الثلاثاء، 4 أبريل 2023

رسالة من نفائس الكتب لأبي طاهر المقرئ المتوفي سنة 960م.

رسالة من نفائس الكتب لأبي طاهر المقرئ المتوفي سنة 960م. 

طُبع لأول مرة في مصر عام 1981م

 بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا.

المحتوياتالمقدمة

ذكر أخبار أبي زيد

ذكر أخبار الأصمعي

ذكر أخبار أبي عبيدة

أخبار أبي عمر الجرمي

أخبار أبي عثمان المازني

أخبار التوزي

أخبار الزيادي

أخبار الرياشي

أخبار أبي حاتم السجستاني

أخبار أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ

============ 

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ/المقدمة

 أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ ذكر أخبار أبي زيد

المقدمة

 

كتاب فيه ذكر مشاهير النحويين وطرف من أخبارهم وذكر أخذ بعضهم عن بض والسابق منهم إلى علم النحو.

اختلف الناس في أول من رسم النحو فقال قائلون أبو الأسود الدؤلي وقال آخرون نصر بن عاصم الدؤلي ويقال الليثي وقال آخرون عبد الرحمن بن هرمز وأكثر الناس على أبي الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدؤل بن بكر بن كنانة وكان من سكان البصرة، والنسبة إليه دؤلي كما ينسب إلى نمر نمري فيفتح استثقالاً للكسرة ويجوز تخفيف الهمزة فيقال الدولي بقلب الهمزة واواً محضة لأن الهمزة إذا انفتحت وكان قبلها ضمة فتخفيفها بقلبها واواً محضة كما يقال في جُؤن جُوَنٌ وقد يقال الدّيليّ بقلب الهمزة ياء حين انكسرت. فإذا انقلبت ياء كسرت الدال لتسلم الياء كما تقول قيل وبيع.

وقال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر قال الديل بن بكر الكناني إنما هو الدُّؤل فترك أهل الحجاز الهمز وأنشد لكعب بن مالك.

(كعب بن مالك)

جاؤوا بجيش لو قِيسَ مُعْرسُه

ما كان إلا كمُعْرَس الدُّئل

والذي يقول أبو الأسود الديلي يريد به النسبة إلى الدؤل على تخفيف الهمزة الذي ذكرناه لأنه لا خلاف في نسبه.

وكان أبو الأسود ممن صحب علياً صلى الله عليه وكان من المتحققين بمحبته ومحبة ولده وفي ذلك يقول:

يقول الأرذلون بنو قشير

طوالَ الدهر لا تنسى عَلِيّا

أحِب محمداً حباً شديدا

وعبَاسا وحَمْزةَ والوصيّا

فإن يك حبُّهم رُشداً أُصِبْه

وليس بمخطئ إن كان غَيّا

وكان نازلاً في بني قشير بالبصرة وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته لعلي وولده فإذا أصبح وذكر رجمهم قالوا: الله يرجمك، فيقول لهم: تكذبون لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجمون فلا مصيب.

وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب عليه السلام العربية فكان لا يخرج شيئاً مما أخذه عن علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أحد حتى بعث إليه زيادٌ: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً ينتفع الناس به وتُعرب به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: (أن الله بريء من المشركين ورسوله)، فقال: ما ظننتُ أن أمر الناس صار إلى هذا فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتباً لقناً يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى بآخر قال أبو العباس أحسبه منهم. فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف فإن أتبعت شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين. فهذا نقط أبي الأسود.

وروى محمد بن عمران بن زياد الضبي قال حدثني أبو خالد قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم قال: جاء أبو الأسود الديلي إلى عبيد الله بن زياد يستأذنه في أن يضع العربية فأبى، قال فأتاه قوم فقال أحدهم: أصلحك الله مات أبانا وترك بنوه، فقال: علي بأبي الأسود ضع العربية، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم قال: أول من وضع العربية أبو الأسود الديلي، جاء إلى زياد بالبصرة فقال: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يعرفون أو يقيمون به كلامهم، قال: لا، قال فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنونا، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنونا؟ ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.

ويقال إن السبب في ذلك أنه مر بأبي الأسود سعد وكان رجلاً فارسياً من أهل بوزنجان كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون الجمحي فادعوا أنهم أسلموا على يديه وأنهم بذاك من مواليه فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه قال: ما لك يا سعد لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع، فضحك به بعض من حضره، قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه.

وكان أبو الأسود الدؤلي من أفصح الناس، قال قتادة بن دعامة السدوسي قال أبو الأسود الديلي: إني لأجد لِلّحن غَمزاً كغمز اللحم.

ويقال إن ابنته قالت له يوماً: يا أبتِ ما أحسن السماء، قال: أي بنية نجومها، قالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن إنما تعجبت من حسنها، قال: إذاً فتقولي ما أحسن السماء، فحينئذ وضع كتاباً ويقال إن ابنته قالت له: يا أبتِ ما أشد الحر، في يوم شديد الحر، فقال لها: إذا كانت الصقعاء، من فوقك والرمضاء من تحتك، قالت: إنما أردت أن الحر شديد، قال: فقولي إذاً ما أشد الحر، والصقعاء الشمس.

ويروى أن أبا الأسود لقى ابن صديق له فقال له: ما فعل أبوك، قال: أخذته الحمى ففضخته فضخاً وطبخته طبخاً ورضخته رضخاً فتركته فرخاً، قال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تزاره وتماره وتشاره وتضاره، قال: طلقها وتزوج غيرها فحظيت عنده ورضيت وبظيت، قال أبو الأسود: فما معنى بظيت؟ قال: حرف من اللغة لم تدرِ من أي بيض خرج ولا في أي عش درج، قال: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم أدر.

وروي عن عبد الله بن بريدة قال قيل لأبي الأسود الديلي: أتعرف فلاناً، قال: لا فإنه يتسارع في أطماعكم ويتثاقل عن حوائجكم ولكن عرفوا فلاناً فإنه الأهيس الملد المجلس إن أعطى أنتهز وإن سل أرز.

وأما نصر بن عاصم فقد روى محبوب البكري عن خالد الحذاء قال: سألت نصر بن عاصم وهو أول من وضع العربية: كيف نقرؤها قال قل هو الله أحد الله الصمد، لم ينون، قال: فأخبرته أن عروة ينون فقال: بئسما قال وهو للبئس أهل، فأخبرت عبد الله بن أبي إسحاق بقول نصر بن عاصم فما زال يقرأ بها حتى مات.

واختلف عن محبوب في عروة وعزرة فقال خلف بن هشام عروة وقال عمر بن شبة عزرة، وكان نصر بن عاصم أحد القراء والفصحاء وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء والناس.

وروي عن عمرو بن دينار قال: اجتمعت أنا والزهري ونصر بن عاصم فتكلم نصر فقال الزهري: إنه ليفلق بالعربية تفليقاً.

وأما عبد الرحمن بن هرمز فروى ابن لهيعة عن أبي النضر قال كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأحد القراء.

وأخذ عن أبي الأسود الديلي جماعة منهم يحيى بن يعمر وعنبسة بن معدان وهو عنبسة الفيل وميمون الأقران ويقال ميمون ابن الأقرن، ويقال أن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود.

فأما يحيى بن يعمر فهو رجل من عدوان بن قيس بن عيلان بن مضر وكان عداده في بني ليث من كنانة وكان مأموناً عالماً قد روى عنه الحديث ولقي ابن عمر وابن عباس وغيرهما وروى عنه قتادة وغيره.

ويقال إن أبا الأسود لما وضع باب الفاعل والمفعول زاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبواباً ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه فيمكن أن يكون الرجل الذي من بني ليث يحيى بن يعمر إذ كان عداده في بني ليث، ويقال أن الحجاج بن يوسف قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن؟

قال: الأمير أفصح من ذاك. قال: عزمت عليك لتخبرني وكانوا يعظمون عزائم الأمر، فقال يحيى بن يعمر: نعم في كتاب الله، قال: ذاك أشنع له ففي أي شيء من كتاب الله؟ قال: قرأت: (قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبُّ إليكم من الله ورسوله) فترفع أحب وهو منصوب. قال: إذاً لا تسمعني ألحن بعدها. فنفاه إلى خراسان. ويقال إن يزيد بن المهلب كتب من خراسان إلى الحجاج: أنا لقينا العدو ففعلنا واضطررنا هم إلى عرعرة الجبل ونحن بحضيضه. قال فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ قيل له: إن ابن يعمر هناك. فقال: إذاً.

وأما عنبسة بن معدان فإن معدان رجل من أهل ميسان قدم البصرة وأقام بها وكان لعبد الله بن عامر قيل بالبصرة فاستكثر النفقة عليه فأتاه معدان فتقبل به بنفقته وفضل في كل شهر فكان يدعى معدان الفيل. فنشأ له ابن يقال له عنبسة فتعلم النحو وروى الشعر وظرف فادعى إلى مهرة بن حيدان. فبلغ الفرزدق أنه يروي عليه شعر جرير فقال:

لقد كان في معدان والفيل زاجرٌ

لعنبسة الراوي على القصائد

فسأل بعض عمال البصرة عنبسة عن هذا البيت وعن الفيل فقال عنبسة: لم يقل والفيل إنما قال: اللؤم. فقال: إن أمراً فررت منه إلى اللؤم لأمرٌ عظيم.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد قال أبو عبيدة: اختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلمون منه العربية فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري. واختلف الناس إلى عنبسة فكان البارع من أصحابه ميمون الأقرن فكان صاحب الناس فخرج عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وحدث عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد التوزي الصدوق ما علمت العفيف قال سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: أول من وضع العربية أبو الأسود الديلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق. ففي هذه الحكاية ميمون قبل عنبسة وفي الحكاية التي قبلها عنبسة قبل ميمون.

وذكر محمد بن سلام قال كان بعد عنبسة وميمون الأقرن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وكان في زمان ابن أبي إسحاق عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء ومات ابن أبي إسحاق قبلهما ويقال أن ابن أبي إسحاق كان أشد تجريداً للقياس وكان أبو عمرو أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها. وكان بلال بن أبي بردة جمع بينهما وهو على البصرة يومئذ عمله عليها خالد بن عبد الله القسري أيام هشام. قال يونس قال أبو عمرو بن العلاء: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز فنظرت فيه بعد ذاك. قال: وبالغت فيه، وقال محمد بن سلام: سمعت رجلاً يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه. قال: هو والنحو سواء، أي هو الغاية. قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه لضحك به ولو كان فيهم أحد له ذهنه ونفاذه ونظر نظرهم كان أعلم الناس. وكان ابن أبي إسحاق يكثر الرد على الفرزدق والتعنت له فلما قال الفرزدق في قصيدة يمدح فيها يزيد بن عبد الملك.

مستقبلين شمال الشأم تضربنا

بحاصبٍ كنديف القطن منشور

على عمائمنا تلقى وأرحلنا

على زواحف ترجى مخها رير

فألح عليه ابن أبي إسحاق وعابه بخفض البيت الأول ورفع الثاني فغيره الفرزدق فقال: على زواحف نرجيها محاسير. وكان ابن أبي إسحاق يرد على الفرزدق كثيراً فقال فيه الفرزدق.

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكن عبد الله مولى مواليا

وكان عبد الله بن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف والحليف عند العرب مولى. من ذلك قول الراعي.

حزى الله مولانا غنياً ملامةً

شرار موالي عامرٍ في العزائم

وقال الأخطل لجرير

أتشتم قوماً أثبتوك بنهشلٍ

ولولاهم كنتم لعكل مواليا

يعني حلف الرباب لعكل.

وذكر حسين بن فهم قال حدثنا ابن سلامة قال اخبرنا يونس: أن أبا عمرو كان أشد تسليماً للعرب وكان ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب.

فأما أبو عمرو بن العلاء فهو من الأعلام في القرآن وعنه أخذ يونس بن حبيب والرواية عنه في القراءة والنحو واللغة كثيرة. قال الأصمعي سألت أبا عمرو عن قوله تبارك وتعالى. فعززنا بثالث. مثقلة فقال شددنا وأنشد للمتلمس:

أجدٌ إذا ضمرت تعزز لحمها

وإذا تشد بنسعها لا تنبس

وأنشد المازني قال أنشدنا الأصمعي عن أبي عمرو لرجل من اليمن وقد سماه غيره فقال امرؤ القيس بن عابس:

أيا تملك يا تملي

ذريني وذري عذلي

ذريني وسلاحي ثم

شدى الكف بالعزل

ونبلي وفقاها كعرا

قيب قطاً طحل

وثوباي جديدان

وأرخي شرك النعل

ومني نظرة خلفي

ومني نظرة قبلي

فإما مت يا تملي

فموتي حرة مثلي

قال أبو عمرو: وزادني فيها الجمحي:

وقد أسبأ للندما

ن بالناقة والرحل

وقد أختلس الطعنة

تنفي سنن الرجل

يقول يخرج منها من الدم ما يمنع الرجل من الطريق.

وقد أختلس الطعنة

لا يدمي له نصل

يعني من السرعة والحذق

كجيب الدفنس الورها

ء ريعت وهي تستفلي

يعني من سعة الطعنة.

وقال محمد بن يزيد المبرد أخبرني المازني قال أنشدني الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن شيخ من أهل نجد كان أسنهم.

استقدر الله خيراً وأرضين به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ

إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير

يبكي عليه غريب ليس يعرفه

وذو قرابته في الحي مسرور

حتى كأن لم يكن إلا تذكره

والدهر أيتما حالٍ دهارير

وأما عيسى بن عمر وهو في طبقة ابن عمرو بن العلاء فهو عيسى بن عمر الثقفي من أهل البصرة وليس بعيسى بن عمر الهمداني من أهل الكوفة وتروى عنه قرآت. وعيسى بن عمر الثقفي البكر من مقدمي نحويي أهل البصرة وكان أخذه من عبد الله بن أبي إسحاق وغيره. وعن عيسى بن عمر الثقفي أخذ الخليل بن أحمد. ولعيسى كتابان في النحو سمى أحدهما الجامع والآخر المكمل. فقال الخليل بن أحمد:

بطل النحو جميعاً كله

غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك الكمال وهذا جامع

فهما للناس شمس وقمر

وهذان الكتابان ما وقعا إلينا ولا رأيت أحداً يذكر أنه رآهما. وكان عيسى بن عمر فصيحاً ويروى عنه أشياء كثيرة من القرآت واستودعه بعض أصحابه خالد بن عبد الله القسري وديعة فلما نزع خالد بن عبد الله عن إمارة العراق وتقلد مكانه يوسف بن عمر كتب إلى واليه بالبصرة يأمره أن يحمله إليه مقيداً فدعا به ودعا بالحداد فمره بتقييده فقال له: لا بأس عليك إنما أراد الأمير لتؤدب ولده قال: فما بال القيد إذاً؟ فبقيت مثلاً بالبصرة. فلما أتى به يوسف بن عمر سأله عن الوديعة فأنكر فأمر به يضرب بالسياط فلما أخذه السوط جزع فقال: أيها الأمير إنها كانت أثياب في أسيفاطٍ. فرفع الضرب عنه ووكل به حتى أخذ الوديعة منه. قال علي بن محمد بن سليمان قال أبي: فرأيت طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر والإجاص اليابس وربما رأيته عندي وهو واقفٌ علي أو سائرٌ أو عند ولاة أهل البصرة فتصيبه نهكة على فؤاده يخفق بها حتى يكاد أن يغلب فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه ثم يتمصصها فإذا تسرط أي بلعه من ذلك شيئاً سكن ما به فسألته عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف فتعالجت له بكل شيء فلم أجد له شيئاً أصلح من هذا.

وقال وقلت له يوماً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله. قال: لا. قلت: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تكلم به أتراه مخطئاً؟ قال: لا. قلت: فما ينفع كتابك؟

وأما يونس بن حبيب فإنه بارعٌ في النحو من كتاب أبي عمرو بن العلاء وقد سمع من العرب كما سمع من قبله وقد روى عنه سيبويه وأكثر وله قياس في النحو ومذاهب يتفرد بها. وقد سمع منه الكسائي والفراء وكانت حلقته بالبصرة ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب والبادية.

وأخبرنا أبو بكر بن السراج قال: قال المبرد أخبرني أبو عثمان المازني: أن مروان بن سعيد بن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة سأل الكسائي بحضرة يونس: أي شيء يشبه أي من الكلام؟ فقال: ما ومن. فقال له: فكيف تقول لأضربن من في الدار؟ قال لأضربن من في الدار. قال: فكيف تقول: لأركبنّ ما تركبُ؟ قال: لأَركبنّ ما تركب. قال: فكيف تقول ضربت من في الدار؟ قال: ضربتُ مَن في الدار. قال: فكيف تقول رَكبتُ ما ركبتَ؟ قال: ركبتُ ما ركبتَ. قال: فكيف تقول لأضربنّ أيهم في الدار؟ قال: لأضربن أيَّهم في الدار. قال: فكيف تقول ضَرِبتُ أيّهم في الدار؟ قال: لا يجوز. قال: لِمَ؟ قال: أيٌّ كذا خلقت. قال فغضب يونس وقال: تؤذون جليسنا ومؤدب أمير المؤمنين.

وحدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا محمد بن الجهم قال حدثنا الفراء قال أنشدنا يونس النحوي:

رب حلم أضاعه عدم الما

ل وجهل غطا عليه النعميم

بتخفيف غطا

وروى الأصمعي عن يونس قال: قال لي رؤية بن العجاج: حتام تسألني عن هذه البواطيل وأزخرفها لك أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك. قال أبو سعيد هذا صحف فيه ابن الأعرابي فقال بلغ بالغين وهو أحد ما أخذ عليه.

قال أبو سعيد: بلع الشيب إذا وقع فيه الشيب.

حدثنا ابن مجاهد قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا يونس قال: كنا على باب ابن عمير فمرت بنا امرأة يدفع بعضها بعضاً كأنها خلفة فما لبثنا أن أقبل فتى من قريش عليه قميص قوهي ورداء فلما رآنا ارتدع فقلنا: هاهنا طلبتك. فتبعها وقال:

إذا سلكت قصد السبيل سلكته

وإن هي عاجت عجت حيث تعوج

وبهذا الإسناد قال يونس تقول العرب: الآل من غدوة إلى ارتفاع الضحى الأعلى ثم هو سرابٌ سائر اليوم وإذا زالت الشمس فهو فيء وغدوة ظل. وأنشد لأبي ذؤيب.

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيانه بالأصائل

وكان كذا وكذا الليلة يقولون ذاك إلى ارتفاع الضحى وإذا جاوز ذاك قالوا كان البارحة. وعنه بهذا الإسناد قال كان عبد الملك بن عبد الله ينشد:

إذا أنت لم تنفع فضر وإنما

يرجى الفتى كيما يضر وينفعا

وذكر عمر بن شبة عن خلاد بن يزيد عن يونس النحوي قال: ثلاثة والله أشتهي أن أمكن من مناظرتهم يوم القيامة آدم عليه السلام فأقول له قد مكنك الله من الجنة وحرم عليك شجرة فقصدت لها حتى ألقيتنا في هذا المكروه ويوسف عليه السلام أقول له كنت بمصر وأبوك عليه السلام بكنعان بينك وبينه عشر مراحل يبكي عليك لِم لَم ترسل إليه إني في عافية وتريحه مما كان فيه من الحزن وطلحة والزبير أقول لهما علي بن أبي طالب عليه السلام بايعتهماه بالمدينة وخلعتماه بالعراق لم أي شيء أحدث.

وأما الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي فقد كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب بها وعمل أول كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبط اللغة. وكان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم ويروى عنه أنه قال: إن لم تكن هذه الطائفة يعني أهل العلم أولياء لله فليس لله ولي. وقد كان وجه إليه سليمان بن علي من الأهواز وكان واليها يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده ويرغبه ويقال إن الذي وجه إليه سليمان بن حبيب بن المهلب من أرض السند يستدعيه إليه. وكان بالبصرة فأخرج الخليل إلى رسول سليمان بن علي خبزاً يابساً وقال: ما عندي غيره وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان، فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

أبلغ سليمان أني عنك في سعة

وفي غنى غير أني لست ذا مال

سخا بنفسي أني لا أرى أحداً

يموت هزلاً ولا يبقى على حال

وكان الخليل يقول الشعر البيتين والثلاثة ونحوها في الآداب كمثل ما يروى له:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

وكما يروى له في الزهد:

وقبلك داوى المريض الطبيب

فعاش المريض ومات الطبيب

فكن مستعداً لداعي الفنى

فإن الذي هو آت قريب

والخليل أستاذ سيبويه وعامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل وكل ما قال سيبويه: وسألته أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل.

وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي نسب إلى يزيد بن منصور خال المهدي لصحبته إياه وليس هو في النحو من طبقة الخليل ولا من طبقة سيبويه والأخفش وتأخر موته وكان مؤدب المأمون والكسائي مؤدب أخيه محمد الأمين وبينه وبين الكسائي مقارضة بسبب تأديبهما الأخوين. وله قصيدة يمدح نحويي البصرة ويهجو الكسائي وأصحابه. منها:

يا طالبَ النحو ألا فابكهِ

بعد أبي عمرو وحماد

وابن أبي إسحاق في علمه

والزين في المشهد والنادي

عيسى وأشباه لعيسى وهل

يأتي لهم دهرٌ بأنداد

هيهات إلا قائلاً عنهم

أرسوا له الأصل بأوتاد

فهو بمنهاجهم سالك

لفضلهم ليس بجحاد

ويونس النحوي لا تنسه

ولا خليلاً حية الوادي

وقل لمن يطلب علماً ألا

نادٍ بأعلى شرفٍ ناد

يا ضيعة النحو به مغربٌ

عنقاء أودت ذات اصعاد

أفسده قومٌ وأزروا به

من بين أغتامٍ وأوغاد

ذوى مراء وذوى لكنةٍ

لئام آباد وأجدادِ

لهم قياس أحدثوه هم

قياس سوء غير منقاد

فهم من النحو ولو عمروا

أعمار عادٍ في أبي جاد

أما الكسائي فذاك امرؤ

في النحو حارٍ غير مراد

وهو لمن يأتيه جهلاً به

مثل سراب البيد للصاد

وحماد الذي ذكره في النحويين فيما أظن هو حماد بن سلمة لأني لا أعلم في البصريين من ذكر عنه شيء من النحو واسمه حماد إلا حماد بن سلمة. من ذلك ما حدثنا أبو مزاحم موسى بن عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني مسعود بن عمرو قال حدثنا علي بن حميد الذارع قال سمعت حماد بن سلمة يقول: من لحن في حديثي فقد كذب علي. قال أبو مزاحم وحدثنا ابن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عمرو قال حدثني ابن سلام قلت ليونس: أيما أسن أنت أو حماد بن سلمة؟ قال: هو أسن مني ومنه تعلمت العربية. قال: وحدثني مسعود بن عمر وقال حدثني أبو عمر النحوي صالح بن إسحاق الجرمي قال: ما رأيت فقيهاً قط أفصح من عبد الوارث وكان حماد بن سلمة أفصح منه. وذكر نصر بن علي قال كان سيبويه يستملي على حماد فقال حماد يوماً قال رسول الله صلى الله عليه: ما أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدرداء. فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء: فقال حماد: لحنت يا سيبويه. فقال سيبويه لا جرم لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً. فطلب النحو ولزم الخليل. ولا أظن اليزيدي عني حماداً الراوية وإن كان مشهوراً برواية الشعر والأخبار لأنه من أهل الكوفة وإنما قصد اليزيدي تفضيل أهل البصرة على أنا لا نعرف لحماد الراوية شيئاً في النحو.

قال أبو سعيد ثم وجدت بخط أبي أحمد الجريري عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن محمد بن سلام في ترتيب النحويين من البصريين حماد بن الزبرقان وكان يونس يفضله.

وقال اليزيد في الكسائي وأصحابه.

كنا نقيس النحو فيما مضى

على لسان العرب الأول

فجاءنا قوم يقيسونه

على لغى أشياخ قطربل

فكلهم يعمل في نقص ما

به يصاب الحق لا يأتل

إن الكسائي وأشياعه

يرقون في النحو إلى أسفل

ثم إن اليزيدي رثى الكسائي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة وكانا قد خرجا مع الرشيد إلى خراسان فماتا في الطريق فقال:

تضرمت الدنيا فليس خلود

وما قاضي القضاة ترى من بهجة سيبيد

لكل امرئ منا من الموت منهلٌ

وليس له إلا عليه ورود

ألم تر شيئاً شاملاً ينذر البلى

وإن الشباب الغض ليس يعود

سيأتيك ما أفنى القرون التي خلت

فكن مستعداً فالفناء عتيد

أسيت على قاضي القضاة محمد

فأذريت دمعي والفؤاد عميد

وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا

بإيضاحه يوماً وأنت فقيد

وأقلقني موت الكسائي بعده

وكادت بي الأرض الفضاء تميد

فأذهلني عن كل عيش ولذةٍ

وأرق عيني والعيون هجود

هما عالمانا أوديا وتخرما

وما لهما في العالمين نديد

فحزني أن تخطر على القلب خطرةٌ

بذكرهما حتى الممات جديد

وكان أبو محمد اليزيدي الغاية في قراءة أبي عمرو وبروايته يقرأ أصحابه وكان عدلياً معتزلياً فيما يزعم العدلية ويروون أبياتاً يخاطب بها المأمون وهي:

يا أيها الملك الموحد ربه

قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به

نطق الكتاب وجاءت الآثار

ويعد عدلاً من يقول برأيه

شيخٌ تحيط بجمه الأقدار

عند المريسي اليقين بربه

لو لم يشب توحيده إجبار

لكن من جمع المحاسن كلها

كهلٌ يقال لشيخه مردار

هو عيسى بن صبيح وكان يعرف بأبي موسى بن المردار وكان من الزهاد. وأما سيبويه ويكنى أبا بشر واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد. وسيبويه بالفارسية رائحة التفاح وأخذ النحو عن الخليل وهو أستاذه وعن يونس وعيسى بن عمر وغيرهم وأخذ أيضاً اللغات عن أبي الخطاب الأخفش وغيره وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله ولم يلحق به من بعده.

وقال محمد بن يزيد أبو العباس المبرد قال يونس بن حبيب وقد ذكر عنده سيبويه: أظن هذا الغلام يكذب على الخليل. فقيل له: قد روى عنك أشياء فانظر فيها فنظر فقال: صدق في جميع ما قال هو قولي.

ومات سيبويه قبل جماعة قد كان أخذ عنهم كيونس وغيره وقد كان يونس مات في سنة ثلاث وثمانين ومائة. وذكر أبو زيد النحوي اللغوي كالمفتخر بذلك بعد موت سيبويه قال: كل ما قال سيبويه وأخبرني الثقة فأنا أخبرته. ومات أبو زيد بعد سيبويه بنيف وثلاثين سنة ويقال أنه نجم من أصحاب الخليل أربعة عمرو بن عثمان سيبويه والنضر بن شميل وأبو فيد مؤرج العجلي وعلي بن نصر الجهضمي وكان أبرعهم في النحو سيبويه وغلب على النضر بن شميل اللغة وعلى مؤرج العجلي الشعر واللغة وعلى لي بن نصر الحديث. ونجم من أصحاب سيبويه أبو الحسن الأخفش وقطرب وهو أبو علي محمد بن المستنير ويقال أنه إنما سمي قطرباً أن سيبويه كان يخرج فيراه بالأسحار على بابه فيقول: إنما أنت قطرب ليل. والقطرب دويبة تدب.

قال أبو العباس كان الأخفش أكبر سناً من سيبويه وكانا جميعاً يطلبان. قال فجاءه الأخفش يناظره بعد ن برع فقال له الأخفش: إنما ناظرتك لأستفيد لا لغيره. أتراني أشك في هذا.

وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علماً عند النحويين فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب فيعلم أنه كتاب سيبويه وقرأت نصف الكتاب ولا يشك أنه في كتاب سيبويه. وكان محمد بن يزيد المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر. تعظيماً له واستصعاباً لما فيه.

وكان المازني يقول: من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.

ومات سيبويه بفارس في أيام الرشيد.

وأما الأخفش فهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة مولى لبني مجاشع بن دارم فهو من مشهري نحويي البصرة وهو أحذق أصحاب سيبويه وهو أسن منه فيما يروى ولقى من لقيه سيبويه من العلماء والطريق إلى كتاب سيبويه الأخفش وذلك أن كتاب سيبويه لا نعلم أحداً قرأه على سيبويه ولا قرأه عليه سيبويه ولكنه لما مات سيبويه قرئ الكتاب على أبي الحسن الأخفش. وكان ممن قرأه أبو عمر الجرمي صالح بن إسحاق وأبو عثمان المازني بكر بن محمد وغيرهما.

وقد حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا سلمة قال حدثني الأخفش قال: جاءنا الكسائي إلى البصرة فسألني أن أقرأ عليه أو أقرئه كتاب سيبويه ففعلت فوجه إلي خمسين ديناراً. وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول: كان أوسع الناس علماً وله كتب كثيرة في النحو والعروض والقوافي. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: مات الأخفش بعد الفراء ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق بثلاث سنين.

وذكر أبو العباس محمد بن يزيد عن المازني عن الأخفش عن الكسائي قال: فزع أعرابي من الأسد فجعل يلوذ والأسد من وراء عوسجة فجعل يقول: يعسجني بالخوتلة يبصرني لا أحسبه يريد يختلني بالعوسجة يحسبني لا أبصره.

وكان من أهل البصرة جماعة انتهى إليهم علم اللغة والشعر وكانوا نحويين منهم الخليل بن أحمد وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي عبد الملك بن قريب وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري فهؤلاء المشاهير في اللغة والشعر ولهم كتب مصنفة. وكان بالبصرة جماعة غيرهم قبلهم وفي عصرهم كأبي الخطاب الأخفش. وكان قبل هؤلاء وفي عصرهم خلف الأحمر وأبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي وأبو فيد مؤرج العجلي وغيرهم. ويقال إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة وكان الخليل يحفظ نصف اللغة وكان أبو مالك عمرو بن كركرة يحفظ اللغة كلها.

======

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ/ذكر أخبار أبي زيد

< أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المقدمة أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ ذكر أخبار الأصمعي

قال أبو العباس محمد بن يزيد: أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري صليبة من الخزرج. قال أبو العباس: كان أبو زيد عالماً بالنحو ولم يكن مثل الخليل وسيبويه وكان يونس من باب أبي زيد في العلم باللغات وكان يونس أعلم من أبي زيد بالنحو. وكان أبو زيد أعلم الثلاثة بالنحو أعنيه والأصمعي وأبا عبيدة وكان يقال أبو زيد النحوي وله كتاب في تخفيف الهمز على مذهب النحو وفي كتبه المصنفة في اللغة من شواهد النحو عن العرب ما ليس لغيره وكانت حلقته بالبصرة ينتابها الناس. وذكر أبو العباس قال حدثني أبو بكر القرشي شيخ من أهل البصرة مولى لقريش قال سمت قوماً يذكرون أبا زيد في حلقة الأصمعي فساعدهم على ذلك ثم قال الأصمعي: رأيت خلفاً الأحمر في حلقة أبي زيد.

وكان أبو زيد كثير السماع من العرب ثقة مقبول الرواية، وأخبرنا أبو بكر بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال قال لي أبو زيد الأنصاري سألني الحكم بن قنبر عن: تعاهدت ضيعتي أو تعهدت. فقلت: تعهدت لا يكون إلا ذلك. قال فقال لي: فاثبت لي على هذا إذا سألك يونس فقل نعم. وكان الحكم بن قنبر سأل يونس فقال تعاهدت. قال فلما جئت سأله فقال يونس فقال: تعاد. فقال أبو زيد فقلت: لا. وكان عنده ستة من الأعراب الفصحاء فقلت: سل هؤلاء فبدأ بالأقرب إليه فالأقرب فسألهم واحداً واحداً فكلهم قال: تعهدت. فقال: يا أبا زيد رب علم كنت سببه. أو شيئاً نحو هذا.

ويروى أن أعرابياً وقف على حلقة أبي زيد جادياً أي مستميحاً فظن أبو زيد أنه جاء ليسأل مسألة في النحو فقال له أبو زيد: سل يا أعرابي عما بدا لك فقال علي البديهة:

لست للنحو جئتكم لا ولا فيه أرغب

أنا ما لي ولامرئٍ أبد الدهر يضرب

خل زيداً لشأنه حيث ما شاء يذهب

واستمع قول عاشق قد شجاه التطرب

همه الدهر طفلةٌ فهو فيها يشبب

وحدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد قال أخبرنا أبو عثمان المازني قال يقال: أسوأ الرجل مهموزاً إذا أحدث. قال وكان أبو زيد يقول لأصحابه أخطأتم وأسوأتم. وبإسناده، قال: وقال أبو زيد ستة يلزمونه ولا يفلحون الأشنانداني والكرماني وابن السحستاني والسرداني والخرساني والعرماني من عرمان من الأزد.

وقال أحمد بن يحيى كان أبو زيد يقول لأصحابه.

اقتربوا قرف القمع إني إذا موت كنع

لا أتوقى بالجزع ما طار شيءٌ فارتفع إلا كما طار وقع

قال وأنشدني فيها ابن الأعرابي:

حسبي بعلمي إن نفع ما الذل إلا في الطمع

من راقب الله نزع عن قبح ما كان صنع

قال أحمد بن يحيى قرف القمع ما كان عليه من الوسخ، فيقول أبو زيد لأصحابه: اقتربوا يا أوساخ.

وحدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثني أبو زيد قال قلت لأعرابي: ما المتكأكئ قال: المتأزف. قلت: ما المتأزف؟ قال: المحبنطئ يا أحمق. وتركني ومضى وذلك كله القصير.

وذكر أبو العباس محمد بن يزيد قال حدثني أبو عثمان المازني والتوزي وغيرهما أن الكسائي كتب إلى أبي زيد جواب كتاب كان كتبه إليه: شكوت إلي مجانينكم فأشكو إليك مجانيننا لئن كان أقذاركم قد نموا لأقذر وأنتن بمن عندنا فلولا المعافاة كنا كهم ولولا البلاء لكانوا كنا.

وذكر محمد بن يزيد قال حدثني المازني عن أبي زيد قال: قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو ويونس وعيسى بن عمر علماً كثيراً صحيحاً ثم خرج إلى بغداد فقدم إعراب الحطمة فأخذ عنهم شيئاً فاسداً فخلط هذا بذاك فأفسده ولا نعلم أحداً من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئاً من علم العرب إلا أبا زيد فإنه روى عن المفضل الضبي. قال أبو زيد في أول كتاب النوادر أنشدني المفضل لضمرة بن ضمرة النهشلي جاهلي.

بكرت تلومك بعد وهن في الندى بسلٌ عليك ملامتي وعتابي

أأصرها وبني عمي ساغبٌ فكفاك من إبةٍ علي وعاب

هل تخمشن إبلي على وجوهها أم تعصبن رؤوسها بسلاب

معنى بكرت أي قدمت الوقت والوهن الساعة من الليل، والبسل الحرام، أأصرها يعني أشد أخلافها والساغب الجائع، والإبة العيب وما يستحي منه والعاب العيب والسلاب عصابة سوداء تلبسها المرأة في المصيبة، وعامة كتاب النوادر لأبي زيد عن المفضل.

======

قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: كان الأصمعي أسد الشعر والغريب والمعاني وكان أبو عبيدة كذلك وبفضل على الأصمعي بعلم النسب وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو وهو عبد الملك بن قريب ويكنى أبا سعيد واسم قريب عاصم ويكنى بأبي بكر بن عبد الملك بن أصمع بن مطهر بن رياح بن عمرو بن عبد الله الباهلي وقد هجاه أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي بهذا النسب في قصيدة أولها:

ألا هبلت كل من ينتمي غلى أصمعٍ أمه الهابله

فكيف بمن كان ذا دعوةٍ وكفة نسبته شائله

وفيها:

أبِنْ لي دعى بني أصمعٍ أقفرٌ رباعك أم آهله

ومن أنت هل أنت إلا امروءٌ إذا صح أصلك من باهله

وحدثنا أبو علي الكوكبي قال حدثني محمد بن سويد قال أخبرني محمد بن هبيرة قال: قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد ما معنى قول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ودعا فلم أر مثله مخذولا

قال الكسائي: كان محرماً بالحج. قال الأصمعي فقوله:

قتلوا كسرى بليلٍ محرما فتولى لم يمتع بكفن

هل كان محرماً بالحج، فقال هارون للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. قوله محرماً كان في حرمة الإسلام.

قال محمد بن سويد قال ابن السكيت قال الأصمعي: ومن ثم قيل مسلم محرمٌ أي لم يحل من نفسه شيئاً يوجب القتل وقوله محرماً في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه.

وحدثنا محمد بن سهل الكاتب قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد قال سمعت ابن الأعرابي قال: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحواً من مائتي بيت ما فيا بيت عرفناه.

وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث. عنده عن ابن عون وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم. وعنده القرآن عن أبي عمرو ونافع وغيرهما ويتوقى تفسير شيء من القرآن والحديث على طريق اللغة.

حدثنا أبو علي الصفار قال حدثنا أبو عمرو الصفار قال حدثنا نصر بن علي قال: حضرت الأصمعي وقد سأله سائل عن معنى قول النبي صلى الله عليه: (جاءكم أهل اليمن وهم أبخع أنفساً) قال: يعني أقتل أنفساً ثم أقبل متندماً على نفسه كاللائم لها فقال: ومن أخذني بهذا وما علمي به. فقلت له: لا عليك فقد حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيع عن مجاهد في قوله: لعلك باخعٌ نفسك، أي قاتل نفسك فكأنه سرى عنه.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد أخبرني أبو قلابة الجرمي قال صرت إلى الأصمعي ومعي كتاب المجاز لأبي عبيدة فقال لي: هاته. فأعطيته وانصرفت فنظر فيه حتى انتهى إلى آخره. ثم رجعت إليه فقال لي: قال أبو عبيدة في أول كتابه: آلم ذلك الكتاب لا ريب فه. أي لا شك فيه فما يدريه أن الريب الشك. قال فقلت له: أنت فسرت لنا في شعر الهذليين. فقالوا تركنا القوم قد حصروا به

فلا ريب أن قد كان ثم لحيم، قال: فأمسك ولم يقل شيئاً ورد الكتاب. قال أبو العباس محمد بن يزيد: كان الأصمعي كثيراً ما يذاكر أصحابه بمعاني الشعر، قال: فمر به رجلان كانا يتناظران في المعاني فلما رأياه قال أحدهما لصاحبه متمثلاً ببيت:

وما ينجي من الغمرات إلا براكاء القتال أو الفرار

وقال ابن أخي الأصمعي: كان عمي إذا ورد عليه شيء ينكره قال: جحفل به. ومعناه أرم به. يقال جحفلت به إذا صرعته.

قال أبو العباس محمد بن يزيد: كان الأصمعي إذا أنشد هذه الأبيات يومئ كأنه يقوم على أرع. والأبيات له:

يا أمة الله ألم تسمعي ما قال عبد الملك الأصمعي

واحدة أثقلتني حملها فكيف لو قمت على أربع

وذكر أبو العباس قال: دخل الأصمعي يوماً على الرشيد بعد غيبة كانت منه فقال ل: يا أصمعي كيف كنت بعدي؟ فقال: ما لاقتني بعدك أرضٌ، فتبسم الرشيد فلما خرج الناس قال له: ما معنى قولك ما لاقتني أرض. قال: ما استقرت بي أرض كما يقال فلان لا يليق شيئاً أي لا يستقر معه شيء. فقال له: هذا حسن ولكن لا ينبغي أن تلكمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه فإذا خلوت فعلمني فإنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالماً إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذا لم أجب وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت. قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته.

قال أبو العباس نمى إلي أن الرشيد مازح أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر؟ فاغتمت لذلك ولم تدر ما معناه فوجهت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك فقال لها: الجعفر النهر الصغير وإنما ذهب إلى هذا. فطابت نفسها.

قال أبو العباس كان رجل يألف حلقة الأصمعي فإذا صار إلى منعته أهدى مما يحمل منها. فترك حلقة الأصمعي فألف حلقة أبي زيد وكان أبو زيد لا يقبل شيئاً، فمر الرجل يوماً بالأصمعي فأنشده الأصمعي للفرزدق.

ولح بك الهجران حتى كأنما ترى الموت في البيت الذي كنت تألف

وكان يقول اليسير من الشعر فمن ذلك ما يروى عنه أنه قال: كنت أجالس أمير المؤمنين وأسامره فوجه إلي ليلة في ساعة يرتاب فيها البريء فتناولت أهبة الدخول عليه فمنعت من ذلك وأعجلت فدخلني من ذلك رعب شديد وخوف وجعلت أتذكر ذنباً فلا أجده وجعلت نفسي تظن الظنون. فلما دخلت عليه سلمت ومثلت بين يديه قائماً وهو مطرق فرفع رأسه إلي فأمرني بالجلوس فجلست فقال: يا عبد الملك قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال:

لو أن جعفر خاف أسباب الردى لنجا بمهجته طمر ملجم

ولكان من حذر المنون بحيث لا يرجو اللحاق به العقاب القشعم

لكنه لما تقارب يومه لم يدفع الحدثان عنه منجم

قال وكان بين يديه طست مغطى بمنديل فأمر بكشفه فكشف فإذا رأس جعفر بن يحيى ثم قال: الحق بأهلك يا ابن قريب. فنهضت ولم أحر جواباً للرعب. فلما أفرخَ روعي فكرت في ذلك فوجدته أحب يعلمني مكره ونكره ودهاءه ليتحدث به عنه. قال الأصمعي فخرجت وأنا أقول: أيها المغرور هل لك عبرةٌ في آل برمك

غرهم عن قدر الله حساب الهشتمرك

وهي أبيات كثيرة آخرها

عبرةً لم ترد أنت ولا قبل أبٌ لك

وأكثر سماعه من الأعراب وأهل البادية.

حدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد قال قال الأصمعي: رآني أعرابي وأنا أكتب كل ما يقول فقال: ما تدع شيئاً إلا نمصته. أي نتفته. وقال له بعض الأعراب وقد رآه يكتب: كل شيء ما أنت إلا الحفظة تكتب لفظ اللفظة. وقال له آخر: أنت حتف الكلمة الشرود.

قال أبو العيناء: توفي الأصمعي بالبصرة وأنا حاضر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وصلى عليه الفضل بن إسحاق. وسمعت عبد الرحمن ابن أخيه في جنازته يقول: إنا لله وإنا إليه من الراجعين. فقلت: ما عليه لو استرجع كما علمه الله.

ويقال مات الأصمعي في سنة سبع عشرة ومائتين أو سنة ست عشرة والله أعلم وأحكم.

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ ذكر أخبار أبي عبيدة

=======

كان أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي تيم قريش لا تيم الرباب وهو مولى لهم ويقال هو مولى لبني عبيد الله بن معمر التيمي.

وحدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا الكديمي أو أبو العيناء الشك من أبي سعيد قال: قال رجل لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم فبالله إلا عرفتني من كان أبوك وما أصله. فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً بباجروان.

وكان أبو عبيدة من أعلم الناس بأنساب العرب وبأيامهم وله كتب كثيرة في أيام العرب وحروبها مثل كتاب مقاتل الفرسان وكتب في الأيام معروفة.

قال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب وكان الأصمعي يشركه في الغريب والشعر والمعاني وكان الأصمعي أعلم بالنحو منه، وكان أبو عبيدة والأصمعي يتقارصان كثيراً ويقع كل واحد منهما في صاحبه.

أخبرنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد قال حدثنا التوزي قال سألت أبا عبيدة عن قول الشاعر:

وأضحت رسوم الدار قفراً كأنها كتابٌ تلاه الباهلي ابن أصمعا

فقال: هذا يقول له في جد الأصمعي كان يقرأ الكتب على المنبر كما يقرأه الخراساني. قال التوزي: فسألت الأصمعي عن هذا فتغير وجهه ثم قال: هذا كتاب عثمان ورد على ابن عامر فلم يوجد له من يقرؤه إلا جدي.

ويروى أنه قيل لأبي عبيدة: أن الأصمعي يقول: بينا أبى يساير سلم بن قتيبة على فرس له. فقال أبو عبيدة: سبحان الله والحمد لله والله أكبر المتشبع بما لم يؤت كلابس ثوبي زور والله ما ملك أبو الأصمعي قط دابة إلا في ثوبه.

وحمل أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد فاختار الأصمعي لمجالسته لأنه كان أحسن منشأ منه وأصلح لمجالسة الملوك.

قال أبو العباس محمد بن يزيد قال أبو عبيدة: لما حملت إلى الرشيد أنا والأصمعي تغدينا عند الفضل بن يحيى فجاؤونا بأطعمة والله ما سمعت بها قط وإذا بين يدي الأصمعي سمك كنعد وكامخ شبت. فقال لي: كل من هذا يا أبا عبيدة فإنه كامخ طيب. قال فقلت: والله ما فررت من البصرة غلا من الكامخ والكنعد.

وحدثنا أبو علي الصفار قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة قال سمعت ابن دأب يقول: فخرج حمزة كأنه جملٌ محجوم. فصاح به صائح، يا أبا الوليد ما المحجوم؟ قال الذي به عضاض. قال: فرفعت رأسي فقلت له: للمحجوم ثلاثة مواضع اخترت لحمزة شرها. قال أبو العباس: الحجم حجم الشيء الذي له لَمْس يقال رأيتُ حجم صرته فعلمت ما فيها أي لمستها. قال أبو العباس وثلاثة المواضع التي يحتمل المحجوم أحدها هو الذي له جسم ولحم يقال جمل محجوم إذا كان جسيماً والمحجوم الذي كان المحجم على فيه يمنعه من الكلام، والمحجوم من العضاض.

وممن اختص بالأخذ عنه حتى نسب إليه التوزي ودماذ أبو غسان ويقال أنه مات سنة ثمان ومائتين وقيل سنة تسع ومائتين والله أعلم وأحكم؟

وبعد هذه الطبقة أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني واليهما انتهى النحو في زمانهما وفي عصرهما التوزي والزيادي والرياشي وأبو حاتم السجستاني.

==============

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ أخبار أبي عمر الجرمي

===

أبو عمر اسمه صالح بن إسحاق وهو مولى لجرم بن زمان وجرم من قبائل اليمن. قال أبو العباس محمد بن يزيد هو مولى لجبلة بن أنمار بن إراش بن الغوث، قال أبو العباس: كان أبو عمر الجرمي أغوص على الاستخراج من المازني وكان المازني أحد منه.

وأخذ أبو عمر النحو عن الأخفش وغيره وقرأ كتاب سيبويه على الأخفش ولقى يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه وأخذ اللغة عبد أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وطبقتهم وكان ذا دين وأخاً ورع وقد روى عن محدثي أهل البصرة.

حدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد قال حدثنا أبو عمر الجرمي عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عن محمد بن إسحاق عن يونس عن الزهري في قول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له). قال: معناه ما الذي علمناه شعراً وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعراً. قال الزهري: وكان رسول الله صلى الله عليه لا يقول من الشعر إلا ما قد قيل قبله.

وحدثنا أبو مزاحم الخاقاني قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا مسعود بن عمرو قال حدثني أبو عمر النحوي صالح بن إسحاق الجرمي قال: ما رأيت فقيهاً قط أفصح من مزاحم قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عمرو قال حدثني أبو عمر الجرمي قال: رأيت يونس النحوي ومر بحلقة من حلاق المسجد فقام إليه رجل فسأله عن قول الله جل ذكره (وإنى لهم التناوش من مكان بعيد) قال فقال بيده التناول وأنشد:

وهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشاً به تقطع أجواز الفلا

=============

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ أخبار أبي عثمان المازني

===============

وهو بكر بن محمد من بني مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن كعب بن علي بن بكر بن وائل. وقد كان أشخص إلى الواثق وكان السبب في ذلك أن جارية غنت.

أظليم إن مصابكم رجلاً أهدى السلام تحية ظلم

فرد بعض الناس عليها نصب رجلاً وظن أنه خبر إن وإنما هو مفعول المصدر ومصابكم في معنى إصابتكم وظلم خبر إنّ فقالت: لا أقبل هذا أو لا أغيره وقد قرأته كذى على أعلم الناس بالبصرة أبي عثمان المازني فتقدم بإحضاره.

قال أبو العباس محمد بن يزيد حدثني المازني قال: لما قدمت سر من رأى دخلت على الخليفة فقال لي: يا مازني من خلفت وراءك؟ فقلت: خلفت يا أمير المؤمنين أخية لي أصغر مني أقيمها مقام الوالد. فقال لي: فما قالت حين خرجت. قلت: طافت حولي وقالت وهي تبكي أقول لك يا أخي كما قالت بنت الأعشى لأبيها:

تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواءٌ ومن قد يتم

أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم

ترانا إذا أضمرتك البلاد نُجفى ويقطع فينا الرحم

قال لي: فما قلت لها؟ قال قلت: أقول لك أخية كما قال جرير لابنته:

ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال: لا جرم إنها ستنجح. وأمر لي بثلاثين ألف درهم. وفي غير هذه الرواية أنه لما أدخل عليه قال له: بسمك. يريد ما اسمك. قال المازني: وكأنه أراد أن يعلمني معرفته بإبدال الباء مكان الميم في هذه اللغة. فقلت: بكر بن محمد المازني. قال: أمازن شيبان أم مازن تميم؟ قلت: مازن شيبان. فقال: حدثنا، قلت: يا أمير المؤمنين هيبتك تمنعني عن ذلك وقد قال الراجز:

لا تقلواها وادلواها دلوا إن مع اليوم أخاه غدوا

قال: فسره لنا، قلت: لا تقلواها لا تعنفانها في السير، يقال قلوته إذا سرت به سيراً عنيفاً، ودلوت إذا سرت سيراً رفيقاً، ثم أحضر التوزي فكان في دار الواثق وكان التوزي يقول إن مصابكم رجلٌ ويظن أن مصابكم مفعول به ورجل خبر. فقال المازني: كيف تقول إن ضربك زيداً ظلمٌ. فقال التوزي: حسبي. وفهم.

وكان دِماذ أبو غسان صاحب أبي عبيدة قد قرأ من النحو إلى باب الواو والفاء ومن قول الخليل وأصحابه أن ما بعدها ينتصب بإضمار أن فنبأ فهمه عنه. قال عبد الله بن أبي سعد حدثنا عبد الله بن ماهان المروزي قال حدثنا عبد الله بن جبان النحوي قال كتب دماز إلى المازني:

فكرت في النحو حتى مللت وأتعبت نفسي له والبدن

وأتعبت بكراً وأًحابه بطول المسائل في كل فن

فكنت بظاهره عالماً وكنت بباطنه ذا فطن

خلا أن باباً عليه العفا للفاء يا ليته لم يكن

وللواو بابٌ إلى جنبه من المقت أحسبه قد لعن

إذا قلت هاتوا لماذا يقا ل لست بآتيك أو تأتين

أأجيبوا لما قيل هذا كذا على النصب قالوا الإضمار أن

فقد كدت يا بكر من طول ما أفكر في بابه أن أجن

وكان أبو عثمان مع علمه بالنحو متسعاً في الرواية.

أخبرنا أبو بكر السراج قال أبو العباس النحوي محمد بن يزيد قال أخبرنا المازني عن العتبي عن أبيه قال: قال الأحنف بن قيس: الكامل من عدت سقطاته، وأخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو العباس قال أخبرنا أبو عثمان قال أخبرني أبو الحسن المدائني قال: قيل لامرأة من بني نمير وحضرتها الوفاة: أوصى بثلثك فإن ذاك لك. قالت: وما أوصى وما أوصي بشيء. قيل بل تقربي إلى الله بذلك. قالت: من الذي يقول:

لعمرك ما رماح بني نمير بطائشة الصدور ولا قِصار

قالوا: زياد الأعجم. قالت: وممن هو؟ قالوا: من عبد القيس. قالت: فثلثي لعبد القيس.

حدثنا أبو مزاحم قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا أبو عثمان المازني قال حدثنا الأصمعي عن عيسى بن عمر قلا: كنا نمشي مع الحسن ومعنا عبد الله بن أبي إسحاق قال فقال: حادثوا هذه النفوس فإنها طلعة ولا تدعوها فتنزح بكم إلى شر غاية. قال: فأخرج عبد الله بن أبي إسحاق ألواحه فكتبها فقال: استفدنا منك يا أبا سعيد طلعة.

حدثنا أبو مزاحم قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني أبو عثمان المازني قال سمعت أبا زيد يقول: قيل للحسن يا أبا سعيد أيدالِك الرجل امرأته. قال: لا بأس إذا كان ملفجاً. والمفلج المفلس والمدالكة المماطلة.

حدثنا أبو مزاحم قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا أبو عثمان المازني حدثنا الأصمعي عن خلف الأحمر قال سمعت رؤبة يقول: ما في القرآن أعرب من قوله: (فاصدع بما تؤمر).

وبهذا الإسناد قال حدثنا أبو عثمان قال حدثني أبو زيد قال سمعت رؤبة قرأ: فأما الزبد فيذهب جفالاً. قال قلت: جفاء قال: لا إنما تجفله الريح أي تقلعه.

وبهذا الإسناد قال حدثنا أبو عثمان قال حدثنا الأصمعي قال سمعت عيسى بن عمر ينشد:

حييت عنا أيها الوجه ولغيرك البغضاء والنجه

النجه اسوأ الرد.

وبهذا الإسناد قال حدثنا أبو عثمان المازني قال أخبرني أحمد بن عبد الله بن علي السدوسي قال سمعت سعيد بن سلم يقول لأبي زياد الكلابي: هلم أناضلك. قال له أبو زياد: لا محمد لي بتنضال كفاى كالشن البالي. وقال المازني مرة: كفى كالشن البالي.

وبهذا الإسناد قال حدثنا أبو عثمان المازني قال: حدثني عثمان بن ثرمدة رجل من بني ذهل بن ثعلبة قال: شهدت شبيب بن شبة وهو يخطب إلى رجل من الأعراب بعض حرمته فطول وكانت للأعرابي حاجة تنزعه يخاف فوتها فاعترض الأعرابي على شبيب وقال له: يا هذا إن الكلام ليس للمكثر المطنب ولكنه للعقل المصيب وأنا أقول الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين أما بعد فقد أدليت بقرابة وذكرت حقاً وعظمت مرعياً فقولك مسموع وحبلك موصول وبذلك مقبول وقد زوجنا صاحبك على اسم الله.

وقال أبو عثمان سألني الأصمعي عن هذا. يا بئر يا بئر بني عدي ليمخضن جوفك بالدلي

حتى تعود أقطع الولي

فقلت حتى تعودي قليباً اقطع الولي كان حقه أن يقول قطعاء الولي لقوله تعودي. وكان عبد الصمد بن المعذل قد وجد من شيء كان أنكره المازني و كلام تكلم به فيه فقال يهجوه وأفحش.

بنت ثمانين بفيها لثغه شوهاء ورهاء كطين الردغه

ممشوطة لمتها المثمغه ملوية أصباغها المصمغه

مخضوبة في قمص مصبغه مثلبة للصاحب منزغه

فيها يعاف الخفرات ميلغه ملسبةٌ بالناقرات ملدغه

أعارها الغضون منه الوزغه والظربان كشحه وأزفغه

والديك أحذى الجيد منها النغنغه ألقت حليساً لي وألقت مردغه

وهامستني بحديث فغفغه وحلف منها وإفك مغمغه

إنك إن ذقت حمدت الممضغه فقلت ما هاجك قالت دغدغه

فقلت من أنت فقالت لي دغه وابني أبو عثمان ذو علم اللغه

فاطوِ حديثي دونه أن يبلغه هممت أعلو رأسها فأدمغه

فبلغ أبا عثمان فقال: قولوا له الجاهل بم نصبت فأدمغه لو لزمت مجالسة أهل العلم كان أعود عليك.

===========

واسمه عبد الله بن محمد مولى لقريش. قال أبو العباس كنا ندعوه أبا محمد القرشي. وقرأ التوزي كتاب سيبويه على أبي عمر الجرمي. قال أبو العباس أوما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي كان أعلم من الرياشي والمازني وأكثرهم رواية عن أبي عبيدة وقد قرأ على الأصمعي وغيره.

وحدثنا أبو علي الصفار قال محمد بن يزيد أبو العباس قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير لأبي محمد التوزي كلمة جرير التي أولها:

طرب الحمام بذي الأراك فشاقني لا زلت في فنن وأيك ناضر

حتى صرت إلى قوله:

أما الفؤاد فلن يزال موكلاً بهوى جمانة أو برياً العاقر

فقال له التوزي: ما هما. فقال عمارة: ما يقول صاحبكم يعني أبا عبيدة. فقال التوزي قال: هما امرأتان. فضحك عمارة ثم قال: هما والله رملتان تمتدان بيتي من عن يمينه وعن شماله. فقال التوزي: اكتب. فاستكبرت ما قال إجلالاً لأبي عبيدة. فقال لي اكتب فإن أبا عبيدة لو حضر هذا لأخذ هذا الضرب عنه هذا بيت الرجل.

وحدثنا أبو علي قال حدثنا أبو العباس قال سأل التوزي عمارة عن بيت الفرزدق هذا وما سمعته سئل قط عن شيء من شعر الفرزدق غير هذا فلم يجبه فقال التوزي معناه الحمرة من الدم. والبيت:

ومنا غداة الروع فتيان غارة إذا متعت بعد الأكف الأشاجع

متعت احمرت من الدم ويقال نبيذ ماتع أي شديد الحمرة.

قال أبو العباس وحدثني التوزي قال: كنت أقرأ على الأصمعي أنا وحيان وكان لقب حيان عينين. قال فكان الأصمعي إذا رآنا تمثل.

وشريكين في كثير من الو د وكانا محالفي إقلال

وتزوج التوزي بأم أبي ذكوان النحوي فكان أبو ذكوان إذا قيل له: من كان التوزي منك. قال: كان أبا اخوتي وكان في جمل الواثق.

========

هو أبو إسحاق إبراهيم بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه وكان قد قرأ كتاب سيبويه ولم يتمه وله نكت في كتاب سيبويه وخلافٌ له في مواضع قد ذكرناها في شرحه. وقرأ على الأصمعي وروى عنه وعن غيره. وحدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد عن الزيادي قال: قرأت مرة على الأصمعي في صفات الإبل وأردت منها المُكَرّي فقلت المَكَرّي. فقال:

هذه بالمولتانية أي بالسندية. وهو في شعر القطامي

وكل ذلك منها كما رفعت منها المُكَرِّي ومنها اللين السادي

قال وقرأ عليه يوماً هذا البيت:

أغنيت شأني فاغنوا اليوم شأنكم واستحمقوا في لقاء الحرب أو كيسوا

فصحفت فقال أغنيتُ شاتي. فقال الأصمعي: فأغنوا اليوم تيسكم.

=========

هو أبو الفضل عباس بن الفرج مولى محمد بن سليمان بن علي الهاشمي ورياش رجل من جذام كان أبو عباس عبداً له فبقي عليه نسبه إلى رياش. وكان عالماً باللغة والشعر كثير الرواية عن الأصمعي وروى أيضاً عن غيره. وقد أخذ عنه أبو العباس محمد بن يزيد وأبو بكر بن دريد. وحدثني أبو بكر بن أبي الأزهر وكان عنده أخبار الرياشي قال: كنا نراه يجيء إلى أبي العباس المبرد في قدمة قدمها من البصرة وقد لقيه أبو العباس ثعلب وكان يفضله ويقدمه.

حدثنا أبو بكر بن دريد قال: رأيت رجلاً في الوراقين بالبصرة يفضل كتاب المنطق ليعقوب بن السكيت ويقدم الكوفيين فقيل للرياشي وكان قاعداً في الوراقين قال فقال: إنما أخذنا اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكواميخ وأكلة الشواريز أو كلام يشبه هذا.

حدثنا أبو بكر ابن السراج قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد قال أول ما سمعت الرياشي ينشد شعراً لمالك بن أسماء بن خارجة.

يا ليت لي خصاً بداركم بدلا بداري في بني أسد

الخص فيه تقر أعيننا خيرٌ من الآجر والكعد

قال وأنشدني له أيضاً يقول لأخيه عيينة:

أعيين هلا إذ شفغت بها كنت استغثت بفارغ العقل

أرسلت تبغي الغوث من قبلي والمستغاث إليه في شغل

وحدثنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد قال حدثنا الرياشي أحسبه عن الأصمعي قال قال رؤية: خرجت مع أبي أريد سليمان بن عبد الملك فلما صرنا ببعض الطريق قال لي أبي: أبوك راجز وجدك كان راجزاً وأنت مفحم. قلت: أفأقول. قال نعم. قال فقلت.

كم حسرنا من علاة عنس، ثم أنشدته إياها فقال: اسكت فض الله فاك. قال: فلما انتهينا إلى سليمان قال له: ما قلت. فأنشده أرجوزتي فأمر له بعشرة آلاف. فلما خرجنا من عنده قلت: أتسكتني وتنشد أرجوزتي. قال: اسكت ويلك فإنك أرجز الناس. قال: فالتمست منه أن يعطيني نصيباً مما أخذه بشعري فأبى أن يعطيني منه شيئاً فنابذته. فقال:

لطال ما جرى أبو الجحاف لنية بعيدة الإيجاف

ناء عن الأهلين والألاف سرهفته ما شئت من سرهاف

حتى إذا ما آض ذا أعراف كالكودن المشدود بالإكاف

قال الذي عندك لي صواف من غير ما كسب ولا احتراف

فقال رؤبة يجيبه:

إنك لم تنصف أبا الجحاف وكان يرضى منك بالإنصاف

ظلمتني غيرك ذو الإسراف يا ليت حظي من نداك الضاف والفضل أن تتركني كفاف

ومات الرياشي فيما حدثني به أبو بكر بن دريد سنة سبع وخمسين ومائتين بالبصرة قتله الزنج.

===============

هو سهل بن محمد وكان كثير الرواية عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي عالماً باللغة والشعر. قال أبو العباس وسمعته يقول قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين. وكان حسن العلم بالعروض وإخراج المعمى ويقول الشعر الجيد ويصيب المعنى ولم يكن بالحاذق في النحو. قال أبو العباس: ولو قدم بغداد لم يقم له منهم أحد. وله كتاب في النحو. قال أبو العباس: وكان إذا التقى هو والمازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل أو بادر خوفاً من أن يسأله المازني عن النحو وكان جماعة للكتب يبحر فيها وكان كثير تأليف الكتب في اللغة. قال أبو العباس جئت السجستاني وأنا حدث فرأيت بعض ما ينبغي أن تهجر حلقته له فتركته مدة ثم صرت إليه وعميت له بيتاً لهارون الرشيد وكان يجيد استخراج المعمى فأجابني.

أيا حسن الوجه قد جئتنا بداهيةٍ عجب في رجب

فعميت بيتاً وأخفيته فلم يخف بل لاح مثل الشهب

فاظهر مكنونه الطيطوي وهتك عنه الحمام الحجب

فذلل ما كان مستصعباً لنا فتناولته من كثب

أيا من إذا ما دنونا له نأى وإذا ما نأينا اقترب

عذرناك إذ كنت مستحسناً وبيتك ذو الطير بيت عجب

سلام على النازح المغترب تحية صب به مكتسب

ومن شعره أيضاً أنشدناه أبو بكر بن السراج قال: أنشدنا أبو العباس لأبي حاتم:

كبد الحسود تقطعي قد بات من أهوى معي

وله:

نفسي فداؤك يا عبيد الله حل بك اعتصامي

فارحم أخاك فإنه نزر الكرى بادي السقام

وأنله ما دون الحرام فليس يقصد للحرام

وعليه يعتمد في اللغة أبو بكر بن دريد وخبرني أنه مات في سنة خمس وخمسين ومائتين. وفي هذه الطبقة جماعة ليسوا بنباهة من ذكرنا فتركناهم.

============

الثمالي المعروف بالمبرد انتهى علم النحو بعد طبقة الجرمي والمازني إلى أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي وهو من ثمالة قبيلة من الأزد. وأنشدنا أبو بكر بن السراج عن أبي العباس لعبد الصمد بن المعذل يعاتبه.

سألنا عن ثمالة كل حي فقال القائلون ومن ثماله

فقلت محمد بن يزيد منهم فقالوا زدتنا بهم جهاله

وقد حدثنا عنه أبو بكر بن أبي الأزهر بشيء ظريف في هذا المعنى. حدثنا ابن أبي الأزهر قال حدثني محمد بن يزيد قال قال لي المازني: يا أبا العباس بلغني أنك تتصرف من مجلسنا فتصير إلى المخيس وإلى مواضع المجانين والمعالجين فما معناك في ذاك؟ قال: فقلت: إن لهم أعزك الله طرائف من الكلام وعجائب من الأقسام. فقال: خبرني بأعجب ما رأيته من المجانين. قال فقلت: دخلت يوماً إلى مستقرهم فرأيت مراتبهم على مقدار بليتهم وإذا قوم قيام قد شدت أيديهم إلى الحيطان بالسلاسل ونقبت من البيوت التي هم بها إلى غيرها مما يجاورها لأن علاج أمثالهم أن يقوموا الليل والنهار لا يقعدون ولا يضطجعون ومنهم من يحلب على رأسه وتدهن أرداؤه ومنهم من ينهل ويعل بالدواء حسب ما يحتاجون، فدخلت يوماً مع ابن أبي خميصة وكان المتقلد للنفقة عليهم ولتفقد أحوالهم فنظروا وأنا معه فأمسكوا عما كانوا عليه لولاء موضعه فمررت على شيخ منهم تلوح صلعته وتبرق للدهن جبهته وهو جالس على حصير نظيف ووجهه إلى القبلة كأنه يريد الصلاة. فجاوزته إلى غيره فناداني: سبحان الله أين السلام من المجنون ترى أنا أم أنت. فاستحيت منه وقلت: السلام عليكم. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد عليك على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر لأنه كان يقال: إن لله إخاء على القوم دهشة اجلس أعزك الله عندنا. وأومى إلى موضع من حصيره ينفضه كأنه يوسع لي. فعزمت على الدنو منه فناداني ابن أبي خميصة: إياك إياك! فأحجمت عن ذلك ووقفت ناحية أستحلب مخاطبته وأرصد الفائدة منه. ثم قال لي وقد رأى معي محبرة: يا هذا أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهما أتجالس أصحاب الحديث الأغثاث أم الأدباء من أصحاب النحو والشعر. قال: أتعرف أبا عثمان المازني. قلت: نعم معرفة ثاقبة. قال: أفتعرف الذي يقول فيه:

وفتى من مازنٍ ساد أهل البصره أمه معروفة وأبوه نكره

قلت: لا أعرفه، قال: أفتعرف غلاماً له قد نبغ في هذا العصر معه ذهن وله حفظ وقد برز في النحو وجلس في مجلس صاحبه وشاركه فيه يعرف بالمبرد، قلت: أنا والله عين الخبير به. قال: فهل أنشدك شيئاً من عبثات أشعاره؟ قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر. قال: سبحان الله أليس هو الذي يقول:

حبذا ماء العناقيد يريق الغانيات بهما ينبت لحمي ودمي أي نبات

أيها الطالب أشهى من لذيذ الشهوات كل بماء المزن تفاح خدود الناعمات

قلت: قد سمعته ينشد هذا في مجلس الأنس. قال: يا سبحان الله أويستحيا أن ينشد مثل هذا حول الكعبة ما تسمع الناس يقولون في نسبه. قلت: يقولون هو من الأزد أزد شنؤة ثم من ثمالة. قال: قاتله الله ما أبعد غوره أتعرف قوله:

سألنا عن ثمالة كل حيٍ فقال القائلون ومن ثماله

فقلت محمد بن يزيد منهم فقالوا زدتنا بهم جهاله

فقال لي المبرد خل قومي فقومي معشر فيهم نذاله

قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يقوله لها فيه. قال: كذب من ادعاها غيره هذا كلام رجل لا نسب له يريد أن يثبت بهذا الشعر له نسباً. قلت أنتم أعلم. قال: يا هذا قد غلبت بخفة روحك على قلبي وتمكنت بفصاحتك من استحساني وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه. الكنية أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس. قال: فالاسم. قلت: محمد. قال: فالأب. قلت: يزيد. قال: قبحك الله أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت ذكره. ثم وثب باسطاً يده لمصافحتي. فرأيت القيد في رجله قد شد إلى خشبة في الأرض فأمنت عند ذلك غائلته. فقال لي: يا أبا العباس صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع فليس يتهيأ لك في كل وقت أن تصادف مثلي في مثل هذه الحال الجميلة أنت المبرد. وجعل يصفق وقد انقلبت عينه وتغيرت حليته. فبادرت مسرعاً خوفاً أن تبدرني منه بادرة وقبلت قوله فلم أعاود الدخول إلى مخيس ولا غيره.

وأخذ أبو العباس النحو عن الجرمي والمازني وغيرهما وكان على المازني يعول ويقال أنه بدأ بقراءة كتاب سيبويه وختمه على المازني. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي وهو أقدم مولداً منه ورأى الناس بالبصرة يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه. وسمعت أبا بكر بن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جواباً من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمتقدم. وسمعته يقول: لقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب. وسمعت نفطويه يقول: ما رأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد منه ومن أبي العباس بن فرات. وكذلك خبرنا أبو بكر بن السراج عن محمد بن خلف وكيع. وكان بينه وبين أبي العباس ثعلب من المنافرة ما لا خفاء به وأكثر أهل التحصيل يفضلونه.

أنشدنا أبو بكر بن أبي الأزهر قال أنشدني أحمد بن عبد السلام وكان أكبر من خالد الكاتب سناً يقول في محمد بن يزيد:

رأيت محمد بن يزيد يسمو إلى الخيرات في جاه وقدر

جليس خلائف وغذى ملكٍ وأعلم من رأيت بكل أمر

وفتيانية الظرفاء فيه وأبهة الكبير بغير كبر

وينثر إن أجال الفكر دراً وينثر لؤلؤاً من غير فكر

وكان الشعر قد أودى فأحيا أبو العباس دائر كل شعر

وقالوا ثعلب رجل عليمٌ وأين النجم من شمس وبدر

وقالوا ثعلب يفتي ويملي وأين الثعلبان من الهزبر

وهذا في مقالك مستحبلاً تشبه جدولاً وشلاً ببحر

قال وأنشدني فيه:

وأنت الذي لا يبلغ الوصف مدحه وإن أطنب المداح مع كل مطنب

رأيتك والفتح بن خاقان راكباً وأنت عديل الفتح في ل موكب

وكان أمير المؤمنين إذا رنا إليك يطيل الفكر بعد التعجب

وأوتيت علماً لا تحيط بكنهه علوم بني الدنيا ولا نحو ثعلب

يروح إليك الناس حتى كأنهم ببابك في أعلى منى والمحصب

وأنشدنا ابن أبي الأزهر لنفسه:

شكا ما به من هوىً منصب إلى إلفه الأوصب الأنصب

فبات يخدان حر الخدود بفيض دموعِهما السكب

ويعتنقان وقلباهما على مثل جمر الغضا الملهب

إلى أن بدا في الدجى ساطعٌ من الصبح يسطو على الغيهب

فيا حسنها ليلة لو تمد طوال الدهور فلم تذهب

وهل ترجعن بلذاتها على حال أمن من الرقب

أيا طالب العلم لا تجهلن وعذ بالمبرد أو ثعلب

تجد عند هاذين علم الورى ولا تك كالجمل الأجرب

علوم الخلائق مقرونة بهاذين بالشرق والمغرب

ومن شعر أبي العباس وكان مليح الطبع أخبر أبو بكر بن أبي الأزهر قال كتب طاهر بن الحارث كاتب محمد بن عبد الله بن طاهر إليه رقعة في درجها تسبيب له على مصر قد فرغ منه وأحكمه وكان الغلام الموصل للرقعة يسمى نصراً فأجابه عن رقعته وكتب في آخر الجواب.

بنفسي أخ برٌّ شددت به أزري فألفيته حراً على العسر واليسر

أغيب فلي منه ثناءٌ ومدحة وأحضر منه أحسن القول والبشر

وما طاهرٌ إلا جمالٌ لصحبه وناصر عافيه على كلب الدهر

تفردت يا خير الورى فكفيتني مطالبةٌ شنعاء ضاق لها صدري

فأحسن من وجه الحبيب ووصله كتابٌ أتاني مدرجاً بيدي نصر

سررت به لما أتى ورأيتني غنيت وإن كان الكتاب إلى مصر

وقلت رعاك الله من ذي مودة فقد فت إحساناً وقصر بي شكري

وكان مولده فيما خبرنا أبو بكر بن السراج وأبو علي الصفار في سنة عشر ومائتين ومات سنة خمس وثمانين ومائتين. وقد كان من نظرائه في عصره ممن قرأ كتاب سيبويه على المازني جماعة لم يكن لهم كنباهته مثل أبي ذكوان ووقع إلى سيراف في أيام الزنج وكان التوزي زوج أمه وعسل بن ذكوان وخرج إلى الأهواز وأقام بعسكر مكرم من كور الأهواز. وأبو يعلى بن أبي زرعة بصري من أصحاب المازني مقدم وقد عمل كتاباً في النحو لم يتمه.

ومن أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وأبو الحسن بن كيسان واليهما انتهت الرياسة في النحو بعد أبي العباس محمد بن يزيد غير أن أبا إسحاق كان أشد لزوماً لمذهب البصريين وكان ابن كيسان يخلط المذهبين.

وكان بعدهما أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج وأبو بكر محمد بن علي المعروف بمبرمان وعنهما أخذت أكثر النحو وعليهما قرأت كتاب سيبويه.

وفي طبقتهما ممن يخلط علم البصريين بعلم الكوفيين أبو بكر بن شقير وأبو بكر بن الخياط.

أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ

المؤلف: أبو طاهر المقرئ الفهرس

==========

رسالة من نفائس الكتب لأبي طاهر المقرئ المتوفي سنة 960م. طُبع لأول مرة في مصر عام 1981م بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا.

المحتوياتالمقدمة

ذكر أخبار أبي زيد

ذكر أخبار الأصمعي

ذكر أخبار أبي عبيدة

أخبار أبي عمر الجرمي

أخبار أبي عثمان المازني

أخبار التوزي

أخبار الزيادي

أخبار الرياشي

أخبار أبي حاتم السجستاني

أخبار أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي

=====

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق