الثلاثاء، 4 أبريل 2023

تفسير سورة المؤمنون من 105 الي118.

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

المؤمنون - تفسير ابن كثير

 أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) } .

هذا تقريع من الله تعالى لأهل النار، وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم، التي أوبقتهم في ذلك، فقال: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي: قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت الكتب، وأزلت (1) شُبَهكم، ولم يبق لكم حجة تدلون بها كما قال: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165] ، وقال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] ، وقال: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ . وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ . فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك: 8-11] ، ولهذا قالوا: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } أي: قد قامت علينا الحجة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها، فَضَلَلْنَا عنها ولم نُرْزَقْهَا.

ثم قالوا: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي: رُدَّنا إلى الدار الدنيا، فإن عدنا إلى ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قالوا: { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ . ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر: 11، 12] أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.

{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) } .

هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار (2) ، يقول: { اخْسَئُوا فِيهَا } أي: امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء. { وَلا تُكَلِّمُونِ } أي: لا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي.

__________

(1) في أ: "وأرخت".

(2) في أ: "الدنيا".

(5/498)

 

 

قال العَوْفِي، عن ابن عباس: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال: هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا، فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يردّ عليهم: إنكم ماكثون. قال: هانت دعوتهم -والله (1) -على مالك ورب مالك. ثم يدعون ربهم فيقولون: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال: والله ما نَبَس (2) القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. قال: فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.

وقال أيضا: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيْل، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال: قال عبد الله بن مسعود: إذا أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا -يعني: من جهنم-غير وجوههم وألوانهم، فيجيء الرجل من المؤمنين، فيشفع فيقول: يا رب (3) . فيقول: من عرف أحدًا فليخرجه. فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول: أنا فلان. فيقول: ما أعرفك.

، قال: فعند ذلك يقول: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } ، فعند ذلك يقول: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } . وإذا (4) قال ذلك، أطبقت عليهم فلا (5) يخرج منهم بَشَر.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } أي: فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ، { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي: حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي { وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي: من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين: 29، 30] أي: يلمزونهم استهزاء.

ثم أخبر عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين، فقال: { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } أي: على أذاكم لهم واستهزائكم منهم، { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي: جعلتهم هم الفائزين (6) بالسعادة والسلامة والجنة، الناجين (7) من النار.

__________

(1) في ف، أ: "والله دعوتهم".

(2) في ف: "فوالله ما يبس".

(3) في ف، أ: "يا رب يا رب".

(4) في ف، أ: "فإذا".

(5) في ف، أ: "فلم".

(6) في ف: "الفائزون".

(7) في ف: "الناجون".

(5/499)

 

 

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } .

يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي: كم كانت إقامتكم في الدنيا؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } أي: الحاسبين

{ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي: مدة يسيرة على كل تقدير { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته (1) -كما فعل المؤمنون-لفزتم كما فازوا.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوَزير، حدثنا الوليد، حدثنا صفوان، عن أيفع بن عبد الكَلاعي؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم: رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين؟ ثم يقول: يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم. فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم: ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين" (2) .

وقوله: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال: { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36] ، يعني هملا (3) .

وقوله: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ، فذكر العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى: { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10] .

قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا إسحاق بن سليمان -شيخ من أهل العراق-أنبأنا شعيب بن صفوان، عن رجل من آل سعيد بن العاص قال:

__________

(1) في ف: "على عبادته وطاعته".

(2) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (1/187) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به.

(3) في أ: "مهملا".

(5/500)

 

 

كان آخر خطبة خطب عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن (1) تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم، فخاب وخسر مَن خرج من رحمة الله، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردون (2) إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تُشَيّعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صَدْع من الأرض، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب وباشر التراب، وواجه الحساب، مُرْتَهَن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه، ونزول الموت بكم ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن نصر (3) الخَوْلاني، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي هُبَيْرَةَ عن حَنَش (4) بن عبد الله؛ أن رجلا مصابًا مرَّ به عبد الله بن مسعود، فقرأ في أذنه هذه الآية: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، حتى ختم السورة فَبَرَأ، [فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم] (5) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا قرأت في أذنه؟" فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو أن رجلا مُوقنا قرأها على جَبَل لزال".

وروى أبو (6) نُعَيم من طريق خالد بن نزار، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المُنْكَدر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرَِّية، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } ، قال: فقرأناها فغنمنا وسلمنا (7) .

وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي، حدثنا أبو المُسَيَّب سلمة بن سلام، حدثنا بكر بن خُنَيْس (8) ، عن نَهْشَل بن سعيد، عن الضحّاك بن مُزَاحِم، عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن: بسم الله الملك الحق، { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر: 67] ، { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود: 41] . (9)

__________

(1) في ف: "ولم".

(2) في ف: "حين تردوا".

(3) في أ: "نصير".

(4) في ف: "حسن".

(5) زيادة من ف، أ.

(6) في ف: "ابن".

(7) معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم (726).

(8) في ف: "حبيش".

(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/124) وفي كتاب الدعاء برقم (804) من طرق عن عبد الحميد الهلالي، عن نهشل به، وقال الهيثمي في المجمع (10/132) : "نهشل بن سعيد متروك".

(5/501)

 

 

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

{ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } .

يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره، وعَبَدَ معه سواه، ومخبرًا أن من أشرك بالله { لا بُرْهَانَ لَهُ } أي: لا دليل له على قوله -فقال: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، وهذه جملة معترضة، وجواب الشرط في قوله: { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي: الله يحاسبه على ذلك.

ثم أخبر: { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي: لديه يوم القيامة، لا فلاح لهم ولا نجاة.

قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ما تعبد؟" قال: أعبد الله، وكذا وكذا-حتى عدّ أصناما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأيّهم إذا أصابك ضُرٌّ فدعوتَه، كشفه عنك؟". قال: الله عز وجل. قال: ["فأيّهم إذا كانت لك حاجة فدعوتَه أعطاكها؟" قال: الله عز وجل. قال] (1) : "فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه؟" قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه أم حسبت أن يغلب عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلمون ولا يعلمون" قال (2) الرجل بعد ما أسلم: لقيت رجلا خصمني.

هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندًا عن عمران بن الحُصَيْن، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك (3) .

وقوله: { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } هذا إرشاد من الله إلى هذا الدعاء، فالغَفْرُ -إذا أطلِق-معناه محو الذنب وستره عن الناس، والرحمة معناها: أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.

آخر تفسير سورة المؤمنون.

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) في أ: "فقال".

(3) سنن الترمذي برقم (3483) وقال: "هذا حديث غريب".

 تفسير القرطبي 

المؤمنون - تفسير القرطبي 

الآيتان: 102 - 105 {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}

تقدم الكلام فيهما.

الآيتان: 104 - 105 {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}

قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ويقال "تنفح" بمعناه؛ ومنه {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46]. إلا أن {تلفح} أبلغ بأسا؛ يقال: لفحته النار والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة] خفيفة. {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس: عابسون. وقال هل اللغة: الكلوح تكشر في عبوس. والكالح: الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش:

وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح

وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" قال: هذا حديث حسن صحيح غريب

(12/152)

 

 

الآيات: 106 - 108 {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ، قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}

قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {شِقْوَتُنَا} وقرأ الكوفيون إلا عاصما {شَقَاوَتُنَا}. وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقاء وشقا؛ بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤديان إليها، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10]؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار. وقيل: ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار، ويدل على ذلك قولهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ابعدوا في جهنم؛ كما يقال للكلب: اخسأ؛ أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته. وخسأ الكلب بنفسه خسوءا، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. قال: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال: ثم يدعون ربهم فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال: ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها. قال: فوالله ما نَبَس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم

(12/153)

 

 

فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث أبي الدرداء. وقال قتادة: صوت الكفار في النار كصوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق. وقال ابن عباس: يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة... الخبر بطوله، ذكره ابن المبارك، وقد ذكرناه بكمال في التذكرة، وفي آخره: ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} قال: فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي الكتاب الذي كتب علينا {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فقال عند ذلك {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم.

الآيات: 109 - 111 {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}

قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} الآية. قال مجاهد: هم بلال وخباب وصهيب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي {ص}. وكسر الباقون. قال النحاس: وفرق أبو عمرو بينهما، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ، والمضمومة من جهة السخرة، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد؛ كما يقال: عصي وعصي، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء

(12/154)

 

 

والسخرية بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد: إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخري في المعنيين جميعا؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا .{حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم .{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم، وصبروا على طاعتي. {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون؛ أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه، تقديره: إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت: وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] إلى آخر السورة، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.

الآيات: 112 - 114 {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ، قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} قيل: يعني في القبور. وقيل: هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. {عَدَدَ سِنِينَ} بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينونها. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل: لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا

(12/155)

 

 

أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا؛ الأول قول قتادة، والثاني قول مجاهد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ } على الأمر. ويحتمل ثلاثة معان: أحدها: قولوا كم لبثتم؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة؛ إذ كان المعنى مفهوما. الثاني: أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم، وهو الثالث. الباقون {قَالَ كَمْ} على الخبر؛ أي قال الله تعالى لهم، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} الباقون {قال} على الخبر، على ما ذكر من التأويل الأول؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل: هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار؛ لأنه لا نهاية له. {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك.

الآية: 115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}

قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها؛ مثل قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة: 36] يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها، فإن عبد وه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار الإسلام؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و {عَبَثاً} نصب على الحال عند سيبويه وقطرب. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. "وأنكم إلينا لا ترجعون" فتجازون بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي {تَرْجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع 

الآية: 116 {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}

قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها؛ لأنه الحكيم. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير "الكريم" بالرفع نعتا لله.

الآيتان: 117 - 118 {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}

قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له عليه {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي هو يعاقبه ويحاسبه. {إِنَّهُ} الهاء ضمير الأمر والشأن. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقرأ الحسن وقتادة {لا يَفْلَح} - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وقيل: أمره بالاستغفار لأمته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى ختم السورة فبرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا قرأت في أذنه" ؟ فأخبره، فقال: "والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال"

==============

 

 

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) }

يقول تعالى ذكره: يقال لهم( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) يعني آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا( فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) وترك ذكر يقال؛ لدلالة الكلام عليه( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة:( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) بكسر الشين، وبغير ألف، وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة:

(19/47)

 

 

"شَقاوَتُنا" بفتح الشين والألف.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، وقرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وتأويل الكلام: قالوا: ربنا غلبت علينا ما سبق لنا في سابق علمك وخطّ لنا في أمّ الكتاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد، قوله:( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) قال: التي كتبت علينا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) التي كتبت علينا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.

وقال، قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خَزَنة جهنم: أنْ( ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) فلم يجيبوهم ما شاء الله فلما أجابوهم بعد حين قالوا:( فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) قال: ثم نادوا مالكا( يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فسكت عنهم مالك خازن جهنم، أربعين سنة ثم أجابهم فقال:( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) ثم نادى الأشقياء ربهم، فقالوا:( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد ذلك تبارك وتعالى( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ .

قال (1) ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، قال: ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله، ثم يقال: أجيبوهم، وقد قطع الرَّحم والرحمة، فيقول أهل الجنة: يا أهل النار، عليكم غضب الله، يا أهل النار، عليكم لعنة الله، يا أهل النار، لا لبَّيْكم ولا سَعْدَيْكُم، ماذا تقولون؟ فيقولون: ألم نك في الدنيا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم، فيقولون: بلى، فيقولون:( أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ

__________

(1) لعل القائل هنا أيضًا : هو القاسم ، راوي الحديث بالإسناد السابق على هذا

(19/75)

 

 

أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ).

قال (1) ثني حجاج عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القُرظِي، قال: ثني عَبْدة المروزِيّ، عن عبد الله بن المبارك، عن عمرو بن أبي ليلى، قال: سمعت محمد بن كعب، زاد أحدهما على صاحبه: قال محمد بن كعب: بلغني، أو ذُكر لي، أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، فردّوا عليهم ما قال الله، فلما أيسوا نادَوا: يا مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها، وجسور تمرّ عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك، ليقض علينا ربك، سألوا الموت، فمكث لا يجيبهم ثمانين ألفَ سنة من سني الآخرة، أو كما قال، ثم انحط إليهم، فقال:( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعلّ الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله، قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) أي مَنْجى. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال:( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ فلما سمعوا مقالته، مَقَتُوا أنفسهم، قال: فنُودوا( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا ) الآية، قال: فيجيبهم الله( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) قال: فيقولون: ما أيسنا بعد؛ قال: ثم دعوا مرّة أخرى، فيقولون:( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) قال: فيقول الرب تبارك وتعالى:( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) يقول الرب: لو شئت لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد( وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) يقول: بما تركتم أن تعملوا ليومكم هذا( إِنَّا نَسِينَاكُمْ ) أي تركناكم( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال: فيقولون: ما أيسنا بعد، قال: فيدعون مرّة أخرى:( رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ )قال: فيقال لهم:(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)... الآية، قال: فيقولون: ما أيسنا بعد ثم قالوا مرّة أخرى:( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) قال: فيقول:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ

__________

(1) لعل القائل هنا أيضًا : هو القاسم ، راوي الحديث بالإسناد السابق على هذا

(19/76)

 

 

رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)

النَّذِيرُ ) إلى:( نَصِير ) ، ثم مكث عنهم ما شاء الله، ثم ناداهم:( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك:( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) أي: الكتاب الذي كتب علينا( وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ) الآية، فقال عند ذلك:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال: فلا يتكلمون فيها أبدا، فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم. وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، فأطبقت عليهم. قال عبد الله بن المبارك في حديثه: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه قال: فذلك قوله:( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . )

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، أنه قال: فوالذي أنزل القرآن على محمد، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، ما تكلم أهل النار كلمة بعدها إلا الشهيق والزَّعيق في الخلد أبدا، ليس له نفاد.

قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، قال: كنا في جنازة ومعنا أبو جعفر القارئ، فجلسنا، فتنحى أبو جعفر، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا جعفر؟ قال: أخبرني زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون.

وقوله:( وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) يقول: كنا قوما ضَلَلْنا عن سبيل الرشاد، وقصد الحقّ.

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) }

يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل الذين خفَّت موازين صالح أعمالهم يوم القيامة في جهنم: ربنا أخرجنا من النار، فإن عدنا لما تكره منا من عمل، فإنا ظالمون.

وقوله:( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا ) يقول تعالى ذكره: قال الربّ لهم جلّ ثناؤه مجيبا( اخْسَئُوا فِيهَا ) أي: اقعدوا في النار، يقال منه: خَسَأتْ فلانا أخْسَؤُه خَسْأً وخُسُوءا، وخَسيء هو يخسَأ، وما كان خاسئا، ولقد خَسِيء،( ولا تُكَلِّمُونِ ) فعند ذلك أيس المساكين من الفرج، ولقد كانوا طامعين فيه.

كما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مَهْديّ، قال: ثنا سفيان، عن سَلمة بن كُهَيل، قال: ثني أبو الزعراء، عن عبد الله، في قصة ذكرها في الشفاعة، قال: فإذا أراد الله ألا يُخْرج منها، يعني من النارأحدا، غير وجوههم وألوانها، فيجيء الرجل

(19/77)

 

 

من المؤمنين فيشفع فيهم، فيقول: يا ربّ، فيقول: من عرف أحدا فليخرجه؛ قال: فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدا، فيقول: يا فلان يا فلان، فيقول: ما أعرفك. فعند ذلك يقولون:( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فَيَقُولُ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) فإذا قالوا ذلك؛ انطبقت عليهم جهنم فلا يخرج منها بشر.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن شَهر بن حَوْشب، عن معدي كرب، عن أبي الدَّرْداء، قال: يرسل أو يصبّ على أهل النار الجوع، فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيغاثون بالضريع، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فلا يغني ذلك عنهم شيئا فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غُصّة، فإذا أكلوه نَشِب في حلوقهم، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يحدرون الغصة بالماء، فيستغيثون، فيرفع إليهم الحميم في كلاليب الحديد، فإذا انتهى إلى وجوههم شوى وجوههم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم، قال: فينادون مالكا: لِيَقْضِ علينا ربك، قال: فيتركهم ألف سنة، ثم يجيبهم: إنكم ماكثون، قال: فينادون خزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا: أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلي، قالوا: فادعوا، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، قال: فيقولون ما نجد أحدا خيرا لنا من ربنا، فينادون ربهم( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) قال: فيقول الله:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، فيدعون بالويل والشَّهيق والثُّبور.

حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ، قال: ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي، قال: ثنا قُطْبة بن عبد العزيز الأسديّ، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أمّ الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُلْقَى على أهْلِ النَّارِ الجُوع... " ثم ذكر نحوًا منه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن عمرو بن مرّة، قال: يرى أهل النار في كل سبعين عاما ساق مالك، خازن النار، فيقولون:( يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيجيبهم بكلمة، ثم لا يرونه سبعين عاما فيستغيثون بالخَزَنة، فيقولون لهم:( ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) فيجيبونهم( أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ...)الآية. فيقولون: ادعوا ربكم، فليس أحد أرحم

(19/78)

 

 

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)

من ربكم، فيقولون:( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) قال: فيجيبهم،:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) فعند ذلك ييأسُون من كلّ خير، ويأخذون في الشهيق والوَيْل والثُّبور.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال: بلغني أنهم ينادُون مالكا فيقولون( : لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيسكت عنهم قدر أربعين سنة، ثم يقول:( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) قال: ثم ينادون ربهم، فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يقول:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال: فييأس القوم فلا يتكلمون بعدها كلمة، وكان إنما هو الزفير والشهيق، قال قتادة: صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار، أوّله زفير، وآخره شهيق.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الله بن عيسى، قال: أخبرني زياد الخراسانيّ، قال: أسنده إلى بعض أهل العلم، فنسيته، في قوله:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال: فيسكتون، قال: فلا يسمع فيها حس إلا كطنين الطَّسْت.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) هذا قول الرحمن عزّ وجلّ، حين انقطع كلامهم منه.

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) }

يقول تعالى ذكره:( إِنَّهُ ) وهذه الهاء في قوله "إنه" هي الهاء التي يسميها أهل العربية المجهولة، وقد بينت معناها فيما مضى قبلُ. ومعنى دخولها في الكلام، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع( كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي ) يقول: كانت جماعة من عبادي، وهم أهل الإيمان بالله، يقولون في الدنيا:( رَبَّنَا آمَنَّا ) بك وبرسلك، وما جاءوا به من عندك( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) وأنت خير من رحم أهل البلاء، فلا تعذبنا بعذابك.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ

(19/79)

 

 

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

الْفَائِزُونَ (111) }

يقول تعالى ذكره: فاتخذتم أيها القائلون لربكم( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) في الدنيا، القائلين فيها:( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) سُخْريا. والهاء والميم في قوله:( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ ) من ذكر الفريق.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله:( سُخْرِيًّا ) فقرأه بعض قرّاء الحجاز وبعض أهل البصرة والكوفة( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) بكسر السين، ويتأوّلون في كسرها أن معنى ذلك الهزء، ويقولون: إنها إذا ضُمت فمعنى الكلمة: السُّخْرة والاستعباد. فمعنى الكلام على مذهب هؤلاء: فاتخذتم أهل الإيمان بي في الدنيا هُزُؤًا ولعبا، تهزءون بهم، حتى أنسوكم ذكري. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة:( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سُخْرِيًّا ) بضم السين، وقالوا: معنى الكلمة في الضمّ والكسر واحد. وحكى بعضهم عن العرب سماعا لِجِّيّ ولُجِّي، ودِرِيّ، ودُرِيّ، منسوب إلى الدرّ، وكذلك كِرسيّ وكُرسيّ؛ وقالوا ذلك من قيلهم كذلك، نظير قولهم في جمع العصا: العِصِيّ بكسر العين، والعُصِيّ بضمها; قالوا: وإنما اخترنا الضم في السِّخري؛ لأنه أفصح اللغتين.

والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنى واحد، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب، وليس يُعْرف من فرق بين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت؛ لما ذكرت من الرواية عمن سمع من العرب ما حَكَيت عنه.

ذكر الرواية به عن بعض من فَرَّق في ذلك بين معناه مكسورة سينه ومضمومة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) قال: هما مختلفتان: سِخريا، وسُخريا، يقول الله:( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا ) قال: هذا سِخريّا: يُسَخِّرونهم، والآخرون: الذين يستهزئون بهم هم سُخريًّا، فتلك سِخريًّا يُسَخرونهم عندك، فسخَّرك رفعك فوقه، والآخرون: استهزءوا بأهل الإسلام هي: سُخريّا يَسْخَرون منهم. فهما مختلفتان. وقرأ قول الله:( وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) وقال: يسخرون منهم كما سخر قوم نوح بنوح، اتخذوهم سُخريًّا: اتخذوهم هُزُؤًا، لم يزالوا يستهزئون بهم.

(19/80)

 

 

وقوله:( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) يقول: لم يزل استهزاؤكم بهم، أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري، فألْهَاكم عنه( وكنتم منهم تضحكون ) .

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) قال: أنسى هؤلاء الله استهزاؤُهم بهم، وضحكهم بهم، وقرأ:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) حتى بلغ:( إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ). وقوله:( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ) يقول تعالى ذكره: إني أيُّها المشركون بالله المخلَّدون في النار، جَزَيْت الذين اتخذتموهم في الدنيا سخريا من أهل الإيمان بي، وكنتم منهم تضحكون اليوم، بما صبروا على ما كانوا يلقَون بينكم من أذى سخريتكم وضحككم منهم في الدنيا( أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ).

اختلفت القرّاء في قراءة: "إنَّهُمْ" فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة:( "أنَّهُمْ " بفتح الألف من "أنهم" بمعنى: جزيتهم هذا ، فأن في قراءة هؤلاء في موضع نصب، بوقوع قوله جزيتهم عليها؛ لأن معنى الكلام عندهم: إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة؛ وقد يحتمل النصب من وجه آخر، وهو أن يكون موجَّها معناه: إلى أني جزيتهم اليوم بما صبروا؛ لأنهم هم الفائزون بما صبروا في الدنيا، على ما لَقُوا في ذات الله، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "إنّي" بكسر الألف منها، بمعنى الابتداء، وقالوا: ذلك ابتداء من الله مدحهم.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الألف؛ لأن قوله: "جَزَيْتُهُم "، قد عمل في الهاء والميم، والجزاء إنما يعمل في منصوبين، وإذا عمل في الهاء والميم لم يكن له العمل في "أن" فيصير عاملا في ثلاثة إلا أن ينوي به التكرير، فيكون نصب "أنّ" حينئذ بفعل مضمر، لا بقوله: جزيتهم ، وإن هي نصبت بإضمار لام، لم يكن له أيضا كبير معنى; لأن جزاء الله عباده المؤمنين بالجنة، إنما هو على ما سَلَف من صالح أعمالهم في الدنيا، وجزاؤه إياهم، وذلك في الآخرة هو الفوز، فلا معنى لأن يَشْرُط لهم الفوز بالأعمال ثم يخبر أنهم إنما فازوا، لأنهم هم الفائزون.

فتأويل الكلام إذ كان الصواب من القراءة ما ذكرنا: إني جزيتهم اليوم الجنة بما صبروا في الدنيا على أذاكم بها في أنهم اليوم هم الفائزون بالنعيم الدائم والكرامة الباقية أبدا؛ بما عملوا من صالحات الأعمال في الدنيا، ولقوا في طلب رضاي من المكاره فيها.

(19/81)

 

 

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) }

اختلفت القرّاء في قراءة قوله:( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) وفي قوله:( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة على وجه الخبر:( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ) ، وكذلك قوله:( قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ ). ووجه هؤلاء تأويل الكلام إلى أن الله قال لهؤلاء الأشقياء من أهل النار وهم في النار:( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) ؟ وأنهم أجابوا الله فقالوا:( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) ، فنسِي الأشقياء؛ لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب مدة مكثهم التي كانت في الدنيا، وقَصُرَ عندهم أمد مكثهم الذي كان فيها؛ لما حلّ بهم من نقمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يكونوا مكثوا فيها إلا يوما أو بعض يوم. ولعلّ بعضهم كان قد مكث فيها الزمان الطويل، والسنين الكثيرة.

وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة على وجه الأمر لهم بالقول، كأنه قال لهم: قولوا كم لبثتم في الأرض؟ وأخرج الكلام مخْرج الأمر للواحد، والمعنيُّ به الجماعة، إذ كان مفهوما معناه، وإنما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة؛ لأن ذلك في مصاحفهم: "قُلْ" بغير ألف، وفي غير مصاحفهم بالألف.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ذلك:( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ) على وجه الخبر، لأن وجه الكلام لو كان ذلك أمرا، أن يكون قولوا على وجه الخطاب للجمع; لأن الخطاب فيما قبل ذلك وبعده، جرى لجماعة أهل النار، فالذي هو أولى أن يكون كذلك قوله قولوا لو كان الكلام جاء على وجه الأمر، وإن كان الآخر جائزا، أعني التوحيد، لما بيَّنت من العلة لقارئ ذلك كذلك، وجاء الكلام بالتوحيد في قراءة جميع القراء، كان معلوما أن قراءة ذلك على وجه الخبر عن الواحد أشبه، إذ كان ذلك هو الفصيح المعروف من كلام العرب، فإذا كان ذلك ذلك، فتأويل الكلام: قال الله كم لبثتم في الدنيا من عدد سنين؟ قالوا مجيبين له: لبثنا فيها يوما أو بعض يوم، فاسأل العادّين، لأنا لا ندري، قد نسينا ذلك.

واختلف أهل التأويل في المعني بالعادين، فقال بعضهم: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، ويُحْصُون عليهم ساعاتهم.

(19/82)

 

 

قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)

*ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) قال: الملائكة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل هم الحُسّاب.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة:( فاسأل الْعَادِّينَ ) قال: فاسأل الحُسّاب.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة:( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) قال: فاسأل أهل الحساب.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه:( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك، وجائز أن يكونوا الملائكة، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها، فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادّين دون بعض.

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) }

اختلفت القرّاء في قراءة قوله:( قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) اختلافهم في قراءة قوله:( قال كم لبثتم ) والقول عندنا في ذلك في هذا الموضع، نحو القول الذي بيَّناه قبل في قوله:( كَمْ لَبِثْتُمْ ) وتأويل الكلام على قراءتنا: قال الله لهم: ما لبثتم في الأرض إلا قليلا يسيرا، لو أنكم كنتم تعلمون قدر لبثكم فيها.

وقوله:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) يقول تعالى ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم، لعبا وباطلا وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟ .

(19/83)

 

 

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة:( لا تُرْجَعُونَ ) بضَمّ التاء: لا تُردّون، وقالوا: إنما هو من مَرْجِع الآخرة، لا من الرجوع إلى الدنيا، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة"لا تَرْجِعُونَ" وقالوا: سواء في ذلك مرجع الآخرة، والرجوع إلى الدنيا.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى; لأن من ردّه الله إلى الآخرة من الدنيا بعد فنائه، فقد رَجَع إليها، وأن من رجع إليها، فبردّ الله إياه إليها رجع. وهما مع ذلك قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) قال: باطلا.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) }

يقول تعالى ذكره: فتعالى الله الملك الحق عما يصفه به هؤلاء المشركون، من أن له شريكا، وعما يضيفون إليه من اتخاذ البنات( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول: لا معبود تنبغي له العبودة إلا الله الملك الحقّ( رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) والربُّ: مرفوع بالردّ على الحقّ، ومعنى الكلام: فتعالى الله الملك الحقّ، ربّ العرش الكريم، لا إله إلا هو.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) }

يقول تعالى ذكره: ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له معبودا آخر، لا حجة له بما يقول، ويعمل من ذلك ولا بينة.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال: بينة.

(19/84)

 

 

وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال: حُجة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله:( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال: لا حجة.

وقوله:( فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) يقول: فإنما حساب عمله السَّيِّئ عند ربه وهو مُوَفِّيه جزاءه إذا قدم عليه( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) يقول: إنه لا ينجح أهل الكفر بالله عنده ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم.

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد: ربّ استر عليّ ذنوبي بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتك، وتركك عقابي على ما اجترمت( وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) يقول: وقل : أنت يا ربّ خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته، ولم يعاقبه على ذنبه.

آخر تفسير سورة المؤمنون

==============

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير أضواء البيان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون

قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة.

وفلاح المؤمنين مذكور ذكراً كثيراً في القرآن كقوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47] وقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] أصل الخشوع: السكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان:

رماد ككحل العين لأياً أبينه ... ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع

وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.

وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الأحزاب {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إلى قوله: {عَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:25].

وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} على أن من خشوع المصلي: أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده، قالوا: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.

وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى

(5/305)

 

 

السماء فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فطأطأ رأسه" اهـ منه.

وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ السْجِدِ الْحَرَامِ} لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.

واعلم أن معنى أفلح: نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين:

الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد:

فاعقلي إن كنت لما تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل

أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.

والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد أيضاً في رجز له:

لو أن حياً مدرك الفلاح ... لناله ملاعب الرماح

يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع:

لكل هم من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا فلاح معه

أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة: حي على الفلاح.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.

وقال ابن كثير {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] أي عن الباطل، وهو يشمل

(5/306)

 

 

الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال اهـ منه.

وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان:72] ومن مرورهم به كراماً إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصابه فيه وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].

قوله تعالى: {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.

أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.

الثاني : أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] وقوله {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى:14]. وقوله {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] وقوله {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81] وقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6-7] على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن:

الأولى : أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.

القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال: أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فدل على أن هذه الزكاة: أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.

الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل

(5/307)

 

 

بينهما كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:110] وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277] وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:72] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} .

والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال قالوا: إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.

وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملاً لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [الأنعام:97] والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت:

المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون للزكوات

وهو واضح، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال، لأنها فعل المزكي كما هو واضح. ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة.

وقد قال ابن كثير رحمه الله: وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. اهـ منه.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم: أي من اللواط والزنى، ونحو ذلك، وبين أن

(5/308)

 

 

حفظهم فروجهم، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين، والمراد به التمتع بالسراري، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه، وأن من ابتغى تمتعاً بفرجه، ورواء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين: أي المعتدين المتعدين حدود الله، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه.

وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:25] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة سأل سائل لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29].

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] من صيغ العموم، والمراد بها من وهي من صيغ العموم. فآية {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وآية {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما، في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معاً لدخولهما في عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وبهذا قال داود الظاهري، ومن تبعه: ولكن قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ} [النساء:23] يدل بعمومه على منع جمع الأختين، بملك اليمين، لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم، تشمل كل أختين. سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان رضي الله عنه، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} وبالمحرمة {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ لأخْتَيْنِ} .

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته.

وحاصل تحرير المقام في ذلك: أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم، وخصوص من وجه، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان رضي الله عنهما: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} تنفرد عن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأختين المجموع بينهما، بعقد نكاح وتنفرد

(5/309)

 

 

آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأمة الواحدة، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين، ويجتمعان في الجمع بين الأختين، فعموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} يقتضي تحريمه، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يقتضي إباحته، وإذا تعارض العامان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها: وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أَشار له في مراقي السعود بقوله:

وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتما معتبر

وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} مرجح من خمسة أَوجه على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} :

الأول: منها أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات، لأن السورة سورة النساء: وهي التي بين الله فيها من تحل منهن، ومن لا تحل وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة. فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول: أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها، لا من مظانها.

الوجه الثاني: أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين، لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين، إجماعاً للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم {وَأَخَواتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:22] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعاً، للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص، مع العام الذي لم يدخله التخصيص: هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه، إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.

وحجة الجمهور أن العام المخصص، اختلف في كونه حجة في الباقي، بعد التخصيص، والذين قالوا: هو حجة في الباقي. قال جماعة منهم: هو مجاز في الباقي، وما اتفق على أنه حجة، وأنه حقيقة، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته، وهل هو حقيقة، أو مجاز، وإن كان الصحيح: أنه حجة في الباقي، وحقيقة فيه،

(5/310)

 

 

لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى، بخلاف الباقي على عمومه.

الوجه الثالث: أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهم} وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم.

اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء: على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحِيمٍ} [الإنفطار:13-14] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود:

وما أتى للمدح أو للذم ... يعم عند جل أهل العلم

وخالف في ذلك بعض العلماء منهم: الإمام الشافعي رحمه الله، قائلاً: إن العام الوارد في معرض المدح، أو الذم لا عموم له، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] في الحلي المباح، لأن الآية سيقت الذم، فلا تعم عنده الحلي المباح.

وإذا علمت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه، عند بعض العلماء.

الوجه الرابع: أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.

الوجه الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة، لأن ترك مباح أهو من ارتكاب حرام.

فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، محتجاً بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ} ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء

(5/311)

 

 

بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافاً لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود:

وكل ما يكون فيه العطف ... من قبل الاستثنا فكلا يقفو

دون دليل العقل أو ذي السمع ... ............................... الخ

وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه: هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. ولذلك لم يقبل شهادة القاذف، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لأن قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي فقد زال عنهم اسم الفسق، ولا يقبل رجوعه لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} إلا الذين تابوا، فاقبلوا شهادتهم بل يقول: لا تقبلوا لهم شهادة أبداً مطلقاً بلا استثناء لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [الفرقان:68-70]. فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة، وغيره.

ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة، التي هي {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] لأن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى الشرك، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها، عند أبي حنيفة، على أصله المقرر: مستلزماً لرجوعه للجميع.

وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضاً،

(5/312)

 

 

برجوع الاستثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} لقوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} فيقول: قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] يرجع لكل منهما استثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} فيكون المعنى: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما، وحرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم، فلا يحرم عليكم.

وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين:

الأولى منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء، إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} لما قدمنا من أن قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي بالسبي خاصة مع الكفر، وأن المعنى والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم: أي وحرمت عليكم المتزوجات من النساء، لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق:

وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبنى بها لم تطلق

وإذا كان ملك اليمين في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعاً من رجوعه إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقاً، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} مطلقاً، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق، وأوضحنا الأدلة على ذلك.

الوجه الثاني: هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها، يحتاج إلى دليل منفصل، لأن الدليل قد يدل على

(5/313)

 

 

رجوعه للجميع أو لبعضها، دون بعض. وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه. وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعاً لغير الجملة الأخيرة التي تليه، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة. ومعرفة ذلك منها، وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين، دون بعض، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح، لأن الله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله، وجدنا القرآن دالاً على صحة هذا القول، وبه يندفع أيضاً استدلال داود.

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92 فالاستثناء راجع للدية، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولاً واحداً، لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ، ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] فالاستثناء لا يرجع لقول:ه {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.

وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:89-90].

فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} لا يرجع قولاً واحداً، إلى الجملة الأخيرة، التي تليه أعني قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء:89] لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبداً، ولو وصلوا إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء:89] والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النَّبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا أن هذه الآية:

نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الحمل إليه في القرآن العظيم: الذي هو في الطرف الأعلى

(5/314)

 

 

من الإعجاز تبين أنه ليس نصاً في الرجوع إلى غيرها.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] على ما قاله جماعات من المفسرين، لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان، كلا بدون استثناء، قليل أو كثير كما ترى.

واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء، فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] وقيل: راجع لقوله {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وإذا لم يرجع للجملة التي تليه، لم يكن نصاً في رجوعه لغيرها.

وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه. وأن المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في الاستمرار، على ملة آبائكم من الكفر، وعبادة الأوثان إلا قليلاً كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وأمثالهم.

وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق العلة، وتريد بها العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:

أشم ندى كثير النوادي ... قليل المثالب والقادحه

يعني: لا مثلبة فيه، ولا قادحة. وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها، وتريد بها العدم كَقولهم: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل، يعنون لا كراث فيها ولا بصل. ومنه قول ذي الرمة:

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها

يريد: أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته. وقول الآخر:

فما بأس لو ردت علينا تحية ... قليلاً لدى من يعرف الحق عابها

يعني لا عاب فيها: أي لا عيب فيها عند من يعرف الحق، وأمثال هذا كثير في كلام العرب، وبالآيات التي ذكرنا تعلم: أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضاً والعلم عند الله تعالى.

(5/315)

 

 

المسألة الثانية: اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] خاص بالرجال دون النساء، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها، وتتمتع به بملك اليمين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهو يؤيد قول الأكثرين: أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة، الصحيحة إلا بدليل منفصل، كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها، وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها، قال: فضرب العبد، وجز رأسه وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. ثم قال ابن كثير: هذا أثر غريب منقطع، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة، وهو هو هنا أليق وإنما حرمها عَلَى الرجال، معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم ا هـ.

وقال أبو عبد الله القرطبي: قد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله لا رجم عليها، فقال عمر: لا جرم، والله لا أحلك لحر بعده عاقبها بذلك، ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها.

وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء، فقالت: إني استسررته، فمنعنى بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بني عمي فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت: نعم. قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها ا هـ. من القرطبي.

المسألة الثالثة: اعلم أنه لا شك في أن آية {قَدْ أَفْلَحَ الؤْمِنُونَ} هذه التي هي {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف، بجلد عميرة، ويقال له الخضخضة، لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك، قد ابتغى وراء ما أحله الله، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وفي سورة {سَألَ سَائِلٌ} وقد ذكر ابن كثير: أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه

(5/316)

 

 

الآية، على منع الاستمناء باليد. وقال القرطبي: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز، قال: سألت مالكاً عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله {الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7].

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن استدلال مالك، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلاً على ذلك بالقياس قائلاً: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز، قياساً على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء:

إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا عار ولا حرج

فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها، لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مراراً وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود: والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

فالله جل وعلا قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ولم يستثن من ذلك ألبتة إلا النوعين المذكورين، في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج، عن الزوجة، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين، دالة على المنع هي قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره، ناكح يده، وظاهر عموم القرآن، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل من كتاب أو سنة، يجب الرجوع إليه. أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة، واستدلالهم بالآية ما نصه: وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئة المشهور، حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد، عن أنس بن مالك، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله

(5/317)

 

 

عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره" ا هـ.

ثم قال ابن كثير: هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. انتهى منه ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة، لدلالته على منع ذلك، وإنما قيل للاستمناء باليد: جلد عميرة، لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر.

لطيفة: قد ذكر في نوادر المغفلين، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة، فصاحت الجارية، فسمع قوم صياحها، فجاؤوا وقالوا ما هذا الصياح؟ فقال لهم ذلك المغفل: لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة.

المسألة الرابعة: اعلم أنا قدمنا في سورة النساء، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة، لأنه جل وعلا صرح فيها بما يعلم منه، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة، ليست زوجة، ولا مملوكة. أما كونها غير مملوكة فواضح. وأما الدليل على كونها غير زوجة، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميرث والعدة والطلاق والنفقة، ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء.

فتبين بذلك أن معنى نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة، وقد يخفي على طالب العلم معنى لفظة {عَلَى} في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} لأن مادة الحفظ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع ب {عَلَى} فقيل: إن {عَلَى} بمعنى: عن.

والمعنى: أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء، إلا عن أزواجهم، وحفظ عن تتعدى بعن.

وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان ب {عَلَى} هنا فقال ما نصه: {عَلَى

(5/318)

 

 

أَزْوَاجِهِمْ} في موضع الحال أي الأولين، على أزواجهم، أو قوامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة: أي واليا عليها، ومنه قولهم: فلان تحت فلان، ومن ثمة سميت المرأة فراشا.

والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق {عَلَى} بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه، أو تجعله صلة لحافظين من قولك: احفظ على عنان فرسي على تضمينه، معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك الله إلا فعلت بمعنى: ما طلبت منك إلا فعلك. اهـ منه ولا يخفي ما فيه من عدم الظهور.

قال أبو حيان: وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة، وهي متكلفة، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين، ضمن حافظون معنى: ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى ب {على} كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] والظاهر أن قوله هنا {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مع أن المملوكات من جملة العقلاء، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن، ونحو ذلك. كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن، والعلم عند الله تعالى.

وقال بعض أهل العلم: إن وراء ذلك، هو مفعول ابتغى: أي ابتغى سوى ذلك. وقال بعضهم: إن المفعول به محذوف، ووراء ظرف. أي فمن ابتغى مستمتعا لفرجه، وراء ذلك.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم: أي محافظون على الأمانات، والعهود. والأمانة تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضا تشمل: كل ما أخذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، وحقوق الناس.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة

(5/319)

 

 

كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:37] وقوله تعالى في سأل سائل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] وقوله في العهد: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح:10] وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:96] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78]. وقوله: راعون: جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، وفي الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده: لأمانتهم بغير ألف بعد النون، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون، على صيغة الجمع المؤنث السالم.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقال تعالى في سورة المعارج {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] وقال فيها أيضا {إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22-23] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].

وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4- 5]. وقال تعالى في ذم المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال "الصلاة على وقتها" ،

(5/320)

 

 

الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالبا البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] عليه. والفردوس: أعلا الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمان جل وعلا، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوارثة.

وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] في سورة مريم في الكلام على قوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف: حمزة والكسائي: على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون: {عَلَى صَلاتِهِمْ} بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي بلا انقطاع أبدا، كما قال تعالى {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [صّ:54] وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] كما قدمناه مستوفي.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أطوار خلقه الإنسان ونقله له، من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا. وقد أوضحنا في

(5/321)

 

 

أول سورة الحج معنى النطفة، والعلقة، والمضغة، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة، وغير المخلقة. والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا؟ وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط، ومتى يرث، ويورث، ومتى يصل عليه، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة: فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه.

ومنه قول حسان رضي الله عنه:

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين

وبناء الاسم على الفعالة، يدل على القلة كقلامة الظفر، ونحاتة الشيء المنحوت، وهي ما يتساقط منه عند النحت، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين: خلق أبيهم آدم منه، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59].

وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب، وأنه لما بل بالماء صار طيبا ولما خمر صار طينا لازبا يلصق باليد، وصار حمأ مسنونا. قال بعضهم: طينا أسود منتنا، وقال بعضهم: المسنون: المصور، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء، كما قال في أول النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] وقال في الأعراف {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] وقال في الزمر: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] كما تقدم إيضاح ذلك كله، ثم لما خلق الرجل والمرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره: النطفة، ثم العلقة. الخ.

وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج، وقوله هنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] يعني: بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون:13] أي بعد خلق آدم وحواء، فالضمير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ}

(5/322)

 

 

لنوع الإنسان، الذي هو النسل لدلالة المقام عليه، كقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر. كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 6-9] وأشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم:20] وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان، أمر كل مكلف أن ينظر فيه. والأمر المطلق، يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، كما أوضحناه مرارا. وذلك في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 13-14]. وقد أشار في آيات كثيرة، إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور، كما أوضحه هنا وكما في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13- 14]. وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة، إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة الخ. مع أنه لم يشق بطن أمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات: وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين، وذلك في قوله جل وعلا: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] فتأمل معنى قوله {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي عن هذه العجائب والغرائب، التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } [آل عمران: 6] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] ثم ذكر الحكمة فقال {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5] أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا، وكمال قدرتنا، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة، وقال في سورة المؤمن {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} [غافر: 67] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36-40] والآيات بمثل هذا كثيرة، وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله:

(5/323)

 

 

{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا، فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته، وما أظهر براهين توحيده، وقد بين في آية المؤمنون هذه: أنه يخلق المضغة عظاما، وبين في موضع آخر: أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض، تركيبا قويا، ويشد بعضها مع بعض، على أكمل الوجوه وأبدعها، وذلك في قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الانسان: 28]، والأسر: شد العظام بعضها مع بعض، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها، ومنه قول حميد بن ثور:

وما دخلت في الخدب حتى تنقضت ... تآسير أعلى قده وتحطما

وفي صحاح الجوهري: أسر قتبه يأسره أسرا شدة بالأسار وهو القد، ومنه سمي الأسير، وكانوا يشدونه بالقد، فقول بعض المفسرين واللغويين: {أَسْرَهُمْ} : أي خلقهم فيه قصور في التفسير، لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد، وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه، الذي لم يدبغ والله جل وعلا يشد بعض العظام ببعض، شدا محكما متماسكا كما يشد الشيء بالقد، والشد به قوي جدا. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] القرار هنا: مكان الاستقرار، والمكين: المتمكن. وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه. قاله أبو حيان في البحر. وقال الزمخشري: القرار: المستقر، والمراد به: الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها، أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. وقوله تعالى في هذه الآية: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال الزمخشري: أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا، وكان جمادا وناطقا، وكان أبكم وسميعا، وكان أصم وبصيرا، وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح. انتهى منه.

وقال القرطبي: اختلف في الخلق الآخر المذكور، فقال ابن عباس، والشعبي وأبو العالية، والضحاك وابن زيد: "هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا" وعن ابن عباس: "خروجه إلى الدنيا"، وقال قتادة: عن فرقة نبات شعره. وقال الضحاك: خروج الأسنان، ونبات الشعر، وقال مجاهد: كمال شبابه. وروي عن ابن عمر والصحيح، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. اهـ منه.

(5/324)

 

 

والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله {خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] أنه صار بشرا سويا بعد أن كان نطفة، ومضغة، وعلقة، وعظاما كما هو واضح.

مسألة

وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنه أنه يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ، لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة، فهو غير ما غصب، وإنما يرد الغاصب ما غصب. وهذا الاستدلال له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.

وقوله تعالى في هذه الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] وقوله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} قال أبو حيان في البحر المحيط: تبارك: فعل ماض لا ينصرف، ومعناه: تعالى وتقدس. اهـ منه.

وقوله في هذه الآية {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير. ومنه قول زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري

فقوله: يخلق ثم لا يفري: أي يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم. ومعلوم أن النحويين مختلفون في صيغة التفضيل إذا أضيفت إلى معرفة، هل إضافتها إضافة محضة، أو لفظية غير محضة، كما هو معروف في محله؟ فمن قال: هي محضة أعرب قوله {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} نعتا للفظ الجلالة، ومن قال: هي غير محضة أعربه بدلا، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أحسن الخالقين. وقرأ هذين الحرفين {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} [المؤمنون: 14] وقوله {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون: 14] ابن عامر وشعبة عن عاصم عظما: بفتح العين، وإسكان الضاء من غير ألف بصيغة المفرد فيهما، وقرأه الباقون: عظاما بكسر العين وفتح الظاء، وألف بعدها بصيغة الجمع، وعلى قراءة ابن عامر وشعبة. فالمراد بالعظم: العظام.

وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس، قد تطلقه العرب، وتريد به معنى الجمع. وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(5/325)

 

 

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم بعد أن أنشأهم خلقا آخر، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيرا، ثم يكون محتلما، ثم يكون شابا، ثم يكون كهلا، ثم يكون شيخا، ثم هرما أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياء، يوم القيامة للحساب والجزاء، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر، لأنهما إماتتان وإحياتان ذكر من كل منهما واحدة هنا، وذكر الجميع في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] كما قدمنا إيضاحه في سورة الحج والبقرة، وكل ذلك دليل على كمال قدرته، ولزوم الإيمان به، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} .

في قوله تعالى: {طَرَائِقَ} ، وجهان من التفسير:

أحدهما: أنها قيل لها طرائق، لأن بعضها فوق بعض من قولهم: طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "كأن وجوههم المجان المطرقة" أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة:

وطراق من خلفهن طراق ... ساقطات تلوي بها الصحراء

يعني: نعال الإبل، ومنه قولهم: طائر طراق الريش، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا، ومنه قول زهير يصف بازيا:

أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم تنصب له الشبك

وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا:

طراق الخوافي واقع فوق ريعه ... ندى ليله في ريشه يترقرق

وقول الآخر يصف قطاة:

سكاء مخطومة في ريشها طرق ... سود قوادمها كدر خوافيها

فعلى هذا القول فقوله: {سَبْعَ طَرَائِقَ} يوضح معناه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ

(5/326)

 

 

خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} الآية [نوح:15] وهذا قول الأكثر.

الوجه الثاني: أنها قيل لها طرائق، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها، وأما قول من قال قيل لها طرائق لأن الكل سماء طريقة، وهيأة غير هيأة الأخرى وقول من قال: طرائق؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] قد قدمنا أن معناه كقوله {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65] لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه وقال بعضهم {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] بل نحن القائمون بإصلاح جميع شؤونهم، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] يعني السموات برهان على قوله قبله {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] لأن من قدر على خلق السموات، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] .

وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يّس: 81] والآيات بمثل هذا متعددة.

وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.

(5/327)

 

 

الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].

والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] والينبوع: الماء الكثير وقوله: {فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين} على ما قدمنا في الحجر.

والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] ويشبه معناها قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:70] لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلىء من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57] فقوله: ثقالا جمع تقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] جمع سحابة ثقيلة.

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.

وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائة في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً. وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان:48- 50].

(5/328)

 

 

ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته. ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان: 50] بعد قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].

وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزلة حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد:

لا تلمني إنها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر

كبنات البحر يمأدن إذا ... أنبت الصيف عساليج الخضر

فقوله: بنات البحر يعني: المزن التي أصل مائها من البحر.

وقول أبي ذؤيب الهذلي:

سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم غرماؤهن ثجيج

شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج

ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(5/329)

 

 

قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .

قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} [النحل: 11] وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} .

قوله: {وَشَجَرَةً} : معطوف على: {جَنَّاتٍ} من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مسوغه مرارا: أي فأنشأنا لكم به جنات، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، كما أشار له تعالى بقوله {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، والدهن الذي تنبت به: هو زيتها المذكور في قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] ومع الاستضاءة منها، فهي {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} : أي إدام يأتدمون به، وقرأ هذا الحرف: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {سَيْنَاءَ} بكسر السين، وقرأ الباقون: بفتحها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {تَنْبُتُ} بضم التاء، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي، وقرأ الباقون: {تَنْبُتُ} بفتح التاء، وضم الباء مضارع: نبت الثلاثي، وعلى هذه القراءة، فلا إشكال في حرف الباء في قوله: {بِالدُّهْنِ} : أي تنبت مصحوية بالدهن الذي يستخرج من زيتونها، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ففي الباء إشكال، وهو أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن، وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]، ولا يخفي أن أنبت الرباعي، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو هنا: لازمة لا متعدية المفعول، وأنبت تتعدى، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل: 11] وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] ومن لزومها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو المذكورة، ونظيرها من كلام العرب قول زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

فقوله: أنبت البقل لازم بمعنى: نبت، وهذا هو الصواب في قراءة: {تَنْبُتُ} بضم التاء. خلافا لمن قال: إنها مضارع أنبت المتعدي: وأن المفعول محذوف: أي تنبت

(5/330)

 

 

زيتونها، وفيه الزيت. وقال ابن كثير: الطور: هو الجبل، وقال بعضهم: إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر، فإن عرى عن الشجر، سمي جبلا لا طورا. والله أعلم. وطور سيناء: هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال، التي فيها شجر الزيتون اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير.

وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" رواه أحمد ورواه الترمذي، وغيره عن عمر، والظاهر أنه لا يخلو من مقال، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال: وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. اهـ منه والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .

قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية، وما يستفاد منها من الأحكام الفقيهة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] مع بيان أوجه القراءة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22].

الضمير في قوله: {عَلَيْهَا} راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ} [المؤمنون: 21] وقد بين تعالى في هذه الآية: أنه يحمل خلقه على الأنعام، والمراد بها هنا الإبل، لأن الحمل عليها هو الأغلب، {وَعَلَى الْفُلْكِ} : وهي السفن ولفظ الفلك، يطلق على الواحد والجمع من السفن، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80] وقوله في الأنعام {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يّس:71- 72] وقوله فيها: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] وقوله في

(5/331)

 

 

الفلك والأنعام معا {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:12- 14]. وقوله في السفن {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يّس:41-42]، وقوله: {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 12] والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة:

ألا خيلت مني وقد نام صحبتي ... فما نفر التهويم إلا سلامها

طروقا وجلب الرحل مشدودة بها ... سفينة بر تحت خدي زمامها

فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} إلى قوله {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .

قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله {تَتْرَا} : أي متواترين واحدا بعد واحدا، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا، ومنه قول لبيد في معلقته:

يعلو طريقة متنها متواتر ... في ليلة كفر النجوم غمامها

يعني: مطرا متتابعا، أو غبار ريح متتابعا، وتاء {تَتْرَا} مبدلة من الواو، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل. وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة: جاء موضحا في آيات كثيرة. وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور.

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا كقوله تعالى: {وَمَا

(5/332)

 

 

أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف:94-95] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98]. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونس {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147-148] لأن ظاهر إطلاق قوله: {فَآمَنُوا} ، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى.

ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وقوله {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخبارا وقصصا يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته:

وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: {تَتْرَا} بالتنوين: وهي لغة كنانة، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين: وهي لغة أكثر العرب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والهمزة الثانية من قوله: {جَاءَ أُمَّةً} ، وقرأها الباقون بالتحقيق، كما هو معلوم وقوله {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] مصدر لا يظهر عامله، وقد بعد بعدا بفتحتين، وبعدا بضم فسكون: أي هلك فقوله: {بُعْداً} : أي هلاكا مستأصلا، كما قال تعالى {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] قال الشاعر:

قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا ... قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا

وقد قال سيبويه: إن بعدا وسحقا ودفرا أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر. اهـ ومن هذا القبيل قولهم: سقيا ورعيا، كقول نابغة ذبيان:

(5/333)

 

 

نبئت نعما على الهجران عاتية ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري

والأحاديث في قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} في مفرده وجهان معروفان:

أحدهما: أنه جمع حديث كما تقول: هذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد بالأحاديث جمع حديث، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة:

وحائد عن القياس كل ما ... خالف في البابين حكما رسما

يعني بالبابين: التكسير والتصغير، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل، وكتصغير مغرب، على مغيربان، وعشية على عشيشية. وقال بعضهم: إنها اسم جمع للحديث.

الوجه الثاني: أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل: أضحوكة، وألعوبة، وأعجوبة بضم الأول، وإسكان الثاني: وهي ما يتحدث به الناس تلهيا، وتعجبا ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير:

من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

وهذا الوجه أنس هنا لجريان الجمع فيه على القياس، وجزم به الزمخشري. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .

أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم، وقت نزولها واحد، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، بالأكل من الطيبات: وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق، وأن يعلموا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال، والعمل الصالح، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ

(5/334)

 

 

عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له" وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه، لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه، ولم يركب منه.

قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .

قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الانبياء:93]، وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} .

أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذر الكفار أي يتركهم في غمرتهم إلى حين، أي وقت معين عند الله، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي، والأخروي، وكون المراد بالحين المذكور: وقت قتلهم، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي رضي الله عنه، بغير سند.

وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد كقول الكلبي {فِي غَمْرَتِهِمْ}: أي جهالتهم: وقول ابن بحر: في حيرتهم، وقول ابن سلام: في غفلتهم، وقول بعضهم: في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد، وهو أنه، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال، والغي والمعاصي قال الزمخشري: الغمرة: الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة:

ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب

وصيغة الأمر في قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} [المؤمنون: 54] للتهديد، وقد تقرر في

(5/335)

 

 

فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، جاء موضحا في مواضع أخر. كقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] وقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:17] وقوله: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [ابراهيم: 30] وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3]، وتكلمنا هناك على لفظ {ذَرْهُمْ}.

قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} .

قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} .

ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة، التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .

الحق أن المراد بهذا الكتاب: كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه، كما يدل عليه قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف، في الكلام على قوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49]، وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الاسراء: 13].

والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق: أن جميع المكتوب فيه حق، فمن قرأ المكتوب فيه، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على

(5/336)

 

 

الخط، كما روي عن عائشة أنها قالت: ما بين دفتي المصحف كلام الله، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ}.

{حَتَّى} هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية، والعذاب الذي أخذهم ربهم به، قيل: هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر، وقيل: الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم، لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فأصابهم بسبب دعوته صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد، عذاب أليم، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة. وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ {مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} ، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا. وهذا المعنى أشار له بقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً. وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [االمزمل:11-13] فقوله: {أُولِي النَّعْمَةِ} يريد بهم: المترفين في الدنيا، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً} وقوله: {يَجْأَرُونَ} ، الجؤار: الصراخ باستغاثة، والعرب تقول: جأر الثور يجأر: صاح، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات {عِجْلاً جَسَداً لَهُ جؤار} [الأعراف: 148] بالجيم والهمزة: أي خوار، وجأر الرجل إلى الله: تضرع بالدعاء.

فمعنى الآية الكريمة: أن المنعمين في الدنيا من الكفار، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة، صاحوا مستصرخين مستغيثين، يطلبون الخلاص مما هم فيه، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا، جاء في آيات أخر كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 36-37] فقوله: {يَصْطَرِخُونَ} : يفتعلون من الصراخ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه، بدليل قوله تعالى عنهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى:

(5/337)

 

 

يراوح من صلوات المليك ... فطورا سجودا وطورا جؤارا

والجؤار المذكور: هو النداء في قوله {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [صّ:3] لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها، فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14] وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك، والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله. وقوله تعالى في هذه الآية: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون:65] يدل على أنهم إن استغاثوا لم يغاثوا، وإن استرحموا لم يرحموا، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29].

قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} .

لما بين أن المترفين من الكفار إذا أخذهم ربهم بالعذاب، ضجوا وصاحوا واستغاثوا، وبين أنهم لا يغاثون كما أوضحناه آنفا بين سبب ذلك بقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} أي التي أرسلت بها رسلي {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} : تقرأ عليكم واضحة مفصلة، {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} : ترجعون عنها القهقرى. والعقب: مؤخر القدم، والنكوص: الرجوع عن الأمر، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [لأنفال: 48] ومنه قول الشاعر:

زعموا بأنهم على سبل النجا ... ة وإنما نكص على الأعقاب

وهذا المعنى الذي ذكره هنا: أشار له في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 11-12] فكفرهم عند الله ذكر الله وحده، من نكوصهم على أعقابهم، وبين في موضع آخر أنهم إذا تتلى عليهم آياته، لم يقتصروا على النكوص عنها، على أعقابهم، بل يكادون يبطشون بالذي يتلوها عليهم، لشدة بغضهم لها، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي

(5/338)

 

 

وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] وهذا الذي ذكرنا أن العذاب عذاب يوم القيامة، أظهر عندنا من قول من قال: إنه يوم بدر أو الجوع، ومن قال من زعم: أن الذين يجأرون: هم الذين لم يقتلوا يوم بدر وأن جؤارهم من قبل إخوانهم، فكل ذلك خلاف الظاهر، وإن قاله من قاله:

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68].

يتضمن حضهم، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم، لأنهم إن تديروه تدبرا صادقا، علموا أنه حق، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].

وقوله في هذه الآية الكريمة {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68].

قال القرطبي: فأنكروه، وأعرضوا عنه، وقيل: أم بمعنى: بل جاءهم مالا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه، وتركوا التدبر له.

وقال ابن عباس: وقيل المعنى: أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية: قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن، ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين: أي إرسال الرسل ليس بدعا، ولا مستغربا، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه. وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 9] ونحوها من الآيات.

قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون:69].

قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .

{أَمْ} المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة. وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] أو همزة مغنية، عن لفظة: أي كقولك أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك فالمسبوقة.

(5/339)

 

 

بإحدى الهمزتين المذكورتين، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا. وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان:

الأول : أن تكون بمعنى: بل الإضرابية.

الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار.

الثالث : أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى: بل في قوله:

وبانقطاع وبمعنى بل وفت ... إن تك مما قيدت به خلت

ومراده بخلوها مما قيدت به: ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين، فإن سبقتها إحداهما، فهي المتصلة كما تقدم قريبا، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للاضراب عما قبله إضرابا انتقاليا، مع معنى استفهام الإنكار، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم: أن نبينا صلى الله عليه وسلم به جنة: أي جنون يعنون: أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله ما أجحدهم للحق، وما أكفرهم ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] فالإضراب ببل إبطالي.

والمعنى: ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح، المؤيد بالمعجرات الذي يعرف كل عاقل، أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] وقوله تعالى: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] وهذا الجنون الذي افترى على آخر الأنبياء، افترى أيضا على أولهم، كما تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه: إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطىء أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:52- 53]فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به، لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم. ولكن الذي جمعهم على ذلك مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى في سورة

(5/340)

 

 

البقرة في قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] ذكر نحو معناه في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72]، وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق. أنهم يمتنعون من سماعه، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كمال قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به، وهو نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الحق، والدعوة إليه. وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]. فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل.

وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال: قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] يفهم من مفهوم مخالفته، أن قليلا من الكفار، ليسوا كارهين للحق. وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا، وهي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78].

والجواب عن هذا السؤال: هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار. كانوا لا يكرهون الحق، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم، وأن يقولوا صبأوا وفارقوا دين آبائهم، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله:

اصدع بأمرك ما عليك غضاضة

الأبيات وقال فيها:

(5/341)

 

 

ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا

وقال فيه صلى الله عليه وسلم أيضا:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وقد بين أبو طالب في شعره: أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله:

لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمعا بذاك يقينا

قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية، فقال بعضهم: {الْحَقُّ} هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 62] وكون المراد بالحق في الآية: هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به: مجاهد وابن جريح، وأبو صالح، والسدي. وروي عن قتادة، وغيرهم.

وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرسالة، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعا لأهوائهم الفاسدة، لفسدت السموات والأرض، ومن فيهن، لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم، واختلافها. فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.

ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح، لأن تكون متبعة قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك. وقد رد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الاسراء:100] وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} [النساء:53] قال ابن كثير رحمه الله: ففي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو

(5/342)

 

 

الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدة السموات والأرض ومن فيهن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء: 22] فسبحان الله رب العرش عما يصفون.

القول الثاني: أن المراد بالحق في الآية: الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية، وأنكر الأول.

وعلى هذا القول فالمعنى: أنه لو فرض كون الحق متبعا لأهوائهم، التي هي الشرك بالله، وادعاء الأولاد، والأنداد له ونحو ذلك: لفسد كل شيء لأن هذا الغرض يصير به الحق، هو أبطل الباطل، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء، هو أبطل الباطل، لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع، والأمر والنهي كما لا يخفي على عاقل والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].

اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال: ذكرهم: فخرهم، وشرفهم، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وعلى هذا، فالآية كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] على تفسير الذكر بالفخر والشرف، وقال بعضهم: الذكر في الآية: الوعظ والتوصية، وعليه فالآية كقوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58] وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:168- 169] وعليه، فالآية كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42] وعلى هذا القول فقوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} [فاطر: 42] كقوله هنا: {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} . وكقوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .

(5/343)

 

 

المراد بالخرج والخراج هنا: الأجر والجزاء.

والمعنى: أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيري الدنيا والآخرة، أجرة ولا جعلا، وأصل الخرج والخراج: هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجرة، أو جعل. وهذه الآية الكريمة تتضمن أنه صلى الله عليه وسلم، لا يسألهم أجرا، في مقابلة تبليغ الرسالة.

وقد أوضحنا الآيات القرآنية الدالة على أن الرسل لا يأخذون الأجرة على التبليغ في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]. وبينا وجه الجمع بين تلك الآيات، مع آية: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] وبينا هناك حكم أخذ الأجرة، على تعليم القرآن وغيره، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذين الحرفين ابن عامر: خرجا فخرج ربك، بإسكان الراء فيهما معا، وحذف الألف فيهما، وقرأ حمزة والكسائي: خراجا فخراج ربك بفتح الراء بعدها ألف فيهما معا، وقرأ الباقون: خرجا فخراج ربك بإسكان الراء، وحذف الألف في الأول، وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني، والتحقيق: أن معنى الخرج والخراج واحد، وأنهما لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان، خلافا لمن زعم أن بين معناهما فرقا زاعما أن الخرج ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه.

ومعنى الآية: لا يساعد على هذا الفرق كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وصيغة التفضيل في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون: 72] نظرا إلى أن بعض المخلوقين يرزق بعضهم كقوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233]. ولا شك أن فضل رزق الله خلقه، على رزق بعض خلقه بعضهم كفضل ذاته، وسائر صفاته على ذوات خلقه، وصفاتهم.

قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73].

قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هذه الآية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] فأغنى عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وإن الذين لا يؤمنون بالأخرة عن الصراط لناكبون} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لإنكارهم البعث والجزاء، ناكبون عن الصراط، والمراد بالصراط، الذي هم ناكبون عنه: الصراط المستقيم

(5/344)

 

 

الموصل إلى الجنة المذكور في قوله قبله: { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73] ومن نكب عن هذا الصراط المستقيم، دخل النار بلا شك.

والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى في سورة الروم: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:16] ومعنى قوله: لناكبون: عادلون عنه، حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نصيب:

خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا تفقد كما أبدا كعب

من اليوم زوراها فإن ركابنا ... غداة غد عنها وعن أهلها نكب

جمع ناكبة، عنها: أي عادلة عنها متباعدة عنها، وعن أهلها.

قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75].

قد بينا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية من أنه تعالى يعلم المعدوم الذين سبق في علمه أنه لا يوجد أن لو وجد، كيف يكون في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية: {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75] اللجاج هنا: التمادي في الكفر والضلال. والطغيان: مجاوزة الحد، وهو كفرهم بالله، وادعاؤهم له الأولاد والشركاء، وقوله: {يَعْمَهُونَ} : يترددون متحيرين لا يميزون حقا، من باطل. وقال بعض أهل العلم: العمه: عمى القلب، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب، والظاهر أنه هنا: العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب، والأمراض والشدائد، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا له، ولا ذلوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم، وبعدهم من الاتعاظ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب الله لهم. وهذا المعنى الذي ذكره هنا جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-43] وقوله في سورة

(5/345)

 

 

الأعراف: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ . ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94-95] إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .

قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وبينا هناك وجه أفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .

{ذَرَأَكُمْ} معناه: خلقكم، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف: 179] وقوله: {فِي الْأَرْضِ} : أي خلقكم وبثكم في الأرض، عن طريق التناسل، كما قال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1] وقال: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] وقوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي إليه وحده، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب.

وما تضمنته هذه الآية، من أنه خلقهم، وبثهم في الأرض. وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة. جاء معناه في آيات كثيرة كقوله في أول هذه السورة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12- 16] وذكر جل وعلا أيضا هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ. قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:23-25] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80].

قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به جل وعلا في سورة الحج في الكلام على قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66] وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(5/346)

 

 

قوله تعالى: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80].

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن له اختلاف الليل والنهار، يعني: أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل، ويأتي بالنهار، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل، واختلاف الليل والنهار، من أعظم آياته الدالة على كما قدرته، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:71-73]. أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار. والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار، من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جدا كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يّس:37] وقوله {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَار} [الأعراف: 54] وقوله: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يّس: 40] وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [ابراهيم: 33]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:6] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا، وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} : أي تذكرون بعقولكم أن الذي ينشىء السمع والأبصار والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ. قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .

لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي.

والمعنى: أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم، من إنكار البعث، لأن الاستفهام في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} إنكار منهم للبعث.

والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة كقوله تعالى عنهم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس: 78] وكقوله عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] {وَمَا نَحْنُ

(5/347)

 

 

بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35]، وقوله عنهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:11-12]. والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة: وقد بينا في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]. وفي أول سورة النحل، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت، وأوردنا منها كثيرا كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يّس:79]. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]. وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك. فأغنى ذلك عن التطويل هنا. وقوله تعالى في هذه الآية: {أَإِذَا مِتْنَا} قرأ نافع والكسائي، بالاستفهام في: {أَإِذَا مِتْنَا} ، وحذف همزة الاستفهام، في {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس، فحذف همزة الاستفهام، من أئذا، وقرأ إذا بدون استفهام، وأثبت همزة الاستفهام في قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر، على الاستفهام الأول المحذوف فيها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة بالاستفهام فيهما معا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] وهم على أصولهم في الهمزتين، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية، والباقون يحققونها، وأدخل قالون، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفا بين الهمزتين. وقرأ الباقون بالقصر دون الألف، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص، عن عاصم: متنا بكسر الميم، والباقون: بضم الميم. وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 32] الآية وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل، وبينا أنه يخفي على كثير من طلبة العلم. وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا: إنهم وعدوا بالبعث، ووعد به آباؤهم من قبلهم. والظاهر أنهم يعنون أجدادهم، الذين جاءتهم الرسل، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء، وقالوا: إن البعث الذي وعدوا به

(5/348)

 

 

هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له، وأنه ما هو {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، أي: ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات، والأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع أسطارة. وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ. لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل:67-68]، ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] لأن من له الأرض، ومن فيها، ومن هو رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجبر ولا يجاز عليه، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية، الدالة على ذلك.

قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .

قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الاسراء: 9] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية الكريمة: {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكوت: فعلوت من الملك: أي من بيده ملك كل شيء، بمعنى: من هو مالك كل شيء كائنا ما كان: وقال بعض أهل العلم: زيادة الواو والتاء في نحو: الملكوت، والرحموت، والرهبوت بمعنى الملك والرحمة، والرهبة: تفيد المبالغة في ذلك. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي هو يمنع من

(5/349)

 

 

شاء ممن شاء، ولا يمنع أحد منه أحدا شاء أن يهلكه أو يعذبه، لأنه هو القادر وحده، على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ومنه قول الشاعر:

أراك طفقت تظلم من أجرنا

وظلم الجار إذلال المجير

وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي كيف تخدعون، وتصرفون عن توحيد ربكم، وطاعته مع ظهور براهينه القاطعة وأدلته الساطعة، وقيل: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي كيف يخيل إليكم: أن تشركوا به ما لا يضر، ولا ينفع، ولا يغني عنكم شيئا بناء على أن السحر هو التخييل.

وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفي في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] والظاهر أن معنى تسحرون هنا: تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم، عن الحق كما يفعل بالمسحور. والله تعالى أعلم

وقوله: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} قرأه حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال بحذف إحدى التاءين، والباقون بالتشديد لإدغام إحدى التاءين في الذال.

وقوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} جاء في هذه الآيات ثلاث مرات.

الأول: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة، لأنها جواب المجرور بلام الجر، وهو قوله: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} فجواب {لِمَنِ الْأَرْضُ} ، هو أن تقول: {لِلَّهِ} ، وأما الثاني الذي هو {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} والثالث: الذي هو قوله {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من اللفظ الجلالة.

والمعنى: على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه، لأن الظاهر في جواب {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، أن تقول: الله بالرفع أي رب ما ذكر هو الله، وكذلك جواب قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} . فالظاهر في جوابه أيضا أن يقال: الله بالرفع: أي الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر، الذي لا إشكال فيه. وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول.

وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه الإتيان بلام الجر، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها، لأن قول: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ

(5/350)

 

 

السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الظاهر أن يقال في جوابه: ربهما الله، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر. والجواب عن هذا السؤال معروف واضح، لأن قوله تعالى: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} [المؤمنون: 86] وقوله: {مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] فيه معنى من هو مالك السموات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال: لله: أي كل ذلك مالك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:

إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد

لأن قوله: من رب المزالف فيه معنى من هو مالكها، فحسن الجواب باللام: أي هي لخالد. والمزالف: جمع مزلفة كمرحلة. قال في القاموس: هي كل قرية تكون بين البر والريف، وجمعها مزالف.

قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].

بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:

الأولى : أنه لم يتخذ ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

الثانية : أنه لم يكن معه إله آخر سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

والثالثة : أنه أقام البرهان على استحالة تعدد الآلهة بقوله:

{إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أما ادعاؤهم له الأولاد، فقد بينا الآيات الدالة على عظم فريتهم في ذلك، وظهور بطلان دعواهم، ورد الله عليهم في ذلك مواضع متعددة، فقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام، على قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل:57- 58]. وذكرنا طرفا منه في أول الكهف في الكلام على قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف:4] وفي مواضع غير ما ذكر، فأغنى ذلك عن إعادته.

وأما تفرده تعالى بالألوهية مع إقامة الدليل على ذلك فقد بيناه، وذكرنا ما يدل عليه من الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الاسراء:42] ولم نتعرض لما يسميه المتكلمون دليل التمانع، لكثرة المناقشات الواردة على أهل الكلام فيه، وإنما بينا الآيات، بالقرآن على طريق الاستدلال القرآني بها فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(5/351)

 

 

قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

أمر جلا وعلا نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول: {رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} ، أي: أن ترني ما توعدهم من العذاب، بأن تنزله بهم، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين، بل أخرجني منهم، ونجني من عذابهم، وقد بين تعالى في مواضع أخر: أنه لا ينزل بهم العذاب، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، وبين هنا أنه قادر على أنه يره العذاب، الذي وعدهم به في قوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95] وبين في سورة الزخرف، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة، وأنه إن عذبهم، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم. وذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41-42].

قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} .

هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن. قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف:199-200]. وقوله في هذه الآية: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال، و {السَّيِّئَةَ} مفعول {ادْفَعْ} ووزن السيئة، فيعلة أصلها: سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشارك بقول ابن مالك في الخلاصة:

إن يسكن السابق من واو ويا ... واتصلاومن عروض عريا

فياء الواو اقلبن مدغما ... وشذ معطى غير ما قد رسما

كما قدمناه مرارا. والسيئة في اللغة: الخصلة من خصال السوء. وقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي بما تصفه ألسنتهم من الكذب في تكذيبهم لك، وادعائهم

(5/352)

 

 

الأولاد والشركاء لله. وقد قدمنا في سورة المائدة أن اللين والصفح المطلوب في آيات القرآن بعد نزول القتال إنما هو بالنسبة إلى المؤمنين، دون الكافرين في الكلام على قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] وبينا الآيات الدالة على ذلك كقوله في النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] إلى آخر ما تقدم. وقوله في هذه الآية: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] الهمزات: جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز، وهو في اللغة: النخس والدفع، وهمزات الشياطين: نخساتهم لبني آدم ليحثوهم، ويحضوهم على المعاصي، كما أوضحنا الكلام عليه في قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 36-37].

والظاهر في قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أن المعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنا ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]،أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} .

الظاهر عندي: أن {حَتَّى} في هذه الآية: هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويقال لها: حرف ابتداء، كما قاله ابن عطية، خلافا للزمخشري القائل: إنها غاية لقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96]، ولأبي حيان القائل: إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} . ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق:

فواعجبا حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع

قال: المعنى: يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة.

(5/353)

 

 

وفي الآية دل ما قبلها عليها. انتهى الغرض من كلام أبي حيان، ولا يظهر عندي كل الظهور.

بل الأظهر عندي: هو ما قدمتها وهو قول ابن عطية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا جاء موضحا في مواضع أخر كقوله تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 10-11]. وقوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَال} [ابراهيم:44] إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53] وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27-28] وقوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] وقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ. وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:51- 53]. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن: أنهم يسألون الرجعة فلا

(5/354)

 

 

يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ولم يقل: رب ارجعني بالإفراد؟

وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبينا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه:

الأول : وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: {ارْجِعُونِ} ، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره:

ألا فارحموني يا إله محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل

وقول الآخر يخاطب امرأة:

وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

والنقاخ الماء البارد والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر.

الوجه الثاني: قوله: {رَبِّ} استغاثة به تعالى، وقوله: {ارْجِعُونِ} : خطاب للملائكة، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعائشة: "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدموني إلى الله وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون".

الوجه الثالث: وهو قول المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ولا يخفي بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} الظاهر أن لعل فيه التعليل: أي ارجعون، لأجل أن أعمل صالحا، وقيل: هي للترجي والتوقع، لأنه غير جازم، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحا، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى. وقوله: {كَلَّا} : كلمة زجر: وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح.

(5/355)

 

 

قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} .

في هذه الآية الآية الكريمة، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال.

السؤال الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية: أنه إذا نفخ في الصور، والظاهر أنها النفخة الثانية، أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، فيقال: ما وجه نفي الأنساب بينهم، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى: { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:33-36] ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.

السؤال الثاني : أنه قال: {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون، كقوله في سورة الطور {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] وقوله في الصافات {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]إلى غير ذلك من الآيات.

وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب بما حاصله:

إن الجواب عن السؤال الأول: هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا، من التفاخر بالآباء، والنفع والعواطف والصلات. فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب، من أصلها بدليل قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35].

وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه:

الأول : هو قول من قال: إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معا. وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.

الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض، فيما

(5/356)

 

 

بينهم من الحقوق، لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان.

قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} .

قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8-9]. وقوله في سورة الكهف: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف: 105] وغير ذلك. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} .

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} : أي تحرقها إحراقا شديدا، جاء موضحا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66]. وقوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90]. وقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الانبياء: 39] وقوله تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [ابراهيم:50]. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] وقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]. إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104].

الكالح: هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى:

وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح

وعن ابن عباس: {كَالِحُونَ} : عابسون.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} .

(5/357)

 

 

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن أهل النار يسألون يوم القيامة، فيقول لهم ربهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون، وأنهم اعترفوا بذلك، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان، لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له، فلذلك كفروا، وكذبوا الرسل.

قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

وقوله هنا: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] الظاهر أن معنى قولهم: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أن الرسل بلغتهم، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية، غلب عليهم، فكذبوا الرسل، ليصيروا إلى ما سبق في علمه جل وعلا، من شقاوتهم. ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:96-97] وقوله عن أهل النار {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] إلى غير ذلك من الآيات، ويزيد ذلك إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم "كل ميسر لما خلق له" وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119] على أصح التفسيرين وقوله عنهم {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} اعتراف منهم بضلالهم، حيث لا ينفع الاعتراف بالذنب ولا الندم عليه، كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] ونحو ذلك من الآيات.

وهذا الذي فسرنا به الآية، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية، وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] لأن ذلك يؤديهم إلى النار اهـ تكلف مخالف للتحقيق.

ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال: وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق ا هـ.

ولا يخفي أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وقوله هنا: {قَوْماً ضَالِّينَ}

(5/358)

 

 

أي عن الإسلام إلى الكفر، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وقرأ هذا الحرف: حمزة، والكسائي: شقاوتنا بفتح الشين، والقاف وألف بعدها، وقرأه الباقون: بكسر الشين، وإسكان القاف وحذف الألف.

قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا} إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها، فإنا ظالمون، وأن الله يجيبهم بقوله: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي امكثوا فيها خاسئين: أي أذلاء صاغرين حقيرين، لأن لفظة أخسأ إنما تقال للحقير الذليل، كالكلب ونحوه. فقوله: {اخْسَأُوا فِيهَا} أي ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان.

وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37] وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} فأجيبوا {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} وفي السجدة {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] فأجيبوا {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]، وفي سورة المؤمن {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]

فأجيبوا {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] وفي الزخرف {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فأجيبوا {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وفي سورة إبراهيم {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [ابراهيم: 44] فيجابون {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [ابراهيم: 44] وفي سورة فاطر {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيجابون {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا

(5/359)

 

 

لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة.

وعن ابن عباس: أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم. وقوله في هذه الآية: {وَلا تُكَلِّمُونِ} : أي في رفع العذاب عنكم، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها.

قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} .

قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} . يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.

وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29-30] وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وكل ذلك احتقار منهم لهم، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير، وكقوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 49]. وقوله تعالى عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: 11] وكل ذلك احتقار منهم لهم. وقوله: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} [المؤمنون: 110] والسخري بالضم والكسر: مصدر سخر منه، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار. قال الزمخشري في ياء النسب: زيادة في الفعل، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص، ومعناه: أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم: ومبالغتهم في ذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {سِخْرِيّاً} بضم السين، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين، كما بينا. وممن قال بأن معناهما واحد: الخليل وسيبويه، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وعن الكسائي والفراء: أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء، وأن السخري بضم السين من التسخير، الذي هو التذليل والعبودية.

(5/360)

 

 

والمعنى: أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال، ولا يخفي أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وحتى في قوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} حرف غاية، لاتخاذهم إياهم سخريا: أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار، والعياذ بالله.

قوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111].

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة. وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم في دار الدنيا، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخريا، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته، ورضوانه، جاء مبينا في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار، ويضحكون منهم، والكفار في النار. والعياذ بالله كقوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 212] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ حمزة والكسائي: إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن، وعلى قراءتهما فمفعول {جَزَيْتُهُمُ} محذوف: أي جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام، وقرأ الباقون: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]. بفتح همزة أن، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك، من أن وصلتها: مفعول به لجزيتهم: أي جزيتهم فوزهم كما لا يخفي. والفوز نيل المطلوب الأعظم.

قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} .

في هذه الآية سؤال معروف: وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه:103] والعشر أكثر من يوم أو بعضه، وكقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا

(5/361)

 

 

غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، والساعة: أقل من يوم أو بعضه، وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46] وقوله: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الاحقاف: 35].

وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله: أن بعضهم يقول لبثنا يوما أو بعض يوم، ويقول بعض آخر منهم: لبثنا ساعة ويقول بعض الآخر منهم: لبثنا عشرا.

والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكا، وأرجحهم عقلا، وأمثلهم طريقة هو من يقول: إنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا، وذلك في قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:103-104] فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.

وقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي الحاسبين، الذين يضبطون مدة لبثنا، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. والباقون: فاسأل بغير نقل، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر، وقرأ الباقون: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي.

وقال الزمخشري ما حاصله: إنه على قراءة {قَالَ} بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال. والله تعالى أعلم.

وقد صدقهم الله جل وعلا في قلة لبثهم في الدنيا بقوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114].

لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جدا. بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار، والعياذ بالله. وقرأ حمزة والكسائي: (قل إن لبثتم إلا قليلا) بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي.

(5/362)

 

 

قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .

الاستفهام في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ} للانكار، والحسبان هنا معناه: الظن. يعني: أظننتم أنا خلقناكم عبثا لا لحكمة، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة، فنجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا شر، ثم نزه جل وعلا نفسه، عن أن يكون خلقهم عبثا، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء.

وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .

أي تعاظم وتقدس، وتنزه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ومنه خلقكم عبثا سبحانه وتعالى، عن ذلك علوا كبيرا.

وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [صّ:27] وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38-39] وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:36-39] وقوله: {سُدىً} : أي مهملا لا يحاسب ولا يجازي، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} وقوله: {عَبَثاً} يجوز إعرابه حالا، لأنه مصدر منكر أي إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين، ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله: أي إنما خلقناكم، لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم، وأعربه بعضهم مفعولا مطلقا، وليس بظاهر. قال القرطبي عبثا: أي مهملين، والعبث في اللغة: اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38].

وقوله: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116] قال بعضهم أي الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} : الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل: 52] وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} معطوف على قوله: {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} خلافا لمن قال: إنه معطوف على قوله: عبثا، لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى.

(5/363)

 

 

قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .

البرهان: الدليل الذي لا يترك في الحق لبسا، وقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كقوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الحج: 71]. والسلطان: هو الحجة الواضحة وهو بمعنى: البرهان وقوله في هذه الآية الكريمة {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قد بين أن حسابه الذي عند ربه، لا فلاح له فيه بقوله بعده {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وأعظم الكفارين كفرا هو من يدعو مع الله إلاها آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار، وقد حذر الله من دعاء إلاه معه في آيات كثيرة كقوله: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذريات:51] وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [الاسراء:22] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول: أما من عبد معه إلاها آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة آلاه آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة، دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره ألبتة. وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.

ومن أمثلته في القرآن هذه الآية لأن قوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وصف مطابق للواقع، لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.

ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ

(5/364)

 

 

المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:

أو امتنان أو وفاق الواقع ... والجهل والتأكيد عند السامع

وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118]

فيه الدليل على أن ذلك الفريق، الذين كانوا يقولون: ربنا آمنا، فاغفر لنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين. موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم لتقتدي به أمته في ذلك، ومعمول {اغْفِرْ وَارْحَمْ} حذف هنا، لدلالة ما تقدم عليه في وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [الأعراف: 155] والمغفرة: ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمان، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضا، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] والعلم عند الله تعالى.

 

 

===============

 

 

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير فتح القدير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 118]

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)

قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

حَتَّى هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ لَكَاذِبُونَ وَقِيلَ بِيَصِفُونَ، وَالْمُرَادُ بِمَجِيءِ الْمَوْتِ مَجِيءُ عَلَامَاتِهِ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي: قال ذلك الواحد الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ تَحَسُّرًا وَتَحَزُّنًا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ رَبِّ ارْجِعُونِ، أَيْ: رَدُّونِي إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَالَ ارْجِعُونِ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِتَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ: ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «1» قَالَ الْمَازِنِيُّ: مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ، وَهَكَذَا قِيلَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ «2»

............... ....

وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجُ: يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ قَالَ قَائِلُهُمْ: رَبِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً أَيْ: أَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَلَمَّا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ لِيَعْمَلَ رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها فَجَاءَ بِكَلِمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَالضَّمِيرُ فِي «إِنَّهَا» يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَيْ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ هُوَ قائلها لا محالة، وليس

__________

(1) . ق: 24. [.....]

(2) . وعجزه: بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل.

(3/589)

 

 

الْأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ مِنْهُ الْوَفَاءُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «قَائِلِهَا» يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: لَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجْلُهَا وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْبَرْزَخُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.

وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: حَاجِزٌ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:

هُوَ الْأَجَلُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الأجل، وإِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ، وَهَذَا أَوْلَى، وَهِيَ النَّفْخَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَإِذَا نَفَخَ فِي الْأَجْسَادِ أَرْوَاحَهَا، عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ جَمْعُ صُورَةٍ، لَا الْقَرْنُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ «الصُّوَرِ» بِفَتْحِ الْوَاوِ مَعَ ضَمِّ الصَّادِ جَمْعُ صُورَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْوَاوِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ: لَا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فِيهِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَيْ:

لَا يَتَفَاخَرُونَ بِالْأَنْسَابِ وَيَذْكُرُونَهَا لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ وَلا يَتَساءَلُونَ أَيْ: لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ لَهُمْ إِذْ ذَاكَ شُغْلًا شَاغِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ- وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ- وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «2» ، وقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً «3» ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «4» فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَوَاقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِهَا، وَالنَّفْيُ بِاعْتِبَارِ بَعْضٍ آخَرَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي نَظَائِرِ هَذَا، مِمَّا أُثْبِتَ تَارَةً وَنُفِيَ أُخْرَى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أَيْ:

مَوْزُونَاتُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِمَطَالِبِهِمُ الْمَحْبُوبَةِ، النَّاجُونَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَخَافُونَهَا وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ وَهِيَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ:

ضيعوها وَتَرَكُوا مَا يَنْفَعُهَا فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ هَذَا بَدَلٌ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فَلَا نُعِيدُهُ. وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ تَكُونُ خَبَرًا آخَرَ لِأُولَئِكَ، وَاللَّفْحُ: الْإِحْرَاقُ، يُقَالُ: لَفَحَتْهُ النَّارُ إِذَا أَحْرَقَتْهُ، وَلَفَحْتُهُ بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبْتُهُ «5» ، وَخَصَّ الْوُجُوهَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْكَالِحُ: الَّذِي قَدْ تَشَمَّرَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَدَهْرٌ كَالِحٌ: أَيْ شَدِيدٌ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكُلُوحُ: تَكْنِيزٌ فِي عُبُوسٍ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ هِيَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا، أَيْ: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَجُمْلَةُ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَشَهَوَاتُنَا، فَسَمَّى ذَلِكَ شِقْوَةً لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الشَّقَاءِ. قَرَأَ أَهْلُ المدينة وأبو عمرو وعاصم شِقْوَتُنا

__________

(1) . الأنعام: 28.

(2) . عبس: 34- 36.

(3) . المعارج: 10.

(4) . الصافات: 27.

(5) . أي: ضربة خفيفة.

(3/590)

 

 

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «شَقَاوَتُنَا» وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الْحَقِّ بِتِلْكَ الشِّقْوَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مَا لَا يُجَابُونَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أَيْ: فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِنَا بِالْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أَيِ: اسْكُنُوا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ:

الْخَسْءُ: إِبْعَادٌ بِمَكْرُوهٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سَخَطٍ وَأُبْعِدُوا بُعْدَ الْكَلْبِ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أُبْعِدُوا فِي جَهَنَّمَ، كَمَا يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ: أَيْ ابْعُدْ، خَسَأْتُ الْكَلْبَ خَسْأً طَرَدْتُهُ، وَلَا تُكَلِّمُونَ فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنَ النَّارِ وَرُجُوعِكُمْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تُكَلِّمُونِ رَأْسًا. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ، يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ بِكَسْرِ إِنَّ اسْتِئْنَافًا تَعْلِيلِيًّا، وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِفَتْحِهَا فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عَمْرٍو فجعل الكسر من جهة التهزؤ، والضم من جهة السّخرة. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَعْرِفُ هَذَا الْفَرْقَ الْخَلِيلُ وَلَا سِيبَوَيْهِ وَلَا الْكِسَائِيُّ وَلَا الْفَرَّاءُ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ الْكَسْرَ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمَّ بِمَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِالْفِعْلِ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أَيِ: اتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهُمْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ لِشِدَّةِ اشْتِغَالِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى:

حَتَّى نَسِيتُمْ ذِكْرِي بِاشْتِغَالِكُمْ بِالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ، فَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ، وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا سَبَقَ، وَالْبَاءُ فِي «بِمَا صَبَرُوا» لِلسَّبَبِيَّةِ أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: لِأَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْفِعْلِ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَتَذْكِيرًا لَهُمْ كَمْ لَبِثُوا؟ لَمَّا سَأَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ:

اخْسَئُوا فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي طَلَبُوا الرُّجُوعَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ جَمِيعِ مَا لَبِثُوهُ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ لِقَوْلِهِ: «فِي الْأَرْضِ» ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَرْضِ، وَرُدَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» وَانْتِصَابُ عَدَدَ سِنِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ، لِمَا فِي كَمْ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَسِنِينَ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا نُونُ الْجَمْعِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُهَا وَيُنَوِّنُهَا قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذَابَ رُفِعَ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَنَسُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي قُبُورِهِمْ وَقِيلَ: أَنْسَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مِنَ النَّفْخَةِ الْأُولَى إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. ثُمَّ لَمَّا عَرَفُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النِّسْيَانِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ أَحَالُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فَقَالُوا:

فَسْئَلِ الْعادِّينَ أَيِ: الْمُتَمَكِّنِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ الْعَارِفُونَ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَارِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَاسْأَلِ الْحَاسِبِينَ الْعَارِفِينَ بِالْحِسَابِ مِنَ الناس. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي

__________

(1) . الأعراف 56 و 85.

(3/591)

 

 

«قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» عَلَى الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَفَّارِ، أَوْ يَكُونُ أَمْرًا لِلْمَلِكِ بِسُؤَالِهِمْ، أَوِ التَّقْدِيرُ: قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِلْوَاحِدِ، وَالْمُرَادُ الْجَمَاعَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ الْمَلَكُ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ» كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (قَالَ) عَلَى الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا لُبْثًا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمُ الْيَوْمَ قِلَّةَ لُبْثِكُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِيهِمَا، فَكُلُّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُبْثِهِمْ. ثُمَّ زَادَ سُبْحَانَهُ فِي تَوْبِيخِهِمْ فَقَالَ:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا شَيْئًا فَحَسِبْتُمْ، وَانْتِصَابُ عَبَثًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: عَابِثِينَ، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلْعَبَثِ. قَالَ بِالْأَوَّلِ سِيبَوَيْهِ وَقُطْرُبُ، وَبِالثَّانِي أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا» ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، يُقَالُ: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثًا فَهُوَ عَابِثٌ، أَيْ: لَاعِبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ قولهم عَبَثْتُ الْأَقِطَ: أَيْ خَلَطْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّ خَلْقَنَا لَكُمْ لِلْإِهْمَالِ كَمَا خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تَرْجِعُونَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «تَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ عَطْفُ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ عَلَى عَبَثًا، عَلَى مَعْنَى: أَنَمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ وَلِعَدَمِ الرُّجُوعِ. ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ أَيْ: تَنَزَّهَ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ أَوْ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا، أَوْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَلِكُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَرَبًّا، لِمَا هُوَ دُونَ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصْفُ الْعَرْشِ بِالْكَرِيمِ لِنُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ مِنْهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَنِ اسْتَوَى عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ بَيْتٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ سَاكِنُوهُ كِرَامًا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ الْكَرِيمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِرَبٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ. ثُمَّ زَيَّفَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا فَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يَعْبُدُهُ مَعَ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ، وَجُمْلَةُ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ إِلَهًا، وَهِيَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ جِيءَ بِهَا لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّلِيلُ الْوَاضِحُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَجُمْلَةُ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَى زَيْدٍ لَا أَحَقَّ مِنْهُ بِالْإِحْسَانِ، فَاللَّهُ مُثِيبُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ:

لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ عَلَى حَذْفِ فَاءِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ «أَنَّ» عَلَى التَّعْلِيلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ «لَا يُفْلِحُ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ مُضَارِعُ فَلَحَ بِمَعْنَى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم

__________

(1) . الأنعام: 38.

(3/592)

 

 

رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ، وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهِ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبِلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا أُدْخِلَ الْكَافِرُ فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النار قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أتوب أعمل صَالِحًا، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ عَمَّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا، فَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يُنَازِعُ «1» وَيَفْزَعُ، تَهْوِي إِلَيْهِ حَيَّاتُ الْأَرْضِ وَعَقَارِبُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: نُرْجِعُكَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: إِلَى دَارَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، بَلْ قَدِّمَا إِلَى اللَّهِ وأما الكافر فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ، فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ هو مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ الْوَفَاةُ يُجْمَعُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَقِّ فَيُجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَعْمَلُ صالِحاً قَالَ: أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى تَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ قال: حين ينفخ فِي الصُّورِ، فَلَا يَبْقَى حَيٌّ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَوْلُهُ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» فَقَالَ: إِنَّهَا مَوَاقِفُ، فَأَمَّا الْمَوْقِفُ الَّذِي لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ عِنْدَ الصَّعْقَةِ الْأُولَى لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ فِيهَا إِذَا صُعِقُوا، فَإِذَا كَانَتِ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يَتَساءَلُونَ فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جمع الله الأوّلين والآخرين. وَفِي لَفْظٍ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ يوم القيامة على رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ. وَفِي لَفْظٍ: مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، فَيَفْرَحُ وَاللَّهِ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ.

__________

(1) . في الدر المنثور «ينام» (6/ 114) .

(2) . الصافات: 27.

(3/593)

 

 

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«إِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَا بَالَ رِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفَعُ قَوْمَهُ؟ بَلَى وَاللَّهِ إِنَّ رَحِمِي مَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنِّي أَيُّهَا النَّاسُ فَرَطٌ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: تَنْفُخُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي صِفَةِ النَّارِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قَالَ: «تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَمَا أَبْقَتْ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا أَلْقَتْهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ النَّارِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قَالَ:

تَشْوِيهِ النَّارُ فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِيَ شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُوحُ الرَّأْسِ النَّضِيجِ بَدَتْ أَسْنَانُهُمْ وَتَقَلَّصَتْ شِفَاهُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كالِحُونَ قَالَ: عَابِسُونَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النار وما يقولون وَمَا يُقَالُ لَهُمْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي أُذُنِ مُصَابٍ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً

حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِئَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَاذَا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا مُوقِنًا قَرَأَ بِهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ حَسَنٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ، فَقَرَأْنَاهَا فَغَنِمْنَا وَسَلِمْنَا، اه.

==============

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق