غرورهم، وكانت تنتشر
بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تُذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب، حتى
أن كِلاَ الفريقين يريد أنْ يُفني الآخر، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها،
لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب.
لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمة لتكون ستاراً لهذا
الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة. وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان،
فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام،
فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هَزّ رأسه قائلاً: لولا
الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
فهذه- إذن- رحمة من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها
ويَحْقِن دماءهم.
وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على
مَضَض، ويريد كل منهم أنْ يأتي صاحبه، لكن يمنعه كبرياءه أن يتنازل، فجلس الرجل في
غرفته، وأغلق الباب على نفسه، فنظرتْ الزوجة، فإذا به يرفع يديه يدعو الله أنْ
تُصالحه زوجته، فذهبتْ وتزيَّنَتْ له، ثم دفعت الباب عليه وقالت- وكأن أحداً
يُجبرها على الدخول-(مُوديَّانِي فين يا أم هاشم)
وكذلك، جعل في المكان محرماً؛ لأن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة
أشهر: ثلاثة سرد وواحد فرد، الفرد هو رجب، والسرد هي: ذو القعدة، وذو الحجة،
والمحرم.
فحرَّم أيضاً القتال في هذه الأماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب
تناحر القبائل بالغِلِّ والحِقْد والكبرياء والغرور.
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم
كَذَلِكَ جزاء الكافرين} [البقرة: 191].
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب،
فيدركون لذة السلام وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار
الحرب يجُرُّ حرباً، ولذة السلام وراحة الأمن والشعور بهدوء الحياة يَجُرُّ
مَيْلاً للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها
دوائر مركزها بيت الله الحرام وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد
الحرام وهي مكة، ثم المشعر الحرام الذي يأخذ جزءاً من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي
المكان، أما هذا البناء فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن فمكان
البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض أو صعدْتَ في طبقات السماء.
إذن: فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى
السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء
بكثير؟ إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة
ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
ثم يلي البيت المسجد، وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية، لكن هناك مسجد
بالمكان حين تقيمه أنت، وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الآن يسمى
(مسجد) بالمكان، أو مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع
فهو في هذه الحالة مسجد، قالوا: ولو امتد إلى
صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلُّه مسجد.
نعود إلى ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية، فقد صدَّ الكفار
المسلمين عن بيت الله الحرام وهم على مَرْمى البصر منه، فاغتاظ المسلمون لذلك،
ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة ورَغْماً عنهم.
لكن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سِرٌّ بينه وبين ربه عز وجل،
فنزل على شروطهم، وعقد معهم صُلْحاً هو(صلح الحديبية) الذي أثار حفيظة الصحابة،
وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فقال لرسول الله: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال
صلى الله عليه وسلم: «بلى» قال: أليسوا هم على
باطل؟ قال: فلِمَ نُعْطِى الدنيّة في ديننا؟.
وكان من بنود هذا الصلح: إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد
صلى الله عليه وسلم، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين.
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة- رضوان الله عليها- موقف عظيم في هذه
الشدة، ورَأْي سديد ردَّ آراء الرجال إلى الرُّشْد وإلى الصواب، وهذا مما نفخر به
للمرأة في الإسلام، ونردّ به على المتشدِّقين بحقوق المرأة.
فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فُسْطاطه مُغْضباً فقال لأم
سلمة: (هلك المسلمون يا أم سلمة، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا) يعني امرهم بالعودة دون
أداء العمرة هذا العام.
فقالت السيدة أم المؤمنين: يا رسول الله، إنهم مكروبون، فقد مُنِعُوا عن
بيت الله وهم على مَرْأىً منه، لكن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك به ربك، فافعل
فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن الأمر عزيمة- يعني لا رجعةَ فيه- وفعلاً أخذ رسول
الله بهذه النصيحة، فذهب فحلق، وذبح هدية وفعل الناس مثله، وانتهت هذه المسألة.
لكن قبل أنْ يعودوا إلى المدينة شاءتْ إرادة الله أنْ يخبرهم بالحكمة في
قبول رسول الله لشروط المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة:
أولاً: في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته،
وأنه أصبح مساوياً لهم، وهذا مكسب في حَدِّ ذاته.
ثانياً: اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات،
وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي يتفرغوا لاستقبال الوفود ونَشْر دين الله.
ثالثاً: كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة
رَغْماً عن أهلها، وكان في مقدوره أن يقتلهم جميعاً، لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين
من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم ولا يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلاء الكفار،
وسينالهم ما ينال الكفار، ولو تميَّز المؤمنون من الكفار أو خرجوا في جانب لأمكن
تفاديهم.
اقرأ قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد
الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ
وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ
مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن
يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً} [الفتح: 25].
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام: {الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ..} [الحج:
25] أي: جميعاً {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد..} [الحج: 25] العاكف فيه يعني:
المقيم، والباد: القادم إليه من خارج مكة، ومعنى {سَوَآءً..}
[الحج: 25] يعني: هذان النوعان متساويان تماماً.
لذلك نقول للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي
بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع
سجادته، وشغل بها المكان.
وقد دَعَتْ هذه الآية: {سَوَآءً العاكف
فِيهِ والباد..} [الحج: 25] البعض لأنْ يقول: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ
أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب.
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانت للجميع حين
كان المكان حُراً يبني فيه من أراد، أمَّا بعد أن بنى بيتاً، وسكنه أصبح مكيناً
فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته.
وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والإمام الشافعي، حيث
يرى الحنظلي أنه لا يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لأنها حسب هذه الآية للجميع، فردَّ
عليه الشافعي رضي الله عنه: لو كان الأمر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين:
{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ..} [الحشر: 8].
فنسب الديار إليهم. ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل
مكة: (وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟) وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن
هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها. لذلك رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي.
هذا مع أن الآية تعني البيت فقط، لا مكة كلها، فما كان الخلاف ليصل إلى
مكة كلها.
ثم يقول تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى، وهو الإلحاد في
الله عز وجل، أما هنا فيُراد بالإلحاد: الميْل عن طريق الحقِّ، وقوله: {بِظُلْمٍ..}
[الحج: 25] الظلم في شيء لا يسمو إلى درجة الكفر، والإلحاد بظلم إنْ حدث في بيت
الله فهو أمر عظيم؛ لأنك في بيت ربك(الكعبة).
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية، مجرد الإرادة هنا
تُعَدُّ ذنباً؛ لأنك في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلال والمهابة، فكما أعطى الله
لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات، كذلك عظَّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته،
فتنبَّه لهذه المسألة.
حتى في أمثال أهل الريف يقولون:(تيجي في بيت العالم وتسكر) يعني:
السُّكْر يُتصوَّر في بيت أحد العصاة، في بيت فاسق، في خمارة، لكن في بيت عالم،
فهذا شيء كبير، وجرأة عظيمة. لماذا؟
فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة، فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه،
والبيت منسوب إلى الله، فأنت تعصي ربك في عُقْر داره، وأيْ جرأة أعظم من الجرأة
على الله؟
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن
هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل
بيتُ الله باختيار الله(البيت الحرام) هو القِبْلة التي تتجه إليها كل بيوت الله
في الأرض.
فما عاقبة الإلحاد في بيت الله؟ {نُّذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائماً وأبداً،
والإذاقة أشد الإدراكات تأثيراً، وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس
بالمطعوم شراباً كان أو طعاماً، إلا أنه تعدى كل مُحسٍّ به، ولو لم يكن مطعوماً أو
مشروباً، ويقول ربنا عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
أي: ذق الإهانة والمذلة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس، فالإذاقة
تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق.
وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب
الله.
وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، والعذاب هو إيلام الحس. إذا أحببت أن تديم
ألمه، فأبْقِ فيه آلة الإحساس بالألم.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ
بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ(26)}
ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب أنْ يتكلم عن
تاريخه وبنائه، فقال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن
لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع
السجود} [الحج: 26] معنى بَوَّأه: أي: جعله مَبَاءةً يعني: يذهب
لعمله ومصالحه، ثم يبوء إليه ويعود، كالبيت للإنسان يرجع إليه، ومنه قوله تعالى:
{وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله..} [البقرة: 61].
وإذ: ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث، والمعنى خطاب لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا.
وهكذا في كل آيات القرآن تأتي(إذ) في خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحدث وقع
في ذلك الظرف.
لكن، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا: لأن
المكان المتبوّأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته، ولا
يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرتْ فيه كل مُقوِّمات الحياة.
لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ
فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ..} [يوسف: 56].
وقال في شأن بني إسرائيل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ..} [يونس: 93] فمعنى: {بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت..} [الحج: 26] أي:
جعلناه مبَاءة له، يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ أعلمنَاهُ، ودَلَلْناه على
مكانه.
وقلنا: إن المكان غير المكين، المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلُّ بها
المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى (مكين في هذا
المكان). وعلى هذا فقد دَلَّ الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره
بإقامة البيت عليه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة: فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم
عليه السلام هو أول مَنْ بنى البيت. ونقول لأصحاب هذا الرأي: الحق تبارك وتعالى
بوَّأ لإبراهيم مكان البيت، يعني: بيَّنه له؛ كأن البيت كان موجوداً، بدليل أن
الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم: {إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم..} [إبراهيم: 37].
وفي قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت
وَإِسْمَاعِيلُ..} [البقرة: 127].
ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شَبَّ، وأصبح لديه
القدرة على معاونة أبيه، أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعاً، وقوله
تعالى: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم..} [إبراهيم: 37] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل
أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت، إذن: هذا دليل على أن البيت كان
موجوداً قبل إبراهيم.
وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}
[آل عمران: 96].
وحتى نتفق على فَهْم الآية نسأل: مَنْ هُم الناس؟ الناس هم آدم وذريته
إلى أن تقوم الساعة، إذن: فآدم من الناس، فلماذا لا يشمله عموم الآية، فالبيت
وُضِع للناس، وآدم من الناس، فلابد أن يكون وَُضِع لآدم أيضاً.
إذن: يمكنك القول بأن البيت وَُضِع حتى قبل آدم؛ لذلك
نُصدِّق بالرأي الذي يقول: إن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً، ثم طمسَ
الطوفانُ معالم البيت، فدلَّ الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت، وأمره أنْ
يرفعه من جديد في هذا الوادي.
ويُقال: إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلَّتْه على المكان،
ونطقتْ: يا إبراهيم خُذْ على قدري، أي: البناء.
ولو تدبرتَ معنى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت..} [البقرة: 127]
الرَّفْع يعني: الارتفاع، وهو البعد الثالث، فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض
موجود فعلاً، وعلى إبراهيم أنْ يرفعها.
لكن لماذا بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت؟
لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة..} [إبراهيم: 37] كأن
المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة، الصلاة للإله الحقِ والربِّ
الصِّدْق؛ لذلك أمره أولاً: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود} [الحج: 26]
والمراد: طَهِّر هذا المكان من كل ما يُشعِر بالشرك، فهذه هي البداية الصحيحة
لإقامة بيت الله.
وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم- عليه السلام- في الشرك؟ بالطبع لا، وما
أبعدَ إبراهيمَ عن الشرك، لكن حين يُرسِل الله رسولاً، فإنه أول مَنْ يتلقَّى عن
الله الأوامر ليُبلِّغ أمته، فهو أول مَنْ يتلقى، وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدوةً
لقومه فيُصدِّقوه ويثقوا به؛ لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنَجْوة عنه.
ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ياأيها النبي اتق
الله..} [الأحزاب: 1] وهل خرج محمد صلى الله عليه وسلم عن تقوى الله؟ إنما الأمر
للأمة في شخص رسولها، حتى يسهُلَ علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه، ولا نرى
غضاضةً في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله؛ لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول
له: يا فلان اتق الله، وربما اعتبرها إهانة واتهاماً، وظن أنها لا تُقال إلا لمَنْ
بدر منه ما يخالف التقوى.
وهذا فَهْم خاطئ للأمر بالتقوى، فحين أقول لك: اتق الله. لا يعني أنني
أنفي عنك التقوى، إنما أُذكِّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى الله.
إذن: قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً..} [الحج: 26] لا تعني تصوُّر حدوث الشرك من إبراهيم، وقال {شَيْئاً..}
[الحج: 26] ليشمل النهيُ كُلَّ ألوان الشرك، أياً كانت صورته: شجر، أو حجر، أو
وثن، أو نجوم، أو كواكب.
ويؤكد هذا المعنى بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ..} [الحج: 26] والتطهير
يعني: الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريكَ له،
وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان، فقد يكون به شيء من
القاذورات مثلاً.
ومعنى {لِلطَّآئِفِينَ..} [الحج: 26] الذين يطوفون بالبيت: {والقآئمين..}
[الحج: 26] المقيمين المعتكفين فيه للعبادة {والركع السجود} [الحج: 26] الذين
يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة، عبَّر عن الصلاة بالركوع والسجود؛
لأنهما أظهر أعمال الصلاة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً..}
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)}
أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في
الناس بالحج، لماذا؟ لأن البيت بيت الله، والخَلْق جميعاً خَلْق الله، فلماذا
تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به، أو يعيش إلى جواره؟
فأراد الحق سبحانه وتعالى أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً،
فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت
بالذات هو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق.
إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم، ثم
يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة، فما بالك ببيت
الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور
به؟
ومعنى {أَذِّن..} [الحج: 27] الأذان: العلم، وأول
وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأذان. أي: الإعلام. ومن هذه
المادة قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ..} [إبراهيم: 7] أي:
أعلم؛ لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به؛ لذلك قبل
أنْ تتكلَّم لابد أنْ تسمع.
وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده
وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟
فناداه ربه: (يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ).
مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس،
في كل الزمان، وفي كل المكان، سيسمعه البشر جميعاً، وهم في عالم الذَّرِّ وفي
أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى..} [الأنفال: 17].
يعني: أَدِّ ما عليك، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك. فأذَّنَ إبراهيم في
الناس بالحج، ووصل النداء إلى البشر جميعاً، وإلى أن تقوم الساعة، فَمنْ أجاب
ولَبَّى: لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن
وهكذا، لأن معنى لبيك: إجابةً لك بعد إجابة.
فإنْ قُلْتَ: إن مطالب الله وأوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه
المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله
محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرتَ إلى هذه
الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن
مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة
الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟
قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أَذِّن- يأتوكَ، هكذا
رَغْماً عنهم، ودون اختيارهم، أَلاَ ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن
قوة خارجة عنهم تجذبهم.
وهذا معنى قوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ..} [إبراهيم: 37]
ومعنى تهوي: تأتي دون اختيار من الْهُويِّ أي: السقوط، وهو أمر لا يملكه الإنسان،
كالذي يسقط من مكان عالٍ، فليس له اختيار في ألاَّ يسقط.
وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، وتتحرَّق شَوْقاً إليه، وكأن شيئاً
يجذبها لأداء هذه الفريضة؛ لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله
{يَأْتُوكَ..} [الحج: 27] أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار
المكلف، يطيع أو يعصي، إذن: هذه المسألة قضية صادقة بنصِّ القرآن.
وبعض أهل الفَهْم يقولون: إن الأمر في: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج..}
[الحج: 27] ليس لإبراهيم، وإنما لمحمد صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه القرآن،
وخاطبه بهذه الآية، فالمعنى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت..}
[الحج: 26] يعني: اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت،
اذكر هذه القضية {وَأَذِّن فِي الناس بالحج..} [الحج: 27] فكأن الأمر هنا لمحمد
صلى الله عليه وسلم.
لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، فهم لا
يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبداً، وقد ثبت أن موسى- عليه السلام- حج بيت الله،
لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام حَجَّ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «يُوشك أنْ ينزل ابن مريم، ويأتي حاجاً، ويزور قبري، ويُدفن هناك».
فقال رسول الله: (ويأتي حاجاً) لأنه لم يمت، وسوف يدرك عهد التكليف من
رسول الله حين ينزل من السماء، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع
أنبياء الله ورُسُله.
ومن المسائل التي نحتجُّ بها عليهم قولهم: إن الذبيح إسحق، فلو أن
الذبيح إسحق كما يدَّعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورَمْي الجمار عندكم في الشام،
أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة، حيث كان إسماعيل.
ثم تذكَّروا جيداً ما قاله كتابكم المقدس في الأصحاح 23، 24 من أن الحق
سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران، ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه،
فالوحيد إسماعيل لا إسحق؛ لأن الله فدى إسماعيل، ثم بشَّر إبراهيم بإسحق.
ومن حكمة الله- عز وجل- أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذاً للحق، وثغرات
نصل منها إلى الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة أبداً، لابد
أنْ يترك المجرم قرينة تدلُّ عليه مهما احتاط لجريمته، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار
من ملابسه، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون.. إلخ، لذلك نقول: الجريمة لا تفيد؛ لأن
المجرم سيقع لا محالة في يد مَنْ يقتصُّ منه.
ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه
المجرمين أنفسهم، فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلامه ثغرةً أو تضارباً يصل
منه إلى الحقيقة.
ذلك لأن للصدق وجهاً واحداً لا يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد، أمّا
الكذب فله أكثر من وجه، والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييراً
وتضارباً في كلامه؛ لذلك العرب يقولون: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً. يعني:
تذكَّر ما قُلْته أولاً، حتى لا تُغيِّره بعد ذلك.
ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قَوْلُ أحدهم للآخر: هل تذكر يوم كنا
في مكان كذا ليلة العيد الصغير، وكان القمر ظهراً!! فقال: كيف، يكون القمر مثل
الظهر في آخر الشهر؟
وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل، ولابد أنْ يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه
الحق، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة، ثم
أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا وكذا، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه،
وتوجَّه إلى صاحب الأمانة، وقال له: اذهب إلى المكان، وابحثْ لعلَّك تكون قد
نسيتَه هنا أو هناك.
أو لعلّ آخر أخذه منك، فذهب صاحب المال، وفجأة سأل القاضي المتهم: لماذا
تأخر فلان طوالَ هذا الوقت؟ فردَّ المتهم: لأن المكان بعيدٌ
يا سيادة القاضي. فخانتْه ذاكرته، ونطق بالحق دون أن يشعر.
ثم يقول تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً..} [الحج: 27] ورجالاً هنا ليست
جَمْعاً لرجل، إنما جمع لراجل، وهو الذي يسير على رِجْلَيْه {وعلى كُلِّ
ضَامِرٍ..} [الحج: 27] الضامر: الفَرَس أو البعير المهزول من طول السفر.
وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي {يَأْتُوكَ..} [الحج:
27] فالجميع حريص على اداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشياً.
وقوله: {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الحج: 27] أي: من كل طريق
واسع {عَميِقٍ} [الحج: 27] يعني: بعيد.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ
اسم الله في أَيَّامٍ..}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق